الفصل الرابع عشر

حين تجمع الأقدارُ غريبين، نادرًا ما تظلُّ العلاقة المتبادلة بينهما على حالها، لا سيَّما إن كانا صغيرين. فتنجرف نحو القبول أو النفور، وقد عُرِفَت بعض حالات تطورت فيها العلاقة إلى حُب أو كراهية.

كانت الصداقة بين ستيلسون رينمارك ومارجريت هوارد صداقةً أقلَّ ما يُقال عنها أنها قوية جدًّا. وكان كلٌّ منهما مُستعدًّا للاعتراف بهذا مرارًا. وكان لديهما أساس قوي يَبنيان عليه هذه الصداقة متمثلًا في كون شقيق مارجريت طالبًا في الجامعة التي كان البروفيسور عضوًا مهمًّا فيها. وكان لديهما كذلك موضوع خلافي، وهذا الموضوع، حين لم يكن يُؤدِّي إلى نقاشٍ مُحتدِم، بل نقاش رزين، كان يُجدي نفعًا أكبر في توطيد صداقتهما حتى من الموضوعات التي يتَّفقان فيها. فقد كانت مارجريت ترى، كما ذُكر في فصل سابق، أنَّ الجامعة مُخطئة في غلقِ أبوابها في وجه المرأة. أمَّا رينمارك، الذي لم يكن حتى وقت محادثتهما الأولى عن هذا الموضوع قد فكَّر في المسألة إلا قليلًا، فتبنَّى رأيًا مُخالفًا لرأي مارجريت، وكان رجلًا أشد صراحة، أو أقل دبلوماسية، من أن يُخفيَه. وفي إحدى المرات كان ييتس حاضرًا نقاشهما، وألقى بنفسه، بالحماسة التي كانت تُميِّزه، في صف المرأة في هذا الجدال؛ إذ اتفق مع مارجريت بحرارة واستشهدَ ببعض الأمثلة، وسخِرَ من أولئك الذين يرفضون التحاق المرأة بالجامعة، ووبَّخهم متَّهمًا إيَّاهم بالخوف من المنافسة النسوية. التزمت مارجريت الصمت، فيما تحدَّث نصير قضيتها بفصاحة أكبر، ولكن ما إذا كان إعجابها بريتشارد ييتس قد ازداد بسبب دفاعِه عن قضيتها، فمن يستطيع أن يَجزم بذلك وهو ليس عالِمًا بطرائق النساء؟ وبينما كان أمل ييتس في نيل احترامها هو الأساس الوحيد لآرائه الحاسمة في الموضوع، فمن المُحتمَل أنه قد نجح؛ لأن تجاربه مع الجنس الآخر كانت كبيرة ومتنوعة. كانت مارجريت منجذبة بلا شكٍّ إلى رينمارك، الذي لم يستطِع إخفاء ثقافته العلمية العميقة تمامًا حتى بالإفراط في التقليل من قدْر نفسه، وهو بدَورِه كان يشعر، بطبيعة الحال، بحماسة معلم تجاه طالبة لديها رغبة شديدة وجادة في الاغتراف من بحر المعرفة. ولو كان وصف مشاعرَه لييتس، الذي كان خبيرًا في مسائلَ كثيرة، لربما كان سيَعرف أنَّ البروفيسور واقع في الحب، لكن رينمارك كان رجلًا كتومًا، ونادرًا ما كان يتأمل أفكاره ومشاعره أو يُسرفُ في ذكر أسراره. أمَّا بخصوص مارجريت، فمن ذا الذي يستطيع أن يكشف ما في أعماق سريرة فتاة صغيرة دون أن تُبديَ بنفسها بعض الأمارات عليه؟ كلُّ ما يستطيع المرء تدوينه بهذا الشأن أنَّها كانت ألطف في تعاملِها مع ييتس ممَّا كانت عليه في البداية.

أمَّا الآنسة كيتي بارتليت، فربما لم تكن ستُنكِر أنَّها تُكن إعجابًا صادقًا تجاه هذا الشاب النيويوركي المغرور. وقد وقَع رينمارك في خطأ الاعتقاد أنَّ الآنسة كيتي شابة تافِهة، في حين أنَّها كانت مجرد فتاة لديها مخزون لا يَنضب من المرح والحيوية، كانت تجد لذَّة مستهجنة في إذهال رجلٍ جاد. وحتى ييتس قد ارتكب خطأً طفيفًا في تصوراته عنها في إحدى المرات، حين كانا يَتمشَّيان معًا في نزهة مسائية، بذاك التحرُّر من الوصاية، الذي كان حقًّا أصيلًا منذ الولادة لكلِّ فتاة أمريكية، سواءٌ أكانت تَنتمي إلى بيتٍ ريفيٍّ أم قصر مليونير.

قال ييتس في وصفه للواقعة بعد ذلك لرينمارك (لأنَّ ييتس لم يكن لديه مثقال ذرة من تحفُّظ رفيقه في مثل هذه المسائل):

«لقد تَرَكت مُخططًا لأصابعها الأربعة على خدِّي بدا كأنه خريطة من تلك الخرائط الطوبوغرافية لسويسرا. شعرتُ من قبلُ بضربة خفيفة من مروحة يدوية في يد سيدة راقية من باب التوبيخ، لكنِّي لم أواجه في حياتي توبيخًا لطيفًا بدا كتعنيفٍ حادٍّ من يدِ صديقِنا توم سايرس.»

فقال رينمارك ببعض الحدة إنَّه كان يأمل ألَّا ينسى ييتس أنَّه مجرَّد ضيف لدى جيرانه.

قال ييتس: «أوه، حسنًا. إن كان لديك أي تعاطُف إضافي لتُقدِّمه، فاحتفظ به من أجلي. فجيراني قادرون تمامًا على الاعتناء بأنفسهم، وعلى أُهبة الاستعداد لذلك.»

والآن لنحكي عن ييتس نفسه. قد يظنُّ المرء أنَّ أي راوٍ يسرد الأحداث بضمير، على الأقل، سيجد ذلك مُهمَّة سهلة. ولكن وا أسفاه! هذا بعيدٌ كلَّ البُعد عن الحقيقة. فحالة ييتس كانت الأشد تعقيدًا وتحييرًا بين الأربعة بكل المقاييس. فقد كان يَشعُر بحُبٍّ عميق وصادق تجاه كلتا الفتاتين. والأمثلة على هذه الحالات ليست نادرة جدًّا مثلما قد يُحاول شابٌّ حديث الخِطبة إقناعَ فتاته البريئة بذلك. وقد عُرِفَت حالاتٌ شهدت الاستقرار على هُوية رفيقة عمر الرجل بلقاء عابر مع فتاة دون غيرها. شعر ييتس بأنَّ في كثرة المَشورة حكمة، ولم يُخفِ حيرته عن صديقه. كان يَشتكي أحيانًا من أنَّه لم يحصل على مساعدة كافية لحلِّ المشكلة، لكنَّه عادةً ما كان يَقنَع تمامًا بالجلوس تحت الأشجار مع رينمارك وتقييم المزايا المُختلفة لكل فتاة منهما. كان أحيانًا ما يُناشِد صديقه، بصفته رجلًا ذا عقلية رياضية ويحوز علمًا واسعًا يمتدُّ إلى القطوع المَخروطية والصيغ الجَبرية، أن يُفاضِل بين قائمتَي المزايا ويعطيه رأيًا صريحًا قائمًا على الإحصاءات بشأن هُوية الفتاة التي يَنبغي أن يُفضِّلها عن الأخرى في طلب الزواج. وحين كان رينمارك يُقابل هذه المناشَدات ببرود، كان صديقه يتَّهمُه بعدم التعاطف مع محنته، ويقول إنه رجل بلا رُوح، وإنه لو كان لديه قلب قبل ذلك، فقد اكتسى هذا القلب بقشرة صلبة من فضلات التعليم العالي العديمة الجدوى، ويُقسِم أنَّه لن يبوح له مرة أخرى بسرٍّ من أسراره. كان يقول إنَّه سيبحث عن صديقٍ لديه شيء من الخصال البشرية. ومع ذلك، بدا أنَّ هذا البحث عن الصديق المُتعاطِف كان يبوء بالفشل؛ إذ كان ييتس يعود دائمًا إلى رينمارك ليحظى، على حد قوله، بماء بارد على لهيب غرامه المزدوج.

كانا في عصر يوم جميل في الثلث الأخير من شهر مايو من عام ١٨٦٦، وكان ييتس يتأرجَح مُتراخيًا في أرجوحته الشبكية، عاقدًا يديه معًا تحت رأسه، ومُنهمكًا في تحديق حالم إلى بقع السماء الزرقاء التي كان يراها عبر الأغصان الخضراء للأشجار المُمتدة فوق رأسه، فيما كان صديقه المجتهد منهمكًا بلا أي عاطفة في تقشير البطاطس بالقرب من باب الخيمة.

قال الرجل المُتأرجِح مُتأمِّلًا: «أتعرف يا ريني، قلب الإنسان عضو استثنائي، حين تُفكِّر فيه. أظنك، من واقع قلة اهتمامك به، لم تدرس هذا الموضوع كثيرًا، اللهم إلا من الناحية الفسيولوجية فقط. لكنه حاليًّا في رأيي هو الموضوع الوحيد الذي يستحق كل اهتمام الرجل. ربما كان هذا من تأثير الربيع كما يقول الشاعر، لكنَّه على أيِّ حالٍ يُضيف إليَّ آفاقًا جديدة كل ساعة. والآن، تَوصَّلت إلى هذا الاكتشاف المهم: إنَّ آخرَ مَن أكون معها من الفتاتين تبدو الأحبَّ إلى قلبي. وهذا يَتعارض مع ملاحظة فلاسفة العصور الماضية. فهم يقولون إنَّ الغياب يُؤجِّج الغرام في القلب. لا أرى ذلك. فالحضور هو ما يُلهب عذاب قلبي. والآن، كيف تُفسِّر ذلك يا ستيلي؟»

لم يحاول البروفيسور تفسير ذلك، بل واصل الاهتمام بما في يده من عمل بصمتٍ تام. فسحب ييتس عينَيه من على السماء، وحدَّق بهما إلى البروفيسور، منتظرًا الإجابة التي لم تأتِ.

ثم قال أخيرًا بنبرة متشدِّقة: «سيد رينمارك، أنا على قناعة تامَّة بأنَّك تتعامل مع البطاطس بطريقة خاطئة. فأنا أظن أنَّ البطاطس ينبغي ألَّا تُقشَّر قبل طهيها بيوم، وتترك منقوعةً في الماء البارد حتى غداء الغد. بالطبع يُعجبني الكَدُّ الدءوب الذي يُنهي العمل على ما يُرام قبل أن تُطلَب نتائجه. فلا شيء أشد إزعاجًا من ترك العمل حتى اللحظة الأخيرة ثم إنجازه على عجل. ومع ذلك، قد يُفرِط المرء في الشيء النافع إلى أن يَصير ضارًّا، وقد يُبالِغ في إنجاز عمله قبل الأوان المُناسب.»

«حسنًا، أنا على أتمِّ استعداد لترك العمل لك. لعلك تتذكَّر أنني طوال اليومين السابقين كنت أؤدي مهامك إضافةً إلى مهامي.»

قال المتأرجِح بشهامة ورحابة صدر: «أوه، إنني لا أشكو من هذا إطلاقًا. فأنت بذلك يا ريني تكتسب معرفة عملية ستمنحُكَ نفعًا أكبر من كل العلم الذي يُدرَّس في المدارس. كل ما أريده أن تكون معرفتك كاملة قدر المستطاع، وفي سبيل هذا أنا مُستعدٌّ لتجاهل رغبتي الشديدة في أداء مهمة غسل الأطباق. ينبغي أن أقترح عليك أنَّك، بدلًا من أن تَتكبَّد عناء إزالة قشرة البطاطس كلها بهذه الطريقة الشاقة، ينبغي أن تَكتفيَ فقط بتقشير حزام حول أوسع جزء من محيطها. ثمَّ، بدلًا من أن تطهو البطاطس بالطريقة البطيئة المُملة التي يبدو أنَّها تُمتعك، ينبغي أن تسلقَها سريعًا مع وضع قليل من الملح في الماء. حينئذٍ سيلتوي الجزء المتبقِّي من القشرة وتنبعج إلى الخارج، وتكون حبة البطاطس الناتجة بيضاء وجافة ومليئة بالنشا، وليست أشبه بإسفنجة مبللة.»

«جمال النصيحة يكمن في توضيحها عمليًّا يا ييتس. فإن لم تكن راضيًا عن طريقتي في سلق البطاطس، أعطني درسًا عمليًّا بالأمثلة.»

تنهَّد الرجل المتأرجح تنهيدة موبِّخة.

«بالطبع لا يستطيع رجل عديم الخيال مثلك يا رينمارك أن يُدرك فظاظة اقتراح أن يضطر رجلٌ غارق في الحب حتى أذنَيه مثلي إلى إهانة نفسه بالاهتمام بالتفاصيل المملة للشئون المنزلية. إنني واقع في غرامٍ مزدوَج، بل وأكثر بكثير؛ لذا فاقتراحك فظ ولا داعي له، كما كان ذلك المُمل العجوز إقليدس يقول.»

«حسنًا، إذن؛ فلتكفَّ عن النقد.»

«مُوافق، ثمة قدْر من المعقولية اللطيفة في اقتراحك الفظ. فالرجل الذي لا يَستطيع، أو لا يرغب في، العمل في حقل العنب، يجب ألَّا يَنتقِد مَن يجمعُون ثماره. والآن يا ريني، في المرة المائة التي أسألك فيها، فلتُضِف إلى الأفضال العديدة التي أسديتَها لي بالفعل وتُخبرني، بطيبتك المعهودة، ماذا كنت ستفعل لو كنتَ مكاني. أيًّا من هاتَين الفتاتَين الفاتنتين، والمختلفتين تمامًا، كنت ستفضِّل؟»

فقال الأستاذ بهدوء: «سحقًا!».

صاح ييتس رافعًا رأسه: «أيا ريني! هل جرحت إصبعك؟ كان ينبغي أن أحذرك من استخدام سكين حاد للغاية.»

لكنَّ البروفيسور لم يكن قد جَرح إصبعه. صحيحٌ أنَّ استخدامه الكلمة المذكورة أعلاه فعلٌ لا يُمكِن تبريره، لكنَّها بدَت خالية من أي صلة بالألفاظ النابية إطلاقًا بطريقة تفوُّهه بها. فقد قالَها بهُدوء ورباطة جأش وشيء من البَراءة. وقد دُهش من نفسِه حين تلفَّظ بها، لكنَّ الأيام القليلة الماضية كانت قد شهدت لحظاتٍ لم تكن فيها الألفاظ العادية المستخدمة في الكتب الأكاديمية الرياضية الرفيعة مناسبة للموقف.

وقبل أن تُقال أي كلمة أخرى، سُمعَ صياح من على الطريق القريب إليهم.

صاح الصوت قائلًا: «هل ريتشارد ييتس موجود؟».

فصاح ييتس وهو يثب من الأرجوحة: «نعم. مَن يُريده؟».

فقال المُنادي الذي كان شابًّا يَمتطي حصانًا: «أنا.» ارتمى من فوق ظهر حصانه المنهك، وربطه بشجيرة — مع أن ذلك لم يكن ضروريًّا إطلاقًا، من الحالة التي كان عليها الحصان — وقفز من فوق السياج ذي القضبان، ودنا منهما عبر الأشجار. ورأى الشابَّان فتًى طويل القامة يرتدي زي موظفي خدمة التلغراف قادمًا نحوهما.

«أنا ييتس. ما الخطْب؟»

قال الفتى: «حسنًا، لقد خُضتُ بحثًا شاقًّا جدًّا عنك. هاك برقية إليك.»

«كيف عرفت مكاني بحق السماء؟ لا أحدَ يَعرف عنواني.»

«هذه بالضبط هي المشكلة. كنت ستُوفِّر على شخصٍ ما في نيويورك كومةً من الأموال لو تركت له عنوانك. الواجب ألَّا يذهب أحد إلى الغابة دون أن يَترُك عنوانه في مكتب للتلغراف، على أي حال.» كان الشاب ينظر إلى العالم من منظور موظفي التلغراف. فقد كان الناس يُصنَّفون ما بين جيد وسيِّئ حسب العناء الذي يُكبِّدون ساعي التلغراف إيَّاه. أخذ ييتس المظروف الأصفر، الذي كان معنونًا بقلم رصاص، لكنَّه كرَّر سُؤاله دون أن يفتحه:

«ولكن كيف وجدتني بحق السماء؟»

قال الفتى: «حسنًا، لم يكن الأمر سهلًا. حصاني على وَشكِ الهلاك. أنا من بافالو. وقد أرسلوا برقية من نيويورك بألَّا نألوَ أي نفقات في سبيل إيجادِك، ولم نألُ بالفعل. يوجد سبعة زملاء آخرين يجُوبُون البلاد على ظهور الخيول بنُسخٍ طبق الأصل من هذه البرقية، بل ويوجد زملاء آخرون ذهبوا للبحث عنك على طول شاطئ البحيرة على الجانب الأمريكي.» ثم سأل الشاب بنبرةٍ ممزوجة بشيء من القلق: «بالمناسبة، لم يَصِل إلى هنا أيُّ ساعٍ قَبلي، أليس كذلك؟».

«لا، أنت الأول.»

«أنا سعيد بذلك. لقد طُفتُ كندا كلها تقريبًا. حصلت على طرف أثرك منذ ساعتَين، وقال أهل البيت الريفي الواقع في أسفل البلدة إنَّك في الأعلى هنا. أتودُّ إرسال أي رد؟»

فتح ييتس المظروف مُمزِّقًا إيَّاه. كانت الرسالة طويلة، وكان يقرؤها بعبوس يشتد حدة. كان موجزها كالتالي:

الفينيانيون يَعبُرون إلى كندا من عند بافالو. أنت قريب من موقع الحدث، اذهب إلى هناك بأسرع ما يُمكن. سيغادر خمسة من رجالنا إلى بافالو الليلة. الجنرال أونيل هو قائد الجيش الفينياني. سيمنحك كل التسهيلات حين تُخبرُه بهُويتك. عندما يصل الخمسة، سيكونون تحت إشرافك. ضع منهم واحدًا أو اثنين مع القوات الكندية. واجعل واحدًا يُلازم التلغراف، ويُرسِل كلَّ ما ستحمله أسلاك التلغراف. اعتمد علينا في استرداد كل ما ستحتاج لدفعه من نقود، ولا تألُ أي نفقات.

حين انتهى ييتس من قراءة ذلك، أطلق سيلًا من اللعنات والألفاظ النابية التي أذهلت رينمارك وأثارت إعجابًا مَمزوجًا بالحسد لدى فتى التلغراف القادم من بافالو.

«بحق السماوات والأرض والجحيم! إنني هنا في إجازتي. لن أنتفِضَ للعمل ولو من أجل كل الصحف في نيويورك. لماذا لا يستطيع هؤلاء الفينيانيون الحَمقى أن يلزموا ديارهم؟ الأغبياء لا يفهمون أنهم في نِعمةٍ حين تكون لديهم. فلتحلَّ اللعنة على الفينيانيين!»

فقال فتى التلغراف: «أظن أنَّ هذا ما سوف يصيبهم. أتود إرسال أي رد يا سيدي؟»

«لا. أخبرهم بأنكَ لم تَستطِعِ العثور عليَّ.»

قال البروفيسور متحدثًا لأول مرة: «لا تنتظر من الفَتى أن يكذب.»

فصاح الفتى قائلًا: «أوه، أنا لا أُمانع الكذب! ولكن ليس هذه الكذبة. لا يا سيدي. لقد تكبَّدتُ عناءً شديدًا حتى عثرت عليك. لن أدَّعي كذبًا أنني خائبٌ في عملي. لقد شرعتُ في مهمتي عاقدًا العزم على أن أجدك، وقد وجدتك. لكنِّي سأقول أيَّ كذبة أخرى تريدها يا سيد ييتس، إن كان في ذلك منفعة لك.»

أدرك ييتس في الفتى الرغبة التنافُسية الشديدة في التفوق على زملائه نفسها التي أثَّرت فيه شخصيًّا حين كان مراسلًا صغيرًا، واعترف في الحال بأنَّ من الظلم مُحاوَلة حرمانه من ثمار روح المبادرة والمغامرة.

قال: «لا، هذا غير مقبول. لا، لقد وجدتني بالفعل، وأنت صبي واعد سيُصبح رئيس شركة التلغراف يومًا ما، أو ربما سيتولى منصب رئاسة الولايات المتحدة، وإن كان هذا أقل أهمية. مَن يعرف؟ هل لديك ورقة برقية فارغة؟»

قال الصبيُّ وهو يُخرِج حزمة أوراق من الحافظة الجلدية التي كان يَحملها في جانبه: «بالطبع.» فأخذ ييتس الورقة وارتمى تحت الشجرة.

قال الساعي: «هاك قلم رصاص.»

رَدَّ ييتس وهو يُخرج واحدًا من جيبه الداخلي: «لا تخلو حوزة الصحفي من قلمٍ رصاص، شكرًا لك.» ثم تابع قائلًا: «والآن يا رينمارك، لن أكذب هذه المرة.»

«أعتقد أنَّ الصدق أفضل في كلِّ المواقف.»

«أنت مُحِق. وها أنا سأقول الحقيقة تامَّة مُطلَقة.»

أخذ ييتس يكتب بسرعة على ورقة البرقية الفارغة وهو مُستلقٍ على الأرض. ثمَّ نظرَ فجأةً إلى الأعلى وقال للبروفيسور: «بالمناسبة يا رينمارك، أأنت دكتور؟»

أجاب صديقه قائلًا: «في القانون.»

«أوه، هذا أيضًا سيَفي بالغرض.» وأنهى الكتابة.

ثم صاح وهو يمدُّ الورقة أمامه: «ما رأيكما في هذا؟»

إل إف سبنسر
مدير تحرير صحيفة «أرجوس»، نيويورك

أنا مستلقٍ على ظهري. لم أؤدِّ أي عمل منذ أسبوع. وأخضع لرعاية مستمرَّة ليلًا ونهارًا من أحد أبرز الدكاترة في كندا، حتى إنَّه يُعِدُّ لي طعامي. فمنذ أن غادرت نيويورك، أُصبت بمُضاعَفات بسبب تعبٍ في القلب، وهذا التعب يُحيِّر الدكتور حاليًّا. أَستشيرُه يوميًّا. لذا من المُستحيل أن أنتقل من هنا إلى أن تستجيب هذه المُضاعَفات للعلاج.

سيكون سيُمسُون كفئًا لتولِّي المسئولية في غيابي.

ييتس

ثم قال ييتس بنبرة رضا حين أنهى القراءة: «ما قولُكُما في ذلك؟»

عبس البروفيسور لكنَّه لم يردَّ. وابتسم الفتى، الذي أدرك جزئيًّا أن هذا ليس حقيقيًّا، لكنَّه لم يكن متيقنًا تمامًا، وقال: «أهذا صحيح؟»

صاح ييتس مُستاءً من هذا الشكِّ المجحف: «بالطبع صحيح! إنَّه أصح ممَّا قد تظن. اسأل هذا الدكتور نفسه عمَّا إذا كان هذا صحيحًا أم لا. والآن يا بني، هلَّا تسلِّم هذه حين تعود إلى المكتب؟ فلتُخبرهم أن يُرسلُوها على عَجَل إلى نيويورك. كنت أودُّ أنَّ أكتب عليها «عاجلة»، لكنَّ ذلك لا يُجدي أيَّ نفع ودائمًا ما يُثير غضب عامل التلغراف.»

أخذ الفتى الورقة ووضعها في حافظته.

وتابع ييتس: «سيتكفَّل المرسَل إليه بثمنها.»

أجاب الفتى بشيءٍ من التعالي كما لو كان يَمنحه ائتمانًا نيابة عن شركة التلغراف: «أوه، لا بأس.» وأضاف قائلًا: «حسنًا، وداعًا. آمل أن تتحسَّن قريبًا يا سيد ييتس.»

هبَّ ييتس واقفًا على قدميه ضاحكًا، وتبعه إلى السياج.

«أصغِ إليَّ أيها الفتى، أرى أنك كفءٌ بما فيه الكفاية. ربما سيَسألونك حين تعود. فماذا ستقول؟»

«أوه، سأُخبرهم بمدى صعوبة المهمة التي خضتها كي أجدك، وأعرِّفهم أنَّ أيَّ أحدٍ سواي ما كان ليقدر عليها، وسأقول إنَّك سقيم جدًّا. لن أُخبرهم أنك أعطيتني دولارًا!»

«بالضبط يا بني، سوف تَنجح. هاك خمسة دولارات، ورقة واحدة. وإذا قابلت أيًّا من السعاة الآخرين، أعِدهم معك. فلا جدوى من إضاعة وقتهم الثمين في هذه البلدة الصغيرة.»

دسَّ الفتى الورقة النقدية في جيب صداره بلا مُبالاة كما لو كانت تساوي خمسة سنتات وليس دولارات، وامتطى حصانه المتعَب، ولوَّح بيده مودِّعًا الصحفي. واستدار ييتس وسار ببطء عائدًا إلى الخيمة. ارتمى مرة أخرى في الأرجوحة الشبكية. وكما توقَّع، كان البروفيسور أشد صمتًا من أيِّ وقتٍ مضى، ومع أنَّ ييتس كان مهيئًا لهذا الصمت، فقد انزعج منه. كان يشعر بمرارة القسوة بسبب وجوده مع رفيقٍ غيرِ متعاطف تمامًا كهذا.

«اسمع يا رينمارك؛ لماذا لا تقول شيئًا؟»

«لا شيء يُقال.»

«أوه، نعم، بل يوجد. أنت لا تتقبَّل تصرُّفي، أليس كذلك؟»

«لا أظن أنَّ قبولي أو عدمه سيُحدث أي فارق.»

«أوه، نعم، بل سيُحدِث. فالمرء يحبُّ أن يحظى باستحسانِ حتى أقل الناس شأنًا. أصغِ إليَّ، كم تأخذ من النقود مقابل أن تقبل تصرُّفي؟ يتحدث الناس عن عذاب الضمير، لكنَّك تُسبِّب عذابًا أشدَّ ممَّا يُسببه أيُّ ضمير صارم لدى أي شخص على الإطلاق. يستطيع المرء أن يَتدبَّر شأن ضميره، ولكن حين يواجه ضميرًا مُتجسِّدًا في شخص إنسان آخر، يكون خارج سيطرته. أصغِ إليَّ، الوضع كالتالي: أنا هنا من أجل الهدوء والراحة. وقد حظيت بكليهما، وأظنُّ أنَّ لديَّ ما يبرر …»

«أصغِ إليَّ يا سيد ييتس، أرجوك أن تُعفيَني من أيِّ فلسفة رخيصة بشأن هذه المسألة. لقد سئمت ذلك.»

«وأظنُّك قد سئمتني أيضًا؟»

«حسنًا، نعم، بعض الشيء، إن كنت تريد أن تعرف.»

هَبَّ ييتس ناهضًا من الأرجوحة الشبكية. ولأول مرة منذ شجاره مع بارتليت على الطريق، رأى رينمارك أنَّه يَستشيط غضبًا. كان المراسل الصحفي واقفًا بيدَين مَقبوضتَين وعينَين وامضتَين، وقد بدا عليه شيء من التردُّد. أمَّا الآخر، فكان عاقدًا حاجبَيه الكثيفين، صحيحٌ أنَّه لم يكن في وضعيةٍ عدوانية، لكنَّه كان مُتأهِّبًا بكلِّ وضوح لهجوم من ييتس. قرَّر ييتس في النهاية أن يتحدَّث بلسانه وليس بقبضتَيه. ولم يكن هذا لشعورٍ لديه بالخوف؛ لأنَّه لم يكن جبانًا. لقد أدرك المراسل الصحفي أنَّه هو الذي جرَّ رينمارك إلى المحادثة رغمًا عنه، وتذكَّر أنَّه هو الذي دعاه إلى مرافقته. ومع أنَّ هذه الذكرى كَبَحت يديه، فلم تُؤثِّر إطلاقًا في لسانه.

قال ببطء: «أعتقد أنَّك ستَستفيد من أن تسمع لمرَّة واحدة رأيًا صريحًا مُنصفًا مُحايدًا عن شخصيتك. فمنذ فترة طويلة وأنت لا تتعامَل إلَّا مع طلاب، يعتبرون كلمتك قانونًا؛ لذا قد تكون مُهتمًّا بمعرفة رأي رجلٍ خبير بالحياة وأمور الدنيا فيك. إنَّ بضع سنوات من العمل في مهنة التدريس تكفي لإفساد أكابر الملائكة. والآن، أظنُّ أنه من بين كل اﻟ…»

قُوطعت جملته بصيحة قادمة من عند السياج:

«أيا أيها السيدان، هل تعرفان أين يعيش رجلٌ يُدعى ييتس؟»

سقطت يد المُراسِل الصحفي إلى جانبه. واعتلت وجهه نظرةُ فزع، وتغيَّر سلوكه العدواني المشاكس بسرعةٍ مفاجئة جدًّا إلى حدِّ أنها انتزعت ابتسامةً من شفتَي رينمارك الصارمتَين المزمومتَين.

تراجع ييتس إلى الأرجوحة الشبكية كمَن تلقَّى ضربة مباغتة.

قال في حسرة: «أصغِ إليَّ يا ريني، إنَّه ساعٍ آخرُ من سُعاة التلغراف المَلاعين. فلتتكرم بالذهاب إليه وتُوقِّع على تسلُّم البرقية. وقِّع بعبارة: «د. رينمارك نيابة عن آر ييتس.» سيُضفي ذلك عليها مظهر تقرير طبي رسمي. ليت هذه الفكرة خطرت ببالي حين كان الفتى الآخر هنا. أخبره بأنَّني راقد.» ثم ارتمى في الأرجوحة الشبكية، وسار رينمارك، بعد لحظة من التردُّد، نحو الفتى الواقف عند السياج، الذي كان قد كرَّر سؤاله بصوتٍ أعلى. وسرعان ما عاد حاملًا المظروف الأصفر، الذي ألقاه إلى الرجل المستلقي في الأرجوحة الشبكية. فأخذه ييتس بعُنف، ومزَّقه إلى العديد من القِطع، ونثر القطع التي سقطت متطايرة من حوله على الأرض. فيما ظلَّ البروفيسور واقفًا هناك لبضع لحظات في صمت.

وأخيرًا قال: «ربما سيكون كرمًا بالغًا منك أن تُواصِل ملاحظاتك.»

رَدَّ ييتس قائلًا بضجر: «كلُّ ما كنت سأقوله أنَّك رجل ممتاز يا ريني. دائمًا ما تنشب مشادات بين مَن يُخيِّمون معًا. هذه هي مشادتنا الأولى، وأظنُّنا سنجعلها الأخيرة. في رأيي أن التخييم في العراء أشبه بالحياة الزوجية، ويتطلَّب بعض الصبر والتسامح من الطرفَين. ربما تكون هذه الفلسفة رخيصة، لكنِّي أظنها دقيقة. إنني قلق جدًّا حقًّا بشأن هذا الأمر المتعلق بالصحيفة. صحيح أنَّني يَجب أن أُلقيَ بنفسي في الشق العميق كذلك الرجل الروماني، ولكن سُحقًا! فأنا أرمي بنفسي في الشقوق العميقة منذ خمسة عشر عامًا، وما الفائدة التي جنيتها من ذلك؟ دائمًا ما توجد أزمة طارئة في أي مكتب من مكاتب الصحف اليومية. وأريدهم أن يفهموا في مكتب «أرجوس» أنني في إجازتي.»

«الأرجح أنَّهم سيَفهمُون من البرقية أنَّك على فراش الموت.»

ضحك ييتس. ثم قال: «هذا صحيح، ولكن كما تَرى يا ريني، نحن سُكان نيويورك نعيش في هذا الجو من المبالغة الشديدة، ولو لم أَصُغِ الرسالة بهذه القوة، فلن تُحدِث أي تأثير. يجب أن تُعطيَ رجلًا يتعاطى السُّم طوال حياته جرعةً كبيرة. لن يُصدِّقوا تسعين في المائة من أيِّ كلام أقوله على أيِّ حال؛ لذا، فكما ترى، يجب أنَّ أبالغ بقوة قبل أن تُؤتي العشرة في المائة المتبقية أيَّ نتيجة.»

قُوطعت المحادثة بطقطقة الأغصان الجافة خلفهما، فاستدار ييتس الذي كان يراقب السياج بقلق. كان بارتليت الصغير يشقُّ طريقه نحوهما عبر الشجيرات السفلية الصغيرة. كان وجهه أحمر، وبدا جليًّا أنَّه كان يركض.

قال لاهثًا: «برقيتان لك يا سيد ييتس. قال الرجلان اللذان أحضراهما إنهما مُهمتان؛ لذا ركضت بنفسي بهما إلى هنا، خوفًا من ألَّا يجداك. إحداهما من بورت كولبورن، والأخرى من بافالو.»

كانت البرقيات نادرة في الريف، وكان بارتليت الصغير يَعتبر تَسلُّم واحدة حدَثًا مُهمًّا في حياة المرء. لذا دُهِش بشدة حين رأى ييتس يتلقَّى هذا الحدث المزدوَج بفتور، ولم يَستطِع منعَ نفسه من تَصوُّر أنَّ ييتس تظاهر بهذا الفتور لمجرد أن يُبهِره. أمسكهما ييتس ولم يمزقهما في الحال مراعاةً لمشاعر الشاب، الذي جاء راكضًا ليسلِّمهما إليه.

«هاك دفترين أرادا منكَ التوقيعَ عليهما. لقد كانا مُنهكَين تمامًا، وأعطتهما أمي شيئًا ليأكلاه.»

قال ييتس: «ستُوقِّع نيابةً عني أيها البروفيسور، أليس كذلك؟».

تلكَّأ بارتليت للحظةٍ على أمل أن يسمع شيئًا من محتوى الرسالتين المهمتين، لكنَّ ييتس لم يفتح المظروفين حتى، وإن شكر الشاب بحرارة لإحضارهما.

تمتمَ بارتليت الصغير لنفسه وهو يحشر الدفترين الموقَّعين في جيبه ويشقُّ طريقه عبر الشُّجيرات السفلية الصغيرة مرة أخرى قائلًا: «عنيد مُتغطرِس!». مزَّق ييتس المظروفين ومحتواهما ببطء ونظام إلى قطع صغيرة، ونثرهما حوله كسابقهما.

قال: «بدأت الأجواء تبدو خريفية بهذه الأوراق الصفراء المتناثرة على الأرض.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤