ابن رشد والغزالي

١

يقول البارون «كارَّا دي فو Carra de Vaux» في كتابه عن الغزالي:

عادة المتكلمين في قتال الفلاسفة ترجع إلى بدء عهد المدرسة الفلسفية بالوجود. هذا الكفاح بدا في رأيهم ضروريًّا ضد الفلاسفة، كما هو ضروري أيضًا ضد المعتزلة. إنه مهما يكن إخلاص الفلاسفة شخصيًّا كمؤمنين؛ فإن مذاهبهم في نظر حماة الدين والعقيدة كانت تعتبر خَطِرَة؛ لأنهم حكموا — وإن لم يصرحوا — بأن مذهب الفلاسفة يعتدُّ بالعقل أكثر مما ينبغي، ويجعل الفلسفة القديمة تسير في معرفة الحقيقة بجانب الوحي أعلى منه قليلًا.

وهذا حق كله؛ فإن سوء تقبُّل رجال الدين للفلسفة معروف، لا فرق بين المتقدم منهم والمتأخر في الزمن، وقد أشرنا فيما تقدم إلى بعض أسباب هذا ومظاهره.

إلا أن حجة الإسلام هو الذي كان فارس الميدان في الرد على الفلاسفة بكتابه الذي خلد على الزمن، وهو «تهافت الفلاسفة»؛ فقد قدم له بكتاب سماه «مقاصد الفلاسفة» عرض فيه مذاهب الفلاسفة التي أراد أن يُبين تهافتها؛ إذ «رد المذهب قبل فهمه والاطلاع على كنهه ردٌّ في عماية.» كما يقول، وكذلك يكون الأمر إن كان الرد على المذهب قبل عرضه للناس عرضًا واضحًا شافيًا.

ثم دفعه لصرف الهمة لتعلم الفلسفة، والرد على ما رآه مجانبًا للحق في رأيه منها، ما يذكره في «المنقذ من الضلال» أيضًا، من أنه «لم ير أحدًا من علماء الإسلام صرف عنايته وهمته إلى ذلك».

ولا نناقش هنا دعوى الغزالي هذه التي قد تُوهم أنه كان الأول الذي عُني بالرد على الفلاسفة، ولكنَّا نذكر أنه عرف ابن جزم الأندلسي صاحب كتاب «الفِصَل»، الذي يتضمن مجهودًا طيبًا له في الرد على الفِرَق المخالفة للإسلام وعلى الفلاسفة أيضًا، كما نذكر أستاذ الغزالي نفسه وشيخه إمام الحرمين؛ عبد الله بن محمد الجُوَيْني، الذي له مثل هذا المجهود في مؤلفاته الكلامية، مثل: «البرهان في أصول الدين» و«الإرشاد في قواعد الاعتقاد».

على أن الغزالي هو الذي انتفع بجهود أسلافه جميعًا في هذا السبيل، سبيل الرد على الفلاسفة، وزادها وقواها، وضرب بذلك الفلسفة ضربة لم تنهض بعدُ منها في الشرق، كما يقول مونك، وإن كانت وجدت في الغرب من انتصف لها، وهو ابن رشد، بعد دفاعه عنها دفاعًا مبينًا.

وكان الهدف الذي يرمي إليه الغزالي بكتابه «تهافت الفلاسفة» إبطال ما يَدَّعُون، وبيان ضعف عقيدتهم، واختلاف آرائهم وتناقضها، وبخاصة فيما يتعلق منها بالمسائل الإلهية.

ولم يقصد إلى إثبات الحق في المسائل التي كانت مثار النزاع والخصومة بين المتكلمين والفلاسفة؛ فقد كان في نيته تخصيص كتاب لهذه الغاية، ولذلك نجده يقول في مسألة قدم العالم: «وأما إثبات الحق في نفسه، فسنُصنِّف فيه كتابًا بعد الفراغ من هذا «تهافت الفلاسفة» … ونعتني فيه بالإثبات كما اعتنينا في هذا الكتاب بالهَدْم.»

وكان منهاج أبي حامد في هذا الكتاب، الذي أراد به الهدم، العمل على نزع الثقة بالفلاسفة؛ فجعلهم أغبياء وزائغين عن سبيل الله، وناكبين عن طريق الهدى، وظانين بالله ظن السوء، ومغرورين بعقولهم، زاعمين أن فيها غُنْيَةً لهم عن تقليد الرسل واتِّباعهم!

كما كان من منهاجه أيضًا التشويش عليهم ومغالطتهم، ومحاولة إفحامهم بإلزامهم جميعًا مذهب واحد منهم، وإن كان ظاهرًا خطؤه، ولا يتفق وما ذهب إليه أساطِينُ الفلسفة الإغريقية.

وأخيرًا، كان من منهاجه في الرد على الفلاسفة بيان قصور العقل وعدم قدرته على معرفة الأمور الإلهية بنظرِهِ وحدَهُ، وأن معرفة هذه الأمور على حقائقها لا ينالها إلا المُصْطَفَوْنَ الأخيار من أنبياء الله ورسله.

وهكذا قصَد الغزاليُّ لما أراد كل سبيل، ولجأ إلى كل سلاح يجد فيه عونًا على طِلْبَته، فماذا كان من ابن رشد لهذا الخَصْم اللَّدُود القوي؟ الخصم الذي لم يلجأ إلى المنطق وحده، ولم يُرِد بيان الحق في نفسه؛ ولهذا — فيما يقول — لم يُسَمِّ كتابه «تمهيد الحق»، بل سماه «تهافت الفلاسفة»!

٢

أراد فيلسوف قرطبة أن يدفع عن الفلسفة أو الحكمة ما رآه عُدْوانًا من الغزالي وأمثاله، وأن ينافح عنها وينتصف لها، وقد فعل، لكنه لم يكن في خصومته مجادلًا بالحق والباطل، بل لم ينس في هذه الخصومة العنيفة أنه قاضٍ؛ فهو يزن ما يُدلَى به إليه، ويدفع الحجة بالحجة، ولا يأبى أن يعترف بالحق لصاحبه.

ويبدأ ببيان أن غرضه من الرد على «تهافت الفلاسفة» للغزالي ليس بيان الحق في كل المسائل المناقَش فيها، بل أن يبين أن للسفسطة في هذا الكتاب نصيبًا كبيرًا، وأن أكثر ما فيه من أقاويلَ قاصرٌ عن مرتبة اليقين والبرهان.

وليس مما يعيب ابن رشد ألا يقصد في كتابه «تهافت التهافت» إلى بيان الحق فيما استحرَّ فيه الخلاف بين الفلاسفة والمتكلمين؛ فإنه أمين على ما وضع من قواعد للتوفيق بين الحكمة والشريعة، ومن ذلك تقسيم الناس إلى طبقات، ومخاطبة كلِّ طبقة بما هي أهل له، وإذن فليس من الخير في رأيه أن يجعل في كتابه — وهو عُرْضَة للذيوع بين الخاصة والعامة — ما يكون ضررًا لطائفة من الناس لا تطيق النظر الصحيح.

وهو وإن كان حريصًا على الاعتراف لخَصْمِه العنيد بما يصيب فيه، وعلى التزام القصد والترفع عن المهاترة في الخصومة؛ فإنه وهو الذي شاهد في القضاء ألوانًا من الخصومات والأسلحة التي استخدمت فيها، لم ير بدًّا من أن يرد أحيانًا على حجة الإسلام بعض ما رمى به الفلاسفة من سباب.

لقد رماه بالقصور في فهم الحكمة؛ لأنه قنع فيها بكتب ابن سينا، فلحقه القصور من هذه الجهة، كما يقول ابن رشد في «تهافت التهافت»، وعاب عليه ما قصد إليه من التشويش على الفلاسفة ودعاويهم، وكان لومه له رفيقًا. إنه يكتفي بالقول بأن هذا الغرض لا يليق به، والقصد إليه هفوة من هَفَوَات العالِم؛ لأن العالم يجب أن يكون قصده طلب الحق لا إيقاع الشكوك وتحيير العقول.

وما أَقْوَمَه درسًا يلقيه فيلسوفنا على الغزالي وأمثاله! إذ يقول في موضع آخر من تهافته:

وأما قوله: إن قصده ها هنا ليس هو معرفة الحق، وإنما قصده إبطال أقاويلهم، وإظهار دعاويهم الباطلة، فقصد لا يليق به، بل بالذين في غاية الشر، وكيف لا يكون ذلك كذلك ومعظم ما استفاد هذا الرجل من النباهة، وفاق الناس فيما وضع من الكتب التي وضعت [لعله: وضعها] فيها، إنما استفادها من كتب الفلاسفة ومن تعليمهم.

وهَبْهُم أخطئوا في شيء؛ فليس من الواجب أن ينكر فضلهم في النظر وما راضوا به عقولنا، ولو لم يكن لهم إلا صناعة المنطق لكان واجبًا عليه وعلى جميع من عرف مقدار هذه الصناعة شكرهم عليها … أفيجوز لمن استفاد من كتبهم وتعاليمهم مقدار ما استفاد هو منها، حتى فاق أهل زمانه، وعظم في ملة الإسلام صيته وذكره، أن يقول فيهم هذا القول، وأن يصرح بذمهم على الإطلاق وذم علومهم؟!

وإذن وضعنا [أي: سلمنا] أنهم يخطئون في أشياء من العلوم الإلهية، فإنَّا إنما نحتج على خطئهم من القوانين التي علمونا إياها في علومهم المنطقية، ونعتقد أنهم لا يلوموننا على التوقيف على خطأ إن كان في آرائهم؛ فإن قصدهم إنما هو معرفة الحق، ولو لم يكن لهم إلا هذا القصد لكان ذلك كافيًا في مدحهم، مع أنه لم يقل أحد من الناس في العلوم الإلهية قولًا يُعتد به، وليس يُعصم أحد من الخطأ إلا من عصمه الله بأمر إلهي خارج عن طبيعة الإنسان، وهم الأنبياء، فلا أدري ما حمل هذا الرجل على مثل هذه الأقوال! أسأل الله العصمة والمغفرة من الزلل في القول والعمل.

هذه كلمة طويلة، لكنها درْسٌ قصد منه فيلسوف قرطبة الحث بقوة على معرفة الحق لصاحبه، وشكره من أجله، وعلى وجوب نبذ الهوى والتعصب بغير حق؛ فذلك أجمل بالإنسان، وأدعى للإنصاف.

وفي مواضع أخرى من كتابه «تهافت التهافت» نفسه، نجده يرى أن خصمه العنيف أحق إنسان بالخزي والافتضاح، كما يصفه بأنه لا يخلو من الشرارة أو الجهل، وإن كان جهله أقرب إلى الشر، ويصف أيضًا جميع ما تضمنه الفصل، الذي خصصه الغزالي لبيان عجز الفلاسفة عن إقامة الدليل على أن الله يعرف ذاته، بأنه تمويه وتهافت من أبي حامد، ويقول: «فإنا لله وإنا إليه راجعون على زلل العلماء ومسامحتهم لطلب الذكر في أمثال هذه الأشياء!» ويختم هذه الفقرة بقوله: «أسأل الله ألا يجعلنا ممن حُجِبَ بالدنيا عن الأخرى، وبالأدنى عن الأعلى.»

وأخيرًا، يرى ابن رشد أن الغزالي اضطر إلى مصانعة أهل عصره، فكان هذا سببًا في أنه لم يصدع بالحق دائمًا، وشنع على الفلاسفة أحيانًا بما هم منه براء.

إنه يقول في «تهافت التهافت»، في رده على الغزالي فيما شنع به على آراء الفلاسفة في النفوس الإنسانية:

فإتيانه بمثل هذه الأقاويل السفسطائية قبيح؛ فإنه يُظن به أنه ممن لا يذهب عليه ذلك، وإنما أراد به مداهنة أهل زمانه، وهو بعيد عن خلق القاصدين لإظهار الحق، ولعل الرجل معذور بحسب وقته ومكانه؛ فإن هذا الرجل امتُحِنَ في كتبه.

ثم يقول بعد هذا:

فتعرض أبي حامد إلى مثل هذه الأشياء هذا النحو من التعرُّض لا يليق بمثله؛ فإنه لا يخلو من أمرين: إما أنه فهم هذه الأشياء على حقائقها فساقها ها هنا على غير حقائقها، وذلك من فعل الشرار، وإما أنه لم يفهمها على حقيقتها فتعرض إلى القول فيما لم يُحطْ به علمًا، وذلك من فعل الجُهَّال. والرجل يَجِلُّ عندنا عن هذين الوصفين، ولكن لا بد للجَوَاد من كَبْوَة، فكبوة أبي حامد هي في وضعه هذا الكتاب — أي تهافت الفلاسفة — ولعله اضطر إلى ذلك من أجل زمانه ومكانه.

ونعتقد أنه يريد بهذا الكلام أن حجة الإسلام كان في رده على الفلاسفة وتشنيعه عليهم بما شنع به كان مرائيًا مداهنًا مصانعًا!

٣

ولم يكتف فيلسوف قرطبة بهذا، بل تناول المسائل المختلف فيها بين المتكلمين والفلاسفة، والتي رمى الغزالي هؤلاء بالكفر في بعضها، والابتداع في بعضها الآخر، تناول هذه المسائل واحدة بعد أخرى بالشرح، وتجلية رأي فلاسفة الإغريق فيها، وبيان أنه لا شيء على فلاسفة الإسلام في ذهابهم لرأي أرسطوطاليس المعلم الأول. إن أرسطوطاليس — في رأيه — هو الذي كمل الحق عنده، وهو من الذين عناهم الله بقوله: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ. وهذه مبالغة بلا ريب من فيلسوف الأندلس، غير أن حُبك الشيء يُعمي ويُصم. والقياس مع الفارق الكبير طبعًا، ولكن الأمثال لا تُغير!

والكلام في هذه المسائل فيه لذة عقلية لو وجد القول مجالًا، ولكن أمره يطول، ونحن في نطاق محدود من الورق؛ لذلك لا نجد بُدًّا من الاكتفاء — من هذه المسائل — بالحديث عن مسائل معدودات نجد فيها غنَاءً، وفيها بيان لمنهج فيلسوفنا في الدفاع عن رأيه، والذَّبِّ عن الفلسفة والمنافحة عنها.
  • (أ)

    أولى هذه المسائل أهمية وخطرًا — في رأيي — هي مسألة العقل ومدى قدرته على الوصول للحقائق التي يتطلع الإنسان الباحث إلى معرفتها. وقد سبق أن مَسَسْنَا هذه المسألة مسًّا رفيقًا عند الحديث عن التوفيق بين الدين والفلسفة، ومع هذا فمن الخير أن نزيدها هنا بيانًا.

    إن الدين يَغْرِسُ في قلب المتدين أن الإنسان ليس شيئًا في جانب الله، وأنه عاجزٌ العَجْزَ كلَّه عن فهم نفسه، بله هذا العالم والسموات وما فيهن وما بينهن! هذا هو شأن الدين. أما الفلسفة فشأنها محاولة معرفة هذا كله معتمدة على العقل، وعلى العقل وحده؛ ومن أجل ذلك كثر رَمْيُ الغزالي الفلاسفةَ بالحُمق والغرور والجهل والادعاء، وظنهم القدرة على معرفة ما استأثر الله بعلمه.

    ولعل سقراط نظر إلى هذا ونحوه حين رأى لنفسه أن يكون فيلسوفًا يُعنَى بالمسائل الإنسانية لا بعلم الطبيعة، وحين اعتبر هذا العلم لا خير فيه ولا جدوى منه؛ لأن هؤلاء المعنيين به لو عرفوا ما يقوم عليه العالم من قوانين تحدث بها ظواهره لما استطاعوا يومًا ما أن يحدثوا الرياح والمياه والفصول! ولأن هؤلاء المتفلسفين، حين عنوا بهذا الضرب من ضروب المعرفة، وأهملوا العلوم أو الفلسفة الإنسانية، قد قلبوا النظام الإلهي، باحتقارهم ما مُنحوا القدرة على معرفته، وتطلعهم إلى معرفة ما احتفظ به الآلهة لأنفسهم.١

    والغزالي — وغير الغزالي من رجال الدين — يرى أن للعقل حدًّا يقف عنده في المعرفة؛ ولذلك جاء الأنبياء والرسل بما يَعِزُّ على العقل إدراكه.

    وابن رشد كان يستطيع في مقام الجدل أن يرد على حجة الإسلام، بأن العقل في قدرته أن يصل بالنظر الصحيح، والفطرة المواتية إلى إدراك ما يظنه الفقهاء والمتكلمون مما استأثر بعلمه الله والمُصْطَفَوْنَ من أنبيائه ورسله، لكن المقام مختلف، والأمر أخطر من هذا.

    يجب إذن ليدفع عن الفلسفة ولا ينفر الناس منها أن يسلم في كتابه «تهافت التهافت» — الذي خصصه للرد على خصمه اللدود، وتهدئة الثائرين على الفلسفة، وكسب قلوبهم — بأن الفلسفة «تفحص عن كل ما جاء به الشرع؛ فإن أدركته استوى الإدراكان، وكان ذلك أتمَّ في المعرفة، وإن لم تدركه أعلنت بقصور العقل الإنساني، وأن مدركه الشرع فقط.» كما يوافق كذلك على أن العقل قد يعجز عن درك كثير من الحقائق، فواجب أن نرجع فيها إلى الشرع؛ لأن العلم الذي مرجعه الوحي إنما جاء متممًا لعلوم العقل، وإذن يكون الوحي رحمة من الله لجميع الناس.

  • (ب)

    ثم مسألة قِدَمِ العالم أو حُدوثه كان لها من الخطورة أن كفَّر الغزالي ومن جاء بعده من المتكلمين من أجلها؛ إذ كان من العقائد الدينية أن العالم بجميع أجزائه مُحْدَثٌ؛ لأنه لا قديم إلا الله وحده، فكيف يذهب الفلاسفة إلى أن شيئًا يشارك الله في صفة القدم التي ينفرد بها؟

    هنا نرى فيلسوفنا ماهرًا كل المهارة؛ فيحاول أن يكون منطقيًّا يُحِيلُ أن يُخْلَق شيء من لا شيء، ومؤمنًا يعتقد أن الله خالق كل شيء ومُوجِدُه من العدم إلى الوجود، ورأى أن سبيله في هذا أن يفرق بين القدم الذي يقول به المتكلمون، والقدم الذي ذهب إليه الفلاسفة، وأن يفرق كذلك بين الحدوث على رأي هؤلاء وأولئك.

    إنه يقرر أن الفلاسفة وصلوا بالتفكير والنظر العقلي إلى أن العالم لا أول له، كما أن خالقه — وهو الله — وهو علة تامة له لا أول له أيضًا؛ لكنه مع هذا محتاج في وجوده إلى الله، فلا وجود له إلا به، ولولاه لما كان. وعلى هذا، كما يقول في «تهافت التهافت»:

    فالعالم مُحدَثٌ لله سبحانه، واسم الحدوث أولى به من اسم القدم، وإنما سمَّت الحكماء العالم قديمًا تحفُّظًا من المحدث الذي هو من شيء، وفي زمان، وبعد العدم.

    وبعد هذا نراه يُعنى بمحل النزاع فيجلوه ويجعله واضحًا؛ إذ يذهب إلى «أن الحدوث الذي صرح به الشرع في هذا العالم هو الذي يكون في صور الموجودات، وهذا الحدوث إنما يكون من شيء آخر.٢ ويدل لذلك قوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ، وقوله: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ.

    وبعد ذلك كله يقرر أنه ليس من خير للدين في بحث هذه المسألة المشكلة وأمثالها التي رأت الشريعة السكوت عنها؛ ولذا جاء في الحديث أنه لا يزال الناس يتفكرون حتى يقولوا: هذا خلق الله، فمَن خَلَق الله؟! فقال النبي عليه الصلاة والسلام: «إذا وَجَدَ ذلك أحدُكُم فليقرأ: قل هو الله أحد.»

    ويريد فيلسوف قرطبة من هذا أن يصل إلى أن القول بقدم العالم على النحو الذي ذهب إليه الفلاسفة ليس مما يكفر به إنسان، وأن الشريعة قد تعضد هذا الرأي، وأن من الخير عدم الفحص عن هذه المسألة ونحوها. وإذن فالغزالي مخطئ أشد الخطأ على الحكمة والشريعة ببحثه هذه المسألة، وبرميه الفلاسفة بالكفر للرأي الذي رأوه فيها.

  • (جـ)
    وفي مسألة البعث والجزاء وكيفيته، نراه يَلُفُّ ويدور في طرق مُتَعَرِّجَة ملتوية ليصل إلى إثبات أن الفلاسفة القدامى لم يتعرضوا بقول مُثْبِتٍ أو مُبْطِلٍ في مبادئ الشريعة العامة، ومن هذه المبادئ كيفية السعادة أو الشقاء الأخروي، كما يقول في «تهافت التهافت»، كما يلف ويدور ليقيم الحجة على الغزالي فيما قرر من أن أحدًا من المسلمين لم يقل بالجزاء الرُّوحَانِيِّ وحده؛ لأن الصوفية — فيما قال٣ — تقول به، وعلى هذا فلا يكفر بالإجماع من أنكر الجزاء الجُسْمَاني، ويكون الغزالي أخطأ على الشريعة كما أخطأ على الحكمة.

    على أن فيلسوفنا وإن خال أنه أقنع قارئيه برأيه، فإنه — فيما أرى — لا يمكن أن نسلِّم له بأن نصوص القرآن التي وصف الله بها السعادة والشقاء في الدار الأخرى وصفًا يجعلهما للجسم والروح معًا، من الممكن تأويلها جميعًا.

    هذه النصوص صريحة في أن بعض ما أُعد للأشقياء والسعداء من عذاب ونعيم لا يمكن أن يتناول الأجسام؛ وإلا فكيف نُؤَوِّل العذاب بالنار التي تأكل الجلود فيبدل الله جلودًا غيرها ليدوم العذاب؟! وكيف لا يكون التمتع بالحور والولدان، والفاكهة المختلفة الضروب والألوان، والأنهار المُتْرَعَة باللبن والخمر والعسل المصفى، وكلها لذة للشاربين، كيف لا يكون هذا كله نعيمًا للجسم والروح معًا، وللجسم أولًا؟!

  • (د)

    وأخيرًا، نصل إلى مسألة السببية التي أثارها الغزالي واختلف فيها مع الفلاسفة اختلافًا كبيرًا.

ظن الغزالي أن القول بالسببية، أي بوجود علاقة ضرورية بين الظاهرة وما يراه الفلاسفة سببًا لها لا يتفق والدين، الذي يرد كل ظاهرة أو فعلٍ لله وحده، والقادر على أن يخلق الظاهرة من غير ما يراه الفلاسفة سببًا لها لولاه لم تكن.

ونراه يقول في هذا: «الاقتران بين ما يُعتَقَدُ في العادة سببًا وبين ما يُعتقد مُسَبِّبًا ليس ضروريًّا عندنا، بل كل شيئين ليس هذا ذاك، ولا ذاك هذا؛ ولا إثبات أحدهما متضمن لإثبات الآخر، ولا نفيه متضمن لنفي الآخر؛ فليس من ضرورة وجود أحدهما وجودُ الآخر، ولا من ضرورة عدم أحدهما عدمُ الآخر، وذلك مثل: الري والشرب، والشبع والأكل، والاحتراق ولقاء النار … إلى كل المشاهدات من المقترنات في الطب والنجوم والصناعات والحِرَف. وإنَّ اقترانها لما سبق من تقدير الله سبحانه لخلقها على التَّسَاوُق، لا لكونه ضروريًا في نفسه، بل في المقدور خلق الشبع دون الأكل … وإدامة الحياة مع جَزِّ الرقبة، إلى جميع المقترنات، وأنكر الفلاسفة إمكانه وادَّعوا استحالته.»

هكذا وضع حجة الإسلام المسألة محاولًا جعل المتكلمين في طرف، والفلاسفة في طرف، وزاعمًا أن في رأي الفلاسفة حدًّا من قدرة الله المطلقة!

ولم يسع ابن رشد، في سبيل الرد على الغزالي وأمثاله، إلا أن يلجأ إلى المشاهدة والحِسِّ وقوة ما فيهما من دلالة؛ فيقرر أن إنكار وجود الأسباب الفاعلة التي تشاهد في المحسوسات سفسطة، وأن من يتكلم بذلك إما أن يكون مخالفًا لما يعتقد، أو عجز عن التخلص من شبهة سفسطائية عرضت له. ثم يذهب إلى أن الفصل في أن هذه الأسباب تكتفي بنفسها في خلق ما يصدر عنها من أفعال، أو تحتاج في ذلك إلى سبب أعلى، أمر ليس بديهيًّا، بل يحتاج إلى بحث وفحص كثير، كما يقرر في تهافته.

وبعد استعانته بالحس، نراه يستعين بالمنطق الذي يؤكد أن العقل ليس شيئًا أكثر من إدراك الموجودات بأسبابها، وأن الذهاب إلى نفي الرابطة الضرورية بين الأشياء وأسبابها رفعٌ للعقل، ومبطل له.

على أن القول بقانون السببية هذا ليس معناه إثبات خالقين متعددين بجانب الله، وذلك ما خافه المتكلمون.

ذلك بأن القول بأن النار سبب أو علة للإحراق — وهذا مثل من الأمثلة — لا ينفي أنها لا تفعل ذلك من نفسها، بل من قِبَلِ مبدأ أعلى هو شرط في وجودها، فضلًا عن إحراقها، فضلًا عما في الذهاب مذهب السببية وقانونها من الإقرار لله بالحكمة البالغة، التي تجعل لكل شيء سببًا، وترتب كل أثر على مؤثر، مع الاعتراف بأن كل هذه الأسباب والمؤثرات من صنع إله عالم قادر حكيم، وأن كل شيء يرجع في آخر الأمر إليه وحده.

ذلك ما كان من الغزالي ضد الفلاسفة، ومن ابن رشد ردًّا عليه، وقد أطلنا في عرضه قليلًا؛ لأن في ذلك عَرْضًا موجزًا لقضية حرية الفكر والتقليد، والعقل والوحي، والحكمة أو الفلسفة والشريعة من أهم نواحيها: ناحية الهجوم وناحية الدفاع.

ولعل من الخير أن نذكر هنا — بعد ما تقدم — أن الأستاذ الشيخ محمد عبده، في ردوده على الأستاذ فرح أنطون، صاحب مجلة الجامعة، انتهى إلى أنه «ليس من الممكن لمسلم أن يذهب إلى ارتفاع ما بين حوادث الكون من الترتيب في السببية والمسببية، إلا إذا كفر بدينه قبل أن يكفر بعقله».

ويعلل هذا بأن ما يحصل في الكون لا يكون عن صدفة واتفاق، بل عن نظام قَدَّرَه الله في علمه الأزلي، والأسباب والمسببات بعض ما انتظم هذا العلم، فهي تصدر عنه على حسب ترتيبها فيه، ثم ينتهي بأن «الفلاسفة وجمهور المتكلمين واللاهوتيين على وِفَاقٍ في حقيقة المسألة، وإن اختلفت العبارات، فابن رشد — رحمه الله — لم يخرج بآرائه عن المليين.» ونقول: إن المتكلمين، الذين هم على وفاق في هذه المسألة مع الفلاسفة كما يقول الشيخ، ليسوا هم الأشاعرة وأهل السنة، وفيما قدمناه عن الغزالي دليل على هذا أي دليل.

ومهما يكن، فقد ختم فيلسوف قرطبة كتابه «تهافت التهافت»، الذي خصصه للرد على الغزالي وهدم كتابه «تهافت الفلاسفة»، بقوله:

وهذا الرجل — يعني الغزالي — كفَّر الفلاسفة بثلاث مسائل: إحداها هذه؛ أي إنكارهم لبعث الأجساد، وقد قلنا كيف رأي الفلاسفة في هذه المسألة، وأنها عندهم من المسائل النظرية؛ والمسألة الثانية قولهم إنه — أي الله تعالى — لا يعلم الجزئيات، وقد قلنا: إن هذا القول ليس من قولهم، والثالثة قولهم بقدم العالم، وقد قلنا: إن الذي يَعْنُون بهذا الاسم ليس هو المعنى الذي كفَّرهم به المتكلمون.

ثم قال في النهاية:

وقد رأيت أن أقطع ها هنا القول في هذه الأشياء، والاستغفار من التكلم فيها، ولولا ضرورة طلب الحق مع أهله — وهو كما يقول جالينوس: رجل واحد من ألف — والتصدي إلى أن يتكلم فيه مَن ليس من أهله، ما تكلمت في ذلك — عَلِمَ اللهُ — بحرف، وعسى أن يَقْبَل العذر في ذلك، ويُقيلَ العثرة بمنِّه وكرَمه وفضْله، لا رب غيره.

وما أحسن ما ختم به رَدَّه عدوان الغزالي على الفلسفة ودفاعه عنها!
١  Boubroux; étude d’histoire de la philosophie, P. 22-23.
٢  أي إن المادة التي كان عنها العالم قديمة، والحادث هو الصور التي تأخذها هذه المادة واحدة بعد أخرى.
٣  أي الغزالي فيما يحكيه ابن رشد عنه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤