باب طي السر

ومن بعض صفاتِ الحُب الكتمانُ باللسان، وجحود المحب إن سُئل، والتصنُّع بإظهار الصبر، وأن يُرى أنه عِزْهاةٌ خَلِيٌّ. ويأبى السرُّ الدقيق، ونارُ الكلف المتأججة في الضلوع، إلا ظهورًا في الحركات والعين، ودبيبًا كدبيب النار في الفحم، والماء في يبيس المَدر. وقد يُمكن التَّمويه في أول الأمر على غير ذي الحسِّ اللطيف، وأما بعد استحكامه فمحال. وربما يكون السبب في الكتمان تَصاون المُحب عن أن يَسِمَ نفسه بهذه السمة عند الناس؛ لأنها بزعمه من صفات أهل البطالة، فيفر منها ويتفادى. وما هذا وجه التصحيح، فبحسب المرء المُسلم أن يعفَّ عن محارم الله عزَّ وجل التي يأتيها باختياره ويُحاسب عليها يوم القيامة.

وأما استحسان الحُسن وتمكُّن الحب فطَبع لا يُؤمر به ولا يُنهى عنه؛ إذ القلوب بيد مُقلبها، ولا يَلْزمه غيرُ المعرفة والنظر في فرق ما بين الخطأ والصواب، وأن يعتقد الصحيح باليقين، وأما المحبة فخِلقة، وإنما يملك الإنسان حركات جوارحِه المكتسبة. وفي ذلك أقول:

يَلُومُ رِجَالٌ فِيك لَمْ يَعْرِفُوا الهَوَى
وَسِيَّانِ عِنْدِي فِيك لَاحٍ وَسَاكِتُ
يَقُولُونَ جَانَبْتَ التَّصَاوُنَ جُمْلَةً
وَأَنْت عَلَيْهِمْ بِالشَّرِيعَةِ قَانِت
فَقُلْتُ لَهُمْ هَذَا الرِّيَاءُ بِعَيْنِه
صُرَاحًا وَزِيٌّ لِلْمرائِينَ مَاقِت
مَتَى جَاءَ تَحْرِيمُ الهَوَى عَنْ مُحَمَّدٍ
وَهَلْ مَنْعُهُ فِي مُحْكَمِ الذِّكْرِ ثَابِت
إِذَا لَمْ أُوَاقِعْ مَحْرَمًا أَتَّقِي بِه
مَجِيئِيَ يَوْمَ البَعْثِ وَالوَجْهُ بَاهِت
فَلَسْتُ أُبَالِي فِي الهَوَى قَوْلَ لَائِمٍ
سَوَاءٌ لَعَمْرِي جَاهِرٌ أَوْ مُخَافِت
وَهَلْ يَلْزَمُ الإِنْسَانَ إِلَّا اخْتِيَارُهُ
وَهَلْ بِخَبَايَا اللَّفْظِ يُؤْخَذُ صَامِت

خبر

وإني لأعرف بعضَ من امتُحن بشيء من هذا فسكن الوجدُ بين جوانحه، فرام جَحْده إلى أن غَلظ الأمر، وعُرف ذلك في شمائله مَن تعرَّض للمعرفة ومن لم يتعرض. وكان مَن عَرض له بشيء نَجَهَه وقَبَّحه، إلى أن كان مَن أراد الحظوة لديه من إخوانه يُوهمه تصديقَه في إنكاره، وتكذيبَ من ظن به غير ذلك، فسُرَّ بهذا. ولعهدي به يومًا قاعدًا ومعه بعضُ من كان يَعرض له بما في ضميره، وهو ينتفي غاية الانتفاء، إذ اجتاز بهما الشخص الذي كان يُتهم بعلاقته، فما هو إلا أن وقعت عينه على محبوبه حتى اضطرب وفارق هيئته الأولى، واصفر لونه، وتفاوتت معاني كلامه بعد حُسن تثقيف، فقطع كلامَه المتكلمُ معه؛ فلقد استدعى ما كان فيه من ذكره، فقيل له: ما عدا عمَّا بدا. فقال: هو ما تظنون، عذَر من عذَر، وعذَل من عذَل. ففي ذلك أقول شعرًا، منه:

مَا عَاشَ إِلَّا لِأَنَّ المَوْتَ يَرْحَمُهُ
مِمَّا يَرَى مِن تَبَارِيحَ الضَّنَى فِيهِ

وأنا أقول:

دُمُوعُ الصَّبِّ تَنْسَفِكُ
وَسِتْرُ الصَّبِّ يَنْهَتِكُ
كَأَنَّ القَلْبَ إِذْ يَبْدُو
قَطَاةٌ ضَمَّهَا شَرَكُ
فَيَا أَصْحَابَنَا قُولُوا
فَإِنَّ الرَّأْيَ مُشْتَركُ
إِلَى كَمْ ذَا أُكَاتِمُهُ
وَمَا لِي عَنْهُ مُتَّرَكُ

وهذا إنما يَعرض عند مُقاومة طبع الكتمان والتصاون لطبع المُحب وغلبته، فيكون صاحبه متحيِّرًا بين نارين محرقتين. وربما كان سبب الكتمان إبقاء المحب على محبوبه، وإن هذا لمن دلائل الوفاء وكرم الطبع. وفي ذلك أقول:

دَرَى النَّاسُ أَنِّي فَتًى عَاشِقٌ
كَئِيبٌ مُعَنًّى وَلَكِنْ بِمَنْ
إِذَا عَايَنُوا حَالَتِي أَيْقَنُوا
وَإِنْ فَتَّشُوا رَجَعُوا فِي الظِّنَن
كَخَطٍّ يُرى رَسْمُهُ ظَاهِرًا
وَإِنْ طَلَبُوا شَرْحَهُ لَمْ يُبِن
كَصَوْتِ حَمَامٍ عَلَى أَيْكَةٍ
يُرَجِّعُ بِالصَّوْتِ فِي كُلِّ فَن
تَلَذُّ بِفَحْوَاهُ أَسْمَاعُنَا
وَمَعْنَاهُ مُسْتَعْجِمٌ لَمْ يَبِن
يَقُولُونَ بِالله سَمِّ الَّذِي
نَفَى حُبَّهُ عَنْكَ طِيب الوَسَن
وَهَيْهَاتَ دُونَ الَّذِي حَاوَلُوا
ذَهَابُ العُقُولِ وَخَوْضُ الفِتَن
فَهُمْ أَبَدًا فِي اخْتِلَاجِ الشُّكُوكِ
بِظَنٍّ كَقَطْعٍ وقَطْعٍ كَظَن

وفي كتمان السر أقول قطعةً، منها:

لِلسِّرِّ عِنْدِي مَكَانٌ لَوْ يَحلُّ بِهِ
حَيٌّ إِذًا لَا اهْتَدَى رَيْبُ المَنُونِ لَهُ
أُمِيتُهُ وَحَيَاةُ السِّرِّ مِيتَتُهُ
كَمَا سُرُورُ المُعَنَّى فِي الهَوَى الوَله

وربما كان سببُ الكتمان توقِّيَ المحب على نفسه من إظهار سره، لجلالة قدر المحبوب.

خبر

ولقد قال بعض الشعراء بقُرطبة شعرًا تغزل فيه بصبح أُم المُؤيَّد — رحمه الله — فغنَّت به جارية أُدخلت على المنصور محمد بن أبي عامر ليبتاعَها، فأمَر بقتلِها.

خبر

وعلى مثل هذا قُتل أحمد بن مُغيث، واستئصالُ آل مُغيث والتَّسجيل عليهم ألَّا يُستخدَم بواحد منهم أبدًا، حتى كان سببًا لهلاكهم وانقراض بيتهم، فلم يبق منهم إلا الشريد الضال. وكان سببُ ذلك تغزُّلَه بإحدى بنات الخُلفاء. ومثل هذا كثير.

ويُحكى عن الحَسن بن هانئ أنه كان مُغرمًا بحُب محمد بن هارون، المعروف بابن زُبيدة، وأحسَّ منه ببعض ذلك فانتهره على إدامة النظر إليه، فذُكر عنه أنه كان لا يقدر أن يُديم النظر إليه إلا مع غلبة السُّكر على محمد. وربما كان سبب الكتمان ألَّا يَنْفِر المحبوبُ أو يُنْفَر به. فإني أدري مَن كان محبوبه له سكنًا وجليسًا، لو باح بأقل سبب من أنه يهواه لكان منه مناط الثريا قد تعلَّت نجومها. وهذا ضرب من السياسة، ولقد كان يبلُغ من انبساط هذا المذكور مع محبوبه إلى فوق الغاية وأبعد النهاية، فما هو إلا أن باح إليه بما يجد؛ فصار لا يصل إلى التافه اليسير مع التيه ودالَّة الحب وتمنع الثقة بملك الفؤاد، وذهب ذلك الانبساط، ووقع التصنُّع والتجنِّي، فكان أخًا فصار عبدًا، ونظيرًا فعاد أسيرًا، ولو زاد في بَوحه شيئًا إلى أن يعلم خاصَّة المحبوب ذلك لما رآه إلا في الطيف، ولانقطع القليل والكثير، ولعاد ذلك عليه بالضرر.

وربما كان من أسباب الكِتمان الحَياء الغالب على الإنسان، وربما كان من أسباب الكتمان أن يرى المحب من مَحبوبه انحرافًا وصدًّا، ويكون ذا نفس أبيَّة، فيستتر بما يجد لئلا يَشمت به عدو، أو يريهم ومَن يُحب هوانَ ذلك عليه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤