الفصل الأول

في العلوم وأصول التعلم والتعليم وبيان ما في ذلك من النفع العميم

اعلم أن من أقوى أسباب سعادة الأمة وتقدمها تولعها بالعلوم والمعارف الجالبة لخير البلاد وثروة العباد، التي بها يعلو منار التمدن والسعادة وتكسب المملكة رونق المجد والسيادة. وهذان الأمران هما ركنا الأوطان وأساسا غناها وتقدمها، وبهما يتحصل الإنسان على ثمرات المجد والفخار.

ولما كانت العلوم هي التي عليها مدار النجاح وبها يترقى الإنسان إلى درجات المعارف والفلاح، اقتضى أن نبين أولًا أصول التعلم والتعليم، معرضين في ذلك عن زيادة التطويل والإسهاب.

فنقول: العلم هو ما يتوصل به الإنسان لمعرفة المجهولات من الأشياء التي لا تتم معرفتها إلا بالبحث والاطلاع، وهو صفة راسخة يدرك بها الكليات والجزئيات. وقيل: العلم وصول النفس إلى معنى الشيء. وقيل: إنه غنيٌّ عن التعريف، وقيل: زوال الخفاء من المعلوم، والجهل نقيضه.

والتعلم هو جزءٌ من التربية المعنوية؛ لأن التربية نوعان: التربية الحسية وهي تربية الجسم وتنميته، والتربية المعنوية وهي تربية الروح، يعني تهذيب العقل وترويض الذهن والفكر. وقسَّم هذه التربية العلَّامة رفاعة بك المصري إلى ثلاثة أقسام:
  • القسم الأول: تربية النوع البشري، يعني: تربية الإنسان من حيث هو إنسان، يعني: تنمية مواده الجسمية وحواسه العقلية. القسم الثاني: تربية أفراد الإنسان، يعني: تربية الأمم والمال. والقسم الثالث: التربية العمومية لكل إنسان في خاصة نفسه، وهي تربية الإنسان الخصوصية. فالقسم الأول طبيعي إلا أنه كالشجرة الصغيرة التي تكون في أول نموها لا تكبر وتنمو ويطيب ثمرها ما لم تتعهدها بالتقليم والماء في أوقات معينة، وتكون أرضها جيدة التربة طيبة الثرى، فحينئذٍ تنمو ويحسن شكلها ويطيب ثمرها؛ ولذلك لا يكون هذا القسم غالبًا إلا بأيام الشبيبة والصبا اللذين بفواتهما يفوت المرء ما يؤمله من تحصيل أسباب السعادة والسيادة؛ فلذلك ينبغي لكل إنسان ألا يضيع أوقات شبيبته سدًى مشتغلًا بما يذيقه عاقبة مرارة الندامة والحرمان. شعرًا:
    إنَّ الصِّبا فرصةٌ إن كنتَ تكسبها
    نلتَ المرادَ وإن أغفلْتَها تَزُلِ

    ومما يُنسب إلى الإمام الشافعي — رضي الله تعالى عنه — قوله:

    أليس مِن الخسران أنَّ لياليا
    تمرُّ بلا علمٍ وتُحسَب من عُمْرِي

    وبالجملة، فالتعلم في سن الشبوبية أسرع لتحصيل العلوم وأليق، ومهما اجتهد الإنسان عند بلوغه سن الكبر لا يستفيد ما يستفيده الشاب بزمنٍ قليلٍ من حياته.

  • القسم الثاني: هو تعليم أحكام الدين الواجب معرفتها على كل إنسان، وهذا غالبًا يكون بهداية الله — سبحانه وتعالى. ومن رحمته — سبحانه — بالعبد أن ينوِّر بصيرته وقلبه ليعرف حقيقة الحق وقدرته العظيمة التي تحير العقول، ويأخذ بما جاءت به الرسل من البينات، إلا من أضله الجهل بالحقائق وأعماه الغرور.

    واعلم أن الله — سبحانه وتعالى — قد شرف دين الإسلام على ما سواه من الأديان بما خصه من المزايا الشريفة العظيمة، وأجلها معرفة الله — سبحانه وتعالى — والإقرار بوحدانيته الصمدية، والوقوف على حقيقة الموجودات الدالة على بديع صنعه، والتمتع بالحقوق الإنسانية بدون اعتداء الناس بعضهم على بعض، بما اشتمل عليه من القوانين الإلهية والأصول الشرعية التي مرجعها القرآن الشريف المنزل بالحق على نبيه الكريم فلذلك يجب على المسلم تعليم الأحكام الدينية والأصول الفقهية والوقوف على دقائق العلوم الشرعية، لقوله : «لغدوةٌ في طلب العلم أحب إليَّ من مائة غزوة.» وقوله : «إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم.» وما جاء بفضل العلم والعلماء قَلَّ أن يُحصى.

  • القسم الثالث: هو ما يشمل الناس كبيرهم وصغيرهم، ويشترك بمنافعه غنيهم وفقيرهم. وهو على ثلاث مراتب: الأولى: هي العلوم الابتدائية التي قَلَّ أن يخلو منها إنسان في الأمم المتمدنة، وهي القراءة والكتابة وأصول الحساب والهندسة والنحو والصرف.

    فأما الكتابة فإنه مندوب إليها لحديث: «استعن بيمينك.» أي: بأن تكتب. ولا يخفى ما بها من الفوائد العظيمة والمنافع العميمة؛ فإن الله — جلَّ شأنه — تفضل على عباده بأن ألهمهم الكتابة التي بها ضبطت أحكام الدين ودونت أخبار الأولين. وأما الصرف فهو لإصلاح اللسان ومعرفة تراكيب الجمل الخالية من اللحن، وهو أساسٌ لسائر العلوم. وأما الحساب والهندسة فهما غنيان عن التعريف؛ إذ نفعهما بين الناس معلوم، وهذا التعليم الأولي ضروري لجميع الناس على اختلاف أجناسهم؛ إذ به يحسن حال الهيئة الاجتماعية، ويعم نفعه جميع الرعية سيما أرباب الحرف والصناعات، إذا كان لهم إلمامٌ بالكتابة تسهل عليهم الاختراعات والتفنن في صناعتهم بما يطلعون عليه من الكتب الموافقة، كلٌّ على حسب مرغوبه. وبالجملة، فإن احتياج كل الناس لهذه العلوم كاحتياج الطعام للملح، ولا غنى لأحدٍ من العموم عنه.

وأما التعليم الثانوي الذي مرتبته أعلى من مرتبة ما قبله، فهو غالبًا لا يلتفت للبراعة فيه أكثر الناس لصعوبة مسلكه. فينبغي للحكومة تشويق الناس إليه وترغيبهم فيه مع إجراء الوسائل المسهلة لتحصيله، كإنشاء مدارس مخصوصة منتظمة وجلب معلمين وأساتذة ماهرين؛ فإن هذا التعليم هو السبب الأعظم لتمدين جمهور الأمة وتنوير أبصارها وتقدمها في ميادين المعارف والحضارة. وأنواع هذا التعليم كثيرة، فما ينبغي تعلمه منها واشتغال الأهالي بالأهم فالأهم؛ منه علم الجغرافية الذي يتوصل به الإنسان لمعرفة ما اشتملت عليه الكرة من البحار والجبال والقرى والبلدان والطبائع وعجائب الحيوان، ولا أقل من أن يتوصل به الإنسان لمعرفة جغرافية بلاده ووطنه. والعلوم الرياضية بأنواعها والتاريخ والمنطق وعلم المواليد الثلاث والطبيعة والكيميا والإدارة الملكية وفنون الزراعة والمحاضرات والإنشاء وبعض الألسنة الأجنبية التي يعود نفعها على الوطن.

وهذه العلوم هي التي عليها مدار أكثر المدارس في الأمم المتمدنة ولمصر فيها بعض الإتقان الآن. وأما مرتبة العلوم العالية؛ فهي اشتغال الإنسان بعلمٍ يتبحر فيه بعد تحصيله علوم المبادئ والتجهيزات، كعلم الفقه والطب والفلك والجغرافية من كل علم يجب تعلمه وجوبَ عَيْن أو كِفَاية، وهو أن يجول صاحبه في أصوله وفروعه غاية الجولان، حتى يكون كالمجتهد فيه، فيجب ذلك على أفرادٍ في كل قطرٍ يكون لهم استعداد وقابلية لبلوغ أقصى نهاية المعارف التي بها نظام دين ذلك القطر ودنياه، ليقوموا ببث ذلك ويكونوا كالمجددين فيه.

وكما أن التعليمات الأولية يجب أن تكون عامة لجميع الأهالي شاملة عموم الناس، ينبغي أن تكون أيضًا الثانوية منتشرة بين الأمة وأبناء الأهالي القابلين لتعلمها وإتقانها، بخلاف العلوم العالية المعدة لأرباب السياسة والحكومة وأبناء الحَلِّ والعَقْد. فإنه ينبغي جعلها مقصورة على تلامذة وأناس مخصوصين مقيدين بقيود خاصة من الغِنَى والاعتبار لا يحصلها إلا ذوو اليسار من الناس الذين لا يضر تفرغهم للعلوم العالية وانقطاعهم إليها؛ إذ من العبث ومن الخطر أيضًا تفرغ صاحب صنعة ينتفع منها الناس لطلب هذه العلوم المنوطة بأرباب السياسة والاعتبار، وتركه صنعته التي يتعيش منها رغبةً في دخول دائرة معالي المعارف التي لا تصلح إلا لأهلها.

فينبغي للحكومة عدم الترخيص للتلامذة الذين درسوا العلوم الأولية والثانوية أن ينتظموا بسلك أرباب المعارف القصوى، إلا مَن فيه اللياقة لها. كما لا ينبغي حرمان التلامذة ذوي اللياقة من وظائف الحكومة الأهلية؛ إذ ليس من العدل أن تلميذًا قضى ريعان شبابه في المدارس وصرف أكثر أيامه بطلب العلوم رغبة الاستخدام في الوظائف المحلية وأن يشارك بما انتفع به عموم الرعية، أن يُقطع أمله منها ويُحرم مما اكتسبه من العلوم بإبعاده عن أسباب الترقي بالخدمات الملكية، حتى يستولي عليه الأسف ويتضع شأنه بين الأقران وربما أهلكه القُنوط، كما يستولي اليأس على غيره من التلامذة الذين لهم ميلٌ لما تقدم ويرون ما حل برفيقهم فتبرد همتهم وتقل عزيمتهم، فينشأ حينئذٍ الإهمال وعدم رغبة التلاميذ لقنوطهم من اجتناء ثمرات متاعبهم.

ثم إنه متى استكمل التلميذ العلوم الابتدائية والتجهيزية وظهر ميله لخصوصيات تناسب حاله من الصناعة والفنون وغير ذلك مما يتحصل به على نتيجة حسنة، وجب على أهله تمكينه منها وإعانته على مرغوبه، إلا إذا كان مائلًا نحو مطامعه الشهوانية فينبغي لهم زجره عنها ومنعه ما استطاعوا وإرشاده للوسائل المؤدية للسعادة والترقي.

هذا وليس من اللازم أن جميع المدارس المُعَدَّة لتعليم هذه العلوم أن تكون على نفقة الحكومة، بل إن المدارس التي تكون على نفقة الحكومة ومن خصائصها، هي المدارس الحربية والملكية. والحكومة تكون واسطة لتقوية جمعيات المعارف الخيرية في البلاد وتمد إليهم يد المساعدة مع ملاحظتهم فيما لا بد منه في بعض الأحيان، وعلى حسب استعداد الأهالي للأعمال الخيرية وميلهم للفنون والمعارف، يجب عليهم أن يبذلوا الجهد بإنشاء المدارس ونشر المعارف والعلوم.

كما ينبغي التدقيق بانتخاب المعلمين الماهرين بالعلوم المؤسَّسة عليها المدرسة المراد إنشاؤها، وأن يكون أولئك المعلمون متحصلين على شهاداتٍ تثبت معلوماتهم التامة بتلك الفنون التي تضمن حسن مستقبل التلامذة الراغبين في التعليم؛ فإن وظيفة المعلمين وظيفة مهمة تستدعي دقة النظر.

ثم يجب اختصاص كل عشرة أو عشرين تلميذًا بمعلم واحد يقوم بتعليمهم، فإن ذلك أيسر للتعليم وأقرب لتهذيب التلاميذ وتأديبهم، بخلاف ما إذا كان كل مائة أو مائتين يتلقون العلوم عن معلم واحد أو اثنين؛ فإنها لا تتمكن منهم التربية كما ينبغي. بل إذا كان كل عشرة تلاميذ مثلًا يقوم بتعليمهم واحد يشتغلون بجانبه أوفق، وعند تمام الدرس يحضر بهم إلى محل التدريس العام الذي يجتمع فيه سائر التلامذة لتلقي دروسهم، وينبغي للتلاميذ الإذعان لأوامر معلميهم وعدم مخالفتهم والنظر إليهم بعين التوقير والاحترام. كما يجب أن يكون المعلم ليِّن العَريكَة يمزج الشدة باللين، مهذب الأخلاق حسن الخصال، متحليًّا بحلى الكمال، ليقتبس منه التلميذ السجايا الحميدة؛ إذ ربما يستفيد الغلام من الأستاذ ما لا يستفيده من أبيه من الخصال؛ لأن المعلم هو القائم بتربيته وتأديبه وتعليمه وتهذيبه.

ومن الأسباب المنشطة للتلاميذ رياضتهم في بعض الأوقات، وبإعطائهم الفرص المناسبة للسفر القريب بالسكك الحديدية أو سواها، وتنزههم في بعض الأحيان لتصفو أذهانهم وترتاح قواهم العقلية عقيب تعب الأعمال الفكرية، والتصريح لهم غِبَّ الدروس بالألعاب الخفيفة كالجملاستق التي تكون أدواتها معدة لهم في فسحات المدارس، وعند خروجهم في أوقات الفرص من محال التدريس تكون لهم على سبيل الرياضة والتمرين، ويستفيدون منها الرشاقة والنشاط والخفة بالحركات البدنية، فإن مدارس أوروبا عمومًا قَلَّ أن يخلو منها هذا الفن. وبالجملة، فإن الأمة التي تُقبِل على هذه العلوم والآداب المقدم ذكرها، ينتظم حالها ويعلو منار شأنها وتنبث فيها روح الحضارة والتقدم، واكتساب المعارف الجالبة لتمدن البلاد وحسن حال العباد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤