الفصل الأول

ذكر نبذ تتعلق بالتمدن الإسلامي

مَن تأمل في سريان قوة الأمة الإسلامية في مبدأ ظهور الإسلام، وامتداد عنصرها في الأقطار، وتقدم سلطتها وانتشار شريعتها في غالب الأمصار، في مدة لا تزيد عن الثلاثين إلى الثمانين سنة عن يد طائفة من العرب قليلة، قد لبَّتْ دعوة نبيها — عليه الصلاة والسلام — حين دعاها للحق، فانتضت أمامه من غمد الحزم والعزم والإيمان سيفًا ما قوي على إغماده أحد، بل كافة أمم العالم أخذتها الحيرة والانذهال وتحقق لديه ما لتلك الشريعة من الأسرار الإلهية والسياسية الشرعية التي جعلت العالم ينقاد لأمر بعث الله به نبيه بالحق للناس، ألا وهو الإقرار بوحدانية الله — تعالى — واتباع سنن القوانين الإلهية المبنية على العدل. فأدَّى — عليه الصلاة والسلام — رسالة ربه للناس وبث في الوجود أنوار العدالة والاهتداء.

ثم قام بعد نبيهم لإتمام تلك الدعوة الخلفاء الراشدون، وسلكوا من السبل ما به قوام وانتشار هذا الدين، وأحسنوا السياسة مع الخلق ونهجوا أقوم السبل التي تؤدي بالإنسان إلى الحق، وبثوا في الوجود روح العدل والإيمان؛ فانتعشت أرواح العباد، ودانت لهم جميع البلاد.

ثم نهج مَن والاهم من خلفاء الدول الإسلامية منهج سلفائهم باتباع الخطط المؤدية لتقدم هذه الأمة وامتداد شريعتها في الأقطار، حتى أتاح الله لهم من الفتوحات العظيمة والتقدم ما كان أشبه بسيل طمي على آسيا فعم العرب والعجم، وتجاوز حدود تركستان إلى الهند والصين، ودخل أراضي الروم الآسيوية مشرفًا على أوروبا، واتخذ له مجرًى آخر فانصبَّ نحو فلسطين ثم إلى مصر وإفريقية، واجتاز البحر إلى الأندلس حتى بلغ ممالك المغرب الأوروباوية. وهذا كله مما يتعذر على جميع الدول الأوروباوية تملكه حين ذاك، ما لم تكن عنايةً من الله — سبحانه وتعالى — أراد بها انتشار هذا الدين، ليكون سبب انتظام العالم وانتشالهم من ورطات التهور والجهل؛ فإنه بينما كانت أوروبا وقتئذٍ تخبط في ظلمات الجهل خَبْطَ عَشْوَاءَ، كان التمدن الإسلامي آخذًا بالانتشار شيئًا فشيئًا في الأرض.

والأمة العربية منتضية سيف العدل لاستئصال جراثيم الجهالة من عنصر الوجود، حتى تسنى لها في أقل من قليل تمدين أكثر الأمم وإرشادهم لطرق الصواب. وكان تحت الخلافة الإسلامية حينئذاك في دمشق الشام «أعني دولة الأمويين»، ثم الأنبار، ثم انتقل إلى بغداد «أعني دولة العباسيين»، وكانت عواصم المسلمين وقتئذٍ تزهو بالعلماء وأرباب الفنون والصنائع، كما كانت بغداد محطًّا لرجال التجارات المشرقية والمغربية، تلوح في سمائها نجوم العلماء وتتباهى بتقدمها على جميع البلاد.

قال المؤرخون: كانت بغداد تشتمل على ثلاثين ألفًا من القصور، وثمانية جسور رخامية على دجلة، واثني عشر ألف طاحون بجانبيه، وثمانمائة مسجد وثلاثمائة جامع وثمانمائة مدرسة، واثني عشر ألف مكتب، وثمانية عشر ألف حمَّام ونيف. وكانت بما أنها كرسيُّ الخلافة مركز التجارة بين المشرق والمغرب، فكان فيها أكثر من ألف خان للقوافل وأربعمائة سوق للأقمشة. وهذا دليل على ما كان لها من سعة دائرة التجارة والخيرات.

قالوا: ولم يوجد مدينة كبغداد لا في العلوم ولا في الصنائع ونحوها في مدة أجيالها الخمسة، فلا الكوفة ولا المدينة ولا الشام قاعدة الخلافة الأموية ولا القاهرة تحت العلويين ولا سمرقند ولا دِلْهي ولا قرطبة ولا القسطنطينية مع عظم بنائها وشهرتها.

وفي الحقيقة كانت بغداد خصوصًا وسائر الممالك الإسلامية عمومًا في زمن الدولة العباسية تتمايل كالعرائس بسعة دائرة المعارف والعلوم، فإن الله لما صرف الملك عن الأمويين إلى هذه الدولة الهاشمية، ثابت الهمم من غفلتها وثارت الفطن من رقدتها، وكان أول من عَنَّ منهم بالعلوم أبا جعفر المنصور، قالوا: «وكان مع براعته بالفقه، كلفًا بعلم الفلسفة وخاصةً في علم النجوم، ثم تلاه الرشيد، وهو باعتبار بدء الخلافة من إبراهيم الإمام سادسهم وباعتبارها من السفاح خامسهم.» وقام هذا الخليفة أيضًا بخدمة العلوم والدين أتم قيام، وهو الذي أهدي بزمانه لشارلمان ملك فرانسا الساعة الدقاقة التي عدت في وقتها من فضائل العرب كما سيأتي تفصيل وصفها. ثم لما أفضت الخلافة لابنه المأمون تمم ما بدأ فيه جده المنصور، وأقبل على طلب العلوم وسام ملوك الروم صلته بما لديهم عن كتب الفلسفة، فأرسلوا له ما استحضرهم منها، وكلف لترجمتها مهرة العلماء، فترجمت له على غاية ما أمكن، وجعل يحث الناس على قراءتها ويرغبهم فيها. وكان لا يزال مجالسًا للعلماء آنسًا بالحكماء حتى بلغت شمس الخلافة في زمانه أقصى درجة الصعود ونال العالم الإسلامي غاية السؤدد والمجد.

وكان المأمون يحب العلماء من كل نوع ويكرمهم لاسيما علماء الأفلاك. ومن المنجمين في أيامه كان حبش الحاسب المروزي الأصل البغدادي الدار، وله ثلاثة أزياج أولها المؤلف على مذهب السند هند، والثاني الممتحن وهو أشهرها، ألفه بعد أن رجع إلى معاناة الرصد وأوجبه الامتحان في زمانه، والثالث الزيج الصغير المعروف بالشاه، وله خلافها وبلغ من العمر مائة سنة. ومنهم أحمد بن كثير الفرغاني صاحب المدخل إلى علم الأفلاك يحتوي على جوامع كتب بطليموس بأعذب لفظ وأبين عبارة. ومنهم عبد الله بن سهل بن نوبخت كبير القوم في فن النجوم، ومنهم محمد بن موسى الخوارزمي، ومنهم ما شاء الله اليهودي كان في زمن المنصور وعاش إلى أيام المأمون. ومنهم يحيى بن أبي منصور رجل فاضل كبير القدر مكين المكان. ولما عزم المأمون على رصد الكواكب، تقدم إليه وإلى جماعة من العلماء فأصلحوا آلاته بشماسية بغداد وجبل قاسيون بدمشق، ومن الحكماء يوحنا البطريق الترجمان مولى المأمون، أمينًا على ترجمة الكتب الحكيمة حسن التأدية للمعاني، ألكن اللسان في العربية، وكانت الفلسفة أغلب عليه من الطب.

ومن الأطباء سهل بن شابور ويعرف بالكوسج، كان بالأهواز في لسانه خوزية وتقدم بالطب في أيام المأمون، وكان إذا اجتمع مع يوحنا بن ماسويه وجيورجيس بن بختيشوع وعيسى بن الحكم وزكريا الطينوري قصَّر عنهم في العبارة لا في العلاج.

وكان المأمون قد قرأ في كتب الأوائل أن دور الأرض يكون أربعة وعشرين ألف ميل، فأراد تحقيق ذلك فأمر بني موسى الثلاث المشهورين وهم: محمد وأحمد والحسين أولاد موسى بن شاكر، وكانوا يعلمون جيدًا علم الهندسة والحبل والموسيقى، بأن يحققوا ذلك ويحرروه فسألوا عن الأرض المتساوية، فأخبروا بصحراء سنجار وحققوا ذلك بارتفاع القطب الشمالي بعد عملية طويلة لا محل لذكرها هنا.

وكان المأمون أكرم الخلفاء وأحبهم للعلم والعلماء، وأقام بزمانه في بغداد مرصدًا فلكيًّا ما زال إلى زمن هلاكو فدرس مع ما درس منها.

وهكذا نالت هذه الأمة في زمن هذا الملك وغيره من الخلفاء ما جعلها أن تفوق العالم بأسره بتقدمها في العلوم والمعارف، إلى درجة ما أدركتها أمة قط؛ فإن همم الخلفاء الإسلامية كانت موجهة نحو تقدم هذه الأمة وترقيها بكل ما أمكن من الوسائل اللازمة والأسباب، فكم منحوا من الجوائز للمترجمين والأدباء وقربوا منهم من الحكماء والعلماء! وكان إذا امتدح أحدهم بقصيدة شعر أجاز منشئها بكذا وكذا دينارًا، وإذا ألَّف أحد كتابًا وأهداه لخزائنهم يكافئونه إما بوظيفة من وظائف الديوان الخاص ويدنونه منهم ويقربونه، وإما أن يقطعوه من الضياع ما يكفيه ويكفي ذريته من بعده. وما ذلك إلا لترغيب الأمة في العلوم وحثها على طلب المجد، حتى تقاطرت نحو أبوابهم العلماء، واستنارت العقول، وأصبح كل يتسابق إلى التأليف والتصنيف. وما مضى على ذلك إلا جيلان أو ثلاثة حتى انبثت بواسطة هذه الأمة روح العلوم والمعارف في الأقطار، ونال ملوكها بسياستهم من الشهرة ما طبق الآفاق، وأصبحت الممالك الإسلامية كالشموس بالإشراق وقد شهد بتقدمها بالفضل وعظم سطوتها غالب مؤرخي الإفرنج وملوكها أيضًا.

ومن ذلك ما نقله صاحب «كشف المخبا عن فنون أوروبا» عن فلتير أحد المؤرخين المشهورين قال: «وكان ملوك الإفرنج جميعًا تستخدم الأطباء من العرب واليهود، والتزم البابا يوحنا الثامن أن يدفع للمسلمين في كل سنة خمسة وعشرين ألف رطل من الفضة وذلك سنة ٨٧٧، وقد دخلوا إيطاليا ونهبوا كنيسة مار بطرس، وفتكوا بالجيوش الفرانساوية الذين كانوا ساروا إلى رومية لإجارة أهلها تحت راية القائد لوتاريوس. وفي القرن الثاني عشر كان المسلمون مستولين في إسبانيا على أحسن البلدان منها بورتغال ومرسية والأندلس وبلنسية وغرناطة وطرطوشة، وامتد ملكهم حتى إلى وراء جمال قسطيل وسيرقوسه. أما دار الخلفاء «يعني: الأمويين» فكانت في قرطبة، وفيها بنوا المسجد العظيم المشهور قبوه، مرفوعًا على ثلاثمائة وخمسة وستين عمودًا وهو من مرمر غريب الصنعة بديع الإتقان. ولم يزل معروفًا إلى الآن باسم مسك «أي مسجد» مع أنه حول كنيسة. وكانت الصنائع والفروسية والأبهة في عهدهم في مزيد، وكان عندهم مواضع شتى للفرح واللهو.

أما علم المساحة والفلك والهندسة والكيميا والطب فلم يكن إلا في قربطة دون غيرها من سائر المدن «وأظنه أشار بذلك إلى مدن الأندلس»، حتى إن صانكو ملك ليون الملقب بالسمين اضطر إلى أن يسافر إليها ليأخذ الطب عن رجل كان مشهورًا في عصره، فلما استدعى به الملك أجابه قائلًا: إنْ كان للملك حاجة إلي فليقدم عليَّ. وقال بعض المؤلفين إن المسلمين ملكوا من البلاد في مدة ثمانين سنة بعد الهجرة ما لم يملكه الرومانيون في ثمانمائة سنة. وقال أيضًا في «كشف المخبا» نقلًا عن «فلتير» المذكور قبلًا: «إن أول ساعة دقاقة عرفت في فرانسا هي الساعة التي أهداها هارون الرشيد إلى شارلمان ملك فرانسا.» وقال في أبجدية الأوقات: علم الحساب إنما أخذ عن العرب في إسبانيا ثم شهر في إنكلترا سنة ١٢٥٣، وقال صاحب معجم الجغرافية إن البابا سلوستروس الثاني، وكان يعرف أولًا باسم جربرت، سار إلى الأندلس وأخذ العلم عن العرب، وكانت ولادته في سنة ٩٣٠ وانتخب بابا في سنة ٩٩٩، وكان ماهرًا في علم المساحة وجر الأثقال والفلك، وهو الذي بث رقم الحساب العربي في أوروبا وأول من عمل ساعة ذات رقاص.

وحيث جرى ذكر الساعة فلا بد من استيفاء الكلام عليها. قال مؤلف المخترعات العجيبة: «ذكر المؤرخون من الفرنسيس: إن أول ساعة عرفت في بلادهم هي الساعة التي أهداها الخليفة هارون الرشيد إلى شارلمان ملك فرانسا وذلك في سنة ٨٠٧، وكان بدعًا في ذلك العصر. حتى إنها أورثت رجال الديوان حيرةً وذهولًا، والظاهر أنها كانت من الآلات التي يديرها الماء المنحدر وكان له اثنا عشر بابًا صغيرًا تنقسم بها الساعات، فكلما مضت ساعة انفتح باب وخرج منه كرات من نحاس صغيرة تقع على جرس فيطن بعدد الساعات، وتبقى الأبواب مفتوحة وحينئذٍ تخرج صور اثني عشر فارسًا على خيل وتدور على صفحة الساعة. انتهى ملخصًا ما ذكره في كشف المخبا.

وقد ناسب هنا أن نذكر ما نقله عن مؤرخي الإفرنج أيضًا، صاحب الشرف والمجد الوزير الأعظم خير الدين باشا التونسي في كتابه «أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك»، فقال:

ففي تاريخ دروي وزير المعارف العمومية الآن ما معناه: بينما أهل أوروبا تائهون في دجى الجهالة لا يرون الضوء إلا من سم الخياط؛ إذ سطع نورٌ قويٌّ من جانب الأمة الإسلامية من علوم أدب وفلسفة وصناعات وأعمال يد وغير ذلك؛ حيث كانت مدينة بغداد والبصرة وسمرقند ودمشق والقيروان ومصر وفاس وغرناطة وقرطبة مراكز عظيمة لدائرة المعارف. ومنها انتشرت في الأمم واغتنم منها أهل أوروبا في القرون المتوسطة مكتشفات وصناعات وفنونًا علمية يأتي بيانها.

وفيها يقول: كانت الآداب قبل انتشار العرب من جزيرتهم متأصلة فيهم مؤداة بلغتين الحميرية في اليمن والقرشية في الحجاز وبالأخيرة جاء القرآن، «ولا يخفى عليك أن الذي يقابل الحِمْيَريَّة هو المُضَرِيَّة، وإنْ وقع الإجماع في القراءة علي خصوص القرشية»؛ ولذلك اشتهرت واستمر خلوصها إلى وقتنا هذا باستمرار كتب العلم والديانة. وما دخلت العجمة في اللسان إلا بدخول الأمم في الإسلام وتطاول السنين. وللغة المذكورة من الاتساع وسعة المجال ما لا يخفى على مثافنها لا سيما في الأشياء التي بها قوام المعيشة في البادية، أو لتكرار رؤيتهم لها أو تكثُّر حاجتهم إليها، فقد يكون للشيء الواحد عندهم عدة أسماء باعتبار تعدد صفاته وأحواله. وبكثرة الترادف عندهم اتسعت لهم دوائر الآداب الشعرية؛ إذ يقال: إن للعسل عندهم ثمانين اسمًا، وللثعبان مائتين، وللأسد خمسمائة، وللجمل ألفًا، وكذا السيف، وللداهية أربعة آلاف اسم.

ولا جرم أن استيعاب مثل هذه الأسماء يستدعي حافظة قوية، وللعرب من قوة الحافظة وحِدَّة الفكر ما لا يسع أحدًا إنكاره. فمن مشاهيرهم حماد الراوية الذي ذكر يومًا للخليفة الوليد أنه ينشد له في الحال مائة قصيدة والقصيدة من عشرين إلى مائة بيت فتعب المستمع قبل المنشد. إلى أن قال: «ولم يكن للعرب في أول الأمر إلا تلك الآداب. ثم لما اتسعت لهم دوائر الفتوحات واختلطوا بالأمم الذين سبقوهم في الحضارة، اتسع لهم نطاق المعارف، فأخذوا من اليونان تآليف أرسطو وشرحوها بإمعان نظر. لكن من سوء البخت لم يأخذوا الفلسفة من كتب اليونان الأصلية، وإنما تعلموها من الكتب المترجمة بلغة أهل الشام، فهم ترجموا المترجمة. فلذلك لما نقلها الفيلسوف العربي حفيد ابن رشد في أوروبا في القرون المتوسطة وجد بها من التحريف أكثر مما وقع فيها أولًا.

وأما العلوم الرياضية فقد صادف العرب المرمى فيها، والفضل في ذلك للعلماء الذين جلبهم الخليفة المأمون من القسطنطينية. وفي أوائل القرن التاسع المسيحي أمر الخليفة المذكور عالمين من فلكية بغداد أن يقيسا مسافة درجة واحدة من خط الطول بصحراء سنجار ويزناها ليثبت بذلك تكوير الأرض بالمشاهدة، وقد تبين ذلك باختلاف ارتفاع القطب الشمالي عن طرف الخط المقيس. وقد شرح العرب كتاب إقليدوس وهذبوا زيج بطليموس وحرروا حساب تعريج منطقة البروج، كما حرروا الفرق بين أوقات الاعتدال والفرق بين السنين الشمسية والزمنية، فوجدوا بين السنة الشمسية والسنة الزمنية عدة دقائق، واخترعوا للتحريرات آلات جديدة، إلى غير ذلك مما يدل على ما للعرب من قابلية العلوم الرياضية، ومنهم حازت مدينة سمرقند قبل أوروبا بكثير محل رصد عجيب.

وأما ما ينسب للعرب من اختراع الجبر والمقابلة والأرقام الحسابية المسماة عندنا بالأرقام العربية، فلم يثبت، بل إنما تعلموا ذلك مع فلسفة أرسطو بالتلقي من غيرهم، وهي من العلوم التي وجدوها في إسكندرية. ويمكن أنهم نقلوا إلينا على ذلك الوجه البوصلة «أي: بيت الإبرة ويقال له: الحك». والبارود الذي تعلموه من أهل الصين، كما يعترف لهم أوروبا بمزية اختراع الكاغد من القماش، وبذلك كثرت الكتب ودنت أسعارها وسهل الطبع وتوفرت نتائجه بعد وجوده.

وقد اشتهرت العرب أيضًا بمعرفة الطب الذي كانوا نقلوه من كتب اليونان. ولابن رشد تعليقات عديدة على كتاب جالينوس شاهدة بما ذكر. ومن فلاسفتهم عدة أشخاص صاروا في وقت واحد حكماء وأطباء مشهورين، مثل: أبي علي بن سينا المتوفى سنة ستة وعشرين وأربعمائة هجرية، وابن رشد المذكور. وقد بلغوا من الشهرة إلى حيث صار أعداؤهم في ذلك الوقت يرغبون معالجتهم إياهم، كما يحكى أن بعض ملوك قسطلية كان اعتراه مرض الاستسقاء فاشتهى أن تكون معالجته في قرطبة، وحصل من لطف الخليفة على الإذن في أن يذهب ويداويه المسلمون. ومن مآثر حكماء العرب كيفية تقطير المياه واستعمال الراوند وأدوية كثيرة.

ومن العلوم التي لهم الفضل فيها الجغرافية؛ وسبب تقدمهم فيها أن اتساع فتوحاتهم ورغبتهم في الأسفار الخطيرة لافتراض الحج عليهم انتخب لهم المعرفة بكثير من البلدان الشاسعة التي لم يصل إليها أهل أوروبا أو نسوها بعدما كانت معروفة لهم. ومن مشاهيره في هذا الفن أبو الفداء والمسعودي والإدريسي، وهذا الأخير هو الذي استدعاه روجير ملك صقلية وألف عنده كتابه الغريب الذي سماه: «نزهة المشتاق».

وأما علم التاريخ فمن تآليفهم فيه تاريخا المسعودي وأبي الفداء المذكورين وتاريخ المقريزي، غير أنها تواريخ مختصة بأبناء جنسهم وقلَّ أن يوجد بها الكرينيك بمعنى أنهم لا يسبرون منقولاتهم بمسبار العقل كما أشار إلى ذلك ابن خلدون، ولا يخرجون عن دائرة الوقائع المجردة. ولا سبب لذلك إلا ما حكاه «سدليو» في تاريخه الآتي ذكره من أن وجود التسلط من الملوك في بلاد المشرق هو الذي كان يمنع المؤرخين من شرح جميع الوقائع ببيان أسبابها للخطر الذي كان يلحقهم في حكاية الحق.

وأما صناعة «الأرشتكتور»؛ أي هندسة البناء في اصطناع الهيئات، فلم يشتغل العرب منها إلا بما يرجع إلى إتقان الأبنية؛ حيث إن شريعتهم تمنع التصوير، على أن البناء نفسه لم تظهر لهم فيه اختراعات غريبة، فالأصل عندهم في الأقواس المرفوعة على الأسطوانات أن تكون أكبر من نصف دائرة وهذا الشكل أخذوه من أبنية البزنتيين وهم أمة من اليونان، واعتاض العرب عن الصور الذهنية والمجسدة التزين بالنقش المسمى عندهم بنقش حديدة. وكان في الأصل رسومًا لها مدلولات ثم مجرد خطوط متقاطعة شبيهة بالحروف العربية التي يمكن أن يصور منها أشكال جيدة ظريفة، وكثيرًا ما تتعجب من إتقان تلك الحروف حين تراها على الزرابي والأقمشة المشرقية.

ومن مآثر العرب اصطناع الجوابي والفوارات والتزويق بالذهب والأحجار الثمينة كالمرمر التي كانوا يجلبونها من المشرق ومن مقاطيع إسبانيا الجنوبية.

ومن أشهر أبنيتهم الجامع العظيم الذي بناه عبد الرحمن الأول في قرطبة وكان به ألف وثلاثة وتسعون أسطوانة وأربعة آلاف وسبعمائة قنديل. ثم قصر الزهراء الذي لا يتأخر عن الجامع المذكور في العظم وقد بناه عبد الرحمن الثالث على شاطئ الوادي الكبير، وبه ينبوع عظيم يفور منه شبه باقة من الزئبق ثم ينعكس في قصعة من المرمر. ومن بديع أبنيتهم حمراء غرناطة التي هي في آنٍ واحدٍ قصرٌ وحصنٌ، وبها عدة أمور تصلح أن تكون مثالًا لِلَطَافة البناء وحسنه خصوصًا وسطها المسمى ببطحاء الأسود.

وأما التجارة، فقد كان للعرب حسن رغبة فيها في سائر الأوقات، ثم لما امتدت سلطتهم من البريني، وهي جبال بين فرانسا وإسبانيا، إلى جبال هملاي التي بأقصى شمال الهند، صاروا أكبر تجار الأرض. وأما الفلاحة، فلا يعلم لهم نظير فيها؛ إذ ليس لغيرهم ما لهم من الاقتدار على جلب المياه وتوزيعها بلطف في مزارعهم الواسعة تحت شمسهم المحرقة، فسيرتهم في ذلك السائر بها إلى الآن أهل بلنسية روضة إسبانيا صالحة أن نجعلها أسوة نقتدي بها في فلاحتنا الفرانساوية.

وأما الصناعات، فإن العرب تعلموا جميعها لما دخلوا بلدان الرومانيين العظيمة حتى صاروا من أحذق أربابها، وكفاهم شهرة في ذلك سلاح طليطلة التي كانت تحت سلطانهم بإسبانيا، وحريريات غرناطة والجوخ الأخضر والأزرق بمدينة كونسة، والسروج والخروج والجلود بقرطبة. وكان أهل أوروبا يشترون هذه المهمات بأغلى ثمن ويتنافسون فيها مع شدة نفرتهم من أهلها المخالفين لديانتهم.

وبالجملة فقد بلغت إسبانيا من العمران إلى هذه الشهرة في القرون الأولى من مدة الخلفاء؛ حيث كانت الفتن عنها أسكن من المشرق، وقد تزايد نمو سكانها إلى أن صار بمدينة قرطبة وحدها مائتا ألف دار وستمائة جامع وخمسون مارستانًا وثمانون مكتبًا عموميًّا وتسعمائة حمام ومليون نفس.

فهاك برنامجًا إجماليًّا للتمدن الذي نشره العرب من شاطئ تاج، وهو وادٍ كبير بإسبانيا، إلى وادي هندوس بالهند. تمدنًا يكاد يخطف نوره الأبصار، ولكنه لسرعة نموه كان معرضًا للعطب. قال: «وتمدن أوروبا اليوم كان أبطأ في النمو، ولكنهم حصلوا بعد انقلابات وكسوفات على ما يمكن به طول البقاء المعتاد في كل بطيء النمو.»

وقال في بيان امتداد مُلك العرب: «قد امتد ملكهم في ظرف مائة سنة من ظهور الإسلام مثل ما يمتد عظيم الخلقة فاتحًا ذراعيه لالتقاط شيء، فبلغ من أقصى الهند إلى بيريني الكائنة بين فرانسا وألمانيا، وقدر امتداد هذا المُلك من سبعة عشر إلى ثمانية عشر ألف فرسخ، ولم يبلغ هذا المبلغ دولة من الدول الماضية. وقد استمرت الديانة واللسان وأحكام القرآن نافذة في غالب البلدان التي فتحوها، واغتنمت أوروبا في القرون المتوسطة مكتشفات وصنائع وعلومًا، وإن كان منها ما أخذوه من غيرهم، لكن لهم الفضل في تهذيب ذلك وتخليده بعدهم. ثم في النصف الثاني من القرن العاشر المسيحي توجه الراهب الفرانساوي جربير الذي جلس على الكرسي البابوي باسم سلفستر الثاني إلى مسلمي إسبانيا. وقرأ هناك علم الجبر والفلك وأجرى لأهل أوروبا النصرانية منهلًا جديدًا من معارف العرب، وجمع خزانة جليلة من الكتب وصنع كرتي السماء والأرض.» انتهى ما أمكن تلخيصه من كلام الوزير المشار إليه — أي: دروي وزير المعارف بفرانسا.

وفي تاريخ العرب لسدليو، مدرس علوم التاريخ بإحدى مدارس فرانسا وأحد أعضاء جمعية المعارف بها، ما معناه: «إني منذ مدة طويلة تنيِّف على العشرين سنة، وأنا مشتغل ببيان مزايا العرب على غيرهم من الأمم فيما يتعلق بالعلوم والقِدَم في التمدن مدة قرون متطاولة من أيام اليونان بالإسكندرية إلى أيام العصر الجديد، فلزمني أن أجمع ما تيسر لي من الأدلة على عظم هذه الأمة التي لم يُعْرَف قدرها إلى الآن، وأعرضه على ما لغيري ممن تكلم عليها، فيتأسس تاريخ لها عموميٌّ وإن كان ذلك مما لا تفي به طاقة إنسان واحد.

وقبل الشروع في ذلك على وجه الاختصار يلزمني أن أندب الناس إلى التأمل في أحوال هذا الجنس الذي كان كثير الفتوحات عديم الاستيلاء عليه في سائر مغازيه، ولم يزل مدة أربعة آلاف سنة على حال واحد في اكتساب الفضائل والمزايا التي تميز بها على غيره والتراتيب والعادات الخاصة به. ومن حجج ذلك أن الوقت الذي كانت فيه الممالك القديمة في مبدأ تكوينها ذات حيرة، كان هذا الجنس إذ ذاك قائمًا بنفسه قادرًا على الإغارة على غيره. فقد كانت ملوك بابل ومصر من ذلك الجنس مدة تسعة عشر قرنًا قبل التاريخ المسيحي، ثم بعد أن رجع إلى حدوده الأصلية، دفع عن نفسه سلطة الفراعنة وملوك الشام وامتنع من تسلط قيصر وإسكندر، ودام في استقلاله ضد الرومان الذين كانوا ملكوا الدنيا وبعد ظهور النبي الذي جمع العرب أمة واحدة تقصد مقصدًا واحدًا، ظهرت للعيان أمة كثيرة مدت جناح ملكها من نهر طاج في إسبانيا إلى نهر الغانج في الهند، ورفعت على منار الإشادة أعلام التمدن في أقطار الأرض أيام كانت أوروبا مظلمة بجهالات أهلها في القرون المتوسطة، كأنها نسيت بالمرة ما كان عندها من التمدن الروماني واليوناني. وبعد انقسام ممالك الإسلام لم تتعطل العلوم والآداب التي نتجت على أيديهم، فإن خلفاء بغداد وقرطبة ومصر وإنْ ضعفت قوتهم الملكية والسياسية، فإن سلطتهم الروحانية لم تزل قوية مطاعة في كل جهة لاجتهادهم في توسيع دوائرها بقدر طاقتهم، وقد نال النصارى، الذين استطاعوا إخراج العرب من إسبانيا بالخلطة معهم في الحروب معارفهم وصنائعهم واختراعاتهم، ثم المَغُل والترك الذين تسلطوا على آسيا وتداولوها كانوا خدمة في العلوم لمن تغلبوا عليها من فرق العرب.

وإلى الآن لم نطلع في أوروبا على الأصول التي تبين لنا عادات العرب اطلاعًا تامًّا؛ إذ لم يعرف عندنا عن تواريخهم إلا تواريخ أبي الفداء وأبي الفرج والمقريزي وابن الأثير ونبذة من تاريخ ابن خلدون، ونجهل بالمرة تواريخ كثيرة نوَدُّ لو نجد من يترجمها لنا، وإنْ كان المقدار الذي عندنا كافيًا في رد غلط من غلط من أهل أوروبا في شأن العرب. ثم إني ذكرت في تاريخنا هذا ما يتعلق بفتوحات الخلفاء الأولين بتاريخ بني أمية في دمشق وقرطبة وبتاريخ دولة بني العباس في بغداد والفاطميين بمصر. وبانقسام الممالك الإسلامية بالمشرق بعد تسلط الترك والمَغُل عليهم، فبيَّنْتُ جميع ذلك بقدر الطاقة، وزدت عليه شيئًا لم يوجد في التواريخ السالفة، وهو: برنامج التمدن العربي الذي توشحت عروقه في الدنيا القديمة واستمرت آثاره ظاهرة إلى الآن لكل مَن يبحث بالجد من أصل المعارف منا.

وفي أوائل القرن الثامن من تاريخنا تبدل ولوعهم بالفتوحات بالجد في المعارف والعلوم، فكانت إذ ذاك قرطبة ومصر وطليطلة وفاس والرقة وأصبهان تتسابق في ميدان العلوم مع بغداد تحت بني العباس. وتُرجمت في تلك المدة كتب اليونان وقُدمت في المدارس وشُرحت، وسرت حركات عقولهم في جميع مواد المعارف الإنسانية فنتج عنها من الاختراعات الغريبة ما شاع صيته في أوروبا، فتبين بلا إشكال أن العرب هم أساتيذنا بلا إنكار؛ لأنهم جمعوا الأدوات المؤسسة عليها تواريخنا المتوسطة، وبدءوا بكتابة الرحلات واخترعوا التآليف في تاريخ وفيات الأعيان. ووصلوا في صناعة اليد إلى غاية لا تُحَدُّ، وبقية آثار أبنيتهم مما يدل على اتساع معارفهم، وكذلك اختراعاتهم الغريبة تزيد بيانًا لفضائلهم التي لم ينزلوا إلى الآن منزلتهم التي يستحقونها بسببها. فإن علوم الفيزيك والطب والتاريخ الطبيعي والكيميا والفلاحة لما جاءت في أيديهم زاد فيها الغريب مع كونها من المحسوسات التي لا تصرف لها هممهم صرفًا تامًّا، فكيف بالعلوم العقلية التي اجتهدوا فيها اجتهادًا يفوق الحدَّ من مبدأ القرن التاسع إلى انتهاء القرن الخامس عشر؟!

ثم نقول ما نسبة ما عرفناه الآن منهم ببحثنا إلى ما بقي مجهولًا لنا من ذلك؟ وبالجملة، فالعرب هم منبع فهومنا ومعارفنا ولم نزل إلى الآن نطلع على أشياء من مخترعاتهم التي كانت منسوبة لغيرهم كلما قرأنا كتبهم. ثم قال في شأن التمدن العربي: «إنهم كانوا في القرون المتوسطة مختصين بالعلوم من بين سائر الأمم، وانقشعت بسببهم مصائب البربرية التي امتدت على أوروبا حين اختل نظامها بفتوحات المتوحشين، ورجعوا إلى الفحص عن ينابيع العلوم القديمة ولم يكفهم الاحتفاظ على كنوزها التي عثروا عليها، بل اجتهدوا في توسيع دوائرها وفتحوا طرقًا جديدةً لتأمل العقول في عجائبها.»

ثم استشهد بقول إسكندر هميلط: «إن العرب خلقهم الله ليكونوا واسطة بين الأمم المنتشرة من شواطئ نهر الفرات إلى الوادي الكبير في إسبانيا وبين العلوم وأسباب التمدن، فتناولتها تلك الأمم على أيديهم؛ لأن لهم بمقتضى طبيعتهم حركة تخصهم أثرت في الدنيا تأثيرًا لا يشبه بغيره، فكانوا في طبيعتهم مخالفين لبني إسرائيل الذين لا يطيقون خلطة أحد من الناس فيخالطون غيرهم من غير أن يختلطوا به ولا يتبدل طبعهم بكثرة المخالطة، ولا ينسون أصلهم الذي خرجوا منه. وما أخذت أمم ألمانيا في التمدن إلا بعد مدة طويلة من فتوحاتهم بخلاف العرب، فإنهم كانوا يحملون التمدن معهم فحينما حلُّوا حلَّ معهم، فيبثون في الناس دينهم وعلومهم ولغتهم الشريفة وتهذيباتهم وأشعارهم الشهيرة التي هي أساس بني عليه «المنسنقر والتربدور».

ثم قال بعد ذلك: «ونعود الآن فنقول إنه ثبت عندنا بما صنفه العرب واخترعوه برجحان عقولهم الغريب في ذلك الوقت الذي وصل صيته إلى أوروبا النصرانية، وهذا حجة على أنهم — كما قال غيرنا ونحن نعترف به — أساتيذنا ومعلمونا.» انتهى ما نقله الوزير الأعظم خير الدين باشا عن هذين المؤرخين الشهيرين وفيه لأولي الألباب كفاية.

وما كان لهذه الأمة من سعة المعارف والتقدم في ميادين الفضل إنما كان ناشئًا عن اتحاد ممالكها، وسياسة ملوكها، ووضعهم الأمور في مواضعها، واحترامهم للأصول الشرعية، وتفويضهم أَزِمَّة الأحكام لذوي الدراية والكفاية، ونظرهم في أهميات السياسة نظر العاقل الحكيم، وعدم استبدادهم في أمور الأمة، ومشاركتهم لأرباب الحل والعقد من الرؤساء والعلماء فيما ينبغي إجراؤه في أحوال المملكة وسياستها من جلب نفع أو دفع مكروه.

لا كما يتوهمه البعض من أن الملوك في صدر الدولة الإسلامية كانوا مستبدين بالأمر دون أرباب الحل والعقد، بل الأمر بخلاف ذلك، فإن مهمات السياسة والإدارة في المملكة لا يتم نظامها ما لم تُطرح في ميدان التأمل والتدبر وتبدي أرباب الحل والعقد آراءهم في ذلك على مقتضى الظروف ومناسبات الحال، فإنهم على كل حال أدرى بأحوال الرعية لتردد نظرهم للناس والوقوف على ما يناسب حالهم وأطوارهم. فإن الملك ما دام ملتزمًا قصره دون مائة حجاب لا يتمكن من رؤية أحد إلا الوزراء والكبراء، قَلَّ أن يقف على حقيقة أطوار عامة الناس وأحوالهم، ولو مهما عرَّفوه بذلك وليس الخبر كالعيان. لذلك كانت سياسة الخلفاء غير خارجة عن اتحاد الآراء وإقرار العلماء والوزراء، سواء على جلب نفع أو دفع مكروه. ومما يحقق ما قلناه مسير السياسة العربية على منهج واحد وثبات ملكها وتوالي نمو نجاحها حينما كانت أمور الأمة لا تصدر عن الملك ما لم يقرَّ عليها أرباب الحل والعقد بعد التروي والاختبار، إلى قيام المتوكل الخليفة العاشر من العباسيين (وذلك في سنة ٣٣٢ هجرية)، لما أراد الاستبداد بالأمر وكسر شوكة أمراء المملكة وانفراده بمهام السياسة سبَّب انقسام هذه الدولة وتفرق كلمتها، إلى أن نشأ عن ذلك ضياع الملك من أيدي العباسيين وخراب البلاد وتشتت الكلمة، وذلك بأن استدعى من أمراء الأتراك ورعاعهم مَن سلمهم قيادة الجيوش وولاهم الحرس وسلم بعضهم أزِمَّة الأحكام وقربهم منه وأدناهم وأبعد أمراء العرب وصادرهم، ومنهم مَن قَتَلَه كالوزير محمد بن عبد الملك الزيات فإنه أخذ جميع ماله وعذبه في السجن ثم قتله شر قِتلة، وقوَّى شوكة هؤلاء الأغراب إلى أن صارت بيدهم مفاتيح الأمور، وعظم محلهم في قلوب الناس لما رأوا من مكانتهم من الخليفة، حتى خالفوا الأحكام ومدوا يد التعدي على الناس، وأول ما فتكوا بعد تمردهم كان بنفس الخليفة المتوكل وهجموا عليه في مجلسه ليلًا يتقدمهم أحد أمرائهم المدعو ببغى الصغير وهبروه بالسيوف ثم أقيمت بعده البيعة لابنه المنتصر.

ثم أخذت أمور الخلافة السياسية بالانحطاط وتراجعت تلك الأمة عن مركزها الأصلي إلى الوراء عندما عظمت شوكة الأغراب، وتلاعبت بالملك يد الأغراض والأهواء واستبد الأمراء بالأطراف، وأوجب الأمر واختلاف الآراء إلى انقسام هذه الدولة إلى عدة دول لا محل لذكرها هنا ما بين أمير مستقل وعاصٍ مستبد وملك متغلب، إلى غير ذلك من الانقلابات التي كان سبب منشئها التفريط وحب الاستبداد بالأمر وتداخل يد الأغراب بالمُلْك. على أن أول انقسام حصل في دول الإسلام انقسامها إلى ثلاث: العباسيين في بغداد، والعلويين في مصر، والأمويين في الأندلس — أي: الغرب — لكن كانت كل دولة قادرة حينئذاك على الاستحصال على أسباب التقدم والفتوحات والمدافعة عن الملك، إنما الخلل الذي طرأ عليها وسبب تلاشيها هو انقسام الانقسام أيضًا في المشرق، وأما الغرب فإنها صارت أشبه بملوك الطوائف بعد ما نالت في زمن الأمويين من العز والمنعة والتقدم في المعارف ما طبق بصيته الآفاق، ثم ترتب على انقسامها سقوط الأندلس من يد المسلمين.

وفضلًا عن تلك الانقسامات، وبينما جروح هذه الأمة تقطر بالدم وما اندملت بعدُ مِن جَرَّا هذه الانقلابات؛ إذ دهمها هلاكو بجيوش التتار سنة ٦٥٥ هجرية فخرَّب ممالك الإسلام وانقرضت عن يده الخلافة العباسية في بغداد، وكان آخرها المستعصم، ثم تلا ذلك نكبة تيمور التي فعلت بالممالك الإسلامية ما سوَّد صحف التاريخ بذكره الشنيع، وأفقد الإسلام بقية ما كان لهم إثر تلك الأهوال من الصنائع والمعارف ودرس أعلام الفضل وذهب بأرباب الفنون إلى بلاده فيما وراء النهر.

ثم في أثناء ذلك صدم المسلمين تيار أعظم من ذلك وأشد، وهي الحروب الصليبية التي دامت حروبها في الشرق متواترة، وجيوش الإفرنج إليها متقاطرة مدة جيلين، حتى هلكت العباد وضاق بالناس الزرع وتعطلت أسباب العمران، إلى أن سخَّر الله رجال الدولة الأيوبية التي أطفأت تلك الفتنة العظيمة، وانتهى من ثَمَّ الخصام بعد مواقع وحروب بين المسلمين والإفرنج، دارت بها الدائرة أخيرًا على الإفرنج، وطردهم المسلمون من الشرق وارتاحت بعدها نوعًا الخلق.

فهذه كانت عاقبة الانقسام وتعدي السلاجقة على النصارى والأجانب الزوار جلب هذه الحرب العظيمة التي كانت سببًا لفقدان أعظم المعارف الإسلامية، ووسيلة توصل بها الإفرنج إلى أسباب التمدن والوقوف على المعارف الإسلامية بكثرة المخالطة التي أدتهم إليها هذي الحرب العظيمة.

ثم بعد تلاشي واضمحلال دول الخلفاء وغيرهم من ملوك العرب، ما زالت الدول التي تشعبت بعدها في صعود وهبوط إلى أن تأسست سنة ٦٩٩ الدولة العثمانية وضمت إليها جميع الممالك الإسلامية المتفرقة وأحسنت السياسة مع الناس وسارت أمور ملكها على قدم النجاح باحترام ملوكها للأصول الشرعية، ورَدَّت للعالم الإسلامي روح القوة والمجد. ولم تزل إلى الآن صاحبة السيادة في كل مكان ومن مشاهير ملوكهم السلطان سليمان. ثم لما أفضت الخلافة في وقتنا هذا إلى السلطان ابن السلطان السلطان الغازي عبد الحميد خان أشرقت شمس الخلافة في برج جديد، وقوَّم هذا الملك العادل أود ممالكه بما سنه من القوانين العدلية وبث أسباب التمدن وروح العلوم والمعارف بين الناس، ولم يزل أدام الله سلطانه باذلًا جهده في تقدم ممالكه المحروسة بما يجريه فيها من الإصلاحات والتنظيمات وإنشاء المدارس وتعميم المعارف رغمًا عن مقاومة المكابرين، وما يحول دون ذلك من الصعوبات مما هو مشاهد بالعيان وما يؤمل به تقدم ممالكه إلى درجة الكمال من التمدن والعمران أيَّد الله سرير سلطنته وشيَّد بالعز أركانها ونصر مدى الزمان أعوانها. ا.ﻫ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤