الفصل الثالث

سأل ضابط الجمارك القوي البنيان ذو الوجه المحمرِّ بعض الشيء عند المعبر الحُدودي في مدينة فورت إيري: «ما كل هذه المُعدات؟»

قال ييتس: «هذه خيمة، مع أعمدة وأوتاد تخصُّ الشيء المذكور سلفًا. وهذا عددٌ من عبوات التبغ، التي سأُضطرُّ بالتأكيد إلى دفع رسومٍ عليها إلى خزانة جلالة الملكة. وتلك جرَّة لحمل السوائل. وأستأذنك أن ألفتَ انتباهك إلى حقيقة أنَّها فارغة حاليًّا، ما يَمنعُني مع الأسف من سكب بعض الخمر قُربانًا للصُّحبة الكريمة. أمَّا بخصوص ما يحمله صديقي في هذه الحقيبة، فلا أعرف، لكني أشك أنَّها بعض مُعدات لعب القمار، وأنصحك بتفتيشِه.»

قال البروفيسور فاتحًا قبضته: «معظم مُحتويات حقيبتي كتبٌ وبعض الملابس.»

نظر ضابط الجمارك بارتياب إلى مجموعة المُعدات كلها، وكان واضحًا أنَّه لم يَستحسِن لهجة الأمريكي. فقد بدا أنَّه يعامل إدارة الجمارك باستخفاف ولا مبالاة، وكان الضابط شديد التقديس لكرامة منصبه إلى حدٍّ أعجزه عن كبحِ استيائه من التهكُّم عليه. وفَوق ذلك، كانت ثمة شائعات عن غزوٍ فينياني وشيك، وقرَّر الضابط أنه يَنبغي ألَّا يَدخل أي فينياني البلاد دون أن يَدفع الرسوم الجمركية.

«إلى أين أنتَ ذاهب بهذه الخيمة؟»

«أنا واثق من أنَّني لا أعرف. ربما تستطيع أنت أن تخبرنا. لا أعرف البلد هنا. أصغِ إليَّ يا ستيلي، أنا ذاهب إلى الجزء الشمالي من البلدة لأتدبَّر أمر فراغ تلك الجرة الحَجرية. فأنا نفسي أكون فارغًا في كثير من الأحيان إلى حدٍّ يَجعلُني أتعاطَف مع حالتها. ولتَنخرِط أنت في مناقشة مسألة الخيمة. فأنت تَعرف طرائق أهل هذا البلد، بينما أنا لا أعرفها.»

وربما أحسنَ ييتس صُنعًا بأنْ ترك زمام التفاوض في يد صديقِه. فقد كان سريع البديهة كفايةً ليرى أنَّه لم يُحرِز تقدمًا في تفاوضه مع الضابط، بل العكس تمامًا. فوضع الجرَّة على كتفِه في تباهٍ واستعراض ما تسبَّب في إزعاج واضح للبروفيسور، وسار إلى أعلى التلَّة صوب أقرب حانة، مُصفِّرًا لحنًا حربيًّا راج مؤخرًا.

قال للنادِلِ وهو يضع الجرة برفقٍ على مِنْضدة الحانة: «أنتَ، املأ هذه حتى فُوَّهَتِها بأفخر ما لديك من ويسكي الجاودار. املأها بعصير الحياة كما قال الشاعر الراحل عُمَر الخيام.»

فعَلَ النادلُ ما طلبه منه.

«هل تَستطيع أن تُموِّه القليل من ذاك السائل بأيِّ طريقة، كي يَتسنَّى شُربه دون أن يشكَّ شخص في ماهية ما يتجرَّعُه؟»

ابتسم النادل قائلًا: «إلى أيِّ مدًى قد يُلبِّي مزجُه مع مشروبات أخرى ذلك الغرض؟»

أجاب ييتس قائلًا: «لا أستطيع اقتراح شيءٍ أفضل من ذلك. إن كنتَ واثقًا من أنك تعرف كيفية صنعه.»

لم يَمتعِض الرجل من هذا الاتهام بالجهل. واكتفى بالردِّ بنبرة شخص يَنطِق بإجابةٍ لا تَقبل الجدل، قائلًا:

«أنا من كنتاكي.»

صاح ييتس باقتِضابٍ بينما يمدُّ يدَه عبر المِنْضدة: «فلتُصافِحني! ماذا جاء بك إلى هنا؟»

«حسنًا، وقعت في مأزق صغير في لويسفيل، وها أنا هنا، حيثُ أستطيع على الأقل أن أنظر إلى بلد الرب المُختار.»

احتجَّ ييتس قائلًا: «مهلًا! أنت تُعِدُّ قدحًا واحدًا فقط من المزيج.»

أجاب الرجل وقد توقَّف عن تركيب الشراب: «ألم تَقُل واحدًا؟»

«فليباركك الرب، لم أرَ في حياتي أحدًا يُعِد قدحًا واحدًا من الكوكتيل. وأظنُّك تتَّفق معي في هذا.»

رَدَّ الآخر وهو يُعِدُّ ما يَكفي لشخصَين: «أتَّفِق معك تمامًا.»

أسرَّ ييتس إلى الآخر قائلًا: «الآن سأُخبرُك بمأزقي. لديَّ خيمة وبعض مُعدات التخييم بالأسفل هنا في كوخ الجمارك، وأريد نقلها إلى الغابة، حيث أستطيع التخييم برفقة صديق. أريد مكانًا نستطيع أن نحظى فيه براحةٍ مُطلقة وهدوء تام. هل تعرف شعاب البلد هنا؟ ربما تستطيع أن تُرشِّح لنا مكانًا مناسبًا.»

«حسنًا، طوال الوقت الذي أمضيتُه هنا، لم أعرف سوى أقل القليل عن المناطق النائية من البلاد. لقد سرت على الطريق المؤدِّي إلى شلالات نياجرا، لكنِّي لم أتوغَّل في أعماق الغابة قط. أظنُّك تريد مكانًا بجوار البحيرة أو النهر؟»

«كلا، لا أريد. بل أريد أن أتوغَّل في أعماق الغابة، إن كانت تُوجَد غابة.»

«حسنًا، يوجد اليوم رجل هنا أتى من مكانٍ ما بالقرب من ريدجواي، على ما أظن. معه عربةٌ خشبية شبَكية لحمل التبن، وتلك بالضبط هي ما تَحتاج إليه لحمل خيمتك وأعمدتك. صحيح أنها لن تَمنحَكُما رحلةً مريحة للغاية على مَتنِها، لكنَّها ستكون مناسِبة تمامًا لحمل الخيمة، إذا كانت كبيرة.»

«ستُناسبُنا تمامًا. لا نَكترث إطلاقًا بالراحة. بل أتينا من أجل المشقة. أين سأَجد ذلك الرجل؟»

«سيكون هنا قريبًا. ها هما حصاناه مربوطان هناك عند الشارع الجانِبي. إذا تصادَف أنَّه في مزاج جيد، فسيَنقُل أغراضك، بل ومن المرجَّح أن يَمنحك مكانًا لتُخيِّم فيه في الغابة القريبة من بيتِه. اسمه هيرام بارتليت. وها هو ذا، كأننا كنا نتحدَّث عن الشيطان نفسه. أيا سيد بارتليت، كان هذا السيد يتساءل عمَّا إذا كان بوسعك أن تَحمل بعض أغراضِه. إنه ذاهب في طريقك.»

كان بارتليت نموذجًا فظًّا نحيلًا صلبَ العضلات بعض الشيء للمُزارع الكندي الذي بدا واضحًا أنه لم يكن يُعير مسألة الملبس اهتمامًا كبيرًا. لم يَقُل شيئًا، لكنَّه نظر إلى ييتس باكفهِرار واستخفاف، ونظراتٍ تَحمل قدرًا من الازدراء والريبة.

كان ييتس يَملك وصفةً واحدة لإقامة تَعارُف مع البشر كلِّهم. قال بابتهاج: «تعالَ يا سيد بارتليت وجرِّب مزيجًا من هذَين المزيجين المُمتازين اللذَين أعدَّهما صديقي.»

صاح بارتليت مُزمجرًا بفظاظة، مع أنَّه دخل الحانة بالفعل عبر بابها الذي كان مفتوحًا: «أشرب الويسكي صافيًا. لا أريد إضافات أمريكية في شرابي. الويسكي العادي جيد كفاية لأيِّ رجل، إن كان رجلًا حقًّا. ولا أشربه ممزوجًا بالماء أيضًا. لديَّ ما يكفي من المشكلات.»

غمز النادل بعينه لييتس بينما كان يدفع إناء الويسكي نحو الوافد الجديد.

فصدَّق ييتس على كلامه بحرارة قائلًا: «أنت مُحق.»

لم يَذُب جمود المزارع قِيد أنملة بذلك التصديق السريع على كلامه، لكنَّه ارتشف من كأسِه مُتجهِّمًا، كأنَّه يَحوي دواءً كريهًا للغاية.

ثم قال أخيرًا: «ما الذي أردتَ منِّي نقلَه؟».

«صديق وخيمة، وجَرَّة من الويسكي، والكثير من التبغ الفاخِر للغاية.»

«كم ستدفع؟»

«أوه، لا أعرف. أنا مُستعد دائمًا لفعل الصواب. ما رأيك في خمسة دولارات؟»

عَبَس المُزارع وهزَّ رأسه.

قال بينما كان ييتس على وشكِ أن يَعرض المزيد: «هذا أكثر من اللازم. لا يَستحقُّ الأمر كل هذا. قد يكون دولاران ونصف هو السعر المناسِب. لا أعرف، لكن هذا أكثر من اللازم. سأفكِّر في ذلك أثناء عَودتي إلى المنزل، وسآخُذ منك الثمن المُستحَق. سأكون جاهزًا للمغادَرة في غضون ساعة تقريبًا، إن كان ذلك يُناسبك. ها هما حصاناي على الجانب الآخر من الطريق. إذا وجدتهما قد رحَلا حين تعود، فهذا يَعني أني أيضًا قد رحلت، وسيتعيَّن عليك الاستِعانة بشخص آخر.»

ثم سحب بارتليت كُمَّ معطفِه على فمِه وغادر.

قال النادل: «هذا هو بالضبط. إنَّه أشرسُ شخصٍ نَزِق في البلدة. أصغِ إليَّ، دعْني أسدي إليك نصيحةً بسيطة. إذ طُرِح موضوع عام ١٨١٢ — أي الحرب كما تَعلم — فمن الأفضل أن تُقرَّ بأننا هُزمنا هزيمةً نكراء؛ هذا إن كنت تُريد الانسجام مع هيرام. فهو يَكره الأمريكيِّين كراهيةَ السُّم.»

سأله ييتس الذي كان أدرى بالموضوعات الحالية من تاريخ الماضي: «وهل هُزمنا هزيمة نَكراء في عام ١٨١٢؟».

«لا أعرف. هيرام يقول ذلك. أخبرته ذات مرةٍ بأنَّنا أخذنا ما أردناه من إنجلترا القديمة، فكاد يُجرجرُني نحوه من فوق مِنْضدة الحانة. لذا أُعطيك هذا التحذير، إن أردتَ الانسجام معه.»

«شكرًا لك. سأتذكَّر ذلك. إلى اللقاء.»

تُعطي هذه الملاحظة الودودة التي ذكرها نادلُ الحانة مِفتاحًا لحلِّ لغز نجاح ييتس في العمل الصحفي في نيويورك. فقد كان يَستطيع معرفةَ الأخبار حين لا يَقدِر أيُّ رجل آخر على ذلك. وبقدْر ما كان صفيقًا وسطحيًّا بلا شك، لكنَّه كان يَستطيع بطريقةٍ ما أن يدخل أعماق كل صنوف الرجال وينال ثقتهم بطريقةٍ جعلتهم يُعطونه معلومات عن أي شيء يَحدُث لمجرَّد أنهم يُحبُّونه، وهكذا كثيرًا ما نال ييتس مساعدةً قيِّمة من معارفه لم يستطِع المُراسلُون الآخرون نيلها بالمال.

وجد النيويوركي صديقه البروفيسور جالسًا على دكَّةٍ بجوار إدارة الجمارك، يَتسامَر مع الضابط ويُحدِّق إلى النهر الأزرق العريض السريع الجريان أمامهما.

قال ييتس: «لديَّ رَجُل، سيأخُذُنا إلى البرية في غضون ساعة تقريبًا. أعتقد أننا سنَستكشِف البلدة. لا أظن أنَّ أحدًا سيَهرب بالخيمة ريثما نعود.»

قال الضابط: «سأتولَّى ذلك الأمر.» فشكَرَه الصديقان وراحا يَتمشَّيان بخطواتٍ متمهِّلة في الشارع. تأخَّرا قليلًا في العودة، وحين وصَلا إلى الحانة، وجدا بارتليت على وشكِ العودة بالعربة إلى بيتِه. وافَقَ بفظاظةٍ على أخذِهما في طريقِه، شريطةَ ألَّا يُؤخِّراه أكثر من خمس دقائق في تحميل العربة بمُعداتهما. وُضِعَت الخيمة ومتعلِّقاتها بسرعة على عربة التِّبن، ثم قاد بارتليت العرَبة إلى الحانة وانتظر دون أن يقول شيئًا، مع أنَّه كان مُتعجِّلًا قبل بضع لحظات. لم يَرغب ييتس في سؤاله عن سبب الانتظار؛ لذا جلس الثلاثة هناك في صمتٍ تامٍّ. وبعد بعض الوقت، سأله ييتس بكلِّ ما لديه من لُطف:

«هل تَنتظِر أحدًا يا سيد بارتليت؟»

أجاب السائق بنبرة فظَّة غليظة: «نعم، أنتظر أن تدخل وتُحضر هذه الجَرة. فلا أظن أنك ملأتها لتتركها على مِنْضدة الحانة.»

صاح ييتس وهو يهبُّ واقفًا: «يا إلهي! لقد نسيتُها تمامًا، ما يُبيِّن التأثير الاستثنائي الذي تركه هذا البلد عليَّ بالفعل.» عَبَس البروفيسور، لكن ييتس خرج من الحانة مُبتهجًا وهو حاملًا الجَرة في يده، وانطلق بارتليت بحصانَيه. خرجوا من القرية وصعدوا تلَّة مُنخفِضة، سائرين حوالي ميل أو اثنين عبر طريق مُستقيم رمليٍّ بعض الشيء. ثم انعطفُوا إلى طريق ريدج رود، كما أسماه بارتليت ردًّا على سؤال من البروفيسور، ولم يكن ثمة داعٍ إلى السؤال عن سبب تسميتِه بذاك الاسم. فقد كان طريقًا رئيسيًّا جيدًا، لكنه كان صخريًّا بعض الشيء، حتى إنَّ بعض أجزاء سطحه كانت صخرية تمامًا. لم يكن الطريق يَعترِف إطلاقًا بتعريف إقليدس للخط المستقيم، وكان ذلك تغييرًا مُستحسَنًا بعض الشيء عن الطرق الأمريكية العادية. أحيانًا كانوا يَمرُّون عبر طُرُقٍ محاطة بأشجار كثيفة الغُصون كان من الواضح أنَّها آثارٌ باقية من الغابة التي كانت تُغطِّي المنطقة كلها في الماضي. وكان الطريق ممتدًّا على طول قمة سلسلة التلال الصخرية الناتئة، وكثيرًا ما يَرون على كلا جانبَيه مناظر شاسعة خلَّابة لمناطق ريفية منخفضة. وعلى طول الطريق، كانت تقعُ بيوتٌ ريفية مُريحة، وبدا جليًّا أنَّ مجتمعًا مُزدهرًا قد تنامى على طول التلال.

لم يتكلَّم بارتليت سوى مرةٍ واحِدة، وكان حديثه موجهًا للبروفيسور الذي كان جالسًا بجواره.

«أأنت كندي؟»

«نعم.»

«ومن أين هو؟»

أجاب البروفيسور البريء قائلًا: «صديقي من نيويورك.»

نَخَر بارتليت بعبوسٍ أشدَّ من أي وقت مضى، قائلًا: «أف!» ثم عاد إلى صمته مجددًا. لم يكن الحصانان يسيران بسرعةٍ كبيرة، مع أنَّ الحمولة لم تكن ثقيلة والطريق لم يكن مُزدحمًا. كان بارتليت يُتمتم لنفسه كثيرًا، وبين الحين والآخر يهوي بسوطه بوحشية على أحد الحصانين أو الآخر، ولكن حالما كان الحيوانان التعيسان يُسرعان من وتيرتيهما، كان يشد لجامهما إلى الوراء بقسوة. ومع ذلك، كانوا يسيرون بسرعةٍ كافية ليتجاوزوا شابَّة كانت تمشي وحدها. ومع أنها سمعتهم بالتأكيد وهُم يقتربون منها على الطريق الصخري، لم تَلتفت، بل كانت تسير بخُطًى طليقة وثَّابة يخطوها امرؤ ليس معتادًا السير فحسب، بل يحبه أيضًا. لم يكترث بارتليت بالفتاة، فيما كان البروفيسور يحاول جاهدًا أن يقرأ كتابه الرقيق بمشقَّةٍ كبيرة كتلك التي قد يواجهها أي رجل يحاول القراءة وهو يتعرض لهزَّات قوية متكرِّرة، لكنَّ ييتس، حالما أدرك أنَّ تلك السائرة كانت شابة صغيرة، رفع ياقته وعدل رابطة عنقه بعناية، وجعل قبعته في وضعيةٍ أكثر أناقة وجاذبية بعض الشيء.

قال لبارتليت: «ألن تَعرض على الفتاة توصيلها؟»

«نعم، لن أعرض.»

فأضاف ييتس ناسيًا التحذير الذي تلقَّاه من النادل: «أظن ذلك تصرفًا غيرَ مهذب بعض الشيء.»

«أتظن ذلك حقًّا، هاه؟ حسنًا، فلتعرض عليها أنت توصيلها. فأنت قد استأجرت الحصانين.»

قال ييتس، واضعًا يده على قفص العربة من الخارج وقافزًا على الأرض بخفة: «بحق الرب! سأفعل.»

قال بارتليت للبروفيسور مزمجرًا: «من المرجح أنها ستُوافِق على الركوب مع واحد مثله.»

نظر البروفيسور لحظةً إلى ييتس الذي كان يَرفع قبَّعته بتأدُّبٍ للشابَّة التي بدت مشدوهة، لكنه لم يقل شيئًا.

أضاف بارتليت جامعًا أربطة لجام الحصانين في يديه: «مُستعدٌّ ألَّا آخذ أي مالٍ نظير أن أضرب الحصانين بالسوط وأتركه يكمل بقية الطريق على قدميه.»

رَد البروفيسور ببطء قائلًا: «من واقعِ ما أعرفُه عن صديقي، أظنه لن يمانع ذلك إطلاقًا.»

تمتم بارتليت بشيءٍ ما لنفسِه، وبدا أنَّه غيَّر رأيه بشأن الركض بحصانَيه.

وفي هذه الأثناء، كما قيل سلَفًا، خلع ييتس قبعته بتأدُّب كبير للسائرة الشقراء، وبينما كان يفعل ذلك، لاحَظَ بقشعريرة إعجاب سرت في جسده أنَّها جميلة جدًّا. فطالَما كان ييتس ذا عينٍ متمرِّسة في ملاحظة الجمال.

استهلَّ الكلام معها قائلًا: «صحيح أنَّ مَركَبتنا ربما لا تكون مريحة، لكني سأسعَد جدًّا إذا قبلتِ ضيافتها.»

نظرت إليه الشابة نظرةً خاطفة بعينيها الداكنتَين، وخشيَ ييتس للحظةٍ أن يكون قد استخدم ألفاظًا أرقى من استيعابها الريفي البسيط، ولكن قبل أن يُعدِّل عبارته، أجابت بإيجاز:

«شكرًا لك. أُفضِّل المشْي.»

«حسنًا، لا أستطيع القول إنني ألومك على ذلك. هل لي أن أسألك عمَّا إذا كنتِ قد قطعتِ كل هذا الطريق من القرية؟»

«نعم.»

«تلك مسافة طويلة، ولا شكَّ أنك مُتعَبة جدًّا.» لم تَرُدَّ الفتاة؛ لذا واصَل ييتس كلامه قائلًا: «أو على الأقل ظننتُها مسافة طويلة، لكنَّ ذلك ربما لأنَّني كنت راكبًا على متن عربة بارتليت لنقل التبن. لا يوجد «سرير مُريح ناعم» في عربته.»

وبينما كان يتحدث عن العربة، نَظَر إليها ثم مشى بخُطوات واسعة إلى جوارها وقال بصوت هامس مبحوح للبروفيسور:

«ستيلي، غطِّ هذه الجرَّة بأحد ستارَي الخيمة القماشيَّين.»

رَد الآخر باقتضاب: «غطِّها بنفسك. إنها ليسَت جَرتي.»

مَدَّ ييتس يده عبر العربة، وبحركة عابرة كأنَّه غير قاصِد، ألقى بستار الخيمة القماشي فوق الجرة التي كانت واضحةً للغاية. وليُبرر حركته، أخذ عصا سيره من على العرَبة، واستدار نحو الفتاة التي عرفها منذ لحظات. كان سعيدًا برؤيتها تسير متلكِّأة خلف العربة بمسافةٍ ما، وسرعان ما انضمَّ إليها مجددًا. أسرعت الفتاة، التي كانت تنظر إلى الأمام مباشَرة، وتيرةَ مشيتِها آنذاك وسرعان ما قصَّرت المسافة بينها وبين العربة. قرَّر ييتس، بسرعةِ بديهتِه المميزة له، أنَّ هذه إحدى حالات استحياء أهل الريف، وأنَّ أفضل وسيلة لمواجهتها هو النزول بحديثه إلى مستوى ذكاء المُستمعة.

سألها: «أكنتِ في السوق؟».

«نعم.»

«من أجل الزبد والبيض وما شابه؟»

أجابت قائلة: «نحن مزارعون، ونبيع الزبد والبيض» — ثم صمتَت — «وما شابه.»

ضحك ييتس ضحكته المرحة المُبتهجة. وبينما كان يلفُّ عصاه، نظر إلى رفيقته الحسناء. كانت تحدق بقلقٍ إلى الأمام نحو مُنعطفٍ في الطريق. وكان وجهها الجميل مُتورِّدًا قليلًا، بسبب مجهود المشْي بالتأكيد.

فأضاف النيويوركي: «والآن أصغي إليَّ، في بلدي، نُقدِّس نساءنا. الفتيات الجميلات لا يقطعن مسافاتٍ طويلة شاقَّة على أقدامهنَّ إلى السوق بالزبد والبيض.»

«أليست الفتيات جميلات في بلدكَ؟»

قال ييتس في قرارة ذهنه إنَّ تلك الفتاة ليسَت ريفية الطباع إلى الحد الذي ظنه في البداية. كانت المحادثة تتسم بطابعٍ من اللذوعة المُمتعة نالَ استحسانه. لكنه لم يكن مُتيقنًا ممَّا إذا كانت الفتاة تشاطره متعته أم لا؛ إذ لاحَظ خطًّا طفيفًا من الاستياء على جبينها الناعم.

«إنهن جميلات بالطبع! أظن أنَّ كل الفتيات الأمريكيات جميلات. يبدو أنَّ ذلك حق يكتسبنه منذ الولادة. وحين أقول الأمريكيات، فأنا أقصد فتيات القارة كلها بالطبع. أنا شخصيًّا من الولايات المتحدة، من نيويورك.» ولفَّ عصاه لفةً أخرى وهو يقول ذلك، وتصرَّف بذلك السلوك المتعالي المتعمد الذي لا يتجزَّأ من طبيعة مواطني المدن الكبرى. «ولكن في الولايات المتحدة، نؤمن بأنَّ الرجال ينبغي أن يؤدُّوا العمل كله، وأنَّ النساء ينبغي أن … حسنًا، يستمتعن بإنفاق الأموال. ويجب أن أُوفِّيَ نساءنا حقهن بالقول إنَّهن يلتزمن التزامًا تامًّا بنصيبهنَّ من تلك القسمة.»

«إذن لا بد أنها بلد مُمتع للنساء ليَعشن فيه.»

«كلهن يقُلن ذلك. لقد اعتدنا لدينا قولًا مأثورًا مفاده أنَّ أمريكا كانت جنة للنساء، ومَطهرًا من الآثام للرجال، و… حسنًا، مكانًا مُختلفًا تمامًا للثيران.»

لم يكن ثمَّة شكٌّ في أنَّ ييتس عادةً ما كان يَنسجِم مع الناس. وبينما كان ينظر إلى رفيقته، ابتهج حين لاحظ طيفًا طفيفًا للغاية من الابتسامة يُداعِب شفتَيها. وقبل أن تستطيع الرد عليه، إن كانت تعتزم الرد أصلًا، سُمِع صوت قعقعة حوافر سريعة على الطريق الوعر أمامهما، وبعدها مباشرةً جاءت عربةٌ فخمة ذات حصانَين، كانت أسلاك عجلاتها الرفيعة المصقولة السوداء كالفحم تلمع وتتلألأ في ضوء الشمس، مُسرعة متخطيةً عربة بارتليت. وحين رأى سائق تلك العربة المسرعة الاثنين يتمشَّيان معًا، شدَّ اللجام متوقفًا وقفةً مفاجئة كان من الواضِح أنَّها لم تَسرَّ حصانيه الجامحَين المرقطَين.

صاح قائلًا: «مرحبًا مارجريت! هل تأخَّرت عليكِ؟ هل قطعتِ الطريق كله سيرًا؟»

أجابت الفتاة دون أن تنظر نحو ييتس، الذي وقف يلفُّ عصاه بلا هدف: «بل جئتَ في الوقت المناسب تمامًا.» وضعت الفتاة الشابة قدمها على دواسة الارتقاء إلى العربة ووثبت بخفةٍ إلى جوار السائق. كان جليًّا من النظرة الأولى أنَّ ذلك السائق كان شقيقَها، ليس فقط بسبب التشابه الأسري بينهما، بل أيضًا لأنه تركها تركب العربة دون أن يعرض عليها أدنى مساعدة، والتي لم يكن ثمة حاجة إليها في الواقع، ولأنه سمح لها بُلطف بأن تضع طرف المعطف الواقي من الغبار الذي كان يغطي ركبتيه على حجرها كذلك. هرول الحصانان المُتململان خببًا على الطريق لبضع قصبات، حتى وصلا إلى مكان واسع من الطريق العام، ثم دارا فجأة في الاتجاه المعاكس، وبدا أنهما كادا يقلبان العربة، لكنَّ الشاب بدا على درايةٍ تامة بعمله، وثبَّتهما بقبضة متينة. كانت عربة الشاب تسير ببطءٍ حيث كان الطريق ضيقًا جدًّا، فيما توقف بارتليت بحصانيه في بلادة في منتصَف الطريق أمامها.

صاح الشاب الذي يقود العربة: «أيا بارتليت! الزم أحد جانبي الطريق، كما تعرف؛ أحد جانبي الطريق.»

صاح بارتليت من فوق كتفه: «اصبر.»

«دعك من هذا الهراء يا بارتليت، أفسح الطريق وإلَّا سأصدمك.»

«فلتجرِّب ذلك إذن.»

إمَّا أنَّ بارتليت لم يكن لديه حسٌّ فكاهي، أو أنَّ استياءه من جاره الشاب خنق ذلك الحس داخله، وإلا كان سيُدرك أنَّ عربةً ثقيلة كعربته لم تكن مهدَّدة تمامًا بأن تصدمها عربة خفيفة غالية كعربة الشاب. كظم الشاب غضبه على نحوٍ رائع، لكنه كان يعلم تمامًا أين يلمس الوتر الحساس لدى الرجل العجوز. وضعت أخته يدها على ذراعه بأسلوب استعطافي. فابتسم دون أن يلتفت إليها.

«دعك من هذا الهراء، أفسح الطريق وإلَّا سأبلغ عنك الشرطة.»

صاح بارتليت غاضبًا: «الشرطة! فلتُجرِّب ذلك إذن أيها المخادع.»

«ظننتك قد اكتفيت من ذلك الآن.»

اعترضت الفتاة بضيقٍ شديد قائلة: «إياك، إياك يا هنري!».

صاح بارتليت: «لا قانون في الدنيا يستطيع أن يجعل رجلًا ذا حمولة يُفسح الطريق لأي سبب.»

«ليس معك أي حمولة، إلَّا إذا كانت في هذه الجَرة.»

وهنا ذُعِر ييتس عندما رأى أنَّ الجرةَ قد اهتزَّت حتى خرجت من تحت غطائها، لكنَّ عزاءه هو أنَّ راكبَي العربة كانا يَعتقِدان أنها تخص بارتليت. ومع ذلك، رأى أنَّ إصرار بارتليت العنيد على منعهما من شيء لا يفيده قد جاوز المدى. فخطا بسُرعةٍ إلى الأمام، وقال لبارليت:

«من الأفضل أن تَتنحَّى جانبًا قليلًا، وتتركهما يمُرَّان.»

صاح المزارع الغاضب للغاية: «ابقَ في حالك، ولا تتدخَّل.»

قال ييتس باقتضاب وهو يُهروِل نحو رأسَي الحصانَين: «سأفعل.» ثمَّ شدَّهما من لجاميهما، وبالرغم من السِّباب الذي تفوَّه به بارليت في تلك الأثناء ومحاولته شدَّ أربطة اللجامَين، فقد سحبهما ييتس جانبًا حتى مرَّت العربة.

صاح الشاب قائلًا: «شكرًا لك!» وانطلقت العربة الخفيفة المتلألئة على طريق ريدج رود وسرعان ما اختفت عن الأنظار.

ظلَّ بارتليت متوقفًا هناك للحظة مُجسِّدًا الغضب المتحير. ثم رمى زمام اللجامين على ظهرَيْ حصانَيه الصبورين، وترجَّل من العربة.

«أَشددتَ حصانيَّ من رأسيهما أيها الأمريكي التافه؟ أفعلت ذلك حقًّا، هاه؟ تُعجبُني وقاحتك. تلمس حصانيَّ وأنا أمسك بزمامهما! اسمعني الآن! ستُنزِل متعلقاتك من عربتي حالًا هنا على الطريق. أتسمعني؟»

«أي شخص في نطاق ميل من هنا يَستطيع سماعك.»

«حقًّا؟ حسنًا، ستُنزل خيمتك المزعجة من على متن عربتي.»

«كلا، لن تنزل.»

«لن تنزل حقًّا؟ حسنًا، عليك إذن أن تَهزمني في نزال أولًا، وهذا شيء لم يفعله من قبلُ أيُّ أمريكي، ولا يقدر عليه أيُّ أمريكي.»

«سأفعل ذلك بكل سرور.»

صاح البروفيسور وهو يترجَّل من العربة على الطريق: «لا، لا، دَعكما من هذا، لقد جاوَز الأمر المدى. ابقَ هادئًا يا ييتس. أصغِ إليَّ يا سيد بارتليت، لا تكترث بذلك؛ فهو لا يقصد التقليل منك.»

قال بارتليت: «لا تتدخَّل. فأنت شخص جيد، وليس لديَّ أيُّ مشكلة معك. لكني سأُبرح ذلك الشاب ضربًا حتى يُوشك على الموت، وسترى بنفسك. لقد واجهناهم في عام ١٨١٢، وضربناهم وسحقناهم، ونستطيع فعل ذلك مجددًا. سأعلِّمك عاقبة أن تَشُد حصانيَّ من رأسيهما.»

قال ييتس مُستفزًّا إياه: «فلتُعلِّمني.»

وقبل أن يستطيع الدفاع عن نفسه كما ينبغي، انقضَّ بارتليت عليه وقبض عليه من حول خصره. صحيح أنَّ ييتس نفسه كان لديه قدْر من مهارات المصارعة، لكنَّ مهارته لم تنفعه بشيء في ذلك النزال. فقد التفَّت ساق بارتليت اليُمنى حول ساقه اليمنى بقبضةٍ فولاذية سرعان ما أقنعت الرجل الأصغر سنًّا بأنه يَجب أن يَرضخ لها وإلَّا ستَنكسر إحدى عظامه. لذا رضخ لها، فطُرِح أرضًا على ظهره بصوت ارتطامٍ بدا كأنه زلزل الكون.

صاح المزارع المنتصر: «أرأيت أيها اللعين! هذا ما حدث لكم في عام ١٨١٢ ومعركة كوينزتاون هايتس. ما رأيك؟»

نهض ييتس على قدمَيه بشيء من التأنِّي، وخلع معطفه.

فقال البروفيسور مُهدِّئًا إياه: «على رسْلك يا ييتس. فلنكتفِ بهذا القدر.» ثم سأله بلهفة حين لاحظ مدى شحوب الشاب من حول شفتيه: «لم تُصَب بأذًى، أليس كذلك؟»

«أصغِ إليَّ يا رينمارك؛ أنت رجل رشيد. يُوجد وقتٌ يجوز لك فيه أن تتدخل ووقت لا يَجُوز فيه ذلك. والآن هو الوقت الذي لا يجوز لك فيه ذلك. يبدو أنَّ هذا الشجار قد اكتسب بُعدًا دوليًّا. والآن، فلتقِف جانبًا كرجلٍ طيب؛ لأنني لا أريد أن أُضطرَّ إلى سحقِكُما معًا.»

وقف البروفيسور جانبًا؛ لأنه كان يعي أنَّ الوضع يكون جِدَّ خَطرٍ حين يُناديه ييتس باسم عائلته.

«والآن، أيها الأحمق العجوز، لعلك ترغب في تجربة ذلك مرة أخرى.»

«أستطيع تكرار ذلك عشرات المرات، إذا لم تكن قد اكتفَيت. لا يوجد أي أمريكي تربَّى على فطيرة اليقطين يستطيع الصمود أمام حركة شجرة العنب.»

«فلتجرِّب شجرة العنب مرة أخرى.»

تقدَّم بارتليت بمَزيد من الحذر هذه المرة؛ لأنَّه لاحظ في عيني الشاب نظرةً لم تعجبه تمامًا. اتخذ وضعية التأهُّب لإمساك خصمه من أي جزء في جسده، وظل يتحرَّك بحذر في نصف دائرة حول ييتس، الذي ظلَّ يغير وضعيته ليبقى مواجهًا لخصمه. وأخيرًا، قفز بارتليت إلى الأمام فوجد نفسه في اللحظة التالية مباشرة راقدًا على جزء من صخرة أصلية من صخور المنطقة، شاعرًا بأنَّ ألف طائر طنان تَطنُّ في رأسه، فيما انضمت النجوم إلى المنظر الطبيعي من حوله متراقصةً معه. فقد كانت الضربة مُباغتة ودقيقة ومباشرة.

قال ييتس وهو يقف فوقه: «هذا ما حدث في عام ١٧٧٦ — أي الثورة — حين، بحسب عبارتك، واجهناكم وقاتلناكم وسحقناكم. فما رأيك في ذلك؟ والآن، إذا كانت نصيحتي تحمل أيَّ نفعٍ لك، فأنصحك بأن ترى التاريخ من منظورٍ أوسع من ذاك الذي تراه منه. لا تُبالغ في حصر نفسك في فترة زمنية واحدة. ادرُس قليلًا من تاريخ الحرب الثورية.»

لم يردَّ بارتليت. وبعدما ظل جالسًا هناك لبعض الوقت، حتى استعاد المنظر من حوله حالته الطبيعية، نهض على مهلٍ دون أن يتفوه بكلمة واحدة. أخذ الزمام من على ظهري الحصانين، وربَّت على الحصان الأقرب برفق. ثمَّ ركب في مكانه، وانطلق بالعربة. اتخذ البروفيسور مقعده بجوار السائق، لكنَّ ييتس، بعدما ارتدى معطفه والتقط عصاه، سار أمامهما بخُطًى واسعة، قاطعًا رءوس النباتات الشائكة الكندية بعصاه في أثناء سيره.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤