نشأتُه

ابن رشد الجد أو الفقيه

هو أبو الوليد محمد بن أحمد بن أحمد بن رشد. ولد في قرطبة في منتصف القرن الخامس، وبرز في الفقه حتى صار كما يقول الضَّبِّي في «بُغْيَة المُلْتَمِس»: «أوحد زمانه فيه.» ونبت نباتًا حسنًا، فعرَف له المرابطون — والموحدون من بعدُ — فضله في الفقه والدين مع الخُلُق الكامل، فصار صاحب الصلاة بالمسجد الجامع بقرطبة، وقاضي الجماعة بها، كما يذكر ابنُ بشْكُوال، صاحب كتاب «الصلة»، معاصره وأحد مؤرخي أئمة الأندلس وعلمائها ومحدثيها وفقهائها وأدبائها.

وكان لتقدُّمه في الفقه على جميع معاصريه مَفْخَرة من مفاخر الأندلس، ونُجعة رائدي التفقه من جميع أقطارها، والمرجع في المشكلات وعظائم الأمور طيلة حياته، كما كان مشاركًا في علوم أخرى كثيرة، «مع الدين والفضل والوقار والحِلْم والسَّمْتِ الحسن والهدي الصالح».

وبعد أن ذكر هذا المؤرخ الأندلسي قَدْرًا من مؤلفاته، ومنها كتاب «المقدمات» المشهور الذي عرفه المستشرقون أكثر من المسلمين، أشار إلى أنه سار في القضاء بأحسن سيرة، وأقوم طريقة، ثم رأى الخير في أن يستعفي منه فأجيب إلى طلبه، وعمل على نشر كتبه وتواليفه، كما أشار إلى أنه كان محببًا إلى الناس، لحسن خُلقه، وسهولة لقائه، وكثرة نفعه للمتصلين به، فكان الناس يَلْجَئون إليه ويُعَوِّلُون في مهماتهم عليه، واستمر كذلك حتى توفي عام ٥٢٠ﻫ، بعد أن اكْتَحَلَت عيناه بمرأى حفيده فيلسوفنا العتيد، وأنس به عدة أشهر.

ويكاد مؤرخو الأندلس وعلماؤها، ومنهم الضبي وابن بشكوال وابن الأبَّار، ثم قاضي القضاة ابن فَرْحُون في كتابه «الديباج المذهَّب»، يجمعون على وصف ابن رشد الجد هذا بما عرفنا في نفسه وخُلقه وعلمه، وحب الناس له، وإكبارهم إياه، وفي ذلك ما يستدعي أن نقف قليلًا.

هذا الثناء الذي لا تعقيب عليه ممن أرخه من العلماء المعاصرين له، أو الذين تأخروا عنه قليلًا، يؤكد لنا بحقٍّ حسن خلقه، وجميل عشرته للناس، وكثرة برِّه لهم، حتى غلب ذلك ما يكاد يكون طبيعة من تحاسد النظراء، وتعادي الأكفاء المعاصرين.

ابن رشد الأب

هذا ابن رشد الفقيه أو الجد. أما ابن رشد الأب؛ فقد يكفي أن يقال فيه: حسبه أن يكون ابن الجد وأبا الحفيد، ولكنه مع هذا كان ابن أبيه في الفقه والعلم، فأخذ عنه وتفقه به، وولي كذلك قضاء الجماعة، كما ذكر ابن الأَبَّار المحدِّثُ الفقيهُ في كتابه «المعجم»، كما ورث عنه الخير والفضل، فكان محببًا إلى الناس بارًّا بهم، كما يروي ابن بشكوال. وكانت وفاته في عام ٥٦٣ﻫ في شهر رمضان.

ابن رشد الحفيد أو الفيلسوف

تحدر ابن رشد الطفل من هذا البيت، الذي له — كما عرفنا — المركز العالي المرموق في العلم والقضاء، والمنزلة الرفيعة لدى الأمراء، ورأى الحياة عام ٥٢٠ﻫ بمدينة قرطبة، وهي سوق العلم ومركز العلماء في ذلك الحين.

ونشأ وهو فتى في هذه البيئة العلمية؛ فدرس ما يدرس أمثاله من الفقه والأصول وعلم اللغة والكلام والأدب، وأخذ عن أبيه أبي القاسم في الفقه ونحوه من علوم الدين، فاستظهر عليه موطأ الإمام مالك، وأخذ أيضًا عن غيره من جلة الفقهاء: أمثال أبي القاسم بن بشكوال، وأبي مروان بن مَسرة، وأبي بكر سمحون، كما يذكر ابن الأبار في كتابه «التكملة».

وفي اللغة والأدب كان — كما حكى عنه أبو القاسم بن الطيلسان — يحفظ ما أُثر من شعر أبي تمام والمتنبي، ويكثر التمثُّل به في مجلسه، ويورد ذلك أحسن إيراد.

ولم يكتف فتانَا أو رجلنَا بعلوم الدين واللغة التي حَذِقَها، بل سَمَت به هِمَّته، ودفَعَه عقله الطُّلَعة إلى دراسة التعاليم «الرياضيات»، والطب، وغير ذلك من علوم الحكمة على أبي جعفر بن هارون الترجاني. وأبو جعفر هذا كان «مُحققًا للعلوم الحكمية، متقنًا لها، معتنيًا بكتب أرسطوطاليس وغيره من الحكماء المتقدمين، فاضلًا في صناعة الطب متميزًا فيها.» كما يذكر صاحب «عيون الأنباء في طبقات الأطباء».

وهكذا درس أبو الوليد أو الحفيدُ العلمَ من مَعِينِه، وأخذه عن أعلامه، وابتدأ في العناية به منذ حداثته، واستمر على هذه العناية به، حتى ليروي ابنُ الأبار عنه «أنه لم يدع النظر ولا القراءة منذ عقل إلا ليلة وفاة أبيه، وليلة بنائه على أهله، وأنه سوَّد فيما صنَّف وقيَّد وألَّف وهذَّب نحوًا من عشرة آلاف ورقة.» ولعمر الحق، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء!

علمه وفضله وخُلقه

وقد أعانته تلك الدراسة الجادة العالمة على أن صار علمًا من أعلام عصره البارزين، حتى صار «يُفزَع إلى فتواه في الطب كما يُفزع إلى فتواه في الفقه.» وحتى كان في علوم الأوائل «الفلسفة» «له الإمامة فيها دون أهل عصره.» مع الحظ الموفور من الإعراب والآداب، ومع صحة النظر، وجودة التأليف، والبصر الدقيق الألمعي بالأصول والفروع. وقُصارى القول: فإن الذين ترجموا له من العلماء المعاصرين، أو الذين تأخر بهم الزمن عنه، يكادون يُجمعون على أنه لم ينشأ بالأندلس مثله كمالًا وعلمًا وفضلًا.

كذلك يصور لنا هؤلاء المؤرخون الثقاتُ ابنَ رشدٍ الحفيدَ في دراساته وعلمه.

أما في صفاته النفسية وخلاله وأخلاقه، فيكفينا أن نورد حكم ابن الأبار؛ إذ يقول: «وكان على شرفه أشد الناس تواضعًا، وأخفضهم جناحًا»، وأنه «تأثَّلَت له عند الملوك وجاهة عظيمة، فلم يصرفها في ترفيع حالٍ ولا جمع مالٍ، إنما قصرها على مصالح أهل بلده خاصة، ومنافع أهل الأندلس عامة».

•••

وهنا مواضع يصح أن نقف فيها وقفات قصيرة.

لقد كان ابن رشد إمام عصره في الفقه وعلوم الفلسفة، وكان مع ذلك أشد الناس تواضعًا، وأخفضهم جناحًا، فهل هذا علة لذاك، أو الأمر بالعكس؟ أي إنه كان كبيرًا في علمه فكان كبيرًا في تواضعه! نعتقد أن هذا هو الصحيح المعقول الذي يتفق مع طبائع الأمور والأشياء.

إن الجاهل إذا عرف مسألة من مسائل العلم ولو كانت هينة؛ تاه بها، وانتفخت أوداجه، وظن أنه أوتي ما لم يُؤتَ غيره، مَثَلُه في هذا مَثَلُ المحروم، المحدود الأفق، والمضيق عليه في الرزق، يمشي مُصَعِّرًا خده للناس إن كسب في يده أكثر مما كان يرجو، وأكثر مما يحتاجه ليومه.

أما الغني فلا يمكن أن يستطيره الفرح أو يَزْدَهيه ربح لم يكن في مرجوِّه مهما كان كبيرًا؛ لأنه حين يقيس نفسه بغيره من أصحاب الملايين لا يجد نفسه بتليد ماله وطريفه شيئًا مذكورًا، فلِمَ الزهو والكبرياء إذن؟!

وكذلك العالم الذي يتنقل من لون من ألوان المعرفة إلى لون آخر، وكلما انتقل من حل مشكلة علمية تبدَّت له أخرى، هو دائمًا في كَدٍّ عقلي، وتعب فكري. وخاتمة المطاف أو الطواف تكون شعوره بقلة العلم، وصغر النفس، وعجز العقل عن أن يحيط بالكون كله، أرضيه وسمواته وما فيها من الملأ الأعلى، وما فوق ذلك كله من مقام الألوهية الذي جلَّ عن أن يحيط به عقل أو إدراك، والنتيجة الطبيعية والنفسية أن يغدو كلما عمق علمه، كلما اشتد تواضعه، وَلَانَ جانبُه.

والوقفة الثانية هي أن فيلسوفنا كان ذا حظوة وجاهٍ عظيمين عند الملوك والخلفاء، فلِمَ يُفِدْ من ذلك لنفسه، بل قَصَرَ هذا على خير أهل بلده خاصة، والأندلس عامة، والأمر في نظري جدُّ طبيعي.

إنه قد وهب نفسه للعلم، وجعل غايته التي يَهدفُ لها معرفة الحقيقة، ولذته هي في أن يدرك من هذه الحقيقة حلقة بعد حلقة، أو طرفًا بعد طرف، وهذه اللذات العميقة المتصلة أو المتجددة تستهويه، وتعلو جدًّا في نظره حتى لا يوازن بينها وبين لذات جمع المال، ورفاهة العيش، وطيب الحياة.

من ثم فهو لا يبالي هذه اللذات ونحوها، ما دام قد جعل همه ووكده المعرفة الحقة، وما يكون في إدراكها من لذة عقلية روحية هي أسمى ضروب اللذات؛ ومن ثَمَّ كانت نزعته الاجتماعية وحبه لخير الناس جميعًا، فهو يجد لذة أخرى في أن ينفق من جاهه وماله — أو يقصر جاهه وماله — على المحرومين من اللذات العقلية التي جعله الله أهلًا لها بما ينفق من عقله وتفكيره.

وهناك وقفة ثالثة بعد هاتين: إن الذين ترجموا لفيلسوف قرطبة وصفوه بأن الدراية كانت أغلب عليه من الرواية،١ وهذا الوصف يتيح لنا أن نقول: إن نزعته إلى الفلسفة بدت أول ما بدت في الفقه.

ذلك بأن الذي يعتد برأيه وتفكيره، ويحاول أن يدري ويبحث بعقله، لا أن يروي ويصدق ما يرويه كله فحسب، ويجتهد في تعرف علل الأحكام الشرعية على اختلافها، باختلاف الأئمة والفقهاء، ويوازن بين هذه الآراء بعقله ونظره. ذلك الذي يكون هذا حاله في الفقه لا يكون بعيدًا عن الفلسفة، بل يكون قد دخل فيها من بعض نواحيها، ما دامت الفلسفة هي البحث عن العلل، ومحاولة فهم العالم وقوانينه.

وإذن، فمن الممكن، بل من السهل الميسور، أن نرى في ابن رشد الفقيه الآنَ ابنَ رشدٍ الفيلسوفَ فيما يأتي من الزمان.

وأخيرًا، نقف وقفة رابعة وأخيرة تتصل برأيه في الفقه، وننتقل بعدها إلى حياته العملية.

إنه لا يرى شعائر الدين وأوامره أمورًا تَعبَّدَ الله بها عباده ليكون لهم ما يتطلعون إليه في الدار الآخرة من حُورٍ وولدان وجنات فيها من اللذات والمتع ما لا يخطر على قلب بشر. إن الدين — في رأيه — يرمي بشعائره وأوامره إلى غايات خُلُقية واجتماعية بها صلاح المجتمع وسعادته. وهذه النظرة السامية نجدها واضحة تمام الوضوح في خاتمة كتابه القيِّم «بداية المجتهد ونهاية المقتصد».

لقد بيَّن في هذا الموضع أن من أوامر الدين وأحكامه ما يرجع إلى تربية الفضائل النفسية المعروفة، ومنها ما يعود الغرض منه إلى تثبيت العدالة الخاصة والعدالة العامة في الأموال وغير الأموال، ومنها ما هو سنن واردة في الاجتماع الذي هو شرط في حياة الإنسان، وحفظ فضائله العملية والعلمية، وهي المعبر عنها بالرياسة؛ ولذلك لزم أيضًا أن تكون سنن الأئمة والقوام بالدين.

وهكذا نلمح هذه النظرة في آرائه الفقهية في هذا الموضع، وفي مواضع أخرى كثيرة من هذا الكتاب.

عمله في القضاء

إن رجلًا هذا شأنه في الفقه والعلم بصفة عامة، وتلك أخلاقه وخِلَالُه النفسية العالية، كان لا بد من أن يتصل بالخليفة، ومن أن يعرف له هذا قدره، ومقدار ما يفيده العلم وتفيده الأمة منه.

لهذا نراه سنة «٥٤٨ﻫ/١١٥٣م» بمدينة مراكش؛ حيث خليفة الموحدين أبو يعقوب يوسف بن عبد المؤمن، وصفيه ابن طُفَيل الفيلسوف المعروف؛ فقد كان الخليفة شديد الشَّغَف به، والحب له، حتى ربما كان يقيم عند الخليفة بقصره أيامًا ليلًا ونهارًا، كما كان يُنوِّه بالعلماء ويستقدمهم إلى حضرته، ويَحضُّه على إكرامهم، كما يحدثنا المراكشي.

وفي هذه المدينة وجد ابن طفيل الفرصة سانحة لتقديم ابن رشد الفقيه للخليفة المتفلسف، بعد أن دبَّر أمر هذا التقديم بينه وبين الخليفة، فكان ذلك كما يَقصُّه بنفسه رجُلُنا؛ إذ يقول:

لما دخلت على أمير المؤمنين أبي يعقوب وجدته هو وأبا بكر ابن طفيل ليس معهما غيرهما، فأخذ أبو بكر يثني عليَّ ويذكر بيتي وسلفي، ويضم إلى ذلك أشياء لا يبلغها قدري، فكان أول ما فاتحني به أمير المؤمنين، بعد أن سألني عن اسمي واسم أبي ونسبي، أن قال لي: ما رأيهم في السماء؛ أقديمة هي أم حادثة؟ فأدركني الحياء والخوف، فأخذتُ أتعلل وأنكر اشتغالي بعلم الفلسفة، ولم أكن أدري ما قرر معه ابن طفيل، ففهم أمير المؤمنين مني الرَّوْعَ والحياء، فالتفت إليَّ ابن طفيل وجعل يتكلم على المسألة التي سألني عنها، ويذكر ما قاله أرسطوطاليس وأفلاطون وجميع الفلاسفة، ويورد مع ذلك احتجاج أهل الإسلام عليهم، فرأيت منه غزارة حفظ لم أظنها في أحد من المشتغلين بهذا الشأن المتفرغين له، ولم يزل يبسطني حتى تكلمتُ، فعرف ما عندي في ذلك، فلما انصرفت أمَر لي بمالٍ وخِلْعَةٍ سَنِيَّة ومركب.

وقد كان لهذه المقابلة أو هذا الاختبار الناجح أثره العاجل؛ فإن أبا الوليد نفسه يُتمُّ الحديث فيقول:

استدعاني أبو بكر بن طفيل يومًا فقال لي: سمعت أمير المؤمنين يتشكَّى من قلق عبارة أرسطوطاليس، أو عبارة المترجمين عنه، ويذكر غموض أغراضه، ويقول: لو وقع لهذه الكتب مَنْ يُلَخِّصُها ويُقَرِّبُ أغراضها بعد أن يفهمها فهمًا جيدًا لقَرُبَ مأخذها على الناس؛ فإن كان فيك فضل قوة لذلك فافعل. وإني لأرجو أن تفي به لما أعلمه من جودة ذهنك، وصفاء قريحتك، وشدة نزوعك إلى هذه الصناعة. وما يمنعني من ذلك إلا ما تعلمه من كبرة سني، واشتغالي بالخدمة، وصرف عنايتي إلى ما هو أهم عندي منه. قال أبو الوليد: فكان هذا الذي حملني على تلخيص ما لخصته من كتب الحكيم أرسطوطاليس.

وبرغم ثقل التبعة التي حُمِّلَها ابنُ رشد، فقد كان عليه واجب آخر يجب أن يقوم به، وهو ولاية القضاء كما كان أبواه من قبل.

وَلِيَ القضاء إذن، والقضاء في الأندلس وفي غيرها من البلاد الإسلامية في ذلك العصر منصب له خطره وجلالته، وحسبنا من منصب يجعل لصاحبه — كما يقول المقري — أن يَسْتَقْدِمَ الخليفة لمجلس القضاء إن ادُّعي عليه حقٌّ من الحقوق!

وأوجب عليه هذا العمل أن يتنقل بين أفريقية والأندلس؛ فقد ولي أولًا قضاء إشبيلية سنة ٥٦٥ﻫ، ثم ولي القضاء بقرطبة سنة ٥٦٧ﻫ، وبعد هذا في العام التالي صار قاضي القضاة، أو قاضي الجماعة، فالتسميتان واردتان لمنصب واحد. ومن هذا اليوم اقتعد كرسي جده وأبيه من قبلُ، وتمت نعمة الله عليه؛ إذ ولي مع قضاء الجماعة منصب الطبيب الخاص للخليفة.

وفي كل هذه الفترة من حياته التي كان إليه القضاء فيها، نجده — كما يروي الذين ترجموا له — محمودَ السيرة عند العامة والخاصة، وعند الخليفة أيضًا، ويُنفق من نفسه وماله وجاهه ليكون خيِّرًا لأهل بلده خاصة، ولأهل الأندلس عامة، كما ذكرنا من قبل.

شعوره برسالته

حينما قرَّب ابنُ طفيلٍ ابنَ رشدٍ الحفيدَ من الخليفة وقدَّمه إليه، وحينما ندَبه لتلخيص كتب المعلم الأول وشرحها، لم يفعل ذلك اعتباطًا، أو عن هوى، أو ميل خاص، بل لِنَقُلْ: إنه فعل ما فعل عن ميل خاص لأبي الوليد يرجع إلى عرفانه به، وباستعداده وحبه للعمل الذي ندَبه له، وقدرته على الاضطلاع بالرسالة التي كُلِّف بها.

إنه فكر وقَدَّرَ، وأطال التفكير والتقدير، فلم ير غير الحفيد حريًّا بما رغب فيه الخليفة أبو يعقوب، من فهم كتب أرسطوطاليس فهمًا جيدًا، ثم تقريبها إلى الناس؛ لما يعلمه فيه من استعداده لهذا العمل العظيم. وكان أبو الوليد جديرًا بما حُمِّله وصادف هوًى في نفسه واتفاقًا مع نزعتها الفلسفية.

وكان من ذلك أن لم يقل — وقد نال من جاه الخليفة والحظوة لديه حتى صار قاضي القضاة وطبيبه الخاص: الآن ألقت عصاها واستقر بها النوى! ولم يقنع بشيء مما نال، أو بما نال كله، كما يقنع مَنْ هَمُّه جاه يستطيل به على الإخوان والنظراء، ومنصب يركب به الرِّقاب، وينيله ما يشاء ويرضى من هناءة الحياة ومتعها ولذاتها.

إن همه كان شيئًا آخر، وإن غايته كانت غاية أخرى، وإنه ليشعر شعورًا عميقًا بتلك المهمة أو الرسالة التي نِيطَتْ به، وبالغاية التي يجب أن يسعى إليها، ويعمل لها. وإن هذا الشعور أو الإحساس ليظهر منه واضحًا ملموسًا في مناسبات عديدة مختلفة وهو يحمل تكاليف منصب القاضي الأكبر.

إنه وهو في القضاء كتب الجزء الأكبر من كتبه التي خلدت اسمه وجعلته علمًا من الأعلام، كما أنه عُني بتسجيل بعض تواريخ ما كتب بضروب مختلفة من التسجيل.

ففي آخر شرحه لكتاب الحيوان يذكر أنه انتهى منه في شهر صفر سنة ٥٦٥ﻫ في مدينة إشبيلية وهو قاض بها، بعد أن انتقل إليها من قرطبة. وفي آخر شرحه الوسيط لكتاب «الطبيعة» يُبيِّن أنه أتمَّه هذا العام بإشبيلية أيضًا بعيدًا عن كتبه ومستنداته العلمية، وفي شروحه لكتاب «الآثار العلوية Les Méteorolagiques» ذكر لنا أنه لم يشهد الزلزال العظيم الذي حصل بقرطبة سنة ٥٦٦ﻫ؛ لأنه كان بإشبيلية في ذلك الوقت، وإن كان قد عاد إلى قرطبة بعد ذلك بقليل.

ونرى إحساسه القوي برسالته، وبأن حياته قد لا تتسع لها، مع رغبته في القيام بها بقدر وسعه، يتجلى واضحًا في أنه في آخر الكتاب الأول لمختصر «المجسطي» يذكر أنه أوجب على نفسه أن يقصر جهده على القضايا التي لا غنى عنها، كما يرى نفسه شبيهًا برجل اندلعت النار في داره فجأة؛ فهو لا يجد من الوقت إلا ما يتسع لإنقاذ أعز الأشياء عنده، وآثرها لديه، وأشدها ضرورة للحياة.

وأخيرًا، نحس هذا الإحساس أقوى مما أحسسناه من قبل، إذا عرفنا أنه أتم شروحه المتوسطة على الخطابة والبلاغة وعلى ما بعد الطبيعة سنة ٥٧٠ﻫ، وهو مضنى الجسم منهوك من التعب، ومن مرض خطير ألَحَّ عليه في ذلك الحين، وأنه أسرع بكتابة السطور الأخيرة من كتاب ما بعد الطبيعة وهو مريض هذا المرض الشديد؛ خشية أن يترك هذا العمل غير تامٍّ، وفي مرجُوِّه — إذا مدَّ الله في عمره — أن يكتب على هذا الكتاب وغيره من كتب المعلم الأول شروحًا أطول وأوفى. وكان من حُسن حظ العلم والفلسفة أن أناله الله ما رجاه، وقد أعانه عليه أنه بعد أن تقدمت سنه اعتزل أعماله الرسمية ليتوفر على إتمام تلك الأعمال الفلسفية الكبيرة.

فيما ذكرنا، بل في بعضه، دلالة أو دلالات على أن ابن طفيل بتوجهه لابن رشد برغبة الخليفة في شرح أرسطوطاليس وتقريبه للأفهام صادَف نفسًا راغبة، وفكرًا نافذًا، وشعورًا بالرسالة مُرْهَفًا، وإرادة قوية مسعفة؛ ولذلك كله تم لهم جميعًا ما رَجَوه من شرح المعلم الأول، كما تم لفيلسوف قرطبة ما عمل له دهرًا طويلًا من عمره؛ وهو التوفيق بين الدين والفلسفة، والانتصاف لهذه بعد ما كاله لها الغزالي من ضربات.

هذه الرسالة ما هي؟

لا يكفي لتعرُّف منزلة عَلَم من أعلام الفلسفة أو الفقه أو الأدب أو الفن مثلًا، أن نزن ما برع فيه من هذا اللون أو غيره من ألوان المعرفة، بل لا بد مع هذا من التساؤل عن البواعث التي وجهته التوجيه الذي اختص به في دراسته، والهدف أو الرسالة التي ملكت عليه أمره، وعمل لها طول حياته، والتي تعتبر إلى حد كبير مفتاحًا لفهم نزعاته واتجاهاته.

فإذا كان الأمر كذلك، فما البواعث أو العوامل التي دفعت فيلسوف قرطبة إلى الفلسفة وبحث صلاتها بالشريعة؟ وما الرسالة التي ملكت عليه أمره، واتخذ الوسيلة وسيلة لها، وعمل جاهدًا على الوصول إليها؟

هذه الرسالة على ما نعتقد كانت الانتصاف للفلسفة، ورد اعتبارها لها، وإحياءها بعد ما لقيت من الغزالي، والتوفيق بينها وبين الدين أو الشريعة. وتلك الرسالة أسمى الرسالات التي يَندُبُ لها نفسه فيلسوف متدين، وهي مع هذا رسالة جعلتها أمرًا لازمًا الظروف التي اجتازها التفكير الإسلامي قبل ابن رشد، وكان يجتازها في عصره أيضًا.

ذلك بأن الإمام الغزالي ندب نفسه للرد على الفلاسفة فيما رآه منافيًا للدين، حين لم ير — كما يقول — أحدًا من رجال الإسلام صرف عنايته لذلك، كما ذكر لنا في «المنقذ من الضلال»، وكان من هذا أن شَهَرَ عليهم حربًا لا هوادة فيها، واستعمل فيها كل ما قدر عليه من سلاح، وانتهى بالحكم عليهم بأنهم مبتدعون مَلَاحِدَةٌ في كثير مما ذهبوا إليه، وكفرة مارقون من الدين في بعض ما أداهم إليه تفكيرهم الذي تأثروا فيه أيَّما تأثُّر بفلاسفة الإغريق. وهنا يجب أن نقف قليلًا لنعرف ماذا قصد إليه الغزالي من تلك الحرب.

لقد كان من غرض حجة الإسلام من هذه الحرب التي أوقد نارها بشدة أن يصرف الناس عن الفلسفة، ببيان أنها لا تتفق والدين، وعن الفلاسفة بدَمْغِهم بميسَم الإلحاد والكفر. ونحن جميعًا ندرك ما في اتهام مفكر بأنه يُعنى بالفلسفة في ذلك الزمن، فكيف إذا اتهم بعنف من حجة الإسلام الغزالي بأنه كافر! لا ريب يكون جزاؤُه تبرؤَ المسلمين منه، واستحلال دمه، وإعدام مؤلفاته.

وقصد كذلك نزع الثقة من الفلاسفة من ناحية التفكير، بعد أن طعنهم في عاطفتهم الدينية، حتى لا يُخدع أحد بتعاليمهم، وقد ظهر هذا القصد منه ظهورًا واضحًا.

نراه يصرح بأن الرياضيات من العلوم الفلسفية، وإن كان لا سبيل لإنكارها، ولكن من ينظر فيها «يحسن بسبب ذلك اعتقاده في الفلاسفة؛ فيحسب أن جميع علومهم في الوضوح كهذا العلم، ثم يكون قد سمع من كفرهم ما تتداوله الألسنة، فيكفر بالتقليد المحض.» ولهذا «يجب زجر كل من يخوض في تلك العلوم … فقلَّ من يخوض فيها إلا وينخلع من الدين.» كما يَنْهَى لمثل هذا السبب عن قراءة كتبهم في الأخلاق، حتى لا يغتر أحد بما مزجوه بها من الحكم النبوية والكلمات الصوفية.٢

بل إن هذا القصد ظهر منه أول ما شرع في كتابه «تهافت الفلاسفة»، فنراه يذكر في المقدمة أنه ألَّفه للرد على الفلاسفة الأغبياء الذين تجملوا بالكفر تقليدًا؛ لظنهم أن ذلك يدل على حُسن الرأي، ويُشعر بالذكاء؛ «فضلُّوا وَأَضَلُّوا عن سواءِ السبيل.»

وأخيرًا، كان من غرضه في حربه تلك أن يشير إلى أنه هناك بعد الوحي طريق آكد من العقل في معرفة الحقيقة وآمن، وأكثر رحابة منه، وذلك هو التصوف. وقد كان طبيعيًّا ومنطقيًّا من الغزالي، بعد أن بيَّن قصور العقل الذي عليه وحده يعتمد الفلاسفة في الوصول إلى الحقيقة، أن يدلنا على طريق آخر للوصول إليها.

بهذا الطريق، أو بالتصوف، انكشفت له الحقائق، ولم يكن ذلك — كما يقول — بنظم دليل وترتيب كلام، بل بنور قذفه الله تعالى في الصدر، وذلك النور هو مفتاح أكثر المعارف، فمن ظن أن الكشف موقوف على الأدلة المحررة؛ فقد ضيَّق رحمة الله الواسعة، ولذلك نجده يوقن أن الصوفية هم الذين أحسنوا اختيار الطريق إلى الله وإلى الحقيقة؛ «فإن جميع حركاتهم وسكناتهم في ظاهرهم وباطنهم مقتبسة من نور مشكاة النبوة، وليس وراء نور النبوة على وجه الأرض نور يُسْتَضاء به.»

هكذا هاجم الغزاليُّ الفلسفة والفلاسفة من هذه الطرق، مريدًا الحط من الفلسفة، وصرف الناس عنها وعن رجالاتها، ونعتقد أنه نجح فيما أراد إلى حد كبير.

إنه من الحقِّ القولُ بأنه — بعد الغزالي — عَدِمَ العالم الإسلامي في الشرق فيلسوفًا من طراز الفارابي وابن سينا، بل صارت الدراسات الفلسفية تكاد تنحصر في اقتباس ما يتفق والعقائد الدينية من مذهب المعلم الأول، أو الشيخ الرئيس، أو غيرهما، كما فَتَرَت العناية بمسائل الطبيعة وما بعد الطبيعة، وزادت بالعلوم العملية كالأخلاق والسياسة، كما يذكر المستشرق دي بور في كتابه «تاريخ الفلسفة في الإسلام»، وجاء ما يمكن أن يُسمَّى بعصر الشروح والحواشي والتعليقات والمختصرات.

فإذا تركنا المشرق إلى المغرب، وجدنا ابن باجه وابن طفيل، وهما من معاصري ابن رشد، قد عملا — كلٌّ بقدر وُسعه وعلى طريقته — على إحياء الفلسفة، كما ترك الثاني بصفة خاصة أثرًا يدل بوضوح على رأيه في التوفيق بين الفلسفة والشريعة، وعلى ما بذل من جهد في هذا السبيل، ونعني بهذا الأثر القيِّم «قصة حي بن يقظان»؛ ففي هذه القصة الفلسفية نرى أنه حينما التقى حي بن يقظان الذي انتهى إلى الحقيقة بالنظر والتفكير بالبطل الآخر «آسال» الذي عرفها من الدين، وروى كل منهما للآخر قصته، عرفا أن الحقائق التي عُرفت بالدين والفلسفة متطابقة تطابقًا تامًّا؛ ولهذا نرى المراكشي والمقري يصفان ابن طفيل باجتهاده في التوفيق بين الحكمة والدين.

حالة كهذه، التي وُجد فيها فيلسوفنا، كانت تتطلب بلا ريب من يعمل بقوة على الانتصاف للفلسفة وإحيائها، والتوفيق بينها وبين الشريعة، وقد كان ابنُ رشد هو المُرَجَّى لهذه الرسالة؛ فقد جمع بين الاستعداد لها، والحظوة لدى أمير يشجع على الفلسفة ويقرب رجالها.

وإذا كانت محاولة ابن رشد التوفيق بين الحكمة والشريعة هي أهم الوسائل التي رآها لتحقيق الرسالة التي ندب نفسه لها، وإذا كان هذا التوفيق في نفسه غاية جليلة صرف فيها كثيرًا من جهوده، وإذا كانت هذه المحاولة منه ومن أسلافه فلاسفة الإسلام بصفة عامة هي معقد الطرافة في الفلسفة الإسلامية، كما يقول المستشرق الفرنسي «ليون جوتيين Lèon Gauthier»، إذا كان الأمر كذلك، فإننا سنتناول أولًا الحديث عن عمله في هذه الناحية وما يتصل بها، ثم نسوق الحديث إلى جهده في الرد على الغزالي وهدم تهافته، وبذلك نكون تناولنا — بالقدر الذي يسمح لنا به نطاق هذا الكتاب الضيق — أهم جوانب فلسفة ابن رشد العظيم.
١  يراجع مثلًا كتاب التكملة لابن الأبار.
٢  المنقذ من الضلال في مواضع مختلفة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤