شُبُهات وظُلُمات

(١) شكوك

في أحوال خاصة يعتري المرء ما لا أحسن تسميته، فيتجه اتجاهًا لا يقصده، فيهرف بما لا يعرف.

قاطراتُ السنينَ تختالُ فينا
في صحارى المجاهلِ الأبديهْ
تَتَهَادَى حِينًا وتسرعُ حينًا
دون ما فكرةٍ ودون رويهْ
لَيْسَ نَحْكِي فِي الكونِ إِلَّا سفينا
سوفَ يرسو بمرفأ الأبديَّهْ
كُلُّ هذِي الدنيا وما تَعْشَقُونَا
من حطامٍ فيها ومن مدنيَّهْ
ليس فيها يا قومُ مَا يُجْدينَا
غير بعض الفضائلِ العلميَّهْ
فدعونا من النواحِ دعونا
إنما الموتُ والنواح بليَّهْ
فهذا الكون يفنى كالهباء
ويذهبُ كالتنفُّسِ في الفضاء
وَإِنَّكَ فائزٌ إن كنت تلقى
إلهَكَ بَاسِمًا يومَ القضاء
إِنَّ الحياةَ روايةٌ
فاضحَكْ بِهَا أَوْ مَثِّل
وإِذَا عرتكَ نهايةٌ
فَاسدِلْ سِتَارَكَ وانزِل
فتح الناسُ مغلقاتِ الطبيعَهْ
واسْتَبَاحُوا أَسْرَارَهَا المكنونَهْ
فرأينا فيها أمورًا بديعَهْ
وَبهَا العينُ أصبحَتْ مَفْتُونَهْ
سلم الماء والهواء صنيعه
للذي هُوَ في المفاعيل دونَهْ
كُلُّ هَذِي الأجرامِ وهيَ سريعَهْ
فِي خطاها تسير وهي أمينَهْ
حسب المرءُ أَنَّهَا مصنوعَهْ
لملذَّاتِه فَأَبْدَى جُنُونَهْ
مَا يَرَى مِنْ فَوَاجِعٍ لَنْ يروعَهْ
وَهو رهنٌ للساعةِ المرهونَهْ
فليس الموتُ إلا كالرقاد
وفيه راحة لبني الجهاد
ومن قد عاش بالإيمان حيًّا
يموت على رجاء بالمعاد
أما الذي إيمانه
قد مات، فهو بلا رجاء
فلتبْكِهِ إخوانُهُ
وعليه قد حَقَّ البكاء
إنما الموت سلَّم الارتقاء
وإذا زال فالحياة جمودُ
لو خلقنا من بدئنا للبقاء
لضجِرنا وهل يطيب الهمود؟
إنَّ موتي عذبٌ وسهلٌ فنائي
وبهذي التطوراتِ الخلود
إنما الصعبُ فرقةُ الأحياء
فتجلد يا أيُّهَا المولود
لا تنوحوا على التي في السماء
عيشها طاب، فالممات رقود
فهي بنت الإيمان أخت الرجاء
ولها العيش بالمحبة عيدُ
أرى في بوق جبرائيل رمزًا
لتجديد الحياة لمن تعزى
فطوبى للذي يحيا تقيًّا
محبًّا للعدو فليس يخزى
فاصرف حياتك عاملًا
في كرم ربك باجتهاد
كن محسنًا ومجاملًا
وانهج، أخي سبلَ الرشاد
ربَّ أُمٍّ مَاتَتْ وَخَلَّتْ بنيها
كفراخ القطاةِ زغب الحواصل
ذاك حكم القضاء أُنْزِلَ فيها
وعن الدهر والقضا لا تسائل
كم شقيٍّ في الأرض يختال تيهًا
وتقيٍّ يلقى المصاعب ناحل
إن جفتك الدنيا فلا تبكيها
فغدًا أنت لا محالةَ راحل
نازِلِ الحادثاتِ لا تتَّقِيهَا
باضطرابٍ فالخوفُ بابُ الغوائل
فهيَ لم تخشَ سيِّدًا أو وجيهًا
يستوي عندها عليمٌ وجاهل
ورأيي في المنايا كابن سلمى
ولست أُحيط بالمجهولِ علما
ولكني أسيرُ ولا أُبَالي
أحربًا كان لي أو كان سلما
قد جئتُ غير مخيَّر
ولسوفَ أَرْجِع مرغما
أفنى ويبقى جوهري
حيَّ العناصر مثلما

(٢) الحرارة والحياة

أما النسيبُ فقد تقادَمَ عهدُهُ
وطوى المشيب تشبُّبِي في لحدِهِ
من كان يقدَحُ كُلَّ يومٍ زندَهُ
نسي الهوى فخبتْ شرارةُ وجدِهِ
والسيفُ ينبُو حينَ يصدَأُ حَدُّهُ
مَا فاتَ نعجزُ كلُّنَا عن ردِّهِ
هيهات أيام الصبا تتجدَّد
أَمَّا الشباب فقلَّ منه ما بَقِي
وأتى المشيبُ يسيرُ بِي نحوَ الشقَا
ودَّعْتُ آمالي وقلتُ سنلتَقِي
وسألت ذاتي هل لنا من ملتقى؟
فتنهدتْ نفسي وقالتْ لي اتقِ
إنَّ الأمانيَ قدْ مَضَتْ فلك البقَا
والعيش ليل مثل حظِّك أسود
من أين جئت وأين أين المذهبُ
كمْ ضُلَّ في تحديد هذا المطلبِ
سرٌّ عن الرجل الحصيف محجَّب
وطريقه الشعواء ذات تشعُّب
فدعي أيا نفسي، حديثًا يتعب
وإذا دنا موتي فلا تتعجَّبي
إِنَّ البناء يُهَدُّ ثم يشيَّد
هَذِي الكواكب كم بها من هامد
بلظى الحرارة قد توقَّدَ واتَّقَد
دَارَتْ به الأجيالُ دورةَ جامد
سلبتْ حرارتُهُ فبردهُ الجَلَدْ
ولذاك إن طُفِئَتْ نِيَارُ مواقدي
سيقول عوَّادي دعوه نقد بَرَدْ
إنَّ الحياةَ حرارةٌ تتوقَّدُ
لم تظهرِ الأحياءُ إلَّا عندما
وجدَتْ لها ثغرَ الحرارةِ يبسم
ولسوفَ تفنى أرضنا هذي وما
فيها، إذا ما فارقَ الشمسَ الحَمُو
والكون يخلدُ بالحرارةِ مثلَما
خلدتْ على رغم الفناء جهنَّمُ
أو لا فليس سوى الفناء يُخَلَّدُ
١٩٢٢

(٣) إلى روح صديق

قلتها في صديق لا يعنيك أن تعرف من هو، أما أنا فأثَّر بي موته جدًّا حتى نطقت بما نطقت.

نَامِي فَمَا فِي النَّوْمِ مِنْ عَجَبِ
إِنَّ الرُّقَادَ مَغَبَّةُ التَّعَبِ
نَامِي عَنِ الدُّنْيَا وَبَهْجَتِهَا
فَالْمَوْتُ أَحْلَامٌ مِنَ الذَّهَبِ
تُوهِي بِأَجْوَاءِ الْخُلُودِ فَمَا
لِعَنَاصِرِ الْإِنْسَانِ مِنْ غَرَبِ
وَإِذَا اسْتَطَعْتِ فَأصْدِقِي خَبَرًا
عَنْ نَارِ جِيهنوم واللهَبِ
أَفَتِلْكَ آرَاءُ الْأُلَى صَدَقُوا
أَمْ أَنَّهَا ضَرْبٌ مِنَ الرَّهَبِ
أَفَيَجْعَلُ الرَّحْمَنُ صَنْعَتهُ
لِجَهَنَّمَ النِّيرَانِ كَالْحَطَبِ
إِنْ كَانَ حَقًّا فَالْجَحِيمُ هُنَا
وَالْمَوْتُ يُخْرِجُنَا مِنَ اللَّهَبِ
فَحَيَاتُنَا فِي الْأَرْضِ بَوْتَقَة
وَالْعَيْشُ بَحْرٌ وَهوَ ذُو عَبَبِ

•••

مَا كَانَ إِنْسَانُ الْكُهُوفِ يَرَى
آرَاءَنَا فِي عَصْرِهِ التَّعَب
أَتُرَى الَّذِي أَحْيَاهُ خَلَّفَهُ
عَصْرًا أَسِيرَ سَلَاسِلِ النوَبِ
عَجَبًا أَظَلَّ الْوَحْيُ مُخْتَبِئًا
حَتَّى أَتَى مُوسَى مِنَ السحبِ!
أَجْدَادنَا الْأَجْرَامَ قَدْ عَبَدُوا
وَتَنَقَّلُوا فِي سَهْمِهِ الرببِ
جَعَلُوا قُوَى الْأَكْوَانِ آلِهَةً
وَأَمَامَهَا خَرُّوا عَلَى الركَبِ
وَأَرَتْهُمُ الْأَوْهَامُ مُعْجِزَة
مِنْ كُلِّ آلِهَةٍ لِكُلِّ نَبِي
وَاسْتَنْطَقُوا الْأَصْنَامَ صَامِتَةً
فَأَجَابَتِ الْأَصْنَامُ كُلَّ غَبِي
وَاسْتَغْفَرُوهَا عَنْ مَآثِمِهِمْ
بِذَبَائِحِ الْإِجلَالِ وَالرهبِ
دَانُوا بِأَدْيَانٍ قَدِ ازْدَهَرَتْ
كَالْأَرْضِ فِي أَثْوَابِهَا الْقشبِ
صَاغُوا لَهَا تِيجَانَ عظمتِهَا
«مِنْ زُخْرُفٍ فِيهَا وَمِنْ كَذِبِ»
وَالنَّاسُ بَيْنَ الْمُدَّعِينَ غَدَوْا
مِثْلَ الْأَصَمِّ بِمحْفلِ الخطبِ
كُلُّ الْخَلَائِقِ أُلِّهَتْ قِدَمًا
حَتَّى حِمَار الْحَيِّ ذِي الذنبِ
إِنِّي لَأَقْرَأُ هَازِئًا بهم
يَا لَيْتَ شِعْرِي مَنْ سَيَهْزَأُ بِي

•••

هَذَا الْوُجُودُ وَلَيْسَ نُدْرِكُهُ
سِرٌّ غَرِيبٌ غَامِضُ الْحُجُبِ
كُنَّا نَظُنُّ الْخَلْقَ مُنْحَصِرًا
فِي أَرْضِنَا كَالزعمِ فِي الْكُتُبِ
حَتَّى أَتَانَا الْعِلْمُ يُنبئُنَا
أَنَّ الْحَيَاةَ كَذَاكَ فِي الشُّهُبِ
وَلَسَوْفَ يَأْتِي الْعِلْمُ بَعْدَ غَدٍ
بِغَرَائِبٍ عَنْ ربعِهَا الْخصبِ
فَالْيَوْمُ يهدمُ مَا بَنَاهُ لَنَا
أَمْسِ الدبور وَفِي غَدٍ حَرَبِي
فَاسرحْ بِهَذَا الْكَوْنِ مُتَّئِدًا
وَالْقَ الْمَنُون بهزَّةِ الطَّرَبِ
وَاعْمَلْ، هِيَ الْأَحْيَاءُ قَدْ خُلِقَتْ
لِجَلَائِلِ الْأَعْمَالِ وَالنَّصَبِ
إِنِّي لَأَقْرَأُ هَازِئًا بهم
يَا لَيْتَ شِعْرِي مَنْ سَيَهْزَأُ بِي

(٤) الأربعون

كنت ظننت الأمر كما سأقول، أما اليوم وقد بلغت الستين فلا أذهب ذاك المذهب.

مَا لِي وَمَا لَك أَيُّهَا الْجِسْمُ
مَضَتِ الْهيولى وَامَّحَى الرسمُ
ذَهَبَ الشَّبَابُ وَمَاتَ كُلُّ رَجَا
يَصْبُو إِلَيْهِ الْمَرْءُ أَوْ يَسْمُو
وَإِذَا انْقَضَى عَهْدُ الشبابِ فَلَا
تَرْجُ الحيَاةَ فَكُلُّهَا سقمُ
وَالْأَرْبَعِينَ إِذَا بَلَغْتَ فَقُلْ
لَمْ يَبْقَ لِي فِي الْعمرِ إِلَّا اسْمُ
فَالعينُ تَدْمَعُ دونَ مَا سَبَبٍ
وَالضرْسُ لَا خضدٌ وَلَا قضمُ
وَالأذنُ تَشْكُو الثقلَ مِنْ صَمَمٍ
فِيهَا، وَتِلْكَ الْكَفُّ تَلْتَمُّ
إِنِّي لأحسبُ أَنَّنِي رَجُلٌ
وَأَنَا الْعَجُوزُ الْعَاجِزُ الهمُّ
عَجَبًا لِنَا وَالدهر يخْدَعُنَا
نَسْعَى لِدُنْيَانَا وَنَهْتَمُّ
وَنَظُنُّ أَنَّ الدهْرَ يُسْعِدُنَا
والدهرُ فِي تريَاقِهِ السمُّ
إِنْ لَمْ تَنَلْ فِي الأربَعِينَ مُنى
فازهَدْ بِهَذَا الكَوْنِ يَا عَمُّ
وَإِذَا انْطَوَى بردُ الشبابِ فَلَا
يُرْجَى لَهُ نشرٌ وَلَا ضَمُّ
إِنَّ الْحَيَاةَ شَبِيبَةٌ خَطَرَتْ
كَالطَّيْفِ، سَمْعًا أَيُّهَا الصمُّ

(٥) في ابن صديق

توفي ابن أعز أصدقائي بعد موت أبيه وأمه، فقدمت لمرثاته بهذه الأبيات.

يَا أَخِي، مَا تَرَى، تُفِيدُ الْحَيَاةُ
فِي بِلَادٍ فِيهَا الْحَيَاةُ مَمَات
إِنَّ مَوْتَ الْإِنْسَانِ عِنْدِي خَيْرٌ
مِنْ حَيَاةٍ تَسُودُ فِيهَا الطُّغَاة
وَفِرَاقُ الدُّنْيَا أَعَزُّ وَأَهْنَا
مِنْ بَقَاءٍ دَامَتْ بِهِ الْأَنَّات
وَأَرى الْيَوْمَ مِثْلَ أَمْسِ فَلَا تَأْسَفْ
عَلَى الْعُمرِ، مَا بِهِ طَيِّبَات
لَيْسَ فِي الْأَرْضِ رَاحَةٌ لِابْنِ أُنْثَى
مَا تَقُولُونَ أَيُّهَا الْأَمْوَات؟
إِنَّكُمْ فِي الْفَنَاءِ أَهْنَأ مِنَّا
فَانْبذُوا كُلَّ مَا رَوَاهُ الرُّوَاة
إِنَّ عَيْشَ الْفَتَى الْجَحِيمُ، وَفِي الْمَوْ
تِ نَعِيمٌ مِنْ دُونِهِ الْجَنَّات
خَوَّفُونَا مِنَ الْمَمَاتِ وَقَالُوا
يَا لنارٍ تزجُّ فِيهَا الْعُتَاة
فَكَرِهْنَا لِقَاءَ رَبٍّ رَحِيمٍ
صغرَتْ دُونَ قدره الزلَّات
وَالْإِلَهُ الْعَظِيمُ، وَالْعَقْلُ يُوحِي
لَا ترَى فِي عُيُونِهِ الْهَفَوات
أَصَحِيحٌ ربي وُقُوفك قُرْبِي
مِثْلَ خَصمٍ، وَفِي الْخُلُودِ قضَاة؟
أَتَدينُ الْوَرَى بِعَدْلٍ رَهِيبٍ
مِثْلَمَا أَنْبَأَتْ بِهِ التَّوْرَاة
إِنْ يَكُنْ ذا تَفُقْ مَحَبَّةُ أُمِّي
حُبَّ رَبٍّ مِنْ صُنْعِهِ الْكَائِنَات
لَيْسَ هَذَا ظَنِّي بِحُكْمِكَ رَبِّي
أَتَفُوقُ الْمُكَوِّنَ الْأُمَّهَات
كَمْ أَسَأْت الضُّحَى إِلَيْهَا وَكَانَتْ
تَمَّحِي فِي الدجنَّة السيِّئات
لَا تدنِّي يَا رب وَاغْفِرْ ذُنُوبِي
فَهيَ لَا شَيْءَ، كُلُّهَا حَسَنَات
إِنْ يَكُ الْعَبْدُ دُونَ ذَنْبٍ فَهَلْ يُعْرَ
فُ مَا عِنْدَ رَبِّهِ رحمَات
حَيَّرَتْنِي أَعْمَالُ رَبِّي وَأَوْصَاف
إِلَهِي فَضَلَّتِ النَّظَرَات
كُلُّ يَوْمٍ يَرْمِي بِقَاصِمَةِ الظَّهْرِ
فَتصمي سِهَامه الصَّائِبَات
١٩٢٨

(٦) مسدسات

١

أَنَا لَنْ أَعُودَ كَمَا أَنَا أَبَدًا
وَالسِّرُّ سَوْفَ يَظَلُّ مَكْتُومَا
أَنَا لُغْزُ هَذَا الْكَوْنِ يَجْهَلُنِي
عَقْلِي وَلَسْتُ أَصِيرُ مَعْلُومَا
لَيْسَ الْوُجُودُ سِوَى مُكَافَحَةٍ
بَيْنَ الْكَوَائِنِ فهيَ فِي حَرْب
أَرَى فِي الْوُجُودِ مَعَانِي الْحَيَاةِ
يَحَارُ بِتَفْسِيرِهَا الْعَاقِل
إِذَا أَدْرَكَ النَّاسُ مَفْعُولَهَا
يحيرهمْ ذَلِكَ الْفَاعِلُ
دَعْ مَا ادعَاهُ النَّابِغُونَ فَمَا
رَأْيُ النَّوَابِغِ غَيْرُ هَذَيَانِ

•••

إِنِّي رَأَيْتُ الْكَوْنَ مُتَّحِدًا
جِسْمًا وَلَسْتَ تَرَاهُ مَهْدُوما
مَا تفرطُ الْأَحْدَاث سلكتَهُ
أَضْحَى بِكَفِّ الدَّهْرِ مَنْظُوما
قُلْ لِلَّذِي قَدْ قَامَ يُنْذِرُنَا
بِالْمَوْتِ، سِرْ بِالْمَسْلكِ الرَّحب
تَقُولُونَ لَيْسَتْ حَيَاةُ الْوَرَى
سِوَى مَوْقفٍ فِيهِ وَيْلٌ وَضِيق
وَنَرْحَلُ يَوْمًا لِدَارِ الْبَقَا
فَهَيِّئ رَفِيقَكَ قَبْلَ الطَّرِيق
إِنْ صَحَّ قَوْلُ الزَّاعِمِينَ فَقَدْ
هَيَّأْتُ إِيمَانِي بِوجْدَانِي

٢

وُجِدت وَمَا شِئْت فِي أُمَّةٍ
يَقُولُ فَتَاهَا وَلَا يَغْفَلُ
وَإِنْ قَامَ فِيهَا زَعِيمٌ جري
يمُوتُ مِنَ الْيَأْسِ أَوْ يَخذل
وَكَمْ فِي التَّوَارِيخِ مِنْ شَاهِدٍ
عَنِ الْأَنْبِيَاءِ الْأُلَى قُتَّلُوا
وَكَمْ فِي بِلَادِي مِنْ مُدَّع
يَقُولُ وَأَقْوَالهُ لَا يَعِي
وَكَمْ مُنَادٍ ليحيَ الوَطَن
وَيَشْكُو الْحَيَاةَ وَسُوءَ الْمَصِير
تَرَاهُ هُرُوبًا إِلَى الْخلْوَةِ
مَتَى قرعَ الأذنَ صَوْتُ النَّفير

•••

إِذَا مَا سَطَوْنَا عَلَى بَعْضِنَا
فَنَحْنُ الرِّجَالُ اللُّيُوثُ الغِضَاب
وَنَفْعَلُ غَيْرَ الذِي نَشْتَهِي
وَنُسْدِي الثَّنَاءَ بِغَيْرِ حِسَاب
وَمَنْ زَارَنَا طَمعتْ نَفْسُهُ
بِنَا وَاعْتَلَى فَوْقَ مَتْنِ السَّحَاب
وإِنَّا لَقَوْمٌ أَلِفْنَا الْخُضُوعَ
وَنَأْكُلُ بِالذُّلِّ خُبْزَ الدُّمُوع
نُقَادُ لِمَنْ شَاءَنَا بِالرسن
وَمَنْ شَاءَ كَانَ عَلَيْنَا الْأَمِير
فَيَا حَافِظَ الْأَمْنِ فِي أَرْضِنَا
تَنَعَّم فَأَنْتَ خَفِيرُ الْقُبُور

٣

عَبَدْنَاكِ يَا شَمْسُ فِيمَا مَضَى
وَأَيَّ الكواكِبِ لَمْ نَعْبُدِ
فَفِي تي الْبِلَادِ مَقَامُ الْعِبَادَةِ
كَمْ عَبَدَ النَّاسُ مِنْ أَعْبُدِ
أَأُمُّ الْحَيَاةِ، وَنُورُ الْوُجُودِ
فَلَوْلَا وُجُودُكِ لَمْ نُوجَدِ
فَإِنَّكِ غَابَةُ نَارٍ وَنُورٍ
تَسِيرُ وَقَدْ هَزَأتْ بِالْوُجُودِ
فَإِنْ غِبْتِ عَنَّا فَلَا تطْلعِي
لِأَنَّا جَهِلْنَا مَعَانِي الْوُجُودِ
وَنِمْنَا عَلَى مِثْلِ نَارِ الْغَضَا
فَسَادَتْ قُرُودٌ وَذَلَّتْ أُسُودُ

•••

قِفِي حَدِّثِينَا عَنِ الْمَشْرِقِ
وَإِنْ كَانَ هَذَا الْحَدِيثُ شُجُون
وَمِنْ شَعْبِهِ الْميتِ لَا تَضْحَكِي
فَإِنَّ الْمُقَدَّرَ سَوْفَ يَكُون
لَقَدْ كَانَ ذَاكَ الزَّمَانُ وَكُنَّا
نَسُودُ البَسِيط، نُدِيرُ الشُّئُون
وَدَارَ الزَّمَانُ بِآلِ العبَا
فَفَرَّقنَا الدَّهر أيدِي سبَا
فَيَا أَرْضُ مَهْلًا وَلَا تُسْرِعي
عَسَى أَنْ تَعُودَ عُصُورُ الْجُدُودِ
وَهَلْ تَسْتَقِلُّ وَهَلْ تَرْتَقِي
مَوَاطِنُ قَوْمٍ بدُون جُنُودِ

٤

صِحْتُ يَا لَيْلُ كَمْ تكتَّم حُرٌّ
فِي دَيَاجِيك وَاشْتَكَى وَتَظَلَّم
فَاسْتَمِعْ يَا دُجَى، شَكَاةَ أَدِيبٍ
مِنْ بِلَادٍ أَمْسَى بِهَا يَتَأَلَّم
صَارَ فِيهَا الْغَرِيبَ، وَهوَ فَتَاهَا
إِنْ دَعَتْهُ لَبَّى الدُّعَاءَ وَأَقْدَم
بُقْعَة يَرْتَقِي الْكَذُوبُ وَيَسْعَدُ
فِي حِمَاهَا، وَالصَّادِقُ الْحُرُّ ينكد
فَتَصَبَّر يَا حُرَّهَا، فَالْأَمَانُ
سَوْفَ يَأْتِي، إِنَّ الرَّجَاءَ قَرِيب
إِنَّمَا الْحُرُّ يَتَّقِي مَا يَضُرُّ
ثَابت الْجَأْشِ إِنْ دَعَتْهُ الْخُطُوب

•••

أَي خَيْرٍ أَرْجُو وَمَاذَا أَرُومُ
مِنْ بِلَادٍ غَنِيُّهَا لِلْمضرَّه
يَطْلُبُونَ الرقيَّ مِنْ غَيْرِ بَذْلٍ
وَالْقَلِيل القَلِيل يَأْتِي مَبَرَّه
وإِذَا مَا دَعَوْتَهُمْ لِمُفِيدٍ
جَدَّفوا فِي قُلُوبِهِمْ أَلْفَ مَرَّه
فارعواء يَا مَعْشَرَ الْأَغْنِيَاءِ
وَأَنْفِقُوا الْمَالَ فِي سَبِيلِ الْعَلَاء
فَغِنَاكُمْ إِنْ زَانَهُ الْإِحْسَان
كَانَ خَيْرًا، أو لا فَقُولِي مصيب
فِي اغْتِنَاءِ اللِّئَامِ إِثْمٌ عَظِيمٌ
قَدْ جَنَاهُ عَلَى الْأَنَامِ النَّصِيب

٥

زحمُوا الأطيَارَ فِي أَجْوَائِهَا
وَمَشَوْا مَا بَيْنَ أَثْنَاءِ الْأَثِير
أَفْسَدُوا الْأُفقَ بِمَا قَدْ نَفَثُوا
فِيهِ مِنْ غَازَاتِ وَيْلٍ وَشُرُور
أَطْلَقُوا الْأَطْمَاعَ فِي مِضْمَارِهَا
فَارْتَمَى الْخَيْرُ عَلَى الْأَرْضِ أَسِير
ذَلِكَ الْإِنْسَانُ شَيْطَانٌ رَجِيمٌ
فَاسْتَعِدِّي لِلِقَاهُ يَا نُجُوم
أَفْسَدَ الدُّنْيَا وَقَدْ رَامَ السَّمَا
فَاغْلِقِي فِي وَجْهِهِ بَابَ الْفلك
ضَاقَتِ الْأَرْضُ عَلَى أَرْجَائِهَا
عنه فَاعلولى وَلِلْجَوِّ امتلك

•••

أَيُّهَا الْمَرِّيخُ رَحِّبْ بِالْأُلَى
شَاقهُمْ مَعَ شقَّةِ الْبُعْدِ لِقَاك
فَاقْتَبِسْ مَا شِئْتَ مِنْ أَدْيَانِهِم
لَيْتَ شِعْرِي هَلْ يَرَاهُمْ مَنْ يَرَاك
أَنْتَ جَارُ الْأَرْضِ وَالْجَارُ أَخٌ
أَترَانَا مِثْلَمَا نَحْنُ نَرَاك
ضَلَّ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيمَا اعْتَقَدُوا
كَضَلالِ الْقَوْمِ فِيمَا عَبَدُوا
وَأَرى الطَّائِرَ يَنْحُو الْأَنْجُمَا
يُشْبِهُ الْغَائِصَ مَا بَيْنَ السَّمَك
لَيْسَ يَا ابْنَ الْأَرْضِ شَرٌّ فِي الْعُلَا
فَقِسِ الْمخفيَّ بِالظَّاهِرِ لَك

٦

عَجَبًا كَيْفَ تَرْهَبُ الْمَوْتَ نَفْسِي
وَيَطِيرُ الْفُؤَادُ مِنْ ذِكْرَاهُ
كَيْفَ أَخْشَى يَوْمًا سَأَرْقُدُ فِيهِ
مُسْتَرِيحًا، وَيَسْتَرِيحُ الله
فَهَذِي الْحَيَاةُ وَأَخْبَارُهَا
أَسَاطِيرُ يَضْحَكُ مِنْهَا غَدِي
أَقَاصِيصُ أفكٍ وَأَنْصَارُهَا
تَقُودُ الْأَنَامَ بِلَا مقود
أيُّ فَرْقٍ مَا بَيْنَ يَوْمِي وَأَمْسِي
فَبِلَيْلِ الضَّلَالِ أُضْحِي وَأُمْسِي
أُنَاجِي الْعَقْلَ وَالْعلمَا
بِروحَاتِي وَغدوَاتِي
فَأَلقَى الْهَمَّ وَالْغَمَّا
كُلُّ مَا فِي الْوُجُودِ فِيهِ حَيَاةٌ
تَتَجَلَّى كَالنُّورِ فِي النِّبْرَاس
لَيْسَ فَرْقٌ بَيْنَ الْكَوَائِنِ إِلَّا
بِاخْتِلَافِ الْهَيْئَاتِ وَالْإِحْسَاس
وَلَا فَرْقَ بَيْنَ خَلَايَا الصُّخُورِ
وَبَيْنَ خَلَايَا الوَرَى وَالنَّبَات
فَهَذِي تَصِيحُ وَهَذِي تَمُورُ
وَتِلْكَ تَذُوبُ لِتُعْطِي الحَيَاة
لَيْسَتِ الْكَائِنَاتُ إِلَّا وُجُودٌ
وَلَهُ بالتَّغَيُّرَاتِ الْخُلُود
أَرَى أَكْوَانَنَا جِسْمًا
تُغَيِّرُ إِذْ تَشَا الْأَحْوَالُ
مِنْهُ الاسمَ والرَّسْمَا

٧

فَتَّشْتُ عَنْ نَفْسِي الَّتِي رَقَدَتْ
بَيْنَ الْقُبُورِ تُسَامِرُ الْعَدَمَا
وَسَأَلْتُهَا عَمَّا تُكَابِدُهُ
فِي الْغَيْبِ بَيْنَ جَهَنَّمٍ وَسَمَا
نَادَيْتُهَا فَرَجعْتُ مُنْخَذِلا
وَكَذَاكَ مَنْ يَسْتَصْرِخُ الرِّمَمَا
قَدْ ضعت بينَ الْوَحْيِ والعلمِ
وَغَدَوْت أَرْمِي دُونَ مَا أصمي
أَوَّاه، قَدْ ضَيَّعت إِيمَانِي
وَسَبحتُ فِي طامٍ مِنَ الشَّكِّ
وَالنَّفْسُ قَدْ ضَلَّتْ وَمَا وَجَدَتْ
بَعْضَ الْيَقِينِ فَبِتُّ فِي ضنك

•••

إِنْ متُّ لَا تَسْتَفْحِصُوا عَنِّي
فَوْقَ النُّجُومِ فَبَيْنَنَا أَمَدُ
لَا تَسْأَلوا أَحْشَاءَ أَرْضِكُمُ
إِنَّ اللَّهِيبَ هُنَاكَ يَتَّقِدُ
بَلْ فَاسْأَلُوا عَنِّي الْهَوَاءَ فَفِيهِ
النَّفْسُ بَعْدَ الْمَوْتِ تَتَّحِدُ
هِيَ قُوَّةٌ مِنْهُ أَخَذْنَاهَا
وَإِلَيْهِ إِنْ مِتنَا أَعَدْنَاهَا
وَأَرَى النَّبَاتَ أَعَزَّ إِخْوَانِي
يُولي بِلَا مَن ولَا شَكِّ
قَدْ ضِعْتُ بَيْنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ
فَتَجَلَّدِي يَا نَفْسُ، لَا تَبْكِي

٨

هُوَ بُقْعَةُ أَرْضٍ يَحْمِيهَا
قَوْمٌ نَشَئُوا بِضَوَاحِيهَا
وَعَلَيْهَا كَمْ غَرَسُوا عَلَما
وَلَهُ سَجَدُوا وَسَقوهُ دَما
إِنْ كُرِّمَ يَخْتَالُوا تِيهًا
أَوْ حُقِّرَ بَاتُوا فِي ضَرَمِ
أَوْهَامٌ قَدْ أَذكَتْ شَجَنِي
يُنَمِّيهَا أَعْوَانُ الْمِحَنِ
طمِعُوا بِرِقَابِ البَشَرِيَّه
فَاسْتَاقُوهَا بِالْوَطَنِيَّه
فَبِأَرْضِ الْحَقِّ أَرَى وَطَنِي
وَعَلَيْهَا خَفَّاقٌ علمِي

•••

حَيِّ الْأَوْطَانَ وَأَبْنَاهَا
فَالنَّصْرُ أَسِيرٌ لِلِوَاهَا
يَا أَرْضًا نَامَ الْأَجْدَادُ
فِيهَا وَعَلَى الدُّنْيَا سَادُوا
وبِهَا نَادَى الرُّسلُ اللهَ
بِالروحِ أُفَدِّيهَا وَدَمِي
وَطَنِي يَا مَهْدَ الْأَدْيَانِ
يَا مَهْبطَ وَحْيِ الرَّحْمَنِ
هَذَا وَطَنِي يُحْيِي الرممَا
أَنْقَى الدُّنْيَا أَرْضًا وَسَمَا
مَا أَشْهَى مَوْتَ الْإِنْسَانِ
مِنْ أَجْلِ الْمَوْطِنِ وَالْعلم

٩

ضَحِكْنَا مِنْ تَآلِيفِ الْأَوَائِلِ
وَمَا فِيهَا مِنَ الْمَدْحِ الْجَزِيل
وَقُمْنَا الْيَوْمَ نَمْدَحُ كُلَّ جَاهِلٍ
بِأَوْصَافٍ تَدفَّقُ كَالسُّيُول
فَقُلْنَا ذَاكَ عَلَّام وَعَامِل
وَهَذا لَا يُشَقُّ لَهُ غُبَار
وَذَا فَهَّامَة زَهَتِ الدِّيَارُ
بِهِ فَخْرًا وَقَدْ شرف الْأَعَارِب
وهَذَا أَلْمَعِيٌّ فَيْلَسُوف
وَهَذَا شَاعِرُ الْعَصْرِ الظَّرِيف
كَأَنَّنَا فِي أَعْصُرٍ
ظَلَامُهَا ضَافِي الحلك

•••

وتُضْحِكُنِي تَقَارِيظُ الْجَرَائِدِ
وَمَا فِيهَا مِنَ الْمَدْحِ الْقَبِيح
تَرَى فِي كُلِّ دِيوَانٍ فَرَائِد
وَتَدْعُو كُلَّ عيٍّ بِالْفَصِيح
وَلَمْ تَسْمَعْ هُنَالِكَ نَقْدَ نَاقِدٍ
فَكُلُّ الْكتبِ آيٌ منزلات
وَأَفْضَحُ مَا رَأَيْتُ مُقَدِّمَات
تقلَّدنَا بِهَا الْقَوْمَ الْأَجَانِب
غَدًا يَزْدَانُ صَدْرُ الْكُتبِ فِيهَا
ليحترمَ المؤلفَ قَارِئُوهَا
بِضَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ
تحكُّ لِي أحكُّ لك

١٠

إِذَا ابْتَسَمَ الثَّغْرُ حَتَّى انْجَلَى
ظَلَامُ الْمُدَاجَاةِ فِي الْمَجْلِسِ
وَألْفَيْت ثَوْبَ التَّجَمُّلِ يَسْتُرُ
قُبْحَ الْخَبَائِثِ فِي الْأَنْفُس
وَشَاهَدْت قَوْمًا هَوَوْا كَالْقللِ
بلثمٍ وَضَمٍّ وَطَبْعِ الْقُبَل
وَرَحَّب قَوْمٌ وَفَاضَ اللِّسَانُ
بِمَا يُسْتَلَذُّ وَيُسْتَعْذَبُ
فَقُلْ قَاتَلَ اللهُ هَذا الْقلى
لَقَدْ مَزَجُوهُ بِمَا يعذب

•••

فَتِلْكَ السياسةُ بَيْنَ الملا
رياء وخبثٌ بعيد المدى
وَكَم من شُعُوبٍ بِهَا قُتِلَتْ
بغيرِ سيوفٍ ودونِ مُدَى
وَمَنْ فَاقَ كَذِبًا عَلَى قَرْنِهِ
دعوهُ العِصاميَّ والنَّابغَه
أرى الكذبَ في حركاتِ البشر
قديم العهود أضلَّ الفكر
وليس يعبَّر سر الجنان
سوى الدمعِ من مقلة يُسكب
فكلُّ الجوارح تُبْدِي الولا
وأَمَّا الدموعُ فَلَا تكذبُ

١١

إني أرى الأوطانَ سائرةً
نحو الخَرَابِ طريدةَ النوب
بَاتَتْ تَدبُّ عَلَى الْعَصَا عَجْزًا
مُنْقَادَةً بِزمَامِ كُلِّ غَبِي
وَتَعَصَّبَتْ فِي الدِّينِ فَافْتَرَقَتْ
حَوْلَ الْمَنَاصِبِ منبع النصب
يَا سَامِعِي صَوْتِي أَجِيبُونِي
أَوَمَا التَّعَصُّبُ آفَةُ الدِّين
تَرك البلادَ عديدة العِلَلِ
تَشْقَى بِدَاءِ تفرُّقِ الْمِلَل
فَغَدَتْ نَظِير الضبِّ حَائِرَةً
يَقْتَادُهَا الزُّعَمَاءُ لِلْحِين

•••

يَا مَنْ يُعِيدُ لِشَرْقِنَا أُمَمًا
تَسْعَى لِرَدِّ شَبَابِهِ الزَّاهِي
وَأَرَى الطُّمُوحَ تَكَادُ تلمسُهُ
كَفِّي وَيُبرمُ حَبْلُنَا الْوَاهِي
مَا أُمَّتِي هَذِي سِوَى أُمَّةٍ
عَرِيَتْ مِنَ الْأَمْجَادِ وَالْجَاهِ
تَغْتَرُّ فِي أَلْقَابِ مَمْلَكَةٍ
وَالدَّهرُ يُبْدِي كُلَّ مضْحَكَةٍ
أُفٍّ لِقَوْمٍ خَيَّبُوا أَمَلِي
وَاسْتَنْزَفُوا دَمْعِي مِنَ الْمُقَلِ
يَا دَمْع خُنْتَ الْعَهْدَ وَالذِّمَمَا
فَسَقَطْتَ مِثْلَ الْبَعْضِ مِنْ عَيْنِي

١٢

لَقَدْ «ضَخَّمت» أَلْقَابَهَا «دَوْلَة الأَدَبِ»
فَصَارَتْ «كَنَقْدِ الْيَوْمِ» اسْمًا بِلَا جِسْمِ
وَيَا وَيْلَتِي كَمْ كثرت «جنُّ عبقر»
وَيَا مَنْ لِهَذَا «الْإِنْسِ» مِنْ جَيْشِهِ الضَّخم
فَهَذا يُسَمَّى «فَيْلَسُوفًا» وَمَا لَهُ
سِوَى الْمَسْخِ عَنْ عُرْبٍ وَنَسْخٍ عَنِ الْعجْمِ
وَهَذَا «أَمِيرُ الشِّعْرِ» وَالْكَوْنُ دَارُهُ
وَذَاكَ «نَبِيٌّ» وَالْأَثِيرُ إِزَاره
فلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يُقِيمُوا لَهُمْ «مَلَك»
لَهُ دَوْلَةٌ، يُعْنَى لِكُرْسِيِّهِ الْعَالِي
يَسحُّ عَلَى أَعْوَانِهِ هَاطِل الرُّتبِ
فَنَحْيَا بِأَلْفَاظٍ، وَنَسْمُو بِأَقْوَال
فَيَا لَكَ مَلِكًا أَنْبَتَتْهُ الْجَرَائِدُ
عَلَى دمنِ الْأَغْرَاضِ، وَا خجلةَ الْأَدَبِ
إِذَا نَظَّمَ «الْمَعْرُوفُ» عقدًا مِنَ الْحَصَى
فَمنْ دُونِهِ «في عرفِهَا» الْمَاسُ وَالذَّهَب
وَإِنْ يَأْتِ مَجْهُولٌ «بِمُعْجِزِ أَحْمَدٍ»
رَأَى بِمُحَيَّاهَا ازورارَ «أبِي لَهَب»
مَنَاسِجُ القاب نصولٌ صِبَاغها
يُجَمِّلُهَا للنَّاظِرِينَ دِباغُهَا
تعلِّق من تهواهُ في قبة الفلك
لتهدي بني الدنيا إلى «ربعه الخالي»
إذا قال هذرًا، فالقوافي خوالدٌ
كإنجيلِ عيسى، فلينَمْ ناعمَ البالِ

١٣

وكم بيننا من مدَّع، ليس يستحي
من الناس، والدعوى بضاعة قاصر
«فَتُرمُسُهُ أَحْلَى من اللَّوْزِ» طعمة
ألا كُلْ وَجَاهِدْ تَغْتَنِمْ أَجْرَ صَابِر!
لكم بثَّ أشراكًا ليصطادَ شهرةً
زيوفًا، متى كان الحجى غر طائر؟
وَللطبلِ والمزمارِ والدُّفِّ معشر
يطبِّل، تعظيمًا له، ويزمِّرُ
فمن لي «بنقَّاد» يمزِّقُ ذا الحلَك
ويخلع عن «آدابنا» ثوبها البالي
ويهتفُ بالمجوادِ «أحسنت» فاصدحِ
فعهدُ «قفا نبك» انطوى، منذ أجيال

•••

«ويا مومياء الشعر» هل من تجددِ
فأيَّامُ «فرعون» القريض استقلَّتِ
ويا شعراءَ العصر، هدُّوا خيامكم
وخلُّوا أذكارَ الظعن، فالنوقُ ولَّت
نادُوا المعاني لائقاتٍ بعصركم
وصوغوا المباني لا تشاب بلكنة
«إمارتكم» هزء، فلا تحلموا بها
سيقضي بها التاريخ، إن كنتم لها
فسعيًا لبدع، فالتفوُّق يمتلك
برائع فن، لا بلمَّاعة الآل
فإنِّي أرى الأصداف رهن التبدُّد
وليست بمهر، فالعلى مهرها غال
١٩٢٢

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤