الفصل الأول

في قابلية الإنسان للتربية وطلب العُمْران

اعلم أننا إذا تأملنا في الإنسان من حيث ناطقيته وعظيم بنيته وبما أودعه الله به من سر القوى العقلية والصفات البشرية، وجدناه قابلًا للتربية مائلًا بالطبع للتعزز على ما عداه من جميع الحيوان، متسلطنًا بصفة إدراكاته العقلية على المواليد الحيوانية والنباتية والمعدنية، محبًّا للتأنيس والاجتماعات البشرية ليدفع بها غوائل مَنْ عداه ويأمن على نفسه؛ فإن الله — سبحانه وتعالى — كما فضل الإنسان على ما عداه من الحيوان بمزية العقل والإدراك والناطقية التي يتحصل بها على الألفة والجنسية والتأنيس والاجتماعات البشرية التي يدفع بها الغوائل الحيوانية، كذلك خص بقية الحيوانات على اختلاف أجناسها وتباين أشكالها بما لم يخص به الإنسان، فخصَّ بعضها بالقوة والبطش كالأسد ليهابه غيره، وخص بالعَدْو من هو أضعف منه قوةً وأصغر جثةً كالغزال لينجو بقوة عَدْوه من كيد عَدُوِّه، ومنها ما خصه بغلظ الجلد ليدفع عنه شر الحر كالفيل وكالسِّنَّوْر بالفراء وكثرة الشعر ليتقي بهما شر البرد، وكالأرنب بكثرة السمع واليقظة ليأمن شر الاغتيال. وهكذا جميع الحيوانات على اختلاف أجناسها.

فالإنسان بالنسبة لغيره يحتاج في جميع ذلك لاستعمال قواه الفكرية وحواسه العقلية، كما لا يتم له ذلك إلا بقوة الاجتماعات البشرية والألفة التأنيسية التي هي معه غريزة طبيعية، وبها يمكنه إعمال جميع قواه الفكرية للاستحصال على درجات الحضارة والعمران واجتناء ثمرات التمدن والمهارة في سائر أعماله. وإلا فلولا حبه للألفة والاتحاد وتفضيله الامتزاج عن الوحدة والانفراد، لكان فريسة لغيره خائفًا على الدوام في نفسه. فبتلك المزايا الشريفة التي خُص بها كما ذكرنا، وبقوة الاجتماع وانضمام القوى العقلية البشرية للبحث عمَّا اشتملت عليه الكائنات من العجائب واستقصاء أسباب التمدن والتقدم، يتحصل على نتائج السعادة الدنيوية والأخروية.

ثم إن الإنسان يختلف بعضه بالتمدن والحضارة وحب التقدم، وبعضه بالدعة والسكون وحب الكسل، والبعض لا يكاد يميَّز عن الحالة الوحشية إلا بالهيئة البشرية وبعض استعمال القوة العقلية. فالنوع الأول مَن تمكنت منه أسباب التربية البشرية والحالة الحضرية المدنية، والنوع الثاني الذي لعدم استكمال تلك التربية فيه وتمكنها منه يكون غالبًا مولعًا بحب الدعة مائلًا للكسل، والنوع الثالث هو الذي يفضل ألفته الجنسية النوعية عن الاختلاط والامتزاج بمن جاوره من الأمم، فيكون في حالة حشمة بعيدًا عن التمدن والحضارة مشهورًا بالجفاء والقسوة.

فأما النوع الأول؛ فهو غنيٌّ باستكمال التربية فيه وتمكنها منه عن الحث على طلب أسباب الحضارة والتقدم. وتأثير الهمة الإنسانية فيه كافية له في جميع مقاصده؛ إذ بها يتسلطن على مَن جاوره ويحوز كمال الشرف وباذخ المقام.

وأما الثاني — يعني: المائل للدعة التي هي في الإنسان غريزة طبيعية — فهو الذي يكون مولعًا بالقوة الشهوانية التي هي في الحقيقة خدمة للجسم مذمومةٌ أحيانًا في الإنسان. وتلك القوة هي التي تجذب الإنسان عقيب تعب الأعمال الفكرية أو البدنية إلى الراحة والسكون، كما تدفعه قوة العمل عن مركز البطالة وحب النشاط والحركة والأعمال. وهاتان القوتان هما حالتان في الإنسان لا تكاد ترجح إحداهما عن الأخرى، بل هما في الإنسان على حدٍّ سواء.

فالأولى تسمى قوة الشهوة والملاذِّ التي تدعو الإنسان لجميع الملاذِّ البدنية، فتلقيه في مهاوي التأخر وحب الشهوات الحواسية، وتوصله إلى الدرجة الحيوانية. وأما الثانية فتسمى بقوة الأمل والعمل، وهي التي تبعث الإنسان على حب الأثرة والتقدم وكمال الائتناس، وبها تكون راحة الروح واستكمال فضيلة النفس والروح النورانية أو النفس التي تكون قد حازت الفضيلة التامة؛ حيث تجمع في الإنسان ضروب السلطنة العقلية وتبين له درجات الكمال الكاملة المدنية. وهاتان اللذتان المتباينتان، وإن اشترك فيهما جميع النوع البشري على اختلاف طبقاته وتباين درجاته، إلا أن لذة العمل منحة إلهية ولذة الكسل والدعة محبة شهوانية.

ومن فضل الله — سبحانه وتعالى — على عبده أن علمه وجوه المكاسب وأوقفه على دقائق الفنون والصنائع؛ حيث ذم البطالة ومدح السعي بقوله — تعالى: وَأَن لَيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (النجم: ٣٩)، وقال — تعالى: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ الله (الجمعة: ١٠)، أي: اطلبوا المعاش الذي به قوام حياتكم، وفضل الله هو رزقه الذي تفضل به على عباده، والسعي مشكور في جميع الأحوال والبطالة لا تفيد صاحبها إلا الذل والحرمان، ومِن شأن البطالة أن تبطل الهيئات الإنسانية؛ فإن كل عضو أو جزء من أجزاء الجسم إذا ترك استعماله تعطلت حركته، كالعين إذا أُغمضت واليد إذا شُلت. ولكل عضو في الإنسان حكمة إلهية وحركة جعلها فيه لتتحد الحركات بعضها مع بعض وتصير حركة واحدة، وهي حركة مجموع الأعصاب البدنية التي يقوى بها الإنسان على السعي وطلب الرزق، فإن الله — سبحانه وتعالى — لما جعل للحيوان قوة التحرك العظيمة لم يجعل له رزقًا إلا بسعيٍ ما.

ومن هنا لا ينبغي أن يتوهم أن هذا منافٍ للتوكل، بل التوكل لا بد منه في جميع الأحوال، إنما يكون مع مباشرة الأسباب. فقد ورد في الخبر عن خير البشر أن الله يقول: «يا عبدي، حرِّك يدَك، أُنْزِل عليك الرزق.» وفي قصة السيدة مريم — عليها السلام — أكبر عبرة وأعظم معجزة، لما كفاها — سبحانه وتعالى — مؤنة الطلب بأن أمرها بهَزِّ النخلة ولم يجنها لها، وهو قوله — تعالى: وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (مريم: ٢٥)، وقد أشار النبي إلى أن التوكل ليس التعطيل، بل لا بد فيه من نوعٍ من السبب، فقال — عليه الصلاة والسلام: «لو توكلتم على الله حق توكله لرُزقتم كما تُرزق الطير؛ تغدو خماصًا وتروح بطانًا.» فإن الطير تُرزق بالطلب والسعي.

نعم، لا ينبغي الإفراط في الكَدِّ والجهد، كما لا ينبغي قطع النظر عن الاستراحة في بعض الأحيان، والاعتدال أليق في جميع الأحوال.

ولنرجع الآن إلى بحثنا الأول، وهو أن نبين النوع الثالث الذي يفضل ألفته الجنسية النوعية عن الاختلاط بمن جاوره من الأمم المتمدنة كما تقدم، وهذا النوع لا يكاد يعلم أي الأمرين غالب عليه، أَحُبُّ الدعة والسكون، أم حُب الأمل والعمل؟ فإنك تراه من جهة دائمًا يكلف نفسه باحتمال المشاق والأتعاب بتجوله بين الجبال والقفار واقتحامه مواقع الشرور والأهوال. ومن جهةٍ أخرى لا تكاد ترى له عملًا يحمد أبدًا وهو في معزلٍ عن سائر أسباب الحضارة والفلاح، وأفعاله أشبه بأفعال الوحوش؛ وما ذلك إلا لانعزاله عن المخالطة والائتناس بمن جاوره من الأمم المتمدنة. على أنه قابلٌ في كل آنٍ للتربية والتهذيب لاستكمال القوى البشرية فيه وتمام الناطقية التي يمكنه بهم التأنس بالناس واستعمال الوسائل الموصلة للحضارة والتمدن وحب العمران. فإن من منح الله — سبحانه وتعالى — أن خصَّ الإنسان بالصفات المعنوية التي هي أسرار الناطقية، وجعل له العقل سراجًا يهتدي به إلى سبل الفوز والنجاح، ويدرك ما اشتملت عليه الكائنات من العجائب الدالة على القدرة الإلهية والحكمة الصمدانية.

ومن أهم ما أنعم الله به على عباده من الأسباب المؤدية إلى التمدن والسعادة الدنيوية والأخروية، إرساله الرسل بالشرائع الحَقَّة وبيانهم للناس أسباب الفوز، وانتشالهم من ورطات التهور والجهل بالحقائق والمصنوعات، وإرشادهم لما به انتظام أحوالهم وتقدمهم وسلوكهم طرق الآداب الإنسانية والتمسك بالأخلاق الحميدة المدنية. ولا شك أن سيدنا محمدًا أعظم الأنبياء شأنًا وأوضحهم محجةً وبرهانًا، وأن شريعته هي الشريعة المؤسَّسة على العدل، الداعية لمكارم الأخلاق ومحاسن الأفعال، كما سأبينه في الفصل الآتي إن شاء الله — تعالى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤