الفصل السابع

في المكافأة والقصاص
إنَّ الارتقاء إلى درجة صانع ومعلِّم هو المكافأة العظيمة التي ينتظرها عَمَلة الحِرَف على اجتهاداتهم، فلا وجود هنا للمعارض العموميَّة أو الخصوصية، ولا مسابقات ولا جوائز ولا حكومة تضمن لمن أتى بتحسين أو باختراع في فنِّه، أنْ يحصل على مكافأة ماديَّة أو امتياز يكفل له المستقبل، وينشط غيره إلى الاقتداء به. نعم، إنَّ في النظامات العثمانيَّة الجديدة خُصِّصَت بعض من بنودها لهذا الموضوع، إنما جرى من الحكومة ذلك مماثلة بالنظامات الأوروبيَّة، وعلَّمتنا الحوادث أنَّها بقيت في حقيقة الأمر حبرًا على ورق مُهْمَلة في زوايا النسيان.١
أمَّا القصاصات فقد وجَّهوا إليها أفكارهم؛ حفظًا لروابط الكارات وصونًا لأموال الناس، وهي كثيرة ومتنوِّعة، فأذكر منها ما تمكَّنت من الوقوف عليه:
  • (١)

    في أكثر الكارات يُطرَد الخائن والسارق طردًا باتًّا، فلم يعُدْ أحد من أهل حرفته يقبله، بل إذا أرادوا فيجرون عليه حربًا شديدة لأجل إسقاطه من كلِّ عمل.

  • (٢)

    إذا ثبت أنَّ أحد معلِّمي الكار نقص الصاية عن الطول أو العرض المألوف، فكان يحضرها شيخ الكار ويقصُّها ويعلِّقها في السوق، فيصير صاحبها عبرةً لمن اشتغل.

  • (٣)

    إذا أدخل أحدٌ الغشَّ بالكار، فكان يرسل الشيخ شاويشه فيقفل دكَّانه، ولا يعود بإمكانه فتحه إلَّا برضاء الشيخ وأهل الحرفة.

  • (٤)

    إذا أدخل أحد الصياغ الغشَّ والزغل في مزيج معادنه، فكان شيخ الصاغة يقلب له السَّدان على قفاه، فيبقى هكذا مربوطًا عن شغله إلى أنْ يحصل على رضائه.

  • (٥)

    إذا ترتَّب الحقُّ على أحد معلِّمي الكار بأنَّه أخلَّ بالروابط، فيعطونه عرقًا أخضر دلالة أنَّهم يكلِّفونه لعمل وليمةٍ، وهذا يعادل الجزاء النقديَّ، وهو المصطلح عليه أكثر من غيره من أنواع القصاص.

  • (٦)

    من جملة القصاصات التي كانت جارية قبلًا، أنَّهم كانوا يقصُّون للمُذنب خصلة من شعر رأسه.

١  لا بُدَّ لي إثباتًا لمقالي، وإجابةً لطلب بعض الفَعَلة أنْ أستطرد بذكر بعض ما اتَّصل إليَّ من أخبارهم، فأقول: إنَّ أحدهم برع جدًّا في علم الآلات الميكانيكيَّة، حتى لم يعُدْ يعسر عليه شيء مع قلَّة وسائطه ومعارفه، فاتفق له أنْ يصطنع بندقيَّة من طراز هنري مرْتِينِي ففعل، وعرضها إلى مشير المعسكر متكفلًا أمامه أنْ يقدِّم لعساكر الدولة قدر ما يشاء من هذه البندقيَّات بأبخس مما تباع في أوروبا، فما كان من المشير إلَّا أنَّه تهدَّده بالسجن، وما سمح عنه إلَّا بعد أنْ أخذ عليه الكفالات القويَّة بألَّا يعود يشتغل ثانيةً هذه البندقيَّات؛ وذلك خوفاً من أنْ تتمكَّن الأهالي بواسطته باقتناء مثل هذه الأسلحة. وآخر لا يعلم الكتابة ولا القراءة تمكَّن من عمل قارب عجيب يدفعه البخار إلى مسافة بضعة أميال في البحر، ثم يرجعه على عقبه بعد أنْ يضرب طلقًا من مدفع صغير، ويرفع من ذاته العلم العثماني، فأهداه إلى أحد أرباب الدولة، فكان إكرامه له مبلغًا من النقود أقل من كلفته عليه. وآخر اصطنع كرة أرضية بغاية الدقَّة وأهداها لأحد وُلاة سوريا، فقبلها منه وأكرمه بقوله «أفرين»؛ (Les Arabes disent عفارم عليك. Voyez op. land. p. 82.) أي عافاك الله. وعندي من مثل هذه الأمثلة شيء كثير لا يسعني استيفاؤه في مثل هذا المقام الجليل. فيظهر أنَّ أمر المكافأة قد أُهمل في هذه الديار منذ القديم إلى يومنا هذا، حتى إنَّ تلامذة المدارس أنفسهم محرومون عند الأمَّة الإسلاميَّة من المكافأة المادِّيَّة، كأنَّ الأساتذة والرؤساء يرجحون صحَّة الاعتقاد أنَّ الخوف وحده كافٍ أنْ يمنع الإنسان عن الشرِّ، وأنْ يقوده إلى الخير، أو أنَّهم لا يعترفون بلزوم الإنسان لثواب غير الموعود من البارئ في الآخرة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤