تمهيد

إنَّ من تفحَّص أحوال الحِرَف الدمشقيَّة ونظر إليها نظر المنتقد المدقِّق، يرى أنها في تأخير عظيم يوجب الأسف من جهة، وفي إتقان يوجب الدهشة من جهة أخرى؛ أمَّا التأخير فلأنَّ عموم الصنائع والفنون فقدت ما كانت عليه من الرونق في الأزمنة الغابرة، وهي بعيدة أنْ تقاس على ما هي عليه الآن صنائع أوروبا وأميريكا، بل بعض ما اشتهرت به هذه المدينة القديمة فقد مطلقًا كعمل السيوف الدمشقيَّة والقيشاني والظاهري١ … إلخ. وأسباب ذلك عديدة، منها سياسيَّة، ومنها تجاريَّة، وأعظمها تأخير العلم في هذه الديار، وتلك مسألة لا يَحسُن التعرُّض للكلام عليها في مثل هذا المقام.
وأمَّا الإتقان الذي يوجب الدهشة؛ فهو كمال الانتظام وحُسن الترتيب اللذان لم يزالا محفوظين من أزمنة قديمة إلى يومنا هذا بين عَمَلة اليدين من كلِّ نوع وملَّة. وهذا الانتظام والترتيب وإنْ كان حصل له من بواعث الدين ما قلب مقصده إلى غير الغاية المرادة في الأصل — كما يحدث لأكثر الجمعيات — إنما لم يطرأ عليه تغيير في جوهره. فالحرف لها رئيس أعظم وهو شيخ المشايخ، ورؤساء ثانويون وهم مشايخ الحرف، ومعلِّمون وصنَّاع ومبتدئون، أو خدَّام في كلِّ حرفةٍ على حِدَتها. ولهم كلام ورموز تُصْنَع بالأيدي والأرجل — ولو لم نقف على تفسير معانيها — ولهم في كلِّ مسألة رسوم لا يحيدون عنها. ولهم ارتسام يسمُّونه «الشَّدَّ» أو «التمليح» يجرونه للمبتدئ عند انتقاله من درجته إلى درجة صانع، وآخر عند انتقاله من درجة صانع إلى درجة معلِّم، ولهم اجتماعات وأسرار وقصاصات وانتخابات ومآدب. وبوجه الإجمال كأنه بهم جمعيَّة الفَعَلة الأحرار Francs-maçons ومعلِّمهم الأعظم ومحترموهم ومعلموهم ورفقاؤهم ومبتدئوهم … إلخ، سيأتي الكلام بالتفصيل على كلِّ هذه بقدر الإمكان. وقد قسمته إلى فصول، ذكرت فيها ما تيسَّر لي الوقوف عليه فيما خصَّ شيخ المشايخ والنقيب، وشيخ الحرفة والشاويش والمعلِّمين والصُّناع وشدهم والمكافأة والقصاص … إلخ.
١  إنَّ بعض الدمشقيين أخذ من نحو خمس عشرة سنة بتجديد صنعة النقش على الأواني النحاسية المسماة صنعة الظاهري، والفضل بذلك للشابِّ إسكندر بن يوسف دواناتو الذي ابتدأ به حين كان لا يبلغ من العمر إلَّا ١٢ سنةً، وتوفاه الله وهو في شرخ الشباب. وقد أخذ عنه كثيرون أخصُّهم من اليهود، واتَّسع جدًّا الاتجار بالنحاس الظاهري، لكنه للآن لم يبلغ حدَّ الإتقان كما كان في القديم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤