ابن رشد وأثره من بعده

للعظمة معالم ومظاهر، قد تكون في الخلق، وقد تكون في الفن، وقد تكون في العلم، وقد تكون في هذا كله وأكثر منه معًا، وفي كل ضرب من هذه الضروب ألوان مختلفة، وصور متعددة.

وابن رشد — كما عرفنا — كان عظيمًا في خلقه، وعظيمًا في علمه، وعظيمًا في نظرته إلى الحياة وغايته منها، كما كان عظيمًا في فلسفته، وفي الفكرة التي حرَّكته إلى هذه الفلسفة. وعلى كل هذا، فيما مرَّ من أمره، شواهد ودلائل.

ومن سمات العظيم ألا يمر في حياته غير ملحوظ، كما هو شأن عامة الناس وأوساطهم؛ إنه في الأعم الأغلب من الحالات يحدث حول نفسه دَوِيًّا وهو حَيٌّ، ويكون له أثر خالد بعد أن ينتقل إلى الحياة الأخرى.

وقد توفرت هذه السمة لفيلسوفنا، فقد عرفنا كيف اصطفاه الخلفاء، ثم كيف عُقدت المجالس لمحاكمته، ثم كيف انتهى هذا بالحكم عليه بالإلحاد والكفر حينًا من الزمن، ثم كيف يَثُوبُ الخليفة إلى رشده فيعفو عنه ويستدنيه إليه قبل وفاته.

أما أثره فيمن بعده، فقد خصصنا هذا الفصل لبيانه، إلا أنه من الخير أن نذكر كلمة عن تأثره في فلسفته بمن سبقه من أسلافه مفكري المسلمين وفلاسفتهم.

إنه لا يمكن أن يقول باحث عن مفكر من المفكرين: إنه اخترع علمًا كاملًا أو فلسفة من نفسه، غير مقيد أو متأثر بمن تقدمه في هذا السبيل، مهما كان عبقريًّا ألْمَعِيًّا أو مُلْهَمًا، فابن رشد إذن لا بد أن يكون قد أفاد، وأفاد كثيرًا من أسلافه، وبخاصة الفيلسوفين الكبيرين: الفارابي وابن سينا.

ولسنا بسبيل كتابة رسالة خاصة عن ابن رشد وفلسفته، فنستقصي مواطن تأثره بغيره من الفلاسفة المسلمين؛ لذلك نكتفي في هذه الناحية ببيان ذلك بإيجاز في مسألة التوفيق بين الحكمة والشريعة؛ إذ كانت هذه المسألة مَعْقِدَ الطرافة في الفلسفة الإسلامية.

لم يكن فيلسوف الأندلس مبتكرًا في هذه الناحية، فالتفكير فيها حَرِيٌّ أن ينال نصيبًا كبيرًا من كل فيلسوف يريد أن يعيش آمنًا إلى حدٍّ ما بين الفقهاء ورجال الدين الذين أُشْرِبُوا بغض الفلسفة والفلاسفة، بل أكاد أزعم أنه لم يكن له فيها زيادات كبيرة عن المعلم الثاني والشيخ الرئيس.

ذلك بأن قِوَام مذهب ابن رشد في التوفيق يرتكز — كما عرفنا — على ثلاث دعامات:
  • (١)

    تقسيم الناس طبقات مختلفة في استعداداتهم العقلية، وتنويع التعاليم التي يجب أن تكون لكلٍّ من هذه الطبقات.

  • (٢)

    تفسير المعجزات والنبوة تفسيرًا يجعلها على وفاق مع العقل والقوانين الطبيعية العامة، وبيان الصلة التي يجب أن تكون بين العقل والوحي في مسألة المعرفة.

  • (٣)

    وضع قواعد عامة لتأويل ما يجب تأويله من نصوص القرآن والحديث؛ لبيان متى يكون التأويل، ولمن يكون، ولمن يصرَّح به من الناس.

ففي النقطة الأولى نراه مسبوقًا بالفارابي في المشرق، وابن طفيل في المغرب. لقد عرف الأول ما في بعض الذي جاءت به الشريعة من عقائد١ من صعوبة في فهمها والاقتناع بها، فجعل الناس لذلك: عامة، ومتكلمين، وفلاسفة، ورأى عرض هذه العقائد على كل طائفة حسب مقدرتها على تصورها وفهمها: إما بذكر حقائقها مجردة، وإما بذكر محاكياتها من رموز وأمثال.

وكذلك نرى ابن طفيل ينتهي في قصته الفلسفية «حي بن يقظان» إلى مثل هذا؛ أي إن من الناس طائفة ارتفعت عن العامة فهي تُطِيقُ المكاشفة بالحقائق عارية بذاتها، ومنهم من هم دون ذلك، فالخير لهم اللجوء إلى الشريعة، والاكتفاء بما ضربته لهذه الحقائق من رموز.

وفي النقطة الثانية نجد تأثره بالفارابي وابن سينا أيضًا واضحًا؛ وكذلك في الثالثة الخاصة بالتأويل وقانونه وما يتصل به؛ فتأثره بهذين وبالغزالي أيضًا ظاهر ملحوظ.

من أجل ذلك كله، يكون من الحق ما يؤكده الأستاذ «جوتييه Ganthier» من «أن مذهب ابن رشد في التوفيق بين الدين والفلسفة مشترك بين جميع الفلاسفة.» أي الفلاسفة المسلمين.

غاية الأمر أن فيلسوفنا يمتاز — كما رأينا — بالوضوح وكثرة التفاصيل، والحرية في العرض والتوسع فيه، والإلحاح في رعاية التفرقة بين طبقات الناس والتعاليم المختلفة، وبيان موطن النفوذ لكل من الوحي والعقل، أو بعبارة أخرى بين الشريعة والحكمة، حتى يظلا في سلام وَوِئَامٍ دائمين.

ولعلنا حَرِيُّون — إن استعرضنا سائر آرائه ونظرياته الفلسفية، وقارناها بأمثالها لدى من تقدمه من الفلاسفة — أن نجد الأمر قريبًا من هذا، أي إنه لم يستطع إلا أن يتأثر بأسلافه هؤلاء قليلًا أو كثيرًا.

ولا عجب؛ فالمفكر الحق الذي يَنْشُدُ الحق لنفسه هو من لا يأبى أن يفيد من غيره، ومن يضع لبنة في الصرح الذي يعمل الجميع لتشييده وإعلائه.

وإذن فلنترك تأثُّرَه بسلفه إلى بيان أثره في خلفه.

(١) في الإسلام

يألم الباحث ويُحِسُّ بخجل شديد حين يفكر في أثر ابن رشد وتعاليمه في الإسلام، شرقه وغربه؛ إذ كان حظه في ذلك إهمالًا مزريًا له ولفلسفته، ولجهوده في الانتصار لها، والتوفيق بينها وبين الشريعة.

حقًّا، لقد كان له شهرة كبيرة في أيامه، ومركز ممتاز مرموق بين معاصريه، حتى كان يُعَدُّ من مفاخر الأندلس حين يقع التفاضل بينها وبين المغرب، ولكن — وقد ران الظلام على العقول في عصر الانحطاط — صارت الفلسفة التي قامت عليها شهرته هي السبب في إخمال اسمه وذكره.

وقد كان من ذلك أن التاريخ لا يعرف — كما يقول رينان — له تلميذًا وصل إلى شيء من الشهرة في الإسلام، وأن تعاليمه لم تجد من يأخذ بها إلى الأمام حتى تبقى سائرة ممتدة مع الأيام، وأن مؤلفاته التي أنفق حياته في كتابتها لم يكن لها إلا القليل من القُرَّاء.

وفي هذا يقول الأستاذ «دي بور De Boer»، في كتابه «تاريخ الفلسفة في الإسلام»:
لم يكن لفلسفة ابن رشد ولا لشروحه على مذهب أرسطو سوى أثر قليل جدًّا في العالم الإسلامي، وقد ضاعت أصول الكثير من مؤلفاته، وإنما وصلت إلينا مترجمة إلى اللغة العبرية أو اللاتينية.٢ ولم يكن له تلاميذ ولا أتباع يواصلون فلسفته … ولم تستطع الفلسفة أن تؤثر في الثقافة العامة أو مجرى الحوادث.
كما يذكر «مونك Munk» أنه من أول القرن الثالث عشر الميلادي — كانت وفاة ابن رشد عام ٥٩٥ﻫ/١١٩٨م — لم نعد نرى فلاسفة مَشَّائِين خالصين، بل مفكرين يفكرون فلسفيًّا في الدين، مثل الإيجي صاحب «المواقف». وانحطاط الفلسفة يُعزي، فيما يُعزي، للنفوذ الذي جدَّ للأشاعرة.
وفي الحق كما يقول رينان: إن الفلسفة الإسلامية فقدت، بموت فيلسوف الأندلس، آخر ممثليها في الإسلام، وصار انتصار القرآن٣ على التفكير الحر مؤكدًا مدة ستة قرون على الأقل.

ليس من العجيب إذن أن نجد مؤرخي الحركة الفكرية والعلمية من المسلمين يُهْمِلُون ابن رشد إهمالًا مؤلمًا، أو لا يذكرونه إلا عرضًا؛ أمثال جمال الدين القِفْطي على قُرب عهده به، وابن خلكان، وحاجي خليفة في كتابه «كشف الظنون». وهذا الأخير ذكر اسمه حقًّا، ولكن ذكرًا عرضيًّا بمناسبة الحديث عن مؤلفات الغزالي التي عمل ابن رشد على نقضها وبيان تهافتها.

وابن بطوطة الرحالة المسلم المعروف، الذي جاب العالم الإسلامي، وترك لنا في رحلته وصفًا طيبًا له وللحضارة الإسلامية على اختلاف ألوانها، لم يذكر في رحلته هذه كلمة عن الفلسفة. وفي هذا شاهد قوي على رُكُود الفلسفة في العالم الإسلامي حينذاك، لا على ضعف أو انعدام أثر ابن رشد وحده.

وإذن فليس لنا أن نبحث في الإسلام عن مذهب ابن رشد وأثره، بل يجب أن نتجه في هذا إلى اليهود في الأندلس بصفة خاصة، وإلى أوروبا عامة فيما بعد.

(٢) في أوروبا

هنا نجد مجال القول ذا سعة، ونجد الحديث مما يسر روح ابن رشد في سمائه العليا، حيث يقيم في أمن من الله ورضوان.

لقد كان اليهود هم الخلف الحقيقي لابن رشد في تلكم العصور الوسطى، وكان في مدرسة ابن ميمون الاستمرار المباشر للفلسفة الإسلامية، ولفلسفة ابن رشد خاصة، كما يقول رينان، وبفضل اليهود بقي لنا جانب غير قليل من كتابات ابن رشد وإخوانه الفلاسفة، مترجمة إلى العبرية، أو بلغتها العربية الأصلية، لكنها مرسومة بحروف عبرية.

بذلك وجدت هذه المؤلفات لديهم معاذًا ردَّ عنها عاديات الدهر، وعدوان المتعصبين ضد الفلسفة ورجالها، من أسرة الموحدين وغير الموحدين الذين تداولوا ملك الأندلس.

وهكذا احتضن اليهود في الأندلس الفلسفة الإسلامية، وأقبلوا على دراستها، فانتفعوا بها أيما انتفاع، حتى إن رينان يقول في ذلك بحق: «إن كل الثقافة الأدبية والعلمية لليهود في العصور الوسطى إن هي إلا انعكاس الثقافة الإسلامية.»

وقد كان القرن الرابع عشر الميلادي هو العصر الذي بلغ فيه فيلسوف قرطبة وفلسفته الذروة في الحَظْوَة والسيادة لدى اليهود: لقد صار عندهم الفيلسوف الذي حل محل المعلم الأول؛ فمؤلفاته صارت موضع الشرح والتفسير، والتلخيص والاقتباس، تبعًا لحاجات التعليم المتعددة.

واستمر فيلسوف قرطبة في مكانة المعلم الأول لدى اليهود في تلكم العصور، حتى إذا أدت الفلسفة اليهودية رسالتها، وجاء دور انحطاطها في القرن الخامس عشر، كان ابن رشد أيضًا هو الذي تدرس مؤلفاته، ويتناولها المفكرون والمتفلسفون بالبحث والدراسة من نواحيها المختلفة، وآية ذلك أن الجانب الأكبر من المخطوطات العبرية التي بقيت لنا من مؤلفاته ترجع في تاريخها إلى ذلك العصر.

وابن رشد لم يأخذ مكانه ونفوذه لدى اليهود فحسب؛ فقد نفذت الفلسفة الإسلامية عامة إلى أوروبا وهي في أشد الحاجة إليها، وانتشرت في معاهد التعليم على اختلافها، وكان لكل من رجالاتها مؤيدون ومعارضون، حتى إذا كان القرن الرابع عشر كان لابن سينا وابن رشد، وبخاصة هذا، المكان الأول بأوروبا، حتى أخملا ذكر الآخرين من فلاسفة الإسلام.

أما في القرن الخامس عشر، فقد كان ابن رشد وحده هو ممثل الفلسفة الإسلامية في أوروبا، وواحدها الذي يعتمد عليه، ويعتبر رأيه هو المعبر عن هذه الفلسفة، بل إن بعض مفكري تلك العصور كانوا — كما يذكر رينان — يرون فيه أبا الفلسفة المدرسية، والشارح الوحيد الذي عرفته القرون الوسطى.

كان ذلك كله بعد أن فهم اللاتين هذه الفلسفة بحسب وُسْعِهِم حينذاك، وبعد أن ترجمت كل مؤلفات ابن رشد المهمة تقريبًا من اللغة العربية إلى اللاتينية، وكان هذا نحو منتصف القرن الثالث عشر كما يقول رينان.

ولم تقف مكانة ابن رشد لدى اللاتين في أوروبا عند هذه المنزلة، بل ظلت تزداد علوًا وسموًا في نظر هؤلاء حتى اختصموا من أجله، وصار منهم متعصبون له ومتعصبون آخرون عليه من أساطين فلسفة القرون الوسطى.

كما كان من بين هؤلاء وأولئك، من ذوي العقول الممتازة الجبارة، من كان يحترمه ويقدره قدره بوصفه أكبر أستاذ ومعلم لهم، ومن كان يرى فيه في الوقت نفسه أكبر زنديق وملحد بمذهبه وفلسفته!

ليت شعري أين ابن رشد فيرى من يَعُدُّون أنفسهم اليوم سادة التفكير في العالم يحلون فلسفته المكان العلي، ويجعلون منه المعلم والأستاذ، ويختصمون من أجله، ويكبر الواحد منهم نفسه بالتعصب له أو عليه!

من له فيرى كل هذا من الذين غَلَوْا في تقدير أنفسهم غلوًّا كبيرًا، فاخترعوا أسطورة العقلية السامية والعقلية الآرية، وتوهموا علو هذه على تلك عُلُوًّا يرجع إلى الفطرة والطبيعة وأصل التكوين!

إنه لو كان في المقدور أن ينزل ابن رشد من عليائه إلى حياتنا الدنيا، ويرى كل هذا، لاغتبط أيَّمَا اغتباط، ولرجع إلى مستقره في جنة الخلد مطمئن البال، مرتاح الضمير؛ بسبب ما قدم للإنسانية من خير.

١  كالصراط والميزان والملائكة والنعيم والعذاب مثلًا.
٢  من الحق أن نضيف: أو بالعربية، ولكن بحروف عبرية.
٣  يريد المذهب السني الذي يقوم على النصوص الحرفية للقرآن والحديث.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤