في سَبيلِ الاستِقْلال

(١) فَرنسَا وَالعَرب

قلتها سنة ١٩٣٣ مخاطبًا بها المندوب السامي الكونت دي مارتل، وقد ترجمت إلى الفرنسية ونشرتها جريدة «لاسيري»، فأجاب فخامة المندوب جوابًا طيبًا، ولكن الشعر المسكين يعجز عن توجيه خطى الساسة.

إنَّ تاريخَكِ تاريخُ الوجود
لم يدَعْ مَجْدًا، طريفًا وتليد
فاخلقي مجدًا جديدًا — فلقد
نفدَ المجدُ — إذا رمتِ المزيد
رفعَتْ يسراكِ مشعالَ الهدى
ونضتْ يمناكِ سَيْفًا للعنيد
أنت «كالسينِ» إذا عاصفةٌ
جَبَهتهُ، ناوحَ البرجَ المشيد
دعةُ العذراء في السلمِ، وفي
الحربِ كالهوجاءِ، عمياء شرود
تمطرين الأرض غيثًا أحمرًا
يُنْبِتُ الغارَ لأبناءِ الخلود
يا فتاة النصر، ما أبهاك في
موكبِ العرسِ، وما حولَ اللحود
أنتِ أُمٌّ متئم، ما فتئتْ
تَلِدُ الأبطال في كلِّ العهود
ملأتْ أَبناؤها الدنيا وما
برحت كالغيبِ، حبلى بوليد
تربةٌ طيبةٌ، ألبَسَها
الحارثُ الفذُّ من الخصبِ برود
تنبت «الشوك» سياجًا للرياضِ
وبالأزهار أفنانًا تجود
أُمَّةٌ جبارةٌ تنهضها
نصرةُ الحق، إلى أقصى الحدود
حرمُ الأحرار، إن يأوِ إليه
شريدٌ، أمِنَ البغيَ الشريد
خُلِقَتْ رَاحَتُهَا ظمأى إلى
ضمد الجرح وتحطيم القيود
أتبنَّتْ، يا تُرى، حريةَ الأرض
حتى لا تني عنها تذود؟
أمةٌ وثَّابة، وجهتها
المثلُ الأعلى قديمًا وجديد
يتلاقى في «الذُّرى» أبناؤها
كالنسور الصيد في هام الصرود
طرق شتى، وقصد واحد
كلهم للحق والعدل جنود

العرب

أمة هبَّت من الصحرا على
دول الأرض حرورًا كالوقيد
ألَّفت أجزاؤها، فانفجرت
أيَّ بركان، شظاياه القدود
فهوى كسرى، وولَّى قيصر
ومشى الرعب بأعصاب الوجود
أمَّةٌ وحَّدَها «ابن امرأةٍ»
من قريشٍ، أكلُها كانَ القديد
كره الأملاك، كهلًا، فبنى
أُسسَ الشورى على الصخر الوطيد
بذر الإيمانَ في الأرضِ التي
من أتاها «عُمَرٌ» وابنُ الوليد
فاستهلَّتْ دولةً باهرةً
أَنْبَتَتْ مثلَ هِشَامٍ والرشيد
فزها الملك بشعب باسلٍ
يستطيب الخوض في المرعى الجهيد
بايعوا الفتح على الموتِ بهِ
فهما حِلْفَانِ، والدهرُ شهيد
حملوا التوحيدَ في أردانِهم
ومشوا بالشرعِ خفَّاقَ البنود
فتحوا واستعمروا واصطهروا
أدبَ العالم كالقينِ الفريد
قد مضتْ دولتهم لكنما
ذكرها الخالد في كل صعيد

النيزك الرائع

نيزكٌ أوقَدَهُ اللهُ فأرعبَ
مَا شاءَ ووافاه الخمود
وهل الدولة إلا عبرةُ النيزكِ
الهاربِ في الأُفق المديد
تترك «الفنَّ» تُراثًا خالدًا
ليسَ إلا الفن ميراث الجدود

•••

كم أدال الله من شعب، وما
فنيَ الشعبُ، ولو عاش طريد
وحدَةُ الأُمَّةِ لا تفنى، وكالنار
تحيا، حقبًا، في كل عود
فإذا استيقظ منها «قبسٌ»
عبقريٌّ، أَلْهَبَ الغابَ النضيد
جمرَةٌ كامنةٌ في موقدِ الأزل
الذاكي، لها الذكرى وقود
خاب من يطمع في إطفائها
ولها التاريخُ ضرَّامٌ شديد

الأمس واليوم

يا ابن «دي مارتيل» هذي أُمَّتي
ابنَةُ الفطرةِ والرأي السديد
كنتمُ كفؤًا لها في فجرها
الراعبِ البسَّام هزءًا بالسدود
فصديقًا وعلى السدة هارون
والمأمون، في العهد السعيد
ثم حلفًا منذ أعوام خلت
أنسيتم «عهدَ» ذيَّاك «الشهيد»
عهدُنا المبرم لا ننقضُهُ
ولَكَمْ متنا على دين العهود

إلى العميد

أيُّها الآتي إِلينا، مرحبًا
باسمِ ثالوثٍ لهُ طابَ السجود
أمل الشام وهل، نعني سوى
أملِ الشام، إذا قلنا العميد
أبرزِ «الرقَّ» الذي يبدي لنا
من فرنسا، وجهَها الحرَّ المجيد
أبرِمِ «العهدة» في الشام فكم
قطَّعت سعيًا إليها من وريد
حسبها مجدًا دمٌ مهدورٌ
فَدَمُ الأجدادِ برفيرُ الحفيد

•••

كل ما في الكون مفطور على
طلب استقلاله يأبى الجمود
هذهِ الأطيارُ لا تنفكُّ في
المحبس المخضل، تُبدي وتُعيد
تنشدُ الحرِّيَّةَ الخضراء، في
القفصِ الأزرقِ لا تخشى الرصيد
يخرج الابنُ على والده
إنْ رأى استقلاله رهنَ الجحود
نزعة المرء إلى استقلاله
فَتَنَتْ «حوَّاء» لا الصلُّ اللدود

إلى فرنسا الحرة

أيها الديكُ، الذي يستقبلُ الفجر
مزهوًّا بترجيع النشيد
أَفلا تنبئنا عن فجرنا
وهل العهدُ بهِ منَّا بعيد
هيهِ، يا بوتقةَ الدهر، اصهري
هذهِ الأجسامَ للجسم العتيد
حبَّذَا نارُك إن تَلْتَهِمِ الدرهم
الزائفَ، رفقًا بالنقود
حبَّذَا مبضعك القاسي إذا
شق منا الجلد نزعًا للصديد
سكَّة التجديد، شقِّي أرضَنَا
كي يطرَّ النبتُ وامضي بالحصيد
أيُّهَا الأحرار، هذي كفُّنا
فاطلبوا فينا أصدقاءً لا عبيد
إن فتح الأرض أمرٌ هيِّنٌ
فافتحوا القلبَ ورِفقًا بالجلود

(٢) نهضة الشرق

نُظمت حين حمي نضال الأقطار العربية، للتخلص من معاهدات هي بالقيود أشبه.

أرى العُرْبَ تخلع أكفانَها
وتفتح للنور أجفانَها
ففي كلِّ قطرٍ رجالٌ صلابٌ
تُثيرُ على الرقِّ بركانَها
فهذي الكنانةُ في غمرةِ
الحياةِ تُعارك طوفانَها
وقد أسمعت شرقنا صيحةً
يقاسي أبو الهولِ أشجانَها
تكادُ تُزلزلُ أهرامَها
البلايَا وتجرفُ أطيانها
تضحِّي لتحميَ دستورَها
ودستورها إنْ تَصُنْ صانَها
وهذي فِلَسْطِينُ كم جاهدتْ
تقيمُ على الحقِّ بُرهانَها
ستجني ثمارَ الجهادِ الشريفِ
ويخذلُ ربُّكَ من خانَها
وهذي العراقُ تحاولُ نقضًا
لعهدٍ ترى فيه خذلانَها
وأمَّا الحجازُ مقامُ النبيِّ
التي شرَّفَ اللهُ جُدْرَانَهَا
فسوفَ تظلُّ لنا قِبْلةً
تحثُّ لها الناسُ أَظْعَانَهَا
أمهدَ العروبةِ شُلَّتْ يدٌ
إِلَيْكِ تصوِّبُ طغيانَهَا
وسوريَّةٌ في اضطرابٍ عظيمٍ
وقد فرَّقَ المكر عيدانَهَا
فهذا يُنَادِمُ أعداءَهَا
وَذَاكَ يسامرُ ديَّانها
لقد رسَنُوها لمن رامها
فمن ذا يقطِّع أرسانها؟
بلادي وقفتُ عليها دمي
كما تَقِفُ الناس رنانَها
وإني أهيجُ لتذكارِها
متى تذكر الناسُ أوطانَها
فهل تستقلُّ، نعم تستقلُّ
متى نوَّر العلمُ أذهانَها
فما العلمُ إلا منارُ الشعوبِ
يوحِّدُ بالروح أديانها
فيفرحُها قرع أجراسها
كما تتعشَّقُ آذانها
وتلقى البلاد اتحادًا به
تضمُّ الأهلَّةُ صلبانَها
فيهوى الحنيفيُّ إنجيلَها
ويهوى المسيحيُّ قرآنها
ويذهبُ تفريقُ أسمائها
ويُشبِهُ مارونُ مَروانَهَا
فيمشي الفراتُ إلى نيلها
وتلثم عرفاتُ لبنانَها
ويصبو النخيلُ إلى أرزِها
ويهوى المشايخُ كهَّانَها
أما من ينبِّهُ أوطانَنَا
ويدفعُ للمجدِ شجعانها
أعِدُّوا الرجالَ لتحريرِها
تطاعنُ كالأُسْدِ أقرانَها
كهولًا تصافح بيض الظبى
ومردًا تعانق مرَّانَهَا
فَيَا سائلي عن فتى باسل
يثور فدونَكَ فِتْيَانَهَا
شَبَابَ الشآمِ، ونشءَ العراقِ
ومُرْدَ فلسطينَ غِلْمَانَهَا
فَهُمْ مَنْ نُعِدُّ لِصَوْنِ الْبِلَادِ
وَنَدْفَعُ إِنْ جَارَ عُدْوَانَهَا

•••

أَرَى فِي الشَّبَابِ شَبَابَ الشُّعُوبِ
وَرَمْزَ الْحَيَاةِ وَعُنْوَانَهَا
فَخَلُّوا الغريبَ وعاداتِهِ
ولا تأخذوا عنه أدرانَهَا
فَمِنْ قَصِّ شعرٍ إِلَى رَقْصَةٍ
أَلَا قَاتَلَ اللهُ شَيْطَانَهَا
فَمَا الْمَدَنِيَّةُ أَنْ نَلْبِسَ
الثيابَ نُشَمِّرُ أَرْدَانَهَا
فَلَا تَزْدَرُوا مَنْ تَرَدَّى الْعبا
وإن أغْلَظَ النَّسجُ خيطانَهَا
فَإِنَّ العبا لَعرينُ الرجالِ
إِذَا دعتِ الحرْبُ فرسانَها
فَكَمْ عِزَّةٍ تَحْتَ ذَيْلِ العبا
أطَاحَتْ عُرُوشًا وَتِيجَانَهَا

•••

وَأُمُّ اللغاتِ أَقِيمُوا لَهَا
دَعَائِمَ تَحْفَظُ أَوْزَانَهَا
فَقَدْ كَلَّمَ اللهُ فِيهَا النَّبِيَّ
وَحَدَّثَ جِبْرِيلُ رِضْوَانَهَا
فَتي العُرْبِ خَلِّ الونى واستَفِقْ
وَحَيِّ العلاءَ وَأَخْدَانَهَا
وَذُدْ عَنْ بِلَادِكَ مُسْتَقْتِلًا
وَوَطِّدْ بِعِلْمِكَ بُنْيَانَهَا
فَهُمْ لَا يَبِيعُونَ حُرِّيَّةً
لِمَنْ لَا يُؤَدُّونَ أَثْمَانَهَا
وَإِنِّي لَأَعْجَبُ مِنْ أُمَّةٍ
جَهُولٍ تُقَدِّسُ ذُؤْبَانَهَا
وَمِثْل النِّعَاجِ إِلَى مَجْزَرٍ
تُسَاقُ فَتَتْبَعُ رعيانَهَا

•••

لِيَرْحَمْ إِلَهُ الْوَرَى ولسُنًا
نصيرَ الشعوبِ ومعوانَهَا
فَمِنْ فَضْلِهِ صِرْتُمْ أُمَّةً
تُعَزِّزُ بِالْحَقِّ سُلْطَانَهَا
فَمَنْ جَاءَ يَبْغِي امْتِلَاكَ الْبِلَادِ
يُلَاقِ العُصَاةَ وَأَعْوَانَهَا
وَمَنْ حَلَّ ضَيْفًا فَأَهْلًا بِهِ
هِيَ الْعُرْبُ تُكْرِمُ ضِيفَانَهَا
فَإِنْ هَدَّمَ الدَّهْرُ آمَالَنَا
فَلَيْسَ يُزَعْزِعُ أَرْكَانَهَا
فَكُونُوا بَنِي أُمِّنَا عُصْبَةً
تُجِدَّ لِتَحْمِيَ أَوْطَانَهَا
فَرَايَةُ يعربَ مَطْوِيَّةٌ
وَقَدْ بَعْثَرَ الدَّهْرُ أَلْوَانَهَا
فَإِنْ كُنْتُمْ سبطَ أَجْدَادِكُمْ
أَلَا فَارْفَعُوا فِي غَدٍ شَانَهَا
١٩٣٠

(٣) أين الأعارب

كانوا في كلِّ عام يضايقونني بطلب جدول إحصاء بحسب طوائف التلامذة، فلا أدري ماذا أصنع، وسبب ذلك أننا لا نسأل طالبًا عن دينه فكيف بنا وهم يطلبون إحصاءهم شيعًا وطوائف وهذا ما نجهله كل الجهل!

أينَ الأعارِبُ، أينَ مَنْ قَدْ عَلَّمُوا؟
مَن أَحْجَمُوا دَرْسَ الحَيَاةِ فَأَقْدَمُوا
مَا لِي أَرَى وَطَنِي كَئِيبًا عَابِسًا؟
وَالناس فَوْقَ طُلُولِهِ تَتَبَسَّمُ
سفَرتْ نُجُومُ سَمَائِهِ فَتَلَأْلَأَتْ
غَر الثغورِ، فأينَ تِلْكَ الْأَنْجُمُ؟
دَارَ الزمانُ عَلَيْهِ حَتَّى عبَّستْ
جَنَّاتُهُ الزَّهْرَاءَ فَهيَ جَهَنَّمُ
وَطَنِي وَآفتهُ بَنُوهُ فَإِنْ يَكُنْ
مُتَأَلِّمًا، فَلِجَهْلِهِمْ يَتَأَلَّمُ
هَيْهَاتِ أَنْ يَتَجَمَّعُوا، وَشَعارُهُمْ
هَذَا مَسِيحِيٌّ وَذلك مُسْلِمُ
مَا كَانَتِ الْأَدْيَانُ لِلْفَريقِ ما
بينَ الشعوبِ بِأُمَّةٍ تَتَبَرَّمُ
أَوْحَى الْإِلَه بِهَا لِكَيْ يَتَآلَفُوا
فَتَفَرَّقُوا وَتَقَلْنَسُوا وَتَعَمَّمُوا
أَهْلًا بِيَوْمٍ لَيْسَ يَسْأَلُنَا بِهِ
عَنْ دِينِنَا أَحَدٌ فَلَا نَتَقَسَّمُ
وَيَصِيرُ مَذْهَبُنَا الْجَميعُ عروبة
تبدا بآي الاتحادِ وتُخْتَمُ
وَتُعَزِّزُ الْأَيَّامُ شَأْنَ أَعَارِبٍ
صَلُّوا عَلَى الْوَطَنِ الْعَزِيزِ وَسَلِّمُوا

•••

مِيرَاثُ أَهْلِ الْغَرْبِ كَنْزُ تَجَدُّدٍ
وَتُرَاثُنَا مَجْدٌ يَشِيخُ وَيَهْرَمُ
فَكَأَنَّنِي بِالشَّرْقِ قَصْرٌ هَائِرٌ
مُتَصَدِّعٌ جُدرَانُهُ تَتَهَدَّمُ
وَالْغَرْبُ يَبْنِي كُلَّ يَوْمٍ مَعْقِلًا
وَالْعربُ فِي بِيدِ الْخُمُولِ تُخَيِّمُ
الْغَرْبُ طَارَ عَلَى جَنَاحِ بخَارِهِ
والعربُ تَحْدُو فَوْقَهَا وَتَرنَّمُ
يَا أيُّهَا الْعَرَبِيُّ، تَنَبَّهْ وَاسْتَفِقْ
زأر الْبخَار، فَكَيْفَ يَغْفُو النُّوَّمُ
تَلْهُو بكان جُدُودنَا فَكَأَنَّمَا
بِالْأعظمِ النَّخِرَاتِ قَدْرُكَ يَعْظُمُ
لَا تَسْأَلُوا الْأَيَّامَ عَنْ مَجْدٍ مَضَى
وَتَجَدَّدُوا وَعَلَى الْقَدِيمِ تَرَحَّمُوا
شَادَ الْجُدُودُ لَهُمْ قُصُورَ مَفَاخِرٍ
شم الذّرَى وَعَلى الْأَنَامِ تَقَدَّمُوا
فَتَشَبَّهُوا بهم ولا تَبْكُوا عَلَى
أَطْلَالِهِمْ، إِنَّ التَّبَاكِي يُؤْلِمُ
إِنْ تَسْأَلُوا أَجْدَاثَهُمْ هَتَفَتْ بِكُمْ
إِنْ كَانَ لِلْأَجْدَاثِ نُطْقٌ أَوْ فَمُ
أَبْنَاءَهُمْ، سِيرُوا كَمَا سَارُوا إِلَى
أَقْصَى الْفَلَاحِ وَغَامِرُوا كَيْ تَغْنَمُوا
لَا تَرْهَبُوا الْعَقَباتِ وَهِيَ كَئُودَةٌ
إِنْ كَانَ فِيكُمْ مِنْ دِمَائِهِم دَمُ
وَدَعُوا التَّفَرُّقَ وَانبذوا نعَرَاتِكُمْ
وَخُذُوا عَنِ التَّارِيخِ ما لَمْ تَعْلَمُوا
من لَمْ تُعَلِّمْهُ الْحَوَادِثُ، وَهي
أستَاذُ الشُّعُوبِ، فَذَاكَ لَا يَتَعَلَّمُ
١٩٢٦

(٤) ذكرى الشهداء

يوم كانت الحكومة تحيي ذكرى الشهداء في ٢ أيلول درجنا نحن على الاحتفال بذكراهم في ٦ آيار، وبقينا على ذلك حتى صار العيد واحدًا، وقد قلت هذه القصيدة بهذه المناسبة مستهجنًا النصب التذكاري الذي لم يستحسنه أحد غير الذين عملوه.

دولُ الخنا مهمَا تعاظمَ شَأنُهَا
سيدكُّ جَبَّارُ السماءِ بِنَاءَهَا
فَإِذَا رَأَيْتَ حُكُومَةً ظَلَّامَةً
فَأبْشِرْ، سَتَطْوِي النائِبَاتُ لِوَاءَهَا
يَا أَيُّهَا الْعَرَبِيُّ، لَا تَقْنَطْ فَكَمْ
دول غَزَتْكَ وَقَدْ شَهدتَ جَلَاءَهَا
لَمْ يَبْقَ حَيْثُ تَحَكَّمَتْ إِلَّا الَّذِي
تركتْ لِتَارِيخِ الْبِلَادِ وَرَاءَهَا
مَرَّتْ بِنَا مَرَّ السحابِ وَلَمْ نَزَلْ
فِي أَرْضِنَا مُسْتَمْطِرِينَ سَمَاءَهَا
فَهُنَا الْبَقَاءُ لَنَا وَلَيْسَ لِغَيْرِنَا
إِنَّ الغريبَ مُغَادِرٌ أَرْجَاءَهَا
لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ الَّتِي
جَلَّتْ وَقُولُوا مَا أَشَدَّ سَخَاءَهَا
وَاسْعوا إِلَى اسْتِقْلَالِكُمْ يَا أُمَّةً
شَهِدَ الزمانُ جِهَادَهَا وَبَلَاءَهَا
جُودُوا بِأَنْفُسِكُمْ إِذَا الدَّاعِي دَعَا
فَالنَّفْسُ لِاسْتِقْلَالِنَا إِنْ شَاءَهَا
حُرِّيَّةُ الْأَوْطَانِ يُدْرِكُهُا الَّذِي
بِالنَّفْسِ ضَحَّى وَاسْتَمَاتَ فِدَاءَهَا
مُوتُوا فَمَوْتُكُمُ الْحَيَاةُ لِأُمَّةٍ
مَقْهُورَةٍ قَدْ سَرَّهَا مَا سَاءَهَا
مَاتَتْ مواطنُكُمْ لأَنَّ رِجَالَهَا
عَشِقُوا الْحَيَاةَ مطوِّلينَ رِشَاءَهَا
أَمَّا الذينَ اسْتُشْهِدُوا فَحَيَاتُهُمْ
ذِكْرَى تُرَدِّدُ أَرْضُنَا أَصْدَاءَهَا
مَاتُوا وَعِشْنَا بَعْدَهُمْ لَكِنَّنَا
مَوْتَى تُحَاوِلُ أَنْ تُطِيلَ بَقَاءَهَا
فِي كُلِّ يَوْمٍ لِلشهادةِ دعوةٌ
تَبْدُو وَلَكِنْ لَا تَرَى أَبْنَاءَهَا
شُهَدَاؤُنَا الْقُدَمَاءُ، هَلْ أَحْلَلْتُمُ
شُهَدَاءَنَا منْ بعدكُمْ علياءَهَا
إِنَّ الشهادَةَ بَعْدَكمْ ظفرَتْ بِهَا
فئةٌ تَكْتمُ خيفةً أَسْمَاءَهَا
يَا أُمَّةَ الشهداءِ أَنْتِ شَهِيدَةٌ
نبلُ المظالمِ مَزَّقَتْ أَحْشَاءَهَا
إِنْ يَعْجَبُوا فَلْيَعْجَبُوا لِشَهِيدَةٍ
بِدِمَائِهَا قَدْ كَرَّمَتْ شُهَدَاءَهَا
إِنَّ الْمَشَانِقَ لِلشُّعُوبِ مَنَابِرٌ
وَالْحَقُّ ينطقُ دَائِمًا شُهَدَاءَهَا
يا ضَيْعَةَ الشُّهَدَاءِ فِي وَطَنٍ بِهِ
فِئَةٌ تَعِيشُ لِتَسْتَغِلَّ دِمَاءَهَا

•••

يَا فِتْيَةَ الشَّرْقِ، البِلَادُ مَرِيضَةٌ
كَلْمَى، أَفِينَا مَنْ يُعَالِجُ دَاءَهَا
مِصْر تَئِنُّ، وَفِي الْعِرَاقِ تَأَوُّهٌ
يُبْكِي الْحِجَاز وَمَنْ أَتَى بَطْحَاءَهَا
وأَرَى فلسْطِينًا وَلُبْنَانًا وَسُو
رية عَلَى يَأْسٍ يُمِيتُ رَجَاءَهَا
أَوْطَانُكُم تَدْعُوكُم فَتَعَلَّمُوا
كَيْمَا تُلَبُّوا، قَادِرِينَ، نِدَاءَهَا

•••

يَا أَيُّهَا الرَّمْزُ الَّذِي نصبُوكَ لِلشُّهَدَاءِ
جِئْتَ مُضَاعِفًا بَلْوَاءَهَا
قَدْ قُمْتَ شِبْهَ منَاحَةٍ أَبَدِيَّةٍ
فِي أُمَّةٍ عَنْهَا تنيبُ نِسَاءَهَا
١٩٢٧

(٥) دعوا ذكر ميٍّ

وهذه مثل أخواتها قيلت في مرضنا المعلوم، شفى الله الأمة من هذا الداء.

دَعُوا ذِكْرَ مَيٍّ وَعَصْرَ الدمن
أيَا مَعْشَرَ العُرْبِ طَالَ الْوَسَن
وَخَلُّوا أَذْكَارَ الليالي الْخَوَالِي
فَتَذْكَارُهَا مَوْقِدٌ لِلشَّجَن
وَلِلْمَجْدِ سِيرُوا صُفُوفًا صُفُوفًا
فَمَاذَا يُفِيدُ الْبُكَا وَالْحَزَن
فَإِنْ تُرْجِعوُا عِزَّكُمْ فَاخِرُوا
بِمَجْدٍ مَضَى «ملء عين الزمن»
وَإِلَّا فَمَا النَّفْعُ مِنْ صَيْحَةٍ
لِتَحْيَا الْبِلَادُ لِيَحْيَا الْوَطَن!

•••

أَلِفْنَا التَّفَجُّعَ فَوْقَ الطُّلُولِ
بِعَصْرِ قُصُورِ الْوَرَى الشَّاهِقَه
وَأشغفنا ذكْرُ مجدِ الجُدُودِ
وَأَيَّام عزِّهِم السَّابِقَه
وَبِتْنَا حَيَارَى وَللكهرباءِ
شُمُوسٌ بَدَتْ حَوْلَنَا شَائِقَه
وَيُطْرِبُنَا ذِكْرُ مَجْدٍ قَدِيمٍ
بَقَايَاهُ مَا بَرِحَتْ نَاطِقَه
وَإِنْ يَفْخَرِ الْغَرْبُ قُلْنَا لَهُ
مَقَرُّ النُّبُوَّةِ هَذَا الْوَطَن

•••

ثَنَانَا التَّعَصُّبُ عَنْ نَهْضَةٍ
نَسُودُ بِهَا وَأَلِفْنَا الْجَدَل
وَمَا فِي الْبِلَادِ سِوَى صَيْحَةٍ
كَنَحْلٍ يدنُّ وَمَا فِي عَسَل
قَوَافٍ تَرِنُّ وَنَثْرٌ يطنُّ
وَشَعْبٌ يَئِنُّ قَلِيلَ الْأَمَل
وَصُحْفٌ تَصِيحُ وَلَا تَسْتَرِيحُ
وَعِلْمٌ صَحِيحٌ وَمَا مِنْ عَمَل
وَإِن عَدَّدَ الْغَرْبُ أَمْجَادَهُ
نُعَدِّدُ آثَارَ هَذَا الْوَطَن

•••

لَقَدْ أَدْرَكَ الْغَرْبُ سِرَّ النُّجُوم
ونَحْنُ جَهِلْنَا حَدِيثَ الثَّرَى
فَبِئْسَ الْحَيَاةُ حَيَاةُ الْجَهُول
فذَاكَ الْخليقُ بِأَنْ يُزْدَرَى
أَأَنْتُمُ أَحْفَادُ فينيقيا
رجَالُ التِّجَارَةِ أَذْكَى الْوَرَى
فَأَيْنَ التجارَةُ، أَيْنَ الصناعَةُ
أَيْنَ الزراعةُ، مَاذَا الْعرى!
فَإِنْ لَمْ تحوكوا على نولكم
تبَرَّأَ مِنْكُمْ هَذَا الْوَطَن

•••

لَقَدْ فَرَّقَتْكُمُ أَدْيَانُكُمْ
فَصِرْتُمْ شَعْبًا بدونِ وَطَن
أَلَيْسَ إِلَهُكُم وَاحِدًا
فَكُونُوا بَنِيهِ وَخَلُّوا الضغَن
وَلَا تَسْمَعُوا قَوْلَ شُذَّاذِكُمْ
تَرْقَى الْبِلَادُ وَلَا تُمْتَهَن
فَمَا أَشْنَعَ الْخلفَ فِي مَعْشَرٍ
وَشَعْبٍ يَقُودُونَهُ بِالرَّسَن
فَكُونُوا أُسُودَ الْوَغَى عُصْبَةً
تَذُودُ وَتَحْمِي ذمارَ الوَطَن

•••

فَأَيْنَ الْمَفَاخِرُ مِنْ أُمَّةٍ
وَمَا جَمَعَتْ قَوْمَهَا جَامِعَه
وَثَرْوَتُهَا أَصْبَحَتْ لُقْمَةً
جَمِيعُ الشُّعُوبِ بِهَا طَامِعَه
وَإِنْ أَقْفَل الْغَرْبُ أَبْوَابَهُ
تلَاقِي مَنِيَّتَهَا خَاضِعَه
أَلَمْ تَذْكُرُوهَا بِأَطْمَارِهَا
تُفَتِّشُ عَنْ قُوَّتِهَا ضَارِعَه
فَإِنْ حَرَّرَتْكُمُ أَيَّامُكُمْ
تَغَنَّوْا بِأَمْجَادِ هَذَا الْوَطَن

•••

فَمَا مِنْ رُقِيٍّ لِأَوْطَانِكُمْ
بِغَيْرِ اقْتِبَاسِ الْعُلُومِ الصَّحِيح
فَلَا الشَّرُّ يُعْلِي مَقَامَ الشُّعُوبِ
وَلَا تَرْتَقِي بِالْكَلَامِ الْفَصِيح
خُذُوا مِنْ عُلُومِ الزَّمَانِ أُمُورًا
تُضَمِّدُ قَلْبَ الْبِلَادِ الْجَرِيح
فَفِي الْقَلْبِ جُرْحٌ أَلِيمٌ قَدِيمٌ
وَفِي كُلِّ عُضْوٍ مِئَاتُ الْقُرُوح
فَإِنْ بَرِئَ الْجِسْمُ مِنْ دَائِهِ
يُدَافِعُ عَنْ حَوْضِ هَذَا الْوَطَن
١٩٢٦

(٦) بلوى الشرق

هذا شعرُ «نحويٍّ» فاقرأ هذه الملهاة وقل بعدها ما تشاء، ولعلها تحظى فمن يدري، أما قيل: لولا اختلاف النظر ما نفقت السلع؟

مَاذَا أَقُولُ فَلَا الصَّحِيحُ يُقَالُ
وَالْكَذِبُ مَا ملحتْ بِهِ الْأَقْوَالُ
إِنِّي أَرَى «الْإِضْمَارَ» أَفْصَحَ إِنْ «قَضَتْ»
فِيهِ عَلَى أَهْلِ الْبَيَانِ «الْحالُ»
«فَالنَّحْوُ» بَيْنَ مَقَاعِدِ التَّدْرِيسِ غَيْرُ
النَّحْوِ فِي الدُّنْيَا، وَفِيهَا الْمَالُ
«وَالصَّرْفُ» لَمْ يَصْرِفْ عَنِ الشَّعْبِ الْعَنَا
إِذْ جَاءَهُ «الْإِدْغَامُ وَالْإِعْلَالُ»
فَالدَّهْرُ قَدْ أَفْنَى كِنَانَةَ صَرْفِهِ
فَأَصَابَنَا «التَّصْغِيرُ» وَالْإِذْلَالُ
فَثِقُوا بِأَنَّا لَفْظَةٌ مَهْجُورَةٌ
قَدْ عَاثَ فِيهَا «الْقَلْبُ وَالْإِبْدَالُ»
«وَالنَّحْتُ مُشْتَغِلٌ» بِنَا وَرِجَالُنَا
«بِتَنَازُعٍ» دَامٍ لهم أَشْغَال
لَا يَنْفَعُ «التحذيرُ والإغراءُ» مَنْ
ضَلُّوا وَمَا سَمِعَ «النِّدَا» الْجُهَّالُ
صِرْنَا عَنِ «التَّمْيِيزِ» أَبْعَدَ أُمَّةٍ
«وَبِالاسْتِغَاثَةِ» «تُنْدَب» الْأَطْلَالُ
«وَبالاسْتِعَارَةِ» أُشْغِلَتْ أَذْهَانُنَا
وَبِغَابَةِ «التَّشْبِيهِ» لَاحَ الْآلُ
«وَالْفَصْلُ» دَيْدَنُنَا، وَلَيْسَ يهمُّنَا
«وَصْلٌ»، وَلَا «قَصْرٌ» وَلَا إِجْمَالُ
أمَّا «البديعُ» فشطَّ عن أَعمالنا
ولنا بتقليدِ الورى استرسالُ
أَمَّا «فعال قلوبنا» فأصابها
«التعليقُ والإلغاءُ» فالإهمالُ
ما «تمَّ» من أفعالنا فِعْل سما
وغدا «لِكَانَ» الحول والإعمالُ
مَاذا أَقُولُ «ولا محلَّ» لأمَّتي
الصرعى «من الإعراب» إلا «الحالُ»
إِنَّا «نُصِبنا» «بالعواملِ» كلِّها
حتى «جُرِرنا» وانتهى الإِشكالُ
وَعَلَى «السكونِ» «بنَى» الزمانُ مصيرَنَا
«والرفعُ» ليسَ لَنَا بِهِ آمالُ
نَتَعَلَّمُ «الضربَ» المشينَ «وقسمةً»
«والجمعُ» لَيْسَ لَنَا بِهِ «أَعْمَالُ»
«وَالْجَبْرُ» لِلْقَلْبِ الكسيرِ عَلَى المنا
بِرِ حَيْثُ يَكْثُرُ قِيلُنَا وَالْقَالُ
نَقْضِي الحياةَ هُنَا بِمِثْلِ جَهَنَّم
وَلَنَا بِجَنَّاتِ السَّمَا آمَالُ
فَمِنَ الجهَالَةِ أَنْ نُكَفِّرَ بَعْضَنَا
فِي الدِّينِ، وَالرَّبُّ الْقنا العسَّال
إِنَّا لَنَحْتَكِرُ النَّعِيمَ لِكَي نُرَى
وَلَنَا بِهِ دُونَ الْوَرَى «اسْتِقْلَالُ»
إِنْ كَانَتِ السَّمَاواتُ مِثْلَ حَدِيثِهِم
عَنْهَا، فَفِيهَا لِلْجَمِيعِ مَجَالُ
أَأُقَسِّمُ الْمِيرَاثَ قَبْلَ تَثَبُّتٍ
وَيُقَالُ فِي الْمَرِّيخِ لِي أَمْثَالُ
مَاذَا أَقُولُ لَهُمْ غَدًا إِنْ طَالَبُوا
بِحُقُوقِهِمْ! مَا فِي الْوُجُودِ مُحَالُ
مُوسَى وَأَحْمَدُ وَالْمَسِيحُ جَمِيعُهُم
فِي عُرْفِ أَرْبَابِ النُّهَى أَمْثَالُ
وَالربُّ فِي التوراةِ والإنجيل
والقرآنِ مَا اختلفتْ لَهُ أشْكَال
نَلْقَى الْمُهَيْمِنَ، وَالصَّلِيبُ شِعَارُنَا
كَلِقَائِهِ وَلَنَا الشِّعَارُ هِلَال
فالدينُ، ذَاكَ اليوْمَ، لَيْسَ يُفِيدُنَا
إِنْ لَمْ تزيِّنْ جِيدَنَا الْأَعْمَالُ
دَعْنِي سَعِيدًا، وَالجهَنَّم حصَّتي
وَخذِ النَّعِيمَ وَدُونَهُ الْأَهْوَالُ
خُذْ عَنِّي اسْمِي إِنْ يَكُنْ لَكَ مُوجِدًا
وَاخْتَرْ لِيَ اسْمًا فِيهِ «يَمْشِي الْحَالُ»
هَذِي الْحَيَاةُ عَدِيدَةٌ أَنْحَاؤُهَا
كُلُّ امْرِئٍ فِيهَا لَهُ «مَوَّالُ»
فَمَعَ الزَّمَانِ تَجَدَّدُوا لَكِنْ عَلَى
حَذَرٍ، فَمَا كُلُّ الدقيقِ يُكَال
ليس التَّجَدُّدُ بالثيابِ وَإِنَّمَا
بعلومِهَا تَتَجَدَّدُ الأجْيَال
سيَّانِ مَنْ لَبِسَ «الفرنجي» والذي
ملبُوسُهُ الغنبازُ والشروال
سيان عندي من تزيِّنُ رأسَهُ
برنيطةٌ عصريَّةٌ وَعقال
فَتَحلَّ بِالخلقِ الكريمِ مُنَاضِلًا
فَهْوَ التجدُّدُ، وَاتْرُكْ مَا قَالُوا
١٩٣٠

(٧) بابل الأديان

تلظت نار الطائفية في لبنان، واختلفت مذاهب الناس، وذرت قرون تيوس التعصب فخفنا أن يعيد التاريخ سنة ١٩٠٤ نفسه فقلت، وأنا منفعل أشد انفعال، هذه القصيدة.

يَا بَابِلَ الْأَدْيَانِ يَا وَطَنِي
يَا مَسْرَحَ الْأَحْقَادِ وَالْفِتَنِ

•••

وَطَنِي وَمَا فِيهِ سِوَى أُمَمٍ
إِلَّا عَنِ الشَّحْنَاءِ فِي وَسَنِ
وَطَنٌ تغيمُ سَمَاؤُهُ عَبَثًا
وَأَدِيمُهُ لِبَنِيهِ لَمْ يَلِنِ
وَجِرَاحُهُ الْتَأَمَتْ عَلَى دغلٍ
مُعْيٍ، فهدنتُهُ عَلَى دخَنِ
فِرَقٌ مُبَعْثَرَةٌ هُنَا وَهُنَا
هدف البلاءِ دريئة المِحَن
فتجمَّع الجُمُعَات مضطرب
وتأحَّدُ الآحادِ فِي وَهَنِ
أَمْسَى التفَرُّقُ سُنَّةً لَهُمُ
جَرْيًا مَعَ الْأَدْيَانِ وَالسُّنَنِ
إِنْ نَنْسَ لَا نَنْسَ الْمَشَانِقَ
وَالْأَبْطَالَ تَلقاهَا بِلَا هُدَنِ
هَلْ فَرَّقَ «السَّفَّاحُ» يَوْمَ طَغَى
ما بَيْنَ معمودٍ وَمُخْتَتنِ؟

•••

يَا بَابِلَ الْأَدْيَانِ يَا وَطَنِي
يَا مَسْرَحَ الْأَحْقَادِ وَالْفِتَنِ
كُلٌّ يولِّي شَطْرَ مَسْجِدِهِ
وَجْهًا، وَيُدْبِرُ مَسْجِدَ الْوَطَنِ
وَالطَّائِفِيَّةُ فِيهِ طَائِفَة
كَالْبُومِ نعَّابًا عَلَى الدمَنِ
حَذَرًا بَنِي أُمِّي فَقَادَتُكُمْ
جَدُّوا بِكُمْ لِلْمركبِ الْخَشِنِ
خَلُّوا النعَاقَ عَلَى خَرَائِبِكُمْ
وَاسْتَحْدِثُوا مَا لَاقَ بِالزَّمَنِ
الطَّائِفِيَّةُ فِتْنَةٌ، فَذَرُوا
أَعْوَانَهَا فِي السِّرِّ وَالْعَلَنِ
يَا وَيْحَهَا كَمْ فَرَّقَتْ أُمَمًا
فَاقْتَادَهَا طَاغٍ بِلَا رَسَنِ
أَلِأَنَّ هَذَا مُسْلِمٌ وَأَنَا
مُتَنَصِّرٌ صِرْنَا ذَوِي إِحَنِ
هَلْ عَلَّمَ الْقُرْآنُ موجدةً
أَوْ بَشَّرَ الْإِنْجِيلُ بِالضَّغنِ

•••

يَا بَابِلَ الْأَدْيَانِ يَا وَطَنِي
يَا مَسْرَحَ الْأَحْقَادِ وَالْفِتَنِ
مَا الدِّينُ إِلَّا عَارِضٌ وَأَبِي
إِذْ شَاءَ هَذَا الثَّوْبَ أَلْبَسَنِي
وَأَنَا بِه رَاضٍ، وَيُؤْلِمُنِي
مَنْ إِنْ رَآنِي فِيهِ أَنْكَرَنِي
يَا صَاحِبي، هَبْ أَنَّنَا فرقٌ
فِي عَسْكَرٍ وَالثَّوْبُ مَيَّزَنِي
فَعَلَامَ نُنْكِرُ بَعْضَنَا حَنَقًا؟
أَجَهِلْتَ أَنَّكَ إِنْ أَهُنْ تَهُنِ
فَإِلَى التَّسَامُحِ فِي الْحَيَاةِ نَسُدْ
إن عزَّ مغرورًا أخٌ فَهُنِ
أَبْنَاءَ أَحْمَدَ وَالْمَسِيحِ أَلَا
لفُّوا حَديِث الأمسِ فِي كَفَنِ
وَتَعَاوَنُوا طرًّا عَلَى عَمَلٍ
مُجدٍ يُعَزِّزُ كُلَّ مُمْتَهَنِ
مَنْ يَشْتَرِي الْبَغْضَاءَ غَالِيَةً
وَالْحُبُّ مَعْرُوضٌ بِلَا ثَمَنِ!
يَا بَابِلَ الْأَدْيَانِ يَا وَطَنِي
يَا مَسْرَحَ الْأَحْقَادِ وَالْفِتَنِ
يَسُوعُ لَا يَحْتَاجُ نصْرَتَنَا
وَمُحَمَّدٌ عَنِّي وَعَنْكَ غَني
جَاءَا لِبَثِّ النُّورِ مَرْحَمَةً
فَإِلَامَ نَأْلَفُ وَحْشَةَ الدجنِ
أَعَلَى الرِّئَاسَةِ ثَارَ ثَائِرُنَا
هَذِي الرِّئَاسَةُ أَمْرُهَا لِمَنِ؟
إِنَّ العَوَاصِفَ وَالْبِحَارَ إِذَا
ثَارَا فَلَا يَشْقَى سِوَى السُّفُنِ
يَا خَيْبَةَ الْآمَالِ فِي وَطَنٍ
بَيْنَ الطَّوَائِفِ وَالرُّعَاةِ فَني
وَسِيَاسَةُ التَّوْظِيفِ تَشْغلُهُ
عَنْ خُبْزِهِ الْيَوْمِي وَالْمِهَنِ
شَعْبًا تَرَى لَكِنَّهُ شُعَبٌ
هَذَاكَ قَيْسِيٌّ وَذَا يَمَنِي
يَتَلَذَّذُونَ بِكُلِّ تَجْزِئَةٍ
الله فِي ذَا الْمَوْطِنِ الزَّمَنِ

•••

يَا بَابِلَ الْأَدْيَانِ يَا وَطَنِي
يَا مَسْرَحَ الْأَحْقَادِ وَالْفِتَنِ
إِنْ كَانَتِ الْأَدْيَانُ عِلَّتَنَا
يَا لَيْتَنَا مِنْ عَابِدِي الْوَثَنِ

(٨) على ناعورة حماة

لا أدري التاريخ بالضبط ولا جلد لي فارجع إلى المراجع، أما الحكاية التي أقصها عليك فهي هذه: كنت في حماة، فطاب لي المقام فيها وإن كانت كالتنور صيفًا، كان الإخوان يتأهبون للثورة، ولكنَّ وجودي عندهم حال دون ذلك خوفًا على حياتي، وشاء والد الدكتور محمد السراج أن يقيم لي حفلة، فكانت على كتف العاصي قبالة قبر أبي الفداء، وكان من المدعوين الدكاترة أبطال النهضة ثلاثتهم: صالح قنباز، توفيق شيشكلي، النائب فيما بعد، وخالد الخطيب.

وغنَّى المغني أبياتًا لأبي فراس وقَّعها على العود، ولما انتهى إلى قوله:

ونَحْنُ أُنَاسٌ لَا توسُّطَ عِنْدَنَا
لَنَا الصَّدْرُ دُونَ الْعَالَمِينَ أَوِ الْقَبْرُ

قرص صالح قنباز خالد الخطيب في فخذه، ثم قال لي أحدهم: غدًا مسافر الأستاذ من غير شرٍّ؟ فرددت كلمة «من غير شر» بلا وعي، ولما صرت في بعلبك اشتعلت حماة وحرقت السراي، ثم قتل الدكتور صالح رحمه الله.

لم أعلم شيئًا من هذا إلا بعد سنوات، عرفته في الحفلة التكريمية التي أقامها لي الدكتور خالد الخطيب في عمَّان عام ١٩٣١، حكى الحكاية — رحمه الله — وقال: أخَّرنا الثورة حتى تحقق لنا وصوله إلى بعلبك.

أما أنا فكنت أعددت هذه القصيدة لتلك الحفلة وأنشدتها فيها غير دار أن النار بالعودين تذكى.

لا تَئِنِّي يَا بِنْتَ ذَاكَ الزَّمَانِ
إِنَّمَا نَحْنُ فِي الْهَوَى سِيَّانِ
إِنْ رَمَاكِ الزَّمَانُ سَهْمًا فَفِي الصَّدْرِ
سِهَامٌ شَتَّى مِنَ الْحدثَانِ
فَدَعِي النَّوْحَ سَاعَةً وأصِيخِي
فَهوَ مِلْءُ الْقُلُوبِ وَالْآذَانِ
يَا عَجُوزًا مَشَتْ بِعَزْمِ الصَّبَايَا
لَمْ تَقِفْ فِي الْحَيَاةِ غَيْرَ ثَوَانِ
مَثَّلَتْ دَوْرَهَا عَلَى مَسْرَحِ الدَّهْرِ
فَكَانَتْ كَالدَّهْرِ فِي الدَّوَرَانِ
تَسْلُبُ النَّهْرَ مَاءَهُ بِتَأَنٍّ
مِثْلَمَا يَسْلُبُ الزَّمَانُ الأَمَانِي
تَنْثُرُ الدَّمْعَ فِي الرِّيَاضِ لُجَيْنًا
فَنَرَاهُ زَهْرًا عُقُود جمانِ
إِنَّ بِنْتَ الْعَاصِي لَهَا أَلْفُ عَيْنٍ
بَاكِيَاتٍ بِمَدْمَعٍ هَتَّانِ
وَلَنَا أَعْيُنٌ بِدُونِ دُمُوعٍ
أَقُلُوبُ الرِّجَالِ مِنْ صَوَّانِ؟
إِنْ بَكَيْنَا فَمَا يُفِيدُ بُكَانَا
وَبُكَاهَا بِهِ حَيَاة الجنانِ

•••

إِيهِ، بِنْتَ الرُّومَانِ، نوحي علينا
وانْدبِينَا كَقَوْمِكِ الرُّومَانِ
خَلَّدتكِ الدُّنْيَا التِي حَطَّمَتْنَا
وَرَأَيْتِ الْغزاةَ فِي كُلِّ آنِ
خَبِّرِينَا مَنْ كَانَ مِنْهُمُ بِرًّا
بِشُعُوبٍ عَانَتْ ضُرُوبَ الْهَوَانِ
يَا ابْنَةَ الرَّاقِدِينَ ضجِّي عَسَى أَنْ
يَسْتَفِيقَ النِّيَامُ فِي الْأَكْفَانِ
هِيهِ، نَادِي أَبَا الْفِدَاءِ يُسَجِّلُ
صَفْحَةً فِي تَارِيخِهِ ذَات شَانِ
أَيْقِظِيهِ وَأَيْقِظِي كُلَّ ملكٍ
قَامَ بِالْأَمْسِ مِنْ بَنِي عَدْنَانِ
أَيْقِظِيهِمْ لِكَيْ يَروا مِنْ بَنِي الْعُرْبِ
مُلُوكًا لَكِنْ بِلَا سُلْطَانِ
مَا هُمُ الْمَائِتُونَ بَلْ نَحْنُ مَوْتَى
بِخُشُوعٍ صَلَّى عَلَيْنَا الْجَانِي
أَيُّهَذَا الْعَاصِي تَوَقَّفْ وَحَدِّثْ
مَا أَرَتْكَ الْأَجْيَالُ مِنْ أَزْمَانِ
قَدْ مَشَى صَامِتًا وَفِي الْفَمِ مَاءٌ
يَا لَهُ «عَاصِيًا» مَشَى بِأَمَانِ
دَمْعَةُ الْخَاطِئِينَ تَمْحُو ذُنُوبًا
وَدُمُوعُ الْعَاصِي بِلَا غُفْرَانِ
وَأَرَى حَوْلَهُ الْجَنَائِنَ سَكْرَى
بِخُمُورِ الْحبُورِ وَالافْتِتَانِ
قَائِمَات أَشْجَارهَا كَالْعذَارَى
تَتَهَادَى أَغْصَانُهَا كَالْقِيَانِ
وَعَلَيْهَا الْأَطْيَارُ تَلْغُو وَتَشْدُو
لَاعِبَاتٍ فِي ذَلِكَ الْمهرجَانِ
وَرَأَيْت البِلَادَ تَرْسفُ فِي قَيْدٍ
مِنَ الْبُؤسِ عَالِكَاتِ الْعنَانِ
فَعَلَتْ صَيْحَتِي وَقُلْتُ تَعَقَّلْ
أَيُّهَا الرَّوْضُ، أَنْتَ فِي أَوْطَانِي
اصْمُتِي يَا طيورهُ، لَا تجنِّي
نَحْنُ فِي مَأْتَمٍ فَكَيْفَ الْأَغَانِي
فَأَجَابَتْ وَفِي الْجَوَابِ عِظَاتٌ:
إِنْ طما الخَطْبُ فَهوَ عُرْسٌ ثَانِ
١٩٢٧

(٩) عَلِّمُوهَا

لا أذكر لها سببًا خصيصًا، وهي مقولة قبل سنة ١٩٢٣.

عَلِّمُوهَا فِيهَا يَرْقَى الْوَطَن
فَهيَ بُسْتَانُ زُهُورٍ وَثِمَارْ
هَذِّبُوا الْمَرْأَةَ مِرْآةَ الزَّمَنِ
فَهيَ لِلْأَبْنَاءِ فِي الدُّنْيَا مَنَارْ
وَاجْعَلُوا الْعِلْمَ لَهَا خَيْرَ حلى
فهي أُمُّ الْعُلَمَاءِ الْعُظَمَاءْ
وَهُمُ مَجْدُ الْوَطَنْ
إِنَّ عَيْنَيْهَا وَرَبِّي صَفْحَتَانِ
بِهِمَا نَقْرَأُ أَسْمَى العَاطِفَات
صُنِعَا مِنْ مَاءِ لُطْفٍ وَحَنَانٍ
بِهِمَا تُدْرَكُ أَسْرَارُ الْحَيَاة
سَلِّحُوهَا بِدُرُوسٍ سَامِيَه
فَهيَ أُمٌّ لِلْجُنُودِ الْبُسَلَاء
وَبِهِمْ يُحْمَى الْوَطَنْ
وجد الرحمن نقصًا في الوجود
فبراها آية الخلق البديع
ضحك الفردوس عن ثغر السعود
إذ رأى في خلقها أسمى صنيع
لا تلوموها، فهذي أُمكم
وهيَ من ناغتْ جميع الأنبياء
ونفت عنا الحزن
حبَّذا الأم فما هذي الدنى
غير أُم زانها أسمى حنان
ثغرها ينفي متى افترَّ لنا
كلَّ غمٍّ قد غشا منا الكيان
علموها تغنموا أرقى فلاح
صدرها مهد البنين النجباء
إن جفا الجفن الوسن
كم تغنَّى شعراءُ الأعصرِ
وأعادوا للورى فيها النشيد
كم مشى من قائد وقسور
بلواها ولها دان العميد
سائلوا التاريخ كم دانت عروش
وترامت تحت أقدام النساء
في ميادين الزمن
أيها الأم هلمي للعلاء
وَهَبِي الدنيا البنين الناهضين
وابسمي فالغيهب الماضي انجلى
فابتسام الأم سلوان البنين
إنما الأمة نسج الأُمَّهَات
فاسمعوا صوتًا ينادي في العلاء
علموا بنت الوطن

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤