الفصل الثاني

في الحث على طلب المعارف والتمتع بظلها الوارف

اعلم أن الله — سبحانه وتعالى — قد جعل في كل زمان أناسًا ذوي دراية وذكاء يقومون بواجبات الأوطان، مجددين ما اندرس من معالم الفضل والعلوم، باذلين جميع ما في وسعهم لما به كسب حقائق حوادث المعارف البشرية، فيشاركون الناس بما اجتنته عقولهم من رياض الحكم والفضائل، ويخلِّدون بين الناس آثارًا لا تزال تذكرهم بالثناء العاطر بما يتركونه من التآليف العظيمة والاختراعات النافعة العميمة التي يقوَّم بها أود البلاد وتزيد مصلحة العباد.

كيف لا؟! والبلاد التي تقبل أهلها مطالعة العلوم واجتناء ثمرات المعارف والفنون يكون لها في أوج السعادة المقام الأسمى، وتنال أهلها في ميادين التقدم والثروة الغاية القصوى، فتتيه بالفخر والغِنَى على مدى الزمان، ويشار إليها حينئذٍ بالبنان. وأما البلاد التي يكون أهلها في حضيض الجهل متمسكين بالكسل الذي يفضي بالإنسان إلى التأخر والاضمحلال، فإنها تصبح بعيدة عن الثروة والتقدم، محرومة من أسباب ترقيها وغناها، لا يكاد يكون لها أثرٌ يحمد ولا ذكرٌ يخلد. بخلاف ما إذا كانت الأمة متحدة على نشر العلوم والمعارف، متفقة على إعلاء كلمتها وتوفير ثروتها كي لا تتأخر بين الأمم ولا يفوتها كل ما به السعادتان الدنيوية والأخروية، فتلك هي التي تُحلِّي سطور التواريخ بجميل ذكرها، وتُقلِّد جِيدَ الزمان بدُرَر فنونها، كما هو مشاهد الآن وفي كل زمان كيف أن البلاد التي تتسع دائرة معارفها وتبلغ غاية الحضارة والتمدن تمتص جميع ما تُدِرُّه البلاد المقصرة في المعارف القليلة الإلمام بالفنون والصنائع؟

وهاك شاهدًا لا يقبل النقيض، وهو أن البلاد المصرية مثلًا ما زالت ولم تزل دارًا للعلوم منطوقها والمفهوم، لكنها قليلة الصنائع والفنون؛ لأنك إذا نظرت لمحصولاتها القطنية وجدتها كل سنة تبلغ نيفًا وثلاثة ملايين قنطار تقريبًا، وهذه الأقطان جميعها لا يستفيدون منها سوى أثمان أعيانها، وأما التطويرات العملية المورثة للثروة العظيمة فإنها تكون لأهل أوروبا؛ فمصر إذن في غُبنٍ عظيمٍ بالنسبة لأوروبا إذ إن هذه الثلاثة ملايين قنطار من القطن يبلغ ثمنها ستة إلى تسعة ملايين جنيه «ليرة»، فما تأخذه منه أوروبا وترسله بعد تطويراته العملية بما يبلغ العشرين أو الثلاثين مليون جنيه مثلًا، فانظر أيهما الرابح وأيهما المغبون؟

فإن قلت: ألا تعلم أنهم لا يتحصلون على هذا الثمن إلا بعد تكبد أضعاف ثمن الأقطان من المصاريف العظيمة والتكاليف الجسيمة كأجر الصُّنَّاع والحيَّاكين والصَّبَّاغين والنسَّاجين والشَّيَّالين (إلخ)، أقول وهذه هي الأرباح المراد بها للبلاد النافعة للوطنيين. فلو كان المصريون مولعين بحب المعارف التامة مجتهدين في تحصيل الفنون والصنائع، لما احتاج الأمر إلى تكبد الأضرار، بل كانت معاملهم الصناعية تغنيهم عن البضاعة الأوروباوية مع اغتنامهم ثمار ثروتها، وهكذا حال سائر البلاد المتقدمة في الصنائع التي مهر أهلها بالاختراعات والفنون التي لا تستفاد إلا بمزاولة كتبها، ومطالعة وتحصيل العلوم التي دوَّنها ذوو العقول من العلماء الذين صرفوا معظم حياتهم بنفع وطنهم وأمتهم وتعميم فوائد علومهم، لا بالانهماك على الكتب الخرافية والقصص الملفقة الكاذبة التي لا تفيد صاحبها إلا خمول الذهن والبطالة كمل هو مجرب.

ثم ينبغي لمحصل الفنون الصناعية والعلمية أن ينفع الناس بعلومه ومعارفه؛ فإن العالِم مَن يُنتفع بعلمه ليس العالم الذي ينفع نفسه وزاوية بيته. ولسوء البخت أن ديارنا السورية والديار المصرية أيضًا فيهما من العلماء بكافة العلوم أناس كثيرون، إلا أنهم قليلو العمل، فإنا ما رأينا أحدًا منهم اخترع آلة بديعة أو عملًا جديدًا، أو أي شيء من الاختراعات نافع لأبناء الأوطان ومغنٍ لهم عن الاحتياج للأعمال الأوروباوية. وربما يكون هذا ناشئًا عن إهمال الحكومة لذوي المعارف والفنون، مع أن من واجبات الحكومة الالتفات لأولئك القوم ومد يد المساعدة إليهم، وحث الأمة على طلب العلوم والمعارف بالوسائل الحسنة، وإكرام أرباب الاختراع والتآليف المفيدة، والنظر إليهم بعين القبول، ومساعدتهم وإنهاض هممهم بما تقتضيه الحال، كما هو واقع الآن في معارض أوروبا التي تتقاطر إليها عند التئامها أرباب الفنون والصنائع من جميع الأقطار، وتعرض فيها اختراعاتهم العظيمة النافعة لدى وزراء وسفراء الممالك مع جماهير عديدة من الناس لينالوا بذلك مزيد الشهرة والافتخار، وربما تحصل البعض على وسامات «نياشين» الافتخار، والبعض ممن يكون اختراعهم عظيمًا ومفيدًا للغاية يجعلون له رسمًا مجسمًا في ذلك المكان لتبقى شهرته وشهرة اختراعه مدى السنين والأيام، وهكذا يكافئون كلًّا على قدر عمله بعدما تعلن باسمه ونوع مخترعه جميع الجرائد لتروج بضاعته وتعظم شهرته، فتزيد بذلك رغبة الناس بالمعارف، وتميل أنفسهم لطلب الفخر، ويوطد أمل الإنسان باجتناء ثمرات تعبه وكسبه الشهرة العظيمة والصيت الحسن.

فمتى ننتبه نحن أيضًا من رقدتنا ونبادر لما به تقدمنا وثروة بلادنا؟ فإن من الواجب على كل وطني — لا سيما في مثل هذه الأزمان الجديدة — أن يبذل جهده لكل ما به نفع الأمة والأوطان واتساع دائرة العلوم والعرفان، ليتحصل الوطن على أسباب التمدن والتقدم وبحسن حال الهيئة الاجتماعية بتمتعها بالخبرات الوطنية.

ولما كانت عمارية الممالك والمسالك تحتاج لاتساع دائرة الفنون والصنائع وأدواتها وآلاتها، يسَّر الله في كل زمان أناسًا ذوي دراية وبراعة تامة يقومون بما به إحياء العلوم والفنون كما ذكرنا. ولم يعدم وطننا من هؤلاء الرجال أناسًا قادرين على القيام بمهام الخدمة الوطنية الواجبة على سائر أفراد الأمة. غير أن استنهاض هممهم متوقف على حث الحكومة ومساعدتها وترغيبها الناس بالمعارف؛ لتتقدم بذلك الأوطان، وينال أهلها كمال التمدن والعمران.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤