باب الضنى

ولا بد لكل مُحب صادق المودَّة ممنوع الوصل، إمَّا بِبَيْن وإمَّا بهَجر وإما بكتمان واقعٍ لمعنًى، من أن يئول إلى حد السقام والضنى والنُّحول، وربما أضجعه ذلك. وهذا الأمر كثير جدًّا موجود أبدًا. والأعراض الواقعة من المَحبة غير العلل الواقعة من هَجمات العِلل، ويميزها الطبيبُ الحاذق والمتفرِّس الناقد. وفي ذلك أقول:

يَقُولُ لِيَ الطَّبِيبُ بِغَيْرِ عِلْمٍ
تَدَاوَ فَأَنْتَ يَا هَذَا عَلِيلُ
وَدَائِي لَيْسَ يَدْرِيهِ سَوَائِي
وَرَبٌّ قَادِرٌ مَلِكٌ جَلِيل
أَأَكْتُمُهُ وَيَكْشِفُهُ شَهِيقٌ
يُلَازِمُنِي وَإِطْرَاقٌ طَوِيل
وَوَجْهٌ شَاهِدَاتُ الحُزْنِ فِيهِ
وَجِسْمٌ كَالخَيَالِ ضَنٍ نَحِيل
وَأَثْبَتُ مَا يَكُونُ الأَمْرُ يَوْمًا
بِلَا شَكٍّ إِذَا صَحَّ الدَّلِيل
فَقُلْتُ لَهُ أَبِنْ عَنِّي قَلِيلًا
فَلَا وَالله تَعْرِفُ مَا تَقُول
فَقَالَ أَرَى نُحُولًا زَادَ جِدًّا
وَعِلَّتُكَ الَّتِي تَشْكُو ذُبُول
فَقُلْتُ لَهُ الذُّبُولُ تَعِلُّ مِنْهُ الـ
ـجَوَارِحُ وَهْيَ حُمَّى تَسْتَحِيل
وَمَا أَشْكُو لَعَمْرُ الله حُمَّى
وَإِنَّ الحَرَّ فِي جِسْمِي قَلِيل
فَقَالَ أَرَى الْتِفَاتًا وَارْتِقَابًا
وَأَفْكَارًا وَصَمْتًا لَا يَزُول
وَأَحْسَبُ أَنَّهَا السَّوْدَاءُ فَانْظُرْ
لِنَفْسِكَ إِنَّهَا عَرَضٌ ثَقِيل
فَقُلْتُ لَهُ كَلَامُكَ ذَا مُحَالٌ
فَمَا لِلدَّمْعِ مِنْ عَيْنِي يَسِيل
فَأَطْرَقَ بَاهِتًا مِمَّا رَآهُ
أَلَا فِي مِثْلِ ذَا بُهِتَ النَّبِيل
فَقُلْتُ لَهُ دَوَائِي مِنْهُ دَائِي
أَلَا فِي مِثْلِ ذَا ضَلَّتْ عُقُول
وَشَاهِدْ مَا أَقُولُ يُرَى عِيَانًا
فُرُوعُ النَّبْتِ إِنْ عُكِسَتْ أُصُول
وَتِرْيَاقُ الأَفَاعِي لَيْسَ شَيْءٌ
سِوَاهُ بِبُرْءِ مَا لَدَغَتْ كَفِيل

وحدثني أبو بكر محمد بن بقيٍّ الحجريُّ، وكان حكيم الطبع عاقلًا فهيمًا، عن رجل من شيوخنا لا يمكن ذكره، أنه كان ببغداد في خانٍ من خاناتها، فرأى ابنة لوكيلة الخان فأحبَّها وتزوَّجها، فلما خلا بها نظرتْ إليه وكانتْ بِكرًا، وهو قد تكشف لبعض حاجته، فراعَها كِبَر أيْرِه، ففرَّت إلى أمها وتفادت منه، فرام بها كل مَن حواليها أن تُردَّ إليه، فأبتْ وكادتْ أن تموت، ففارقها ثم ندم، ورام أن يُراجعها فلم يُمكنه، واستعان بالأبهري وغيره فلم يقدر أحد منهم على حيلة في أمره، فاختلط عقله وأقام في المارستان يُعاني مدةً طويلةً حتى نَقِه وسَلَا وما كاد، ولقد كان إذا ذكرها يتنفَّس الصُّعَداء.

وقد تقدَّم في أشعاري المذكورة في هذه الرسالة من صفة النُّحُول مُفرَّقًا ما استغنيتُ به عن أن أذكر هنا مِن سواها شيئًا خوفَ الإطالة. والله المعين والمستعان.

وربما تَرقَّت إلى أن يُغلَب المرء على عقله ويُحال بينه وبين ذهنه فيوسوس.

خبر

وإني لأعرف جاريةً من ذوات المَناصب والجمال والشرف من بنات القوَّاد، وقد بلغ بها حُب فتًى من إخواني جدًّا، من أبناء الكُتَّاب، مبلغَ هيجان المرار الأسود، وكادت تختلط، واشتُهر الأمر وشاع جدًّا حتى علمناه وعلمه الأباعد، إلى أن تُدورِكتْ بالعلاج. وهذا إنما يتولَّد عن إدمان الفكر، فإذا غلبت الفكرة وتمكن الخَلط التداوي خرج الأمر عن حدِّ الحُب إلى حد الوَلَهِ والجنون، وإذا أُغفل التداوي في الأول إلى المُعاناة قوي جدًّا ولم يوجد له دواء سوى الوصال. ومن بعض ما كتبتُ إليه قطعةً، منها:

قَدْ سَلَبْتَ الفُؤَادَ مِنْهَا اخْتِلَاسًا
أَيُّ خَلْقٍ يَعِيشُ دُونَ فُؤَادِ
فَأَغِثْهَا بِالوَصْلِ تَحْيَ شَرِيفًا
وَتَفُزْ بِالثَّوَابِ يَوْمَ المَعَادِ
وَأَرَاهَا تَعْتَاضُ إِنْ دَامَ هَذَا
مِنْ خَلَاخِيلِهَا حُلَى الأَقْيَاد
أَنْتَ حَقًّا مُتَيِّمُ الشَّمْسِ حَتَّى
عِشْقُهَا بَيْنَ ذَا الوَرَى لَكَ بَادِي

خبر

وحدَّثني جعفر مولى أحمد بن محمد بن جدير، المعروف بالبلبيني، أن سبب اختلاط مروان بن يحيى بن أحمد بن جدير وذهاب عقله اعتلاقُه بجاريةٍ لأخيه، فمنعها منه وباعها لغيره، وما كان في إخوته مثله ولا أتم أدبًا منه.

وأخبرني أبو العافية مولى محمد بن عباس بن أبي عبدة، أن سبب جنون يحيى بن أحمد بن عبَّاس بن أبي عبدة بَيْع جاريةٍ له كان يَجِد بها وَجدًا شديدًا، كانت أمه أباعتها وذهبت إلى إنكاحه من بعض العامريَّات.

فهذان رجلان جليلان مشهوران فَقدَا عقولهما واختلطا وصارا في القيود والأغلال، فأما مروان فأصابته ضربة مُخطئة يوم دخول البَربر قُرطبة وانتهائهم إليها، فتُوفِّي رحمه الله. وأما يحيى بن محمد فهو حيٌّ على حالته المذكورة في حين كِتابتي لرسالتي هذه، وقد رأيته أنا مرارًا وجالسته في القصر قبل أن يُمتحن بهذه المحنة. وكان أستاذي وأستاذه الفقيه أبو الخيار اللُّغوي، وكان يحيى — لَعَمْري — حُلوًا من الفتيانِ نبيلًا.

وأما من دون هذه الطبقة فقد رأينا منهم كثيرًا، ولكن لم نُسمِّهم لخفائهم، وهذه درجة إذا بلغ المشغوف إليها فقد انبتَّ الرجاء وانصرم الطمع، فلا دواء له بالوصل ولا بغيره، إذ قد استحكم الفساد في الدماغ، وتَلِفت المعرفة، وتغلبت الآفة. أعاذنا الله من البلاء بطَوْله، وكفانا النِّقَم بمَنِّه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤