عصرُه وأسرتُه

الأصل تتبعه الفروع، كما يقول المعتمد على الله بن عباد في شعر له — سَنُلِمُّ به بعد حين — أو أن الأصول عليها ينبت الشجر، كما يقول غيره. وهما تعبيران متقاربان يلخصان قانونًا من قوانين الوراثة؛ إحدى سنن الله في خلقه، يظهر أثره بوضوح — تساعده البيئة؛ قانون الطبيعة الآخر — في ابن رشد الحفيد والبيت الذي نبت فيه؛ سواء في ذلك ما يتصل بالصفات النفسية الخلقية، أو الصفات العقلية.

وأسرة ابن رشد من أكبر الأسر الأندلسية، وتُعْتَبَرُ بوجه خاص من مفاخر قرطبة؛ شغلت زمنًا طويلًا مركزًا ممتازًا في الفقه والقضاء والسياسة، وكانت موضعَ إجلالِ دولةِ المرابطين، ثم دولة الموحدين، على اختلاف هاتين الدولتين في النزعات والميول من ناحية العلم والعلماء وحرية التفكير.

•••

لقد أسس عبد الرحمن الداخل مُلكًا لبني أمية بالأندلس استمرَّ من عام ١٣٨ﻫ إلى عام ٤٢٧ﻫ، ولما ذهبت هذه الدولة تقاسم الأمراء أقاليم البلاد؛ فكان ملوكُ الطوائف الذين عرفهم التاريخ، وكان أشهرهم أمرًا، وأنبههم ذكرًا المعتمد على الله أبو القاسم محمد بن عباد ملك إشبيلية؛ فقد انتظم له في ملكه من بلاد الأندلس ما لم ينتظم لملك قبله؛ أعني من المتغلبين كما يقول المراكشي.

لكن الحَذِر قد يُؤتى من مأمنه! فقد كان بين المعتمد والفرنجة حروب وغزوات يصيب منها ويُصاب، فرأى أن يستنصر بيوسف بن تَاشُفِين، ملك البربر بمراكش، فكان ساعيًا إلى حتفه بظلفه، وكان ذلك سبب ضياع دولته.

ذلك بأن ابن تاشفين صَغُر ملكه في عينه بعد أن رأى الأندلس وعظمتها، فعاد إلى بلاده وهو في الأندلس طامع، وأخذ هو ومستشاروه يُعمِلون الحيلةَ لامتلاكها؛ فبدأ باستئذان المعتمد في أن يسمح لجماعة انتخبهم من خيرة أصحابه بالإقامة في بعض الحصون مرابطين في سبيل الله، بينما هم دعاة وأنصار انتهزوا الفرصة عندما سنحت، وهبُّوا لقيادة الثورة على ابن عباد، حتى أُسِر بعد أن أبلى أحسن البلاء سنة ٤٨٤ﻫ، واستقر أمر الأندلس بعد هذا لابن تاشفين، وعُدَّ يومئذ — كما يذكر المراكشي — في «جملة الملوك، واستحق اسم السلطنة، وتسمى هو وأصحابه بالمرابطين».

ولما تم أَسْرُ المعتمد، وأجازوا به البحر إلى طَنْجَة، قال يُعبِّر عن بعض ما يُحِسُّ به:

قالوا الخضوعُ سياسة
فلْيبْدُ منك لهم خضوعُ
وألذ من طعم الخضو
ع على فمي السم النقيعُ
إن تَسْتَلِبْ مِنِّي الدُّنَى
ملكي وتُسلمني الجموعُ
فالقلب بين ضلوعه
لم تُسْلِم القَلبَ الضلوعُ
لم أُستلب شرف الطبا
ع، أيسلب الشرف الرفيعُ؟
شِيَمُ الأُلَى أنا منهُمُ
والأصل تَتْبَعُه الفروعُ

على أن المرابطين لم يهنئوا طويلًا بالدولة والمُلك؛ فقد أرسل الله عليهم الموحدين بزعامة محمد بن عبد الله بن تُومرت المهدي، وخليفة عبد المؤمن بن علي، فثلُّوا عرشَهم، وأقاموا لهم دولة على أنقاضهم، وتم لهم بالاستيلاء على قرطبة وغرناطة فتح الأندلس كلها.

وفي سنة ٥٥٨ﻫ، توفي عبد المؤمن، ووليَ الأمر ابنُه أبو يعقوب يوسف، المُلقَّب بالمنصور، وهو الذي آزر ابن رشد وشجعه على التفلسف، ثم ولي بعده ابنُه أبو يوسف يعقوب «٥٨٠–٥٩٥ﻫ»، وفي عهده كانت نكبة ابن رشد وأصحابه بعد محاكمة لا ظل للعدل فيها.

وقد قلنا: إن أسرة ابن رشد كانت موضع إجلال وتقدير هاتين الدولتين من ناحية العلم وحرية الفكر. وهذا حق تؤيده وقائع التاريخ.

لقد كان المرابطون من أبعد الناس عن العلم والمدنية وسماحة الإسلام، وكان مؤسس دولتهم لا يتأخر عن سحق الذين لا يتلقون بقبولٍ تعاليمَه كلها متى وجَد إلى ذلك الوسيلة، وكان من ضيق صدور رجالاتهم بما لا يعرفون من العلم والمعارف أن استولى الفقهاء على رأي يوسف بن تاشفين؛ فكان لا يقطع أمرًا دونهم، وانتهزوها فرصة فقبَّحوا عنده علم الكلام حتى استحكم في نفسه بغضه وبغض أهله، وحذر منه وشدَّد في نبذه، ثم تمادى الفقهاء فأفتوه بأن كتب الغزالي — وقد وجدت طريقها إلى بلاد المغرب، ومنها «الإحياء» — فيها غير قليل من الإلحاد، وأن صاحبها قد كفر بخروجه فيما ذهب إليه عن مذهب أهل السنة، فكان أن استمع لهم وأمر بإحراقها، كما يروي المراكشي في كتابه «المُعجب»، والمؤرخ الألماني يوسف أشباخ في كتابه «تاريخ الأندلس».

وكان من ذلك أن أخذت معاهد العلم والمكتبات العامة تتناقص شيئًا فشيئًا، وأن صار العلماء يَنْزَوُونَ ويَسْتَخْفُون.

أما الموحدون، فقد كانوا على الضد من هذا كله: إيثار للعلماء، وبخاصة أهل النظر منهم، واستقدامهم ليكونوا بجوارهم في حضرتهم حتى لَيَتَّخِذُون منهم جُلَّاسًا وأصدقاء، بل كان منهم الخليفة أبو يعقوب يوسف، الذي دفعه شرف نفسه وعلو همته إلى تعلم الفلسفة، وجَمْعِ كتبها من مختلف النواحي والأقطار.١

من أجل ذلك نجدهم يُبِيحُون قراءة مؤلفات الغزالي ونحوها من كتب علم الكلام والفلسفة، ويشجعون على دراستها، وكان من سعة صدورهم أن علماء من اليهود وصلوا إلى مركز العمادة لبعض معاهد العلم في قرطبة وإشبيلية وغرناطة وبلنسية ومرسية بالأندلس، كما يذكر المؤرخ أشباخ، في ظل أمراء يعرفون للعلم قدره، ويدفعون إليه، ويُثيبون عليه.

لهذا سارع العلماء إلى خذلان المرابطين أبناء الصحراء الجافة القاسية، وشَدِّ أَزْرِ المُوَحِّدِين رعاة العلم، وأولي البصر به؛ مجازاةً لهم إحسانًا بإحسان، وحُقَّ لهم ذلك؛ فقد كان هؤلاء يشترطون فيمن يتولون المناصب العامة، كما يذكر أشباخ، «توافر نوع من الثقافة العامة، والإلمام بمعظم العلوم الإسلامية المعروفة».

وهناك مفارقة أخرى بين هاتين الدولتين، اللتين شَهِد أيامهما ابنُ رشد وبيته، ترجع إلى البيئة الأولى الطبيعية والاجتماعية لكل منهما.

لقد كان المرابطون — إلى ما ذكرنا — قساة غلاظ الأكباد، وبعيدين إلى حد ملحوظ عما يوجبه الإسلام من الوفاء ولين الجانب والرحمة بمن هان بعد عزٍّ؛ فهذا يوسف بن تاشفين استنجد به — كما قدمنا — ابنُ عباد ضدَّ الفرنجة، فلم يتركه حتى سلَبه ملكه، وأنزله وآله منزلة الهُونِ في الأسر والضيق والذل حتى جاءهم الموت، كما يذكر المراكشي. أما الموحدون، وقد أشربوا تعاليم الدين السمحة، فقد كان من أول أمير لهم؛ وهو عبد المؤمن بن علي، أن غلب يحيى بن عبد العزيز الصنهاجي على ملكه — بجَايَة وأعمالها — ورجع به وبأعيان دولته إلى مراكش، وأمر لهم جميعًا، كما يذكر المؤرخ السابق نفسه، «بالمنازل المتسعة، والمراكب النبيلة، والكُسى الفاخرة، والأموال الوافرة، وخَصَّ يحيى من ذلك بأجْزَلِه وأَسْنَاه وأَحْفَلِه، ونال يحيى هذا عنده رتبة عالية، وَجَاهًا ضخمًا، وأظهر عبد المؤمن عناية به لا مزيد عليها».

هذه مفارقة أخرى واضحة بين المسلكين، سببها الفرق الكبير بين البيئتين والمنشأين، وما يكون عن ذلك من شِيَمٍ وَخِلَال.

•••

هذا، وابن رشد يذكره بعض المستشرقين بأنه فيلسوف قرطبة؛ إذ كانت تلك المدينة من مدائن الأندلس موطن بيته ومنبته ومَغْدَاه ومَرَاحُه، وفيها يقول بعض شعراء الأندلس:

بأربع فاقت الأمصارَ قرطبةٌ
منهن قنطرةُ الوادي وجامعُها
هاتان ثنتان، والزهراءُ ثالثة
والعلمُ أعظم شيء وهو رابعُها

ولا عجب! فهي كما يقول ابن بَسَّام في «الذخيرة»: «قَرَارَةُ أهل الفضل والتقى، ووطن أولى العلم والنهى، وقلب الإقليم، ويَنْبُوع متفجِّر العلوم.»

ونعتقد أن ابن بسام لم يبالغ فيما وصف به هذه الحاضرة؛ ففي «نفح الطِّيب» وغيره من المراجع الأصيلة التي أرَّخت الأندلس وعظمتها وأهلها على ذلك دليل، وأي دليل!

هذا المَقرِيُّ يروي عن علي بن سعيد، عن والده، أن أهل قرطبة أشدُّ الناس عناية بالكتب، وأن أعيانها كان من مفاخرهم أن يقال: إن فلانًا عنده هذا الكتاب النادر، وإن ذلك الكتاب عنده دون الناس جميعًا.

وهذا خبر نأتي به، على طولٍ فيه، يُبينُ لنا كيف يكون الكَلَفُ بشراء الكتب وتحصيلها حتى عند الجاهلين، قال الحَضْرَمِيُّ: «أقمت مدة بقرطبة ولازمت سوق كتبها مدة أترَقَّبُ فيها وقوع كتاب كان لي بطلبه اعتناء، إلى أن وقع وهو بخط فصيح، وتفسير مَلِيح، ففرحت به أشد الفرح، فجعلت أزيد في ثمنه، فيرجع المنادي بالزيادة عليَّ، إلى أن بلغ فوق حدِّه، فقلت له: يا هذا، أرني من يزيد في هذا الكتاب حتى بلغه إلى ما لا يساوى! قال: فأراني شخصًا عليه لباس رياسة، فدنوت منه وقلت له: أعزَّ الله سيدنا الفقيه! إن كان لك غرض في هذا الكتاب تركته لك؛ فقد بلغت به الزيادةُ بيننا فوق حدِّه، فقال لي: لست بفقيه ولا أدري ما فيه، ولكن أقمتُ خزانة كتب واحتفلت فيها لأتجمل بها بين أعيان البلد، وبقي فيها موضع يَسَعُ هذا الكتاب، فلما رأيته حسن الخط، جَيِّدَ التجليد استحسنته ولم أبالِ بما أزيد فيه، والحمد لله على ما أنعم به من الرزق فهو كثير! قال الحضرمي: فأحرجني وحملني على أن قلت له: نعم، لا يكون الرزق كثيرًا إلا عند مثلك! يُعطى الجَوْز مَن لا له أسنان! وأنا الذي أعلم ما في هذا الكتاب وأطلب الانتفاع به يكون الرزق عندي قليلًا، وتحول قلة ما بيدي بيني وبينه!»

وإذا كان الشيء يذكر بالشيء؛ فإن حديث هذا الحضرمي وسوق قرطبة يذكرنا بمناظرة كانت بين ابن رشد نفسه والرئيس أبي بكر بن زهر في المفاضلة بين قرطبة وإشبيلية، قال فيها فيلسوفنا لزميله: ما أدري ما تقول! غير أنه إذا مات عالم بإشبيلية فأُريد بيع كتبه حُملت إلى قرطبة لتُباع فيها، ونقول: وكفى بذلك فضلًا لها عما سواها من مدائن الأندلس وحواضرها!

تلك قرطبة منبت ابن رشد ووطنه الأصغر. أما وطنه الأكبر؛ أي الأندلس عامة، فبلغ من حب أهلها للعلم أن كانوا ينبعثون إلى طلبه بباعث قوي من أنفسهم، وكانوا يُعْنَون بالعلوم كلها إلا الفلسفة والتنجيم، فكانا موضوع عناية الخاصة، ولا يتظاهر بهما مخافة العامة، كما يروي المَقرِيُّ، اللهم إلا إن كان أميرًا أو خليفة يحب النظر الحُرَّ ويدعو إليه.

تلك كلمة عن قرطبة والأندلس عامة: أمرائها وأهلها، وعن العصر الذي عاش فيه ابن رشد وكان سِجِلًّا وَعَى ما ترك من علم وفلسفة، ومنها عرفنا أن تلك البيئة وذلك العصر كانا يدفعان إلى العلم — بصفة عامة — دفعًا شديدًا، ويشجعان على النظر الحر والفلسفة أحيانًا.

وَلْنَتَكَلَّم الآن عن ابن رشد في بيته قبل أن نتكلم عنه في نفسه وفلسفته.

١  المراكشي، نشر دوزي، ص١٧٠.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤