تقديم الطبعة الأولى
في ربيع عام ١٩٩٦، في مؤتمر سنوي نُظم تحت عنوان «الكمبيوتر، والحرية، والخصوصية»، دعي كاتبا خيال علمي للحديث عن الفضاء الإلكتروني في المستقبل. تحدث فرنون فنج عن «إنفاذ القانون في كل مكان» من خلال «أنظمة دقيقة موزعة»؛ حيث تغذي التكنولوجيا التي ترسم ملامح حياتنا في المستقبل البيانات إلى الحكومة، وتَقبَل الأوامر منها. كان المعمار الذي يسمح بتحقيق ذلك موجودًا بالفعل — متمثلًا في الإنترنت — وكان أنصار التكنولوجيا يصفون بالفعل طُرقًا يمكن من خلالها التوسع في هذا المعمار. عندما تصير الشبكة التي تسمح بتحقيق هذه السيطرة جزءًا لا يتجزأ من الحياة الاجتماعية، لن يحتاج الأمر سوى وقت فقط — مثلما يرى فنج — قبل أن تسيطر الحكومة على أجزاء حيوية من النظام. ومع نضوج النظام، سيزيد كل جيل جديد من كود النظام من سلطة الحكومة. ستعيش ذواتنا الرقمية — وبصورة متزايدة، ذواتنا الجسدية — في عالم من التنظيم الكامل، وسيجعل المعمار الخاص بعملية الحوسبة الموزعة هذه — ما نطلق عليه اليوم الإنترنت وصوره الأخرى اللاحقة — عملية التنظيم الكامل ممكنة.
تَبِع توم مادوكس فنج، وتلا قصة مشابهة وإن كانت في صورة مختلفة. لن تتأتى سلطة الحكومة من شرائح السيليكون فقط، بل سيتم دعم هذه السلطة من خلال تحالف بين الحكومة والتجارة. فالتجارة — مثل الحكومة — تعمل بصورة أفضل في عالم مُنظَّم جيدًا. وستساعد التجارة، سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة، في توفير الموارد لبناء عالم خاضع تمامًا للضوابط التنظيمية. ومن ثم سيتغير الفضاء الإلكتروني بحيث يجسد الخصائص المفضلة لدى قوتي النظام الاجتماعي هاتين؛ الحكومة والتجارة. ومن ثنايا عالم الإنترنت الوليد الجامح ستبزغ المسئولية.
الكود والتجارة.
عندما تحدث هذان المؤلفان لم يكن المستقبل الذي رسماه حاضرًا بعد. كان الفضاء الإلكتروني موجودًا في كل مكان بصورة متزايدة، على الرغم من أن الجمهور كان يجد صعوبة في تصور ترويض الإنترنت ليخدم الغايات الحكومية. في ذلك الوقت، كانت الشركات التجارية مهتمة بالفضاء الإلكتروني، على الرغم من أن شركات البطاقات الائتمانية كانت لا تزال تحذر عملاءها بالابتعاد عن الشبكة. كانت الشبكة فضاءً اجتماعيًّا متناميًا بصور هائلة لشيء ما لم تتحدد ملامحه بعد. على الرغم من ذلك، كان من الصعب آنذاك النظر إليه كفضاء متنامٍ للتحكُّم الاجتماعي.
بعد عشر سنوات، لم تعد هذه الروايات خيالًا علميًّا. لم يعد صعبًا فهم كيف قد تصير الشبكة فضاءً أكثر تنظيمًا، أو كيف قد تلعب القوى المحركة للتجارة دورًا في تيسير هذا التنظيم.
تعتبر المعركة الدائرة حول مشاركة الملفات عبر أجهزة الكمبيوتر مثالًا جيدًا على الآلية المشار إليها؛ فمع توافر كمية مذهلة من ملفات الموسيقى (ضمن أشياء أخرى) مجانًا (في مخالفة لقانون حقوق التأليف والنشر) من خلال تطبيقات تبادل الملفات بين الأجهزة، قاومت صناعة التسجيلات ذلك بشدة. شملت استراتيجية صناعة التسجيلات مقاضاة محمومة لأولئك الذين يتبادلون ملفات موسيقى بطرق غير شرعية، وجهود استثنائية لضمان اشتمال التشريع الجديد على ضمانات جديدة لحماية المحتوى الذي يتمتع بحقوق تأليف ونشر، فضلًا عن مجموعة من الإجراءات الفنية الجديدة لتغيير إحدى خصائص المعمار الأصلي للشبكة، وتحديدًا إمكانية نسخ المحتوى المتوافر على الشبكة دون أي اعتبار لحقوق التأليف والنشر التي يخضع هذا المحتوى لها. بهذا بدأت المعركة، وستمتد التداعيات المترتبة عليها إلى أبعد من عمليات توزيع الموسيقى. في المقابل، يظل شكل المعركة واضحًا؛ حيث تعمل الشركات التجارية والحكومة معًا لتغيير البنية التحتية للإنترنت لتحسين عملية التحكُّم.
مثَّل فنج ومادوكس الجيل الأول من منظِّري الفضاء الإلكتروني. استطاع فنج ومادوكس رواية قصتيهما عن التحكُّم الكامل؛ نظرًا لأنهما عاشا في عالم لا يمكن السيطرة عليه، واستطاعا التواصل مع مستمعيهما؛ لأن المستمعين كانوا يعارضون المستقبل الذي رسما ملامحه. كان من المسلي تصور هذا العالم المستحيل.
صار المستحيل الآن أكثر واقعية؛ فقد صار كثير من ملامح التحكُّم المذكورة في محاضرتي فنج ومادوكس — والتي صدمت العديد من مستمعيهما بخيالها الجامح — أكثر معقولية بالنسبة إلى الكثيرين. صار من الممكن الآن تصوُّر نظام الضبط الكامل الذي وصفه فنج، بل ويحب البعض ما يرى. من المحتم أن يغذي النشاط التجاري جانبًا كبيرًا من الإنترنت. لا يرى كثيرون غضاضة في ذلك أيضًا. وهكذا صار «الشيء المرعب» الآن طبيعيًّا، والمؤرخون وحدهم (أو مؤلفو الكتب القديمة مثل هذا الكتاب) هم مَن سيلحظون هذا الفارق.
يواصل هذا الكتاب طرح رؤيتي فنج ومادوكس؛ إذ إنني أشترك معهما في رؤيتيهما حول مستقبل الشبكة. يدور معظم هذا الكتاب حول معمار التنظيم المتوسع الذي سيصير إليه الإنترنت. في المقابل، لا أتفق مع الهتافات الفرحة في خلفية هذا التسجيل الذي يعود إلى عام ١٩٩٦. ربما كان من الواضح مَن هو «العدو» في عام ١٩٩٦، لكن هذا الأمر لم يعد واضحًا الآن.
يتمثل طرح هذا الكتاب في أن مستقبلنا ليس هو المستقبل الذي تصوره فنج أو مادوكس فقط، بل هو الاثنان معًا. إذا كنا لا نرى سوى الجحيم الذي يصفه فنج، سيكون رد فعلنا بديهيًّا وقويًّا. يوفر لنا أورويل الأدوات لتحقيق ذلك، ويمنحنا ستالين العزم لمقاومة الدولة الشمولية. بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، نرى شبكة مفعمة بأمثلة على التلصص واختراق الخصوصية، لكن حتى هذا سيكون له حدود؛ فلن تكون السيطرة الشمولية من واشنطن هي مستقبلنا. إن أحداث رواية «١٩٨٤» تنتمي إلى ماضينا.
بالمثل، إذا كنا لا نرى سوى رؤية مادوكس للمستقبل، سيطلق العديد من مواطنينا على ذلك يوتوبيا، لا خيالًا علميًّا؛ فالعالم الذي تعمل فيه «السوق» في حرية كاملة، ويُهزم فيه «شر» الحكومات سيصير في نظر هؤلاء عالَمًا من الحرية الكاملة.
في المقابل، عندما تجمع بين صورتي المستقبل اللتين قدَّمهما فنج ومادوكس معًا، ستكون الصورة مختلفة تمامًا؛ صورة مستقبل من التحكُّم تمارسه إلى حد كبير تكنولوجيات التجارة، يدعمها في ذلك سيادة القانون (أو على الأقل ما تبقى من سيادة القانون).
يتمثل التحدي بالنسبة لجيلنا في التوفيق بين هاتين القوتين. كيف نحمي الحرية عندما تتحكم الحكومة والقطاع الخاص على حد سواء في معمار التحكُّم؟ كيف نضمن الخصوصية عندما يمتلئ الأثير بالجواسيس؟ كيف نضمن حرية الفكر عندما يكون الدفع في اتجاه تحويل البيانات إلى ملكية خاصة؟ كيف نضمن حق تقرير المصير الذاتي عندما يتم التحكم في معماريات التحكُّم في مكان آخر؟ بعبارة أخرى: كيف نقيم عالمًا من الحرية في وجه الأخطار التي يصفها فنج ومادوكس؟
لا تتمثل الإجابة في الخطاب البليغ التلقائي المناهض للحكومة، والذي ينتمي إلى ماضٍ ليبرتاري ولَّى وانقضى من قبيل: الحكومات ضرورية من أجل حماية الحرية حتى لو كانت قادرة على تدميرها في الوقت نفسه. ولا تتمثل الإجابة أيضًا في العودة إلى خطط من أمثال برنامج الصفقة الجديدة لروزفلت، كما أن نموذج ستالين فشل. ولن توجد الحرية في أي من إدارات واشنطن الجديدة (إدارة سير العمل، هيئة الاتصالات الفيدرالية، إدارة الأغذية والدواء …) البيروقراطية.
يتبنى جيل ثانٍ مُثُل الجيل الأول ويتمثلها إزاء خلفية مختلفة. يعرف الجيل الثاني المناقشات القديمة؛ إذ إنه تابع تلك المناقشات العقيمة على مر السنوات الثلاثين الماضية. يتمثل هدف أي جيل ثانٍ في توجيه أسئلة لا تصل إلى طريق مسدود، والمضي قدمًا فيما وراءها.
هناك أعمال عظيمة متوافرة قادمة من كلا الجيلين؛ فلا يزال كل من إستر دايسون وجون باري بارلو وتود لابين ملهمين، ولا يزال المرء يتأثر بهم (دايسون هو محرر شبكات سي نت الواسعة، وبارلو زميل في جامعة هارفرد). وفي الجيل الثاني، تنتشر أعمال آندرو شابيرو، وديفيد شِنك، وستيفن جونسون التي تُعد بحقٍّ مؤثرة.
أستهدفُ هذا الجيل الثاني. وعلى النحو الذي يناسب مهنتي (أنا محامٍ)، سأُقدِّم وجهة نظري مطولة، وأكثر غموضًا، وأكثر فنية، وأقل ذكاءً من أفضل الأعمال في كلا الجيلين. وأيضًا على النحو الذي يناسب مهنتي، سأعرض وجهة نظري مهما كان الأمر. في خضم المناقشات المستعرة حاليًّا، لن يعجب ما سأقوله أحدًا كثيرًا. وفيما أخط هذه الكلمات الأخيرة قبيل إرسال مخطوطة الكتاب إلى الناشر عبر البريد الإلكتروني، أكاد أسمع ردود الأفعال بالفعل: «ألا تستطيع التفرقة بين سلطة مأمور البلدة وسلطة والت ديزني؟» «هل تظن حقًّا أننا نحتاج إلى وكالة حكومية تنظِّم كود البرمجيات؟» ومن الجانب المعاكس: «كيف تطرح وجهة نظر تؤيد وضع معمار للفضاء الإلكتروني (البرمجيات الحرة) يقوِّض قدرة الحكومة في القيام بشيء في الصالح العام؟»
أنا مدرس أيضًا، وإذا نشأ عن كتاباتي ردود أفعال غاضبة، سيؤدي هذا إلى تحقيق توازن أكثر في الطرح. هذه أوقات عصيبة لفهم الأمور في نصابها الصحيح، لكن الإجابات السهلة على نقاش الأمس لن تنفع اليوم.
تعلمتُ الكثير من عدد هائل من الأساتذة والنقَّاد الذين ساعدوني في كتابة هذا الكتاب. ألهمني كل من هال أبلسون، وبروس أكرمان، وجيمس بويل، وجاك جولد سميث، وريتشارد بوزنر؛ الصبر، وقدموا لي نصائح عظيمة عند كتابة المسودات الأولى. أشعر بالامتنان لصبرهم، وبحسن الحظ في تلقي نصائحهم. وجه لاري فيل وسارة وايتنج قراءاتي في مجال العمارة، على الرغم من أنني لم أكن صبورًا مثلما يجب أن يكون الطالب، كما ساعدتني سونيا ميد في التعبير بالصور ما يعبر عنه محامٍ في عشرات الآلاف من الكلمات.
قام جيش من الطلاب بمعظم الجهد في المسودات الأولى من هذا الكتاب. وقد قدم لي كل من كارولين بين، وريتشل باربر، وإنوك تشانج، وبن إدلمان، وتيموثي إلرتش، ودون فاربر، وميلين جلكسون، وبيثاني جلوفر، ونرلين جونزاليس، وشانون جونسون، وكارين كنج، وألكس ماكجيلفري، وماركوس ماهر، وديفيد ميلو، وتريزا أو، ولورا بري، ووِندي سِلتزر؛ نقدًا وافيًا ومحترمًا. ساهم مساعداي: لي هوبكنز وكاثرين تشو، في تنظيم هذا الجيش من الطلاب (وجعلهم في وضع تأهب دائم).
أثَّر ثلاثة طلاب بصفة خاصة في طرحي، على الرغم من عدم ملاءمة إطلاق لفظة «طلاب» عليهم؛ إذ ساهم هارولد ريفز أكثر من غيره في الفصل العاشر، وأجبرني تيم وو على إعادة التفكير في كثير من أقسام الجزء الأول، كما بيَّن لي آندرو شابيرو الجانب المضيء في مستقبل وصفتُه في تشاؤم بالغ.
أدين بصفة خاصة إلى كاثرين مارجريت مانلي، التي مكنتني موهبتها الاستثنائية ككاتبة وباحثة من الانتهاء من هذا الكتاب قبل موعده. أتوجه بالشكر أيضًا إلى توين تشانج وجيمس ستير لمراجعتهما ملاحظات الكتاب بعناية، والحرص على أن تتسم الملاحظات بالأمانة.
ليس هذا مجال يتعلم فيه المرء من خلال الإقامة في المكتبات. وقد تعلمت كل شيء أعرفه من الحوارات التي أجريتها — أو شهدتها — مع مجتمع استثنائي من الأكاديميين والنشطاء الذين كانوا يناضلون خلال السنوات الخمس الماضية لفهم طبيعة الفضاء الإلكتروني، ولجعله مكانًا أفضل. يشمل هذا المجتمع علماء وكتاب أذكرهم في متن الكتاب، خاصة المحامين يوشاي بنكلر، وجيمس بويل، ومارك ليملي، وديفيد بوست، وبام صامويلسون. استفدت أيضًا من الحوارات التي أجريتها مع أشخاص من غير المحامين، خاصة هال أبلسون وجون بيري، وتود لابين، وجوزيف ريجَل، وبول رِزنيك، وداني وايتزنر. استفدتُ ربما أكثر من النقاشات مع النشطاء، خاصة مركز الديمقراطية والتكنولوجيا، ومؤسسة الحدود الإلكترونية، والاتحاد الأمريكي للحريات المدنية. جعل هؤلاء الأمور تبدو حقيقية أكثر، وفعلوا الكثير للدفاع عن بعض القيم التي أرى أنها مهمة.
لم يكن هذا الكتاب ليُكتب لولا قصة ذكرتها جوليان ديبل، ومؤتمر نظمه هنري جيه بيريت، والكثير من النقاشات مع ديفيد جونسون. أشعر بالامتنان لثلاثتهم جميعًا لما علموني إياه.
بدأتُ هذا الكتاب زميلًا في برنامج هارفرد للأخلاقيات والمهن. أشعر بالامتنان لدنيس طومسون لدعمه في ذلك العام. كما يسَّرَ مركز بركمان للإنترنت والمجتمع في كلية هارفرد للقانون إجرائي للبحوث. أشعر بامتنان خاص لليليان ومايلز بركمان لدعمهما، وخاصة لمدير المركز المشارك، وفي بعض الأحيان زميلي في التدريس، جوناثان زيترين لدعمه وصداقته. أهدي هذا الكتاب إلى المدير الآخر المشارك لمركز بركمان، تشارلي نيسون، الذي أعطاني المساحة والدعم لكتابة هذا الكتاب، فضلًا عن إلهامي في طرحه بصورة مختلفة.
ربما كان أكبر دعم تلقيته هو صبر وحب المرأة التي وهبت لها حياتي، بتينا نيوفايند. سيظل حبها مجنونًا ورائعًا لفترة طويلة.