الفصل السابع

كان ييتس ينوي المرور بمنزل آل بارتليت ومرافقة رينمارك للعودة إلى الغابة، ولكن حين خرج، نسي وجود البروفيسور، وتجوَّل هائمًا بعض الشيء عبر الطريق الجانبي، ضاربًا بعصاه على الأعشاب التي دائمًا ما تنمو بغزارة على طول المصارف الواقعة على جانبَي أي طريق ريفي كندي. كان النهار مُشمسًا ودافئًا، وبينما كان ييتس يتجوَّل في اتجاه الغابة، راودته أفكار كثيرة. كان قبل مجيئه يخشى أن يجد الحياة شديدةَ الملل بعيدًا عن نيويورك، من دون أن يستطيع تسلية نفسه ولو بجريدة صباحية، التي كانت قراءتها باهتياجٍ وانفعال قد صارت أشبه بعادةٍ سيئة لديه، كالتدخين. كان يتخيَّل أنه لا يستطيع العيش دون جريدته الصباحية، لكنه أدرك في تلك اللحظة أنها ليست بهذه الأهمية الشديدة في حياته كما كان يظن، غير أنه تنهَّد حين تذكرها، وتمنَّى لو كانت لديه واحدة بتاريخ اليوم. فقد كان يستطيع في تلك اللحظة، لأول مرة منذ سنوات عديدة، أن يقرأ جريدة دون ذلك الخوف الغامض الذي دائمًا ما كان يُهيمِن عليه حين يَهمُّ بأخذ إحدى صُحُف المعارضة وهي ما زالت رطبة من مكبس الطباعة. فقبل أن يتمكَّن من الاستمتاع بقراءتها، كان من عادته أن يتفحصها بعينيه سريعًا ليعرف ما إذا كانت تحوي أي خبر قد فاته في اليوم السابق. فقد كان شعور الصحفي بأنَّه على وشك أن يَخسر «سبقًا صحفيًّا» دائمًا ما يؤرق باله ويظل سَيفًا مُسلَّطًا على رأسه كسيفِ ديموقليس الذي كثيرًا ما يستشهد به. فمع أنَّ متعة التفوق على الصحف المعارضة هائلة، فإنها لا تُخفِّف أبدًا من حدَّة ألمِ أيِّ انهزام أمامها. فلو وقعت كارثة مروِّعة، ونشرت صحيفة أخرى تفاصيلَ أكثرَ استيفاء ممَّا نشرته صحيفة «أرجوس»، يجد ييتس نفسه يكاد يتمنَّى ألا تكون هذه الحادثة قد وقعت، مع أنه يدرك أنَّ أمنية كهذه غير مهنية تمامًا.

وقد تجسَّدت فكرة ريتشارد عمَّا يَنبغي أن يكون عليه المُراسِل الحق في رجلٍ عجوز بائس عاطل، كان يعمل لدى صحيفة صباحية، انتحر منذ فترة قريبة في ساعة متأخرة من اليوم كي يُفوِّت على الصحف المسائية نشر خبر انتحاره المثير. وكان قبل انتحاره قد أرسل إلى الصحيفة التي كان يعمل لديها تقريرًا وافيًا عن وفاته بعنوان رئيسي وعنوان فرعي دقيقين، وذكر في رسالته إلى رئيس تحرير الصحيفة سبب اختياره الساعة السابعة مساء لتكون وقت رحيله عن عالَمٍ لا يُقدره حق قدره.

قال ييتس لنفسه هامسًا ومستجمعًا رباطة جأشه فجأة: «آه حسنًا، يجب ألَّا أفكر في نيويورك إن كنت أعتزم البقاء هنا أسبوعين. أعرف أنني سأَشتاق للمدينة مبكرًا جدًّا، ثم سأهرُب إليها بأقصى سرعة. لن يكون هذا مقبولًا تمامًا. فالجو هنا ساحر؛ إنه يَملأ الإنسان بحياة جديدة. هذا هو المكان المناسب لي، وسألزمه إلى أن أَستعيدَ عافيَتي. تبًّا لنيويورك! ولكن يجب ألَّا أفكر في برودواي وإلَّا سأهلَك.»

وصل إلى بُقعة في الطريق استطاع أن يرى منها الجانب الأبيض من الخيمة تحت الأشجار الداكنة، وتسلَّق السياجَ ذا القضبان، وظل هناك بضع لحظات. كان صوت أحد طيور السمَّان الصادر على فترات متقطِّعة من حقل مجاور هو الصوت الوحيد الذي كان يكسر السكون المطبق. كانت رائحة الربيع الدافئة مُنتشرة في الأجواء. وكانت البراعم قد برزت من غلاف سباتها الشتوي مؤخرًا، وكانت الأشجار، بلونها الأخضر الكثيف، تبدو ذات حداثة ونضارة تُريحان النظر وتُبهجان الحواس الأخرى. بدا العالم آنذاك كأنه لم يُخلق إلَّا حديثًا. أخذ الشاب نفسًا عميقًا من الهواء المنعش، وقال: «كلا، لا مشكلة إطلاقًا في هذا المكان يا ديك. نيويورك مكان سخيف بالنسبة إليه.» ثم أضاف متنهدًا: «سأرى إن كان بإمكاني تحمُّله أسبوعين. أتساءل كيف يتدبر الأولاد شئونهم من دوني.»

واصلت أفكاره وخواطره الانجراف إلى المدينة الكبرى رغمًا عنه، مع أنَّه قال لنفسه إن ذلك ليس بالأمر المقبول. حدَّق إلى المنظر الطبيعي الهادئ المترامي الأطراف لكن عينَيه كانتا خاويتَين من أي تعبير، ولم يكن يرى شيئًا. كان صخب الشوارع يملأ أذنيه. وفجأة استفاق من تفكيره الحالم على صوتٍ قادم من الغابة.

«أيا ييتس، أين الخبز؟»

نظر ييتس حوله سريعًا، مجفلًا بعض الشيء، ورأى البروفيسور يتَّجه نحوه.

«الخبز؟ لقد نسيته تمامًا. كلا، لم أنسَه. كانوا لا يزالون يخبزونه، هذا كل ما في الأمر. سأذهب لإحضاره في وقتٍ لاحق من اليوم. ما الغنيمة التي غنمتها يا بروفيسور؟»

«معظمها خضراوات.»

«جيد. هل حظيت بغداء طيب؟»

«بل ممتاز.»

«وأنا أيضًا. ريني، حين قاطعتني، كنت أُحصي عدد البيوت الريفية البادية في الأفق. ما رأيك في أن نتناول وجباتنا فيها تباعًا كأجرٍ لنا؟ أنت مدرِّس، ولا بدَّ أنك تعرف كل شيء عن ذلك. ألا يشجعون التعليم في هذا البلد بدفع أقل أجر مُمكن للمُدرِّس، والسماح له بتقاضيه بتناول الطعام مجانًا في البيوت بالتناوب؟ هل حصلت على أجرك طعامًا مجانيًّا في البيوت من قبلُ يا ريني؟»

«إطلاقًا. لو أن هذه العادة كانت موجودة في كندا قديمًا، فقد عفا عليها الزمن الآن.»

«هذا مؤسف. فأنا أكره أن أواجه طهيي يا ريني. فنحن نُصبحُ أقل جرأة مع تقدمنا في السن. بالمناسبة، كيف حال بارتليت العجوز؟ أكان على أحسن ما يُتوقَّع في ظروفه هذه؟»

«بدا كعادته تمامًا. لقد أرسلت السيدة بارتليت كرسيَّين إلى الخيمة؛ إذ تخشى أن نُصاب بالروماتيزم إن جلسنا على الأرض.»

«إنها امرأة لطيفة يا ريني، وتراعي الآخرين. وهذا يذكَّرني بأن لديَّ أرجوحة شبكية في مكانٍ ما بين متعلِّقاتي. سأعلقها. صحيح أنَّ الكراسي مريحة، لكن الأرجوحة الشبكية ضربٌ من الترف والرفاهية.»

نزل ييتس تدريجيًّا بسلاسة من أعلى السياج، وسار الرجلان معًا إلى الخيمة. بُسطَت الأرجوحة الشبكية وعُلِّقت متدلية بين شجرتَين. اختبرها ييتس بحذر، وأخيرًا ائتمن ثناياها الشبكية المريحة على نفسه. كان يتأرجَح في كسلٍ وتراخٍ على ارتفاع عدة أقدام من الأرض، حين قال لرينمارك:

«أسمِّي هذه جنة؛ جنَّة مُستعادة؛ لكنها في الشهر المقبل ستكون جنة مفقودة. والآن، أيها البروفيسور، أنا جاهز للطَّهي، لكن لديَّ رغبة في فعل ذلك بالوكالة. الجنرال يوجِّه، والرجل العادي النافع يُنفِّذ. أين خضراواتك يا ريني؟ بطاطس وجزر، أليس كذلك؟ مُمتاز. الآن، هلَّا غسلتها يا ريني، لكن يجب أولًا أن تحضر بعض المياه من النبع.»

كان البروفيسور رجلًا صبورًا، وامتثل إلى توجيهات صاحبه. فيما واصَل ييتس التأرجح يمينًا ويسارًا وهو يتغزل في مباهج النهار وسكون الغابة ويتغنَّى بهما. لم يتكلَّم رينمارك سوى قليل، وكان كل اهتمامه منصبًّا على ما في يدَيه من عمل. أنهى تحضير الخضراوات، وأخذ كتابًا من حقيبته، وأمال كرسيًّا إلى الخلف ساندًا إيَّاه إلى شجرة، وبدأ يقرأ.

ثم قال للرجل الناعس في الأرجوحة الشبكية: «سوف أعتمد عليك في إحضار الخبز.»

«أنت مُحِق يا ريني. ثقتك في محلها. سأنزل الآن في رحلةٍ إلى عوالم الحضارة، وألبي تلك الحاجة الشديدة. سأذهب إلى آل هوارد مرورًا بضيعة آل بارتليت، لكني أنذِرُكَ بأنني، إذا وجدت وجبةً في أيٍّ من البيتين، فلن أكون موجودًا معك هنا لأختبر أولى محاولاتك في الطهي. لذا ربما تُضطر إلى الانتظار حتى الفطور لتعرف رأيي.»

حرر ييتس نفسه ببطء وعلى مضَض من الأرجوحة الشبكية، ونظر إليها بأسفٍ حين وقف مرة أخرى على الأرض.

«هذا النضال المجنون من أجل الخبز يا بروفيسور هو لعنة الحياة هنا في الأسفل. فهو ما نَسعى إليه جميعًا. لولا ضرورة المأكل والملبس، ما أطيب الوقت الذي ربما قد يحظى به المرء. حسنًا، أستودعك الرب يا ريني. إلى اللقاء.»

سار ييتس على مهَل عبر الغابة حتى وصل إلى بداية دربٍ يؤدِّي إلى ضيعة بارتليت. رأى المزارع وابنه يعملان في الحقول الخلفية. ومن بين البيت البعيد ومخزن الحبوب، ظهر عمود من الدخان الأزرق تصاعد مباشَرة إلى الهواء الساكن، وبعدما وصل إلى ارتفاع معين، انتشر كغيمة ضبابية رقيقة فوق البيت. ظن ييتس في البداية أنَّ بعض المباني الخارجية المُلحَقة بالبيت تشتعل، فأسرع الخطى وبدأ يركض، لكنه فكَّر للحظة فأدرك أنَّ عمود الدخان كان ظاهرًا للعاملين في الحقول، وأنهم ما كانوا ليُواصِلُوا عملهم بهدوء لو كانت ثمة أي مشكلة. وحين وصل إلى نهاية الدرب الطويل، وانعطف بأمان عند زاوية مخزن الحبوب، رأى في المساحة المفتوحة بين ذلك المبنى والبيت نيران مخيم هائلة مشتعلة بالحطب. وكانت ثمَّة غلاية حديدية كبيرة مُعلَّقة فوق لهيب النيران من وتد عرضي محمول على دعامتَين متفرعتَين. كانت الغلاية شبه مُمتلئة عن آخرها، وكان البخار قد بدأ يتصاعد بالفعل من سطحها، مع أنَّ النيران كان من الواضح أنها لم تُوقد إلَّا منذ قليل. لم يكن الدخان كثيفًا للغاية في هذه اللحظة، لكنَّ كيتي بارتليت كانت واقفة هناك مُمسكة بقبعة من القش عريضة الحواف في يدَيها تُهوِّي بها لتُبعد الدخان عن وجهها، فيما كانت القبَّعة تَحمي مُحيَّاها الوردي من النيران في الوقت نفسه. كان واضحًا أنها لم تكن مستعدَّة لاستقبال ضيوف؛ إذ انتفضت حين خاطبها الشاب، واشتدَّ تَورُّد وجهها وسط انزعاجها الواضح من ظهوره غير المرغوب.

قال بنبرة ودية: «طاب مساؤك. أتستعدُّون للغسيل؟ كنتُ أظن أن يوم الإثنين هو يوم الغسيل.»

«إنه كذلك.»

«إذن، فمعلوماتي صحيحة. وأنتم لا تستعدون للغسيل إذن؟»

«بل نستعد.»

ضحك ييتس من أعماق قلبه إلى حدٍّ انتزع من كيتي ابتسامةً لا إرادية أنارت أساريرها. كانت دائمًا ما تجد صعوبةً في الاحتفاظ بجديتها لأي فترة من الزمن.

قال ييتس وهو يَعدُّ النقاط على أصابعه الأربع: «من الواضح أنَّ هذا لغز. أولًا، الإثنين هو يوم الغسيل. ثانيًا: اليوم ليس الإثنين. وثالثًا: الغد أيضًا ليس الإثنين. رابعًا: نستعد للغسيل. أُعلن استسلامي يا آنسة بارتليت. أرجو أن تُخبريني بالحل.»

«الحل أنني أصنع الصابون؛ صابونًا ليِّنًا، إن كنتَ تَعرف ماهيته.»

«عمليًّا، لا أعرف ماهيته، لكني سمعتُ هذا المصطلح يُستخدَم في سياقٍ متعلِّق بالسياسة. ففي الولايات المتحدة، نقول إنَّ الرجل إذا كان دبلوماسيًّا للغاية، فهذا يعني أنه يستخدم صابونًا ليِّنًا؛ لذا أظن أنه ذو خواص مُزلِّقة. وقد استخدم سام سليك مصطلح «التملق الليِّن» بالطريقة نفسها، لكني لا أعرف أي شيء عن التملُّق، سواء أكان ليِّنًا أم صلبًا.»

«كنت أظنك تعرف كل شيء يا سيد ييتس.»

«أنا؟ فليباركك الرب، ولكن لا. فأنا جامع مُتواضع في مجال المعرفة. لذا أحضرت معي أستاذًا من تورنتو. أريد أن أتعلم شيئًا. هلَّا علمتني كيفية صنْع الصابون؟»

«أنا مشغولة جدًّا الآن. حين قلتُ إننا نَستعدُّ للغسيل، ربما كان عليَّ أن أخبرك بأن ثمة شيئًا آخر لسنا مستعدِّين له اليوم.»

«ما هو؟»

«استقبال زائر.»

«أوه، أظن يا آنسة بارتليت أنك قاسية عليَّ قليلًا. أنا لست زائرًا. بل صديق للعائلة. أريد أن أساعد فحسب. ستجدينني طالبًا في غاية الاجتهاد. هلَّا تعطيني فرصة؟»

«لقد أُنجِز كلُّ العمل الشاق بالفعل. لكنك ربما كنت تعرف ذلك قبل مجيئك.»

نظر ييتس إليها بنظرة توبيخ، وتنهد بعمق.

«هذه نتيجة أن تكوني شخصًا يُساء فهمه. إذن أنتِ تظنِّين أنَّ لديَّ عادةَ التهرب من العمل، من بين خصال سيئة أخرى؟ دعيني أخبرك يا آنسة بارتليت بأن سبب وجودي هنا أنني أفرطت في العمل الشاق. والآن، فلتَعترفي باعتذاركِ عمَّا قلتِه؛ لأنك تظلمينَ رجلًا مُضطهدًا دهستْه الأقدام بالفعل.»

ضحكت كيتي بابتهاج لهذا، وضحكَ ييتس أيضًا؛ لأنَّ حاسة استشعار الأُلفة والود لديه كانت قوية.

«تبدو كما لو أنك لم تعمل في حياتك من قبل، لا أصدِّق أنك تعرف ماهية العمل.»

«ولكن توجد أنواع مختلفة من العمل. ألا تُسمِّين الكتابة عملًا؟»

«نعم، لا أسميها كذلك.»

«أنتِ مخطئة في ذلك. إنها عمل، بل وعمل شاقٌّ أيضًا. سأخبرك بعض المعلومات عن العمل الصحفي إذا علَّمتِني صناعة الصابون. هذه مقايَضة عادلة. أتمنَّى أن تقبليني تلميذًا يا آنسة بارتليت، ستجدينني سريعًا في التقاط المعلومات.»

«حسنًا، إذن فلتلتقط ذلك الدلو، وتملأ مقدار دلو من المياه.»

صاح ييتس بجدية صارمة: «سأفعل ذلك. سأفعل ذلك، مع أنَّه سيُدمِّرُني.»

التقط ييتس الدلو الخشبي الذي كان مَطليًّا باللون الأزرق من الخارج ومزينًا بشريطٍ أحمر من أعلاه ومطليًّا من الداخل بلونٍ قشدي. كان يُطلَق عليه «دلوًا مُبتكَرًا» في تلك الأيام؛ لأنه كان ابتكارًا حديثًا نسبيًّا؛ إذ كان أرخصَ وأخفَّ وزنًا وأقوى من الدلو الصفيحي، الذي كان يحلُّ محله بوتيرة سريعة. كان يوجد عند البئر وتدٌ متينٌ مُثبَّت من منتصفِه على دعامةٍ رأسيةٍ كان يتأرجَح عليها كذراع الموازنة المتأرجِحة في المحركات. وكان طرفه السميك، الذي كان مستقرًّا على الأرض، محملًا بحجارة ثقيلة، فيما كان طرفه الرفيع، الذي كان مرتفعًا عاليًا في الهواء، يحمل وتدًا رقيقًا ذا خطاف متدليًا فوق فوهة البئر. كان هذا الخطاف مزوَّدًا، في لفتة ذكية من صانعه، بزنبرك مصنوع من أخشاب شجر جوز الهند كان يُغلَق فورًا حين يستقرُّ مقبض الدلو على الخطاف؛ ليمنع انزلاق هذا الوعاء «المبتكَر» عند إنزاله إلى سطح الماء. وسرعان ما أدرك ييتس فائدة هذا الاختراع؛ لأنه وجد أن ملء دلو خشبي من بئر عميقة لم يكن بالبساطة التي بدا بها. ظل الدلو يعلو ويهبط على سطح الماء. وحالَما نسيَ ييتس ضرورة مواصلة إحكام قبضة قوية على الوتد، اندفع الدلو في اللحظة التالية مباشرة إلى خارج البئر اندفاعًا مفاجئًا مروعًا. ولم يُنقِذ رأس ييتس سوى قفزة مفاجئة منه، كهذا الاندفاع، إلى الوراء. ابتهجت الآنسة بارتليت برؤية هذا الحادث مضحكًا. وكان ييتس مصعوقًا بشدة من انتفاضة الدلو المفاجئة إلى حدِّ أنَّ تأدُّبه الفِطري لم يحظَ بفرصةٍ لمنع كيتي من رفع المياه بنفسها. أنزلت الوعاء، وجذبت العمود إلى أسفل بالتناوب بين يديها الاثنتَين بطريقة رآها الشاب رائعة بكلِّ تأكيد، ثم عكست نَسَق حركتها عكسًا طفيفًا يكاد يكون غير ملحوظ، فنجحت فورًا في نيل مبتغاها. كان الشيء التالي الذي أدركه ييتس هو مشهد الدلو المُمتلئ مُستقرًّا على حافة البئر، والطقطقة الناتجة عن فتِح الزنبرك المصنوع من خشب شجر جوز الهند وتَحرُّر مقبض الدلو منه.

قالت كيتي محاوِلةً كبْت بهجتها: «أرأيت؟ هكذا تُورَد الإبل.»

«أرى النتيجة النهائية يا آنسة بارتليت، لكنَّني لستُ واثقًا من قدرتي على أداء الحيلة نفسها. هذه الأشياء ليست بالبساطة التي تبدو بها. ما الخطوة التالية؟»

«صُب المياه في المُعالِج.»

«في ماذا؟»

«قلتُ في المُعالِج. أين عساك أن تصبَّها إلَّا هناك؟»

«أوه، لقد غلبتْني الحيرة ووقعت في مأزق مرة أخرى. أرى أنني لا أفقه حتى أبجديات هذا العمل. فقديمًا كان المعالِج هو الطبيب. وبالطبع لا تقصدين أن أُغرِق طبيبًا؟»

قالت كيتي، مشيرة إلى أسطوانة خشبية رأسية مصفرَّة كبيرة كانت مُستقرَّة على بعض الألواح المائلة، التي كان يسير أسفل سطحها سائل ذو لونٍ بني خفيف يقطر في حوض: «هذا هو المُعالج.»

وبينما كان ييتس يقف على دكةٍ حاملًا الدلو في يده، رأى الأسطوانة مُمتلئة عن آخرها تقريبًا برماد خشب مشبَّع بالماء. فصبَّ فيها الماء، وسرعان ما غاص الماء داخلها وغابت عن ناظرَيه.

قال وهو ينزل من على الدكة: «إذن فهذا جزء من معدات صنع الصابون؟ كنت أظن أنَّ الغلاية الحديدية المعلَّقة فوق النيران هي المصنع كله. أخبريني بمعلومات عن المُعالج.»

قالت كيتي وهي تُقلب محتويات الغلاية الحديدية بعصًا طويلة: «هذا مكمَن العمل الشاق في صناعة الصابون. فإبقاء المعالج مزوَّدًا بالمياه في البداية ليس رفاهية؛ لأن الرماد يجفُّ بعد ذلك. إذا صببت فيه خمسة دلاء أخرى من المياه، فسأُخبرك عنه.»

صاح ييتس مسرورًا برؤية استياء الفتاة الذي كان واضحًا في البداية من وجودِه يتلاشى بسرعة: «حقًّا! الآن سترَين كم أنا نشيط. فأنا رجل نافع أينما حللت.»

وحين أكمل مهمَّته، كانت الفتاة لا تزال تُقلب السائل الذي كان يزداد كثافة في الغلاية، وتحمي وجهها من النار بقبعتها الكبيرة المصنوعة من القش. كان شعرها الأشقر المتشابك ذو الخصلات المتآلفة في عناقيدَ مُنسدلًا حول كتفَيها، ورأى ييتس، وهو يضع الدلو في مكانه بعدما أفرغه للمرة الخامسة، أنها تُشكِّل صورةً فاتنة وهي تقف هناك بجوار النيران، حتى وإن كانت تصنع الصابون الليِّن ليس إلَّا.

«لقد أنهى الجِني الشرير المهمة التي كلفتُه بها الأميرة الجِنية. والآن حان وقت المكافأة. أريد معرفة كل التفاصيل عن المُعالِج. بادئ ذي بدء، من أين حصلتِ على هذه الأسطوانة الخشبية الضخمة التي ظللتُ أسكب فيها الماء دون نتيجة واضحة؟ أهي مصنَّعة أم طبيعية؟»

«الاثنان. إنها جزء من شجرة الجميز.»

«الجميز؟ لا أظنني سمعت بها من قبل. أعرف شجر الزان والقيقب وبعض أنواع البلوط، لكن معرفتي بالأشجار تتوقف عند هذا الحد. لماذا الجميز تحديدًا؟»

«تصادف أنَّ شجرة الجميز مناسبة تمامًا لهذا الغرض. إنها شجرة جميلة جدًّا تسرُّ الناظرين إليها. تبدو جيدة تمامًا من الخارج، لكنها ليست كذلك في العموم. فهي إما تكون نتنة أو جوفاء من الداخل، وحتى حين تكون سليمة، تكون الأخشاب المأخوذة منها قليلة القيمة؛ لأنها لا تتحمَّل الاستخدام. ومع ذلك، لا تستطيع معرفة ما إذا كانت تَحمل أيَّ منفعة أم لا إلَّا حين تبدأ في قطعها.» رمقت كيتي الشاب، الذي كان جالسًا على جذع شجرة مقطوع يُراقبها، بنظرة خاطفة.

«أكملي يا آنسة بارتليت؛ أفهم قصدك. يوجد أناس كشجرة الجميز. الغابات مليئة بهم. لقد قابلت كثيرين من هذا النوع؛ أشخاص يسرُّون النظر من الخارج، لكنهم فارغون من الداخل. أنا واثق من أنك لا تقصدين أيَّ إساءة شخصية؛ لأنك، بكل تأكيد، قد رأيتِ فائدتي في التزامي بنقل دلاء المياه. ولكن أكملي.»

قالت كيتي مُقهقِهة: «عجبًا، لم أفكِّر في أي شيء من هذا القبيل، لكنهم يقولون إنَّ مَن على رأسه ريشة …»

«بالطبع يقولون، لكن هذا القول خاطئ، كمعظم الأشياء الأخرى التي يقولونها. فالرجل الذي على رأسه ريشة هو مَن ينظر إليكِ في عينيكِ مباشرة. والآن، بعد أن تُقطَع شجرة الجميز، ماذا يحدث بعد ذلك؟»

«تُقطَع بالمنشار بطول مناسب، على أن تكون مستوية عند أحد طرفَيها ومائلة عند الطرف الآخر.»

«لِمَ الميل؟»

«ألا ترى، أساس اللوح الخشبي الذي ترتكز عليه مائل؛ لذا يجب قطع طرف المُعالِج السفلي بميل، وإلا فلن يقف عموديًّا. سيسقط مع أول عاصفة.»

«أرى، أرى. ثم ينقلونه وينصبونه؟»

«أوه، لا يا عزيزي، ليس بعد. بل يُضرمون فيه النيران حين يجفُّ بما يكفي.»

«حقًّا؟ أظن أنني أفهم الاستراتيجية العامة، لكني أغفل التفاصيل، كما حدث حين حاولت غمر ذلك الدلو الخشبي. ما فائدة النيران؟»

«إحراق البقايا الليِّنة داخل الخشب، بحيث لا تُبقي سوى القشرة الخارجية الصلبة. ومن ثمَّ، من المفترض أن يسفر إحراق السطح الداخلي عن تحسين المُعالج؛ أي يجعله أشدَّ منعًا لتسرُّب الماء.»

«بالضبط. ثم يُنقَل ويُنصَب؟»

«نعم، ويُملأ تدريجيًّا بالرماد. وحين يمتلئ، نَصُبُّ الماء فيه، ونجمع الغسول القلوي وهو يقطر منه. ثم يُوضع هذا الغسول في الغلاية مع الشحوم وجلد الخنزير وما شابه، وحين يَغلي وقتًا كافيًا، يُنتِج صابونًا لينًا.»

«وإذا غليتِه وقتًا أطول من اللازم، فماذا يُنتِج؟»

«صابونًا صلبًا، حسبما أظن. لم أجرِّب من قبل أن أغليه وقتًا أطول من اللازم.»

قُوطِع حوارهما هنا بهسهسة في النيران، أحدثها الصابون الذي سقط عليها بعدما ظل يغلي غليانًا مضطربًا حتى فاضَ من الغلاية. فأسرعت كيتي تصبُّ في الغلاية طستًا من الغسول البارد، وقلَّبت المزيج بقوة.

قالت بنبرة توبيخ: «أرأيت نتيجةَ إبقائي منشغلة بالكلام الفارغ معك. سيتعيَّن عليك الآن تعويض ذلك بجلب بعض الخشب وصب مزيد من الماء في المعالج.»

صاح ييتس، وهو يهبُّ واقفًا على قدميه: «بكل سرور. من دواعي سروري التكفير عن خطئي بإطاعة أوامرك.»

ضحكت الفتاة. وقالت: «خشب أشجار الجميز.» وقبل أن يَستطيع ييتس التفكير في أي شيء يرُدُّ به على كيتي ظهرت السيدة بارتليت عند الباب الخلفي.

سألت قائلة: «ما حال الصابون يا كيتي؟ يا إلهي، أأنتَ هنا يا سيد ييتس؟»

«أأنا هنا؟ ينبغي أن أقول إنني هنا منذ فترة. إنني هنا بالطبع. فأنا العامل الأجير. أنا قاطع الخشب وناقل المياه، أو، بالأحرى، ناقل كلَيهما. وفوق ذلك، كنت أتعلم كيفية صنع الصابون يا سيدة بارتليت.»

«حسنًا، لن يضيرك تعلُّم كيفية صنعه.»

«بالتأكيد. فحين أعود إلى نيويورك، أول ما سأفعله هو أنني سأقطع شجرة جميز في الحديقة العامة بالفأس، إن استطعت العثور على واحدة، وسأصنع معالجًا لنفسي. فالغسول يُجدي نفعًا في إدارة صحيفة.»

تلألأت عينا السيدة بارتليت؛ لأنها، وإن كانت لم تفهَم هُراءه تمامًا، كانت تعلم أنه محض هراء، وكانت تحب الأشخاص المرحين؛ لأن زوجها كان شخصًا جادًّا للغاية.

قالت: «الشاي جاهز. ستبقى معنا بالطبع يا سيد ييتس.»

«في الحقيقة، يا سيدة بارتليت، لا أستطيع فعل ذلك بضمير مرتاح. فأنا لم أتناول وجبة عن استحقاق منذ الوجبة الأخيرة. لا، لن يسمح لي ضميري بالقبول، لكني مع ذلك أشكرك.»

«هُراء؛ فضميري لن يسمح لك بالرحيل جائعًا. لو لم يأكل أحدٌ سوى أولئك الذين يحصلون على غذائهم عن استحقاق، فسيزيد عدد الجوعى في العالم. ستبقى بالطبع.»

«هذا ما أوده، يا سيدة بارتليت. أود أن أحصل على فرصة لرفض دعوةٍ أتوقُ إليها، ثم أُجبَر على قبولها. هذه هي الضيافة الحقيقية.» ثم أضاف هامسًا في أذن كيتي: «إذا جرؤتِ على قول «جميز»، يا آنسة بارتليت، فسأتشاجَر معك.»

لكن كيتي لم تَقُل شيئًا، بعدما ظهرت أمُّها في المشهد، لكنها قلَّبت محتويات الغلاية بكل جِد.

قالت الأم: «كيتي، نادي الرجال ليتناولوا العشاء.»

قالت كيتي، وقد تورَّد وجهها: «لا أستطيع ترك هذا، سيفور من شدة الغليان. ناديهم أنتِ، يا أمي.»

ومن ثَمَّ رفعت السيدة بارتليت راحتيها على جانبي فمها، وأطلقت تلك الصيحة الحادة الطويلة، التي قُوبِلَت بصوتٍ خافتٍ آتٍ من الحقول، ولاحظ ييتس، الذي كان رجلًا متبصِّرًا، برضًا أضمره في داخله أنَّ كيتي بالتأكيد رفضت فعل ذلك لأنه كان موجودًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤