هل نجح ابن رشد في رسالته؟

إذا نجح امرؤ في الوصول إلى غاية رسمها لنفسه، فيجب أن نتساءل: ما عوامل هذا النجاح؟ وماذا يرجع منها إلى جهوده الخاصة؟ وماذا يرجع إلى الظروف التي وُجد فيها فجعلت هذه الغاية سهلة المنال يسيرة الحصول؟ وإن لم يُقَدَّرْ له النجاح، فيجب كذلك أن نتساءل: أهذا الإخفاق لأنه رَامَ أمرًا غير مَرُومٍ، أو هو مَرُوم، لكنه عسير المنال دونه عقاب وأهوال؟

على أن تَعَرُّفَ نجاح ابن رشد أو عدم نجاحه أشد عسرًا — في رأينا — من أن نتبينه باللحظة الخاطفة، أو النظرة العاجلة، أو التفكير الفطير، ما دام الأمر يتعلق برسالة فكرية فلسفية يرجع النجاح والإخفاق فيها إلى عوامل متداخلة شديدة التعقيد والتركيب. إن ذلك يتصل بالفكرة نفسها، وبالمنهج الذي رسمه للوصول إلى تحقيقها، وبالدين الذي يدين به، والبيئة التي كان يعيش فيها، والعقليات التي كان يكتب لها، والعصور التي جاءت بعده وأحوالها، وبغير هذا كله من العوامل التي قد يصعب استقصاؤها.

بعد ذلك نبدأ الحديث بالقول بأن فيلسوف قرطبة لم ينجح عند الناس فيما أراد من الجمع بين الحكمة والشريعة، وبيان أنهما أختان رضيعتا لَبَانٍ واحدٍ، وأنه لا غنى لإحداهما عن الأخرى.

لم ينجح عند الناس كما نقول؛ لأنه لا يزال في رأي جمهرة المسلمين أن الفلاسفة كفروا أو ألحدوا في دين الله ببعض ما ذهبوا إليه في فلسفاتهم متأثرين في ذلك بفلاسفة الإغريق.

لن تغني عن ابن رشد شيئًا في نظر المسلمين المتدينين التفرقةُ بين قدم العالم قدمًا ذاتيًّا يستغني به عن الله في وجوده. وهذا ما ينكره الفلاسفة أيضًا، وبين ما يرونه من قدمه قدمًا زمانيًّا مع احتياجه لله في وجوده وبقائه. هذا لا يغنيه شيئًا ما دام المُحدَث عند الفقهاء والمتكلمين هو الكائن بعد أن لم يكن، أو هو المسبوق بالعدم. وهذا ما لا يرضى الفلاسفة أن يتصوروه في العالم الذي لا أول لوجوده ولم يسبق بالعدم، في رأيهم.

وكذلك في علم الله، لن يقبل رجال الدين أن يُقصِرَه الفلاسفة على الأمور والكليات العامة وهم يقرءون قول الله العليم الحكيم: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ.

وأيضًا في مسألة البعث والجزاء، أنَّى للفلاسفة أن يؤمن لهم رجال الدين بما يقولون والله تعالى يفصل ويؤكد في آيات كثيرات أن المؤمنين سيكونون في جنات عرضها السموات والأرض، وهم: عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ * مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ * يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ * وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ * وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ * جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ!

•••

ولكن إذا حكمنا بأن ابن رشد لم ينجح في رسالته بالنظر إلى العامة والفقهاء والمتكلمين، فهل من الحق أن نحكم بهذا إذا راعينا من يأخذ المسألة من ناحية البحث الحق؛ فلا يحكم إلا بعد أن يقرأ ويوازن ثم يصدر حكمه أخيرًا؟

لن أستطيع أن أبت الرأي في هذا؛ فلست أزعم لنفسي أني من الذين يستطيعون أن ينظروا للأمر من الناحية المنطقية الفلسفية البحتة، ثم يرون من الحق أن يُؤَوِّلوا نصوص القرآن والحديث إن تعارضت — في رأيهم — مع ما يؤدي إليه النظر الفلسفي.

ثم هناك ما حال دون ذيوع فلسفة ابن رشد ومذهبه في التوفيق أو الجمع بين الحكمة والشريعة؛ أعني ذهاب ريح المسلمين وفقدانهم الاستقلال السياسي، وتبعيتهم لأمة أو أمم تضيق صدورها بالبحث الحر، وما جرَّ هذا كله من جهل ران على العقول والبصائر، ولا نزال نعاني من عَقَابِيله وآثاره حتى هذه الأيام.

كل ذلك عفَّى على الدراسات الفلسفية، وجعل النفوس ترى فيها إلحادًا وكفرًا، كما ترى في رجالها ملاحدة وكفرة بالله واليوم الآخر، جزاؤهم أن يُقتَّلوا أو يُصَلَّبوا أو يُنفَوْا من الأرض!

من أجل هذا ذهبت صرخة ابن رشد، آخر نصير أو ممثل للفلسفة الإسلامية، فلم يُقدَّر له أن يُسْمِع أولئك الذين اعتقدوا هذه الفلسفة كفرًا؛ فأصموا آذانهم، ولم يأذنوا لعقولهم أن تسمع لهذا الصوت القوي الذي هزَّ أوروبا وأحدث فيها ثورة فكرية، والذي أراد فيلسوف قرطبة أن يصل للناس جميعًا لعلهم يجدون عليه هدًى، ويقبسون منه ما يهديهم سواء السبيل في التوفيق بين الحكمة والشريعة.

لم يكن إذن من الممكن أن ينجح ابن رشد في رسالته لسبب خارج عن نفسه وإرادته، وهو جهل الأمة وعقلية العصور التي تلت العصور الذي عاش فيه.

هذا الإمام المحدث الفقيه أبو عمر تقي الدين الشَّهْرَزَوْرِي، المعروف بابن الصلاح، والمتوفى عام ٦٤٣ﻫ، يُصْدِرُ فتوى بتحريم المنطق والفلسفة؛ فيكون لهذه الفتوى خطر وسلطان ظل قويًّا دهرًا طويلًا. إنه — غفر الله له — وقد سئل عن حكم الله فيمن يشتغل بكتب ابن سينا وتصانيفه، يقول: «من فعل ذلك فقد غدر بدينه وتعرض للفتنة العظمى»؛ لأن ابن سينا «لم يكن من العلماء، بل كان من شياطين الإنس.»

وفي فتوى أخرى له في هذه الناحية أيضًا يقول: «إن الفلسفة أُسُّ السَّفَهِ والانحلال، ومادة الحيرة والضلال، ومَثَار الزَّيْغِ والزندقة، ومن تفلسف عميت بصيرته عن محاسن الشريعة، ومن تَلَبَّسَ بها تعليمًا وتَعَلُّمًا قارنه الخذلان والحرمان، واستحوذ عليه الشيطان.» وانتهى أخيرًا بأن أكَّد أن الواجب على السلطان أن «يعرض من ظهر منه اعتقاد الفلاسفة على السيف أو الإسلام؛ لتخمدَ نارهم، وتُمْحَى آثارهم!»

وقد بلغ من عنف أثر هذه الفتوى ومن قوة سلطان صاحبها، أن الإمام السيوطي جلال الدين، كما يذكر في مقدمة كتابه «طبقات المفسرين»، مال في مبادئ الطلب إلى علم المنطق، ثم تركه حين علم أن ابن الصلاح أفتى بتحريمه!

وأخيرًا، نجد طاش كبرى زاده، المتوفى عام ٩٦٢ﻫ، يذكر في كتابه «مفتاح السعادة»، أنه لا يصح أن نطلق اسم العلم على «الحكمة المموهة التي اخترعها الفارابي وابن سينا.» كما يرى أن حكماء الإسلام أعداء الله وأنبيائه ورسله، وأن الاشتغال بحكمتهم حرام في شريعتنا، وأن هؤلاء الفلاسفة أضر على عوام المسلمين من اليهود والنصارى؛ لأنهم يتسترون بزيِّ أهل الإسلام.

ليس من العجيب، والحال كما نرى، ألا يكون لابن رشد وأمثاله ممن تقدمه من فلاسفة الإسلام أثر طيب في العالم الإسلامي، وألا ينجحوا في رسالتهم التي عملوا على الاضْطِلَاع بها، وأنفقوا حياتهم في سبيل الوصول إليها، إنما كان يكون عجيبًا حقًّا لو أن كان لهم هذا الأثر الطيب المحمود، ولو أنهم نجحوا فيما أرادوه!

هذا، وكما كان ذلك العداء أو تلك الخصومة بين رجال الدين والفلسفة في تلك العصور شرًّا على الدراسات الفلسفية، كذلك كانت شرًّا على الدين.

لقد صغر هذا الخلاف العنيف بين الفريقين هوَّة ظلت فاصلة بينهما دهرًا طويلًا، وأساء كلٌّ من المعسكرين بالآخر الظنون، فرمى رجال الدين الفلاسفة بالإلحاد والكفر، وناصبوهم العداء، وجازاهم هؤلاء شرًّا بشر، فرموهم بالجهل والجمود وعدم الفهم للدين!

وكان من نتائج تلك الخصومة الحادة أن حُرم الدينُ الانتفاع بجهود كثير من أبنائه المفكرين، وأن تحامَى العامة وأشباه العامة الفلاسفة في كثير من الأحيان، فغدا بعض هؤلاء غريبًا أو كالغريب في بيئته، وغدا الفكر الحر عديم النصراء، فأخذ في الانكماش شيئًا فشيئًا في عجلة تارة، وفي ريْث أخرى، وأُخْلِيَ الطريق للجهل والتقليد في عصور الانحطاط!

وفي الحق، لقد أكرهت عوامل مختلفة الفكر الحر على إخلاء الطريق للتقليد، وصارت الفلسفة في خدمة علم الكلام تسير في ركابه؛ للتدليل على العقائد الدينية، وللرد على الخصوم والمخالفين، كما أصبح طابع مؤلفات تلك العصور هو الاختصار والشرح والتحشية والتعليق، بدل الاستقلال والابتكار.

وقد ظل الحال كذلك تقريبًا إلى هذا العصر الذي نعيش فيه، هذا العصر الذي أخذت فيه الدراسات الفلسفية في الحياة بعد أن طال بها الركود المميت؛ وذلك بفضل السيد جمال الدين الأفغاني ومدرسته في مصر، وفضل التفات الجامعة والأزهر لها التفاتة طيبة، نرجو منها المزيد ليكون لها ما نرجوه من ثمرات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤