الفصل التاسع عشر

كانت حصيلةُ ضحايا المعركة أشبه في الواقع بحصيلة ضحايا حادث قطار أمريكي من الدرجة الأولى. فقد قُتِل ضابط وخمسة مجندين من صفوف القوات الكندية، وفُقِد رجل، وأُصيب الكثيرون. أمَّا عدد قتلى الفينيانيين، فلن يُعرَف أبدًا على الأرجح. فقد دُفن العديد منهم في ساحة المعركة، فيما استطاع أفراد لواء الجنرال أونيل استعادة جثث آخرين في أثناء تقهقرهم.

ومع أنَّ نهاية المعركة جاءت كما توقَّعها ييتس، فإنه كان مُخطئًا في تقديره لقوة الكنديين. فدائمًا ما يستخفُّ ذوو الخبرة في الشئون العسكرية بالمتطوعين. فقد قاتل الفتية ببسالة، حتى حين رأوا حامل رايتهم يخرُّ صريعًا أمامهم. ولو كان لهم مُطلق الحرية في اتخاذ القرار في المعركة، لربما اختلفت النتيجة، مثلما تبيَّن لاحقًا حين استطاع المتطوعون، عند تحرُّرهم من عوائق المشاركة مع الجنود النظاميين، إخماد انتفاضة أقوى بكثير في الشمال الغربي بسرعة كبيرة. لكنَّ تحرُّكاتهم في الوضع الحالي كانت مُعاقة باعتمادهم على القوات البريطانية، التي كان قائدها يُحرِّكها ببُطء شديد كأنَّه في حرب حقيقية نظامية، وكان يزحف بها نحو الجنرال أونيل كما لو كان يزحف نحو نابليون. وهكذا كان يصل متأخرًا في كل مرة؛ إذ لم يبلغ المعركة التي نشبت عند قرية ريدجواي إلَّا بعد فوات الأوان، وكذلك فات أوان أسرِ أيِّ عدد كبير من فلول الفينيانيين الهاربة في فورت إيري. صحيحٌ أنَّ الجانب الكندي خطَّط للحملة العسكرية بإتقان لكنَّ التنفيذ كان سيئًا جدًّا. فقد كان مُقررًا أنَّ يَلتقي المتطوعون والجنود النظاميون عند نقطة قريبة من موقع المعركة، لكنَّ القائد البريطاني تحرَّك متأخرًا ساعتين، ولم يُدرك الكولونيل الكندي ذلك إلَّا بعد فوات الأوان. ثم بلغت هذه الأخطاء الفادحة ذروتها بخطأ شنيع في ساحة القتال. فقد أمر الكولونيل الكندي رجاله بالهجوم عبر حقل مفتوح والانقضاض على قوات الفينيانيين في الغابة، في خطوة ذكية وحمقاء في آنٍ واحد. استجاب المتطوعون للأمر ببسالة، لكنَّ الآلهة تقف عاجزة أمام الغباء. فقد صُدِم المتطوِّعون عند وصولهم إلى الحقل حين أُمِروا بتشكيل مربع وملاقاة جنود سلاح الفرسان. فحتى تلاميذ المدارس كانوا يعرفون استحالة وجود جنود فرسان لدى الفينيانيين.

وبعدما شكَّل الكنديون مربعهم، وجدوا أنفسهم لقمة سائغة للفينيانيين في الغابة. ولو كانت قوات أونيل قد أطلقَت النيران بدقة معقولة، لكانت مزَّقت المتطوعين إربًا بكل تأكيد. كان المتطوعون منتصرين بالفعل آنذاك لو أنَّهم فقط قد أدركوا حقيقة انتصارهم ذاك، لكنَّ الذعر سيطر عليهم في هذا المربع اليائس، وجعل كلَّ رجل منشغلًا بالنجاة بنفسه؛ وفي الوقت ذاته، كان الفينيانيون يتقهقرون أيضًا بأقصى سرعة مُمكنة. تُعرَف هذه المهزلة باسم معركة ريدجواي، وكان من الممكن أن تكون كوميدية لولا أنَّ الموت كان يحوم حولها. وكانت الكوميديا قد جُسِّدت، من دون تراجيديا، قبل ذلك بيومٍ أو اثنين في مناوشة غير دموية وقعت بالقُرب من قرية صغيرة تُسمَّى واترلو، وقد عُظِّم هذا الاشتباك في سجلات التاريخ الكندية؛ لأنَّه صار يحمل اسم معركة واترلو الشهيرة.

شاهد رينمارك القتال مفعمًا بالقلق العاجز الذي قد يشعر به أي مَن يشاهد معركة دون المشاركة فيها، وصحيح أنَّه شارك المقاتلين الكنديين إحساسهم بالخطر، لكنَّه لم يكن قادرًا على التأثير في النتيجة النهائية، وحين تقهقروا، حاول أن يتبعهم باتخاذ منعطف جانبي واسع ليتفادى الطلقات العابرة التي كانت لا تزال تَتطاير. كان متوقِّعًا أنَّه سيلقى المتطوعين على الطريق، لكنه لم ينجح. فقد وقع في عدة حسابات خاطئة أعجزته عن العثور عليهم إلى أن اقترب حلول المساء. وحين وجدهم، أخبروه في البداية بأنَّ هوارد الصغير كان مع الكتيبة ولم يُصَب بأيِّ أذًى، ولكن سرعان ما كشف مزيد من التحري أنَّه لم يُرَ منذ المعركة. لم يكن بين القتلى أو الجرحى، وحلَّ الظلام قبل أن يُدرك رينمارك أنَّ كلمة «مفقود» المشئومة قد وُضِعَت أمام اسم الفتى في قائمة المتطوعين. تذكَّر رينمارك أنَّ الفتى قال إنَّه سيزور بيته لو حصل على إجازة، ولكن لم تُطلَب أي إجازات. وأخيرًا، اقتنع رينمارك بأنَّ هوارد الصغير إمَّا أُصيب بجروح بالغة أو مات. ولم يَخطر ببال البروفيسور للحظة أن يكون هوارد قد فرَّ من الجُندية، مع أنَّه اعترف لنفسه بصعوبة تحديد مدى الذعر الذي قد ينتاب فتًى حين يرى الرصاص يتطاير من حوله للمرة الأولى في حياته.

استدار رينمارك بقلب مفطور واتَّجه إلى حقل التهلكة. لم يجد أيَّ قتيل أو جريح من القوات الكندية. ثم توجَّه إلى الغابة فوجد عدة جثث مستلقية حيث خرَّت، لكنها كلها كانت جثث غرباء. فحتى في الظلام الحالك، لم يَجد رينمارك صعوبة في تمييز زيِّ المتطوعين الموحَّد الذي كان يعرفه جيدًا. سار نحو مسكن آل هوارد راجيًا أن يسمع صوت الفتى، وإن كان رجاءً ممزوجًا بالخوف من أن يسمع صوت الفتى الهارب من الجندية. كان الصمت المطبِق يُخيِّم على محيط المنزل، مع أنَّ ضوءًا داخله كان ساطعًا عبر نافذة علوية وعبر نافذة سُفلية أيضًا. توقف عند البوابة وهو لا يَدري ماذا عساه يفعل. كان واضحًا أنَّ الفتى لم يكن هناك، لكنَّ رينمارك ظل مُتحيِّرًا حيال إيجاد طريقة يلتقي بها الأب أو الأخ دون أن يُزعِج مارجريت أو أمها. وبينما كان واقفًا هناك، فُتِح الباب وأبصر السيدة بارتليت ومارجريت واقفتين في الضوء. فابتعد عن البوابة وسمع المرأة العجوز تقول:

«أوه، ستكون بخير في الصباح بعدما خلدتِ الآن إلى نوم هانئ. من الأفضل ألَّا تزعجي نومها الليلة. كل ما في الأمر أنَّها مصابة بتوتر وذعر من إطلاق النيران الرهيب. وقد انتهى كل شيء تمامًا الآن، حمدًا للرب. تصبحين على خير يا مارجريت.»

خرجت المرأة الطيبة من البوابة، ثم هرولت نحو بيتها بسرعة فتاة في السادسة عشرة. ووقفت مارجريت في المدخل تُنصت إلى تلك الخطى المتقهقرة. كانت شاحبةً وقَلِقة، لكن رينمارك كان يرى أنَّه لم يرَ أحدًا بهذا الجمال من قبل، وذُهِل حين شعر برغبة شديدة، لا تمتُّ بصلة للأساتذة الجامعيين، في أن يحتضنها بين ذراعيه ويُواسيها. لكنَّه كان يخشى أن يسوقه القدر إلى تأجيج قلقها بدلًا من مواساتها، ولم تُواتِهِ الجرأة على التحدث إلَّا حين رآها تَهمُّ بإغلاق الباب.

قال: «مارجريت.»

لم تسمع الفتاة اسمها يُنطَق بتلك النبرة من قبل، ودخلت رقةُ نبرته إلى قلبها مباشرة؛ إذ أصابتها بفزعٍ ممزوج ببهجة مجهولة. بدت عاجزة عن الحركة أو الرد، وظلَّت واقفة في مكانها فاغرة عينيها وحابسة أنفاسها ومُحدقة في الظلام. تقدَّم رينمارك إلى الجزء المُضاء، ورأت وجهه منهكًا من شدة التعب والقلق.

قال مرة أخرى: «مارجريت، أريد أن أحادثِك لحظة. أين أخوكِ؟»

«لقد خرج مع السيد بارتليت ليريا إن كان بإمكانهما العثور على الخيول.» ثم أضافَت وهي تنزل إلى جواره: «ثمَّة خطبٌ ما. أرى ذلك في قسمات وجهك. ما الأمر؟»

«هل أبوكِ في البيت؟»

«نعم. لكنَّه منشغل بأمي. قُل لي ما المشكلة. من الأفضل أن تُخبرني.»

تردَّد رينمارك.

فصاحت الفتاة بصوت خفيض لكنه حاد قائلة: «لا تَترُكني مترقبة هكذا. ينبغي أن تخبرني بكل شيء وإلَّا كنت لتصمت من البداية. هل أصاب هنري أي مكروه؟»

«لا. بل أردت الحديث عن آرثر. لن تَنزعجي، أليس كذلك؟»

«أنا منزعجة بالفعل. أخبرني بسرعة.» ومن فرط انفعالها، وضعت الفتاة يديها على يديه في توسُّل.

«لقد انضم آرثر إلى المتطوعين في تورنتو منذ فترة. هل كنتِ تعلمين ذلك؟»

«لم يُخبرني قَط. لقد فهمت، أو هكذا أظن، وإن كنتُ أرجو ألَّا يكون ظني صحيحًا. لقد شارك في المعركة اليوم. هل أصابه مكروه؟»

قال رينمارك على عَجَل بعدما اتضحت الحقيقة: «لا أعرف. أخشى ذلك»، وأدرك حين شدَّدت الفتاة قبضتها اللاواعية على يديه من شدة توتُّرها أنَّه ذكر الحقيقة بأسلوب أخرق جدًّا. «كان مع المتطوعين صباح اليوم. لكنه ليس معهم الآن. ولا يعرفون مكانه. لم يره أحدٌ مصابًا، لكن ثمة خوف من أن يكون قد أُصيب وتُرِك في ساحة المعركة. لقد بحثت عنه في كل شبرٍ من المنطقة.»

«حسنًا، ثم ماذا؟»

«لكنِّي لم أجده. فجئت على أمل العثور عليه هنا.»

قالت وهي تَنتحِب: «خذني إلى حيث كان المتطوعون. أعرف ما حدث. تعالَ بسرعة.»

«ألن تضعي شيئًا على رأسك؟»

«لا لا. تعالَ حالًا.» ثم سكتت هنيهة وقالت بعدها: «هل سنحتاج إلى مشكاة؟»

«لا؛ فالمنطقة مضيئة بدرجة كافية حين نَخرُج من ظلِّ البيت.»

ركضت مارجريت على الطريق بسرعة شديدة إلى حدِّ أنَّ رينمارك تَكبَّد بعض العناء ليُواكب وتيرتها. ثم انعطفت إلى الطريق الجانبي، وسارت بسرعة على المنحدر الصاعد ذي الميل الطفيف إلى النقطة التي عبر منها المتطوِّعون الطريق.

قال رينمارك: «ها هو المكان.»

فصاحت لاهثة: «من المستحيل أن يكون قد أُصيب في الحقل؛ لأنَّه حينئذٍ كان من الممكن أن يصل إلى البيت الواقع على مقربة منه دون أن يُضطر إلى تسلُّق سياج. وإذا أُصيب بجرح بالغ، فمن المفترض أن يكون هنا. هل بحثت في هذا الحقل؟»

«كل شبر منه. ليس موجودًا هنا.»

«إذن فمن المؤكَّد أنَّ الإصابة وقعت بعدما عبر الطريق والسياج الثاني. هل رأيت المعركة؟»

«نعم.»

«هل عبر الفينيانيون الحقل وراء المتطوعين؟»

«كلا، لم يبرحوا الغابة.»

قالت الفتاة باعتزاز وثقة في بسالة أخيها: «إذن، لو كان قد أُصيب، فلا يُمكن أن تكون الإصابة قد وقعت بعيدًا عن الجانب الآخر من السياج الثاني. لقد كان آخر المُتقهقِرين؛ لذا لم يرَه الآخَرُون.»

عبرا السياج الأول ثم الطريق ثم السياج الثاني، وكانت الفتاة تسير متقدمة بضع خطوات عن البروفيسور. توقَّفت واتَّكأت لحظة على إحدى الأشجار. ثمَّ قالت بصوتٍ يكاد يكون غير مسموع: «من المؤكَّد أنَّ الإصابة وقعت بالقرب من هنا. هل بحثت في هذا الجانب؟»

«نعم، بحثت لمسافة نصف ميل في الحقول والغابة.»

«لا لا، ليس هناك، بل بمُحاذاة السياج. لقد كان يعرف كل شبر من هذه المنطقة. ولو كان أُصيب هنا، لكان سيُحاول الوصول إلى بيتنا فورًا. ابحث بمحاذاة السياج. لا … لا أستطيع الذهاب معك.»

سار رينمارك بمحاذاة السياج، محدِّقًا إلى الزوايا المظلمة التي شكَّلتها تعرُّجات السياج ذي العوارض الأفقية، وكان يعلم دون النظر وراءه أنَّ مارجريت كانت تتبعه بتناقض المرأة المُعتاد مع ذاتها. وفجأة اندفعت متجاوزة إيَّاه، وألقت نفسها وسط العشب الطويل مطلقة صرخة مُنتحبة جَرحت قلب رينمارك كسكين حاد.

كان الفتى مستلقيًا على بطنه ووجهه منكبًّا على العشب، وكانت يده الممدودة قابضة على العارضة السُّفلى من السياج. بدا أنَّه قد جرَّ نفسه إلى هذا الحد ووصَل إلى عقبة لا تُقهَر.

سحب رينمارك الفتاة الباكية بعيدًا برفق، ومرَّر يده سريعًا على جسد الفتى المنبطح. ثم سرعان ما فتح أزرار سترته العسكرية، وقد سَرَت في جسده رِعشةُ فرحٍ حين شعر بنبضات خافتة في قلب الفتى.

صاح قائلًا: «إنه حي! سيُصبِح بخير يا مارجريت.» مع أنَّ تقرير ذلك بناءً على فحص سريع جدًّا كهذا كان سابقًا لأوانه بعض الشيء.

قام وهو ينتظر نظرة امتنان من الفتاة التي أحبَّها. لكنه دُهِش حين رأى عينَيها ساطعتين في الظلام وهما تتَّقدان غضبًا.

«متى علمت أنَّه انضمَّ إلى المتطوعين؟»

أجاب البروفيسور مذهولًا: «صباح اليوم … باكرًا.»

«لماذا لم تخبرني؟»

«طلب منَّي ألَّا أفعل ذلك.»

«إنَّه مجرد فتًى صغير. في حين أنَّك رجل، ومن المفترض أنَّك تتحلَّى بصواب رجل راشد. لم يكن من حقك أن تلتفت لكلامِ صبيٍّ أغر. كان من حقِّي أن أعرف، وكان من واجبك أن تخبرني. ولكن بسبب إهمالك وغبائك، ظل أخي ممدَّدًا هنا طوال النهار …» ثم أضافت بانكسار في نبرتها الغاضبة: «وهو يحتضر على الأرجح.»

«لو أنَّك تعرفين الحقيقة … لم أكن أعرف بوجود أي مشكلة حتى التقيتُ المُتطوعين. ولم أُضيِّع ثانية منذ ذلك الحين.»

«كان ينبغي أن أعرف أنَّه مفقود، دون الذهاب إلى المتطوعين.»

ذُهِل رينمارك بشدة من هذا الاتهام الظالم من فتاةٍ كان يتوهم أنَّها ليست متقلِّبة المزاج، حتى إنه عجز عن الرد. ومع ذلك، كان على موعدٍ مع مثال آخر على التناقض مع الذات.

إذ سألته قائلة: «لماذا تقف هناك هكذا دون أن تفعل شيئًا وها أنا قد وجدته؟».

كان على طرف لسانه أن يقول: «أقف هنا لأنك تقفين هناك تتشاجَرين معي دون وجه حق»، لكنَّه لم يقل ذلك. لم يكن رينمارك رجلًا سريع التصرُّف، لكنَّه فعل الصواب في هذا الموقف للمرة الأولى في حياته.

قال بصرامة: «مارجريت، اطرحي هذا السياج أرضًا.»

أطاعت الفتاة هذا الأمر المقتضَب الذي قيل بلهجة صارمة من فورها. صحيحٌ أنَّ مهمةً كهذه قد تبدو صعبة على فتاة، لكنَّها تُنجَز بسهولة في بعض مناطق أمريكا. فالسياج ذو العوارض الأفقية يكون مُهيَّأً للهدم بسهولة. أسقطت مارجريت عارضة من اليمين وعارضة من اليسار ثم عارضة أخرى من اليمين حتى حلَّ مكان هذا الجزء من السياج فجوةٌ مفتوحة. وفي هذه الأثناء، كان البروفيسور يتفحص الجندي الشاب ووجد ساقَه مكسورة بسبب رصاصة بندقية اخترقتها. رفعه برفق بين ذراعَيه، وابتهج حين سمع تأوُّهًا يَتفلَّت من بين شفتيه. سار عبر الفجوة المفتوحة في السياج وعلى طول الطريق في اتجاه البيت، حاملًا جسد تلميذِه الفاقد الوعي. لازمت مارجريت جواره في صمت، وظلَّت تداعب خصلات شعر أخيها الرطبة المموَّجة بين الحين والآخر بلا وعي منها.

قالت: «علينا أنَّ نُحضِر طبيبًا؟» كان تساؤلًا وتأكيدًا في الوقت نفسه.

«بالطبع.»

«يجب ألَّا نُزعج أحدًا في البيت. لذا من الأفضل أن أُخبِرَك الآن بما يجب فعله، كي لا نحتاج إلى التحدث حين نصل إلى هناك.»

«لا يُمكن أن نتَفادى إزعاج أحد.»

«لا أظننا سنُضطر إلى ذلك. إذا بقيتَ مع آرثر، فسأذهب إلى الطبيب، وبذلك لن يكون هناك داعٍ لأن يعرف أحد بالأمر.»

«سأذهب أنا لإحضار الطبيب.»

«أنت لا تعرف الطريق. إنها مسافة لا تقلُّ عن خمسة أو ستة أميال. سأمتطي جيبسي وسأعود سريعًا.»

«لكنَّ الطرق مليئة بالمجرمين المتربصين وفلول الفينيانيين الشاردين. ليس من الآمن أن تَذهبي وحدك.»

«بل آمن تمامًا. فلا يستطيع أي حصان سرَقَه المُتسكِّعُون أن يتفوق على جيبسي. والآن، لا تقل أي شيء آخر. من الأفضل أن أذهب. سوف أسبقك ركضًا وأدخل البيت خلسة. ثم سآخذ المشكاة إلى الغرفة الجانبية التي تُفتَح فيها النافذة على الأرض مباشرة. احمله إلى هناك. سأنتظرك عند البوابة وأريك الطريق.»

وبذلك رحلت الفتاة وحمل رينمارك عبئه وحده. كانت تَنتظرُه عند البوابة وقادته في صمت حول البيت إلى النافذة البابية التي كانت مُطِلة على المرج الأخضر الواقع تحت شجرة تفاح. تدفَّق الضوء منها إلى الخارج على العشب. وضع الصبيَّ برفق على السرير الصغير الجميل. وعرف رينمارك من النظرة الأولى هوية صاحب هذه الغرفة. فكانت مزيَّنة بتلك الحُليِّ والدُّمى الصغيرة الجميلة التي تحبُّ الفتيات اقتناءها في غرفهن الصغيرة الخاصة.

همست قائلة: «من المستبعَد أن يزعجك أحد هنا إلى أن أعود. سأنقر على النافذة حين آتي مع الطبيب.»

«ألا تظنِّي أنَّ الأفضل والآمن أن أذهب أنا؟ لا أُحبِّذ فكرة ذهابك وحدك.»

«لا لا. رجاءً فلتفعل ما أقوله لك فقط. إنَّك لا تعرف الطريق. سأكون أسرع بكثير. وإذا … إذا … استفاق آرثر، فسيعرفك ولن ينزعج كما قد ينزعج لو كنت غريبًا.»

ذهبت مارجريت قبل أن يستطيع قول أي شيء آخر، وجلس رينمارك راجيًا من أعماق قلبه ألا يطرق أحد باب الغرفة أثناء وجوده هناك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤