الفصل الأول

في شيخ المشايخ

هو السيد الشيخ الحاج أحمد أفندي مَنْجَك، أرشد عايلة بني عَجْلان، من أشراف دمشق، ومن السلالة النبويَّة، من السلسلة الحسينيَّة. لُقبت بعض عايلته بمنجك؛ نسبةً لإحدى جدَّات العايلة التي كانت من بلاد التتر. وأمَّا سائر العايلة فلم يزل محافظًا على تسميته بيت العجلاني، وهو يسكن الآن في بيته المعروف بالقرب من الجامع الأُمَوي، ويعيش من إيراد أوقافه في ضواحي دمشق. ولبعض من أفراد العايلة مداخلات في خِدامات الحكومة المحلِّية، وهم حائزون على اعتبارٍ عظيمٍ، ولا سيما السيد الشيخ محمد أفندي العجلاني أحد أعضاء مجلس استئناف الولاية.

أمَّا أحمد أفندي منجك فهو على جانب عظيم من التقى الإسلاميِ، ويعرف فرض الكفاية من الفقه الديني، ولكنه ليس على شيء كثير من العلوم الرياضية، وبأقلِّ من ذلك على صنعة أو حرفة. وهو طويل القامة، ذو منظر وَقور، وقد كلمته فكان كلامه بسيطًا لا يدل على تصنُّع ولا عجْرَفة.

هذا هو الذي كانت أسلافه تُعيِّن المشايخ لأكثر من مئتي حرفة، وتأمر وتنهى وتقاصُّ وتفصل كل مسألة، وتحسم كلَّ مشكلة لديهم بتقاضي الجميع، وهو الشيخ عليهم الآمر الأعلى، والحاكم الأعظم، والرئيس الأسمى الذي لا يُنتخب، ولا يُعزل، ولا يُبدَّل، ولا يخلعه من منصبه إلَّا الموت أو الاستقالة.

قلتُ لا يُنتخب لأنَّ هذه الوظيفة مختصَّة بعايلة العجلاني، كما أنَّ نقابة الأشراف، ومشيخة الطُرق توارث فيهم من أيام الحضرة النبويَّة إلى يومنا هذا من السَلَف إلى الخَلف، يتولَّاها الأكبر سنًّا من أعضاء العايلة. وقد حدث لشيخ المشايخ الحالي أنَّ أخاه عطا أفندي الذي كان تبايع معه على المشيخة قبل وفاة والدهما، نازعه عليها بدعوى أنَّه أفقه وأقدر منه على ضبط أمورها، وإرجاعها إلى رونقها الأصلي. أمَّا هو فاضطَّر أنْ يذهب إلى عاصمة السلطنة حتى استحصل من السلطان على فرمان عالٍ مُثْبت لحقوقه في مشيخة المشايخ؛ إذ إنَّه أكبر سنًّا من أخيه، وليس به ما يدل على عدم أهْليَّته أنْ يتولى هذا المنصب فتولاه، ولم يزل فيه إلى الآن.١

أمَّا السلطة التي ذكرتها لشيخ المشايخ، فكانت فيما مضى عظيمة جدًّا قبل أنْ تمكَّنت سيادة الباب العالي على سوريا حين كان رؤساء المسلمين وأشرافهم لا يقرِّون له إلَّا باسم السيادة، وكانوا هم الحُكَّام الحقيقيُّون. فكان لشيخ المشايخ السلطة والقدرة أنْ يُلقِي مَن تعدَّى من المشايخ، أو من سائر أهل الحِرَف في السجن، وأنْ يكبله بالقيود، وأنْ يضربه بالعِصِي. أمَّا الآن فمن عهْد السلطان عبد المجيد ومَنْ بعده؛ حيث أعطيت التنظيمات الخيرية، قلَّ تسلُّط شيخ المشايخ إلى حدٍّ غير متناهٍ حتى يسوغ لنا القول إنه غدا محصورًا بالتصديق على تنصيب شيخ حرفة من الحِرَف بعد أنْ ينتخبه معلِّموها. ويُعدُّ الآن هذا التصديق غير كافٍ؛ لأنَّه حينئذ يجتهد المنتخَب، ومريدوه بأن يحصل على البيولوردي (الأمر)، وختم الشِّيخة من قبل مجلس البلديَّة، بل كثيرون يكتفون ببيولوردي الحكومة، وأخذ الختم غير مبالين بالتصديق من طرف شيخ المشايخ على انتخابهم، ولا سيما الغير المسلمين منهم؛ لأنَّهم كانوا يدفعون رسوم الشِّيخة، ويحلفون يمين الصداقة لكنهم لم يعطوا العهود كالمسلمين؛ ولذا عند انتشار التنظيمات الخيرية رأوا ذواتهم مُنْفكِّين مما كانوا يُجبرون عليه وبعض منهم لم يُشَدُّوا قط. والذين لم يزالوا يحرصون على تصديق الشيخ؛ فيفعلون ذلك لاعتقادهم بسريرة شيخ المشايخ سليل النبي وببركاته التي تجلب الخيرات وتدرأ المضرَّات. ولذا تراهم إلى الآن يرضخون لأوامره، ويلتجئون إليه عند الحاجة.

١  بلغني أنَّ منذ نحو أربعين سنة سعى أحد أبناء الترك مع حكومة الأستانة؛ فسمته شيخًا للمشايخ، وأرسلته إلى دمشق لتنزع هذا الحق من يد بني العجلاني، فساء أمر الدمشقيين من أهل الحِرَف وخلافهم؛ لأنه لم يكن من السلالة النبوية، ولا أخذ العهود عن أجدادٍ كرام، فارتأوا أنْ يجمعوا له مبلغًا من الدراهم ليرجع به إلى حيث أتى. وهكذا كان، فبقي شيخ المشايخ الدمشقي في منصبه، وسيبقى ومَن بعده فيه طالما يُعْتَرَف لهم بشرف النسب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤