الفصل الرابع

في ذكر العدل وأنه سبب العمران

العدل عبارة عن الاستقامة على طريق الحق، وأن ينتصف الإنسان لنفسه ولغيره. وقد جعله بعض الحكماء قاعدة جميع الفضائل كالكرم، والمروءة، والعفة، والشجاعة، وحب الوطن، وصفاء القلب، ونحو ذلك من الفضالأكاسرة أن كسرىائل التي هي من نتائج العدل. والعدل أساس الملك وسبب العمران ووسيلة لتقدم الأوطان؛ فإن الحاكم العادل إذا كان مشهورًا بالعدل وحسن السياسة يستميل إليه قلوب رعاياه وتطمئن به البلاد من الجور والاستبداد، فيصبح الناس متحدين على كلمة واحدة آمنين في أوطانهم خاضعين لأوامر حاكمهم غير منفرين من سياسته، بل هم في راحة وسكون من تعدي الأيدي والظُّلَّام؛ فتنشأ عندهم الأمنية التي يتسبب عنها عمران المسالك والممالك وتقدم التجارات وحسن الأحوال. بخلاف ما إذا كان الحاكم جائرًا على رعيته لا يحسن سياسة مملكته، فتختلف عليه الآراء وتنفر منه الناس، كما تمتد أيدي عماله للظلم والتعدي على الحقوق الإنسانية؛ إذ لا رادع يردعهم عن الظلم وحب الأغراض النفسانية، فيترتب على ذلك خراب البلاد وتنفر العباد ويختل نظام الملك وتقع الناس في أشد الضنك. وأما إذا كان الملك عادلًا في رعيته سالكًا سبيل الشرع في سياسته، لا يُسلِّم زمام الأحكام إلا لذوي الكفاية والدراية المُنزَّهين عن الغش وحب الأغراض الذاتية، الذين ينظرون لمصلحة بلادهم بعين الصداقة والحكمة والتدبير، أُمِنَ على البلاد من الخراب والدولة من الانقلاب.

قيل إنه لما دخل الهرمزان على عمر بن الخطاب — رضي الله تعالى عنه — وجده مستلقيًا على قفاه بالمسجد موسد الحصى ودرَّته بين يديه، فقال له: «عدلت فأمنت فنمت.»

وكتب إلى عمر بن عبد العزيز عامله بحمص أن مدينة حمص قد تهدمت واحتاجت إلى إصلاح، فكتب إليه عمر بن عبد العزيز: «حصِّنها بالعدل، ونقِّ طرقها من الظلم. والسلام.»

وقيل: من جملة عدل الأكاسرة أن كسرى أظهر يومًا من أيام مملكته أنه مريض وأَنْفَذَ ثقاته وأمناءه ليطوفوا أقطار مملكته وأكناف ولايته، وأن يطلبوا له لبنة عتيقة من خربة ليتداوى بها، وذكر أن الأطباء وصفوها له، فمضوا وطافوا جميع مملكته، وعادوا فقالوا: ما رأينا في جميع المملكة مكانًا خربًا كي يأخذ منه لبنة عتيقة، فقال لهم الملك: إنما أردت أن أختبر إيالتي لأعلم هل بقي في المملكة موضع خراب لأعمره، فالآن لم يبقَ مكان إلا عامرًا، وقد تمت أمور المملكة وانتظمت الأحوال ووصلت العمارة إلى درجات الكمال. فانظر إلى هذا العدل الذي لم يدع في البلاد خربة يؤتى منها للملك بلبنة عتيقة؛ فهذا هو العمران.

ومن عدل نور الدين الشهيد ما قاله ابن الأثير: «إنه بلغ عدل نور الدين الشهيد، وهو أول من بنى دار العدل. وسببه أنه لما أقام في دمشق بأمرائه وفيهم أسد الدين شيركوه، تعدى كلٌّ منهم على مَن جاوَره، فكثرت الشكاوى إلى القاضي كمال الدين الشهرزوري، فأنصف بعضهم مِن بعض ولم يقدر على الإنصاف من شيركوه؛ ولأنه كان أكبر الأمراء، فبلغ ذلك نور الدين الشهيد، فأمر ببناء دار العدل. فلما سمع شيركوه قال لنوابه: ما بنى نور الدين هذه الدار إلا بسببي، وإلا فمن يمتنع عن القاضي كمال الدين، والله، لأن أحضرت إلى دار العدل بسبب أحد منكم لأصلبنه، فامضوا إلى كل مَن بينَكم وبينَه معاملة وأرضوه ولو أتى على جميع ما بيدي».

قال: «وظُلم رجل بعد موت نور الدين الشهيد فشقَّ ثوبه واستغاث: «يا نور الدين»، فاتصل خبره بالسلطان صلاح الدين بن يوسف بن أيوب، فأزال ظلامته، فبكى الرجل أشد من الأول فسئل عن ذلك، فقال: أبكي على سلطانٍ عَدَلَ فينا بعد موته.» ويحِقُّ لَعَمْرُ الحقِّ لسلطانٍ عادلٍ أن تبكيَ لفَقْدِه العباد؛ فإن العدل حياة الأمة وسبب عمران البلاد. انتهى.

هذا ما أحببت إيراده في هذا الباب وفيه لأولي البصيرة كفاية، وقد جعلت الخاتمة في ذكر نُبَذٍ تتعلق بالتمدن الإسلامي والتمدن الأوروباوي على حسب الإمكان لكي تتم الفائدة المطلوبة والغاية المرغوبة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤