باب من أحب في النوم

ولا بُد لكل حُب من سبب يكون له أصلًا، وأنا مبتدئ بأبعد ما يمكن أن يكون من أسبابه ليجري الكلامُ على نسق، أو أن يُبتدأ أبدًا بالسهل والأهون؛ فمن أسبابه شيء لولا أني شاهدته لم أذكره لغرابته.

خبر

وذلك أني دخلتُ يومًا على أبي السريِّ عمَّار بن زياد صاحبنا مولى المؤيد فوجدته مفكرًا مهتمًّا، فسألته عمَّا به، فتمنَّع ساعةً ثم قال: لي أُعجوبة ما سُمِعتْ قط. قلت: وما ذاك؟ قال: رأيت في نَومي الليلةَ جاريةً، فاستيقظتُ وقد ذهَب قلبي فيها وهِمْت بها، وإني لفي أصعب حال من حبها. ولقد بقي أيامًا كثيرةً تزيد على الشهر مغمومًا لا يهنئه شيء وَجْدًا، إلى أن عذلتُه وقلتُ له: من الخطأ العظيم أن تشغل نفسك بغير حقيقة، وتُعلِّق وهمك بمعدوم لا يوجد، هل تعلم مَن هي؟ قال: لا والله. قلت: إنك لقَيْل الرأي مُصاب البصيرة إذ تحب مَن لم تره قط ولا خُلِق ولا هو في الدنيا، ولو عشقتَ صورةً من صور الحمام لكنت عندي أعذر. فما زِلتُ به حتى سلا وما كاد.

وهذا عندي من حديث النفس وأضغاثها، وداخل في باب التمني وتخيل الفكر. وفي ذلك أقول شعرًا، منه:

يَا لَيْتَ شِعْرِيَ مَنْ كَانَتْ وَكَيْفَ سَرَتْ
أَطَلْعَةَ الشَّمْسِ كَانَتْ أَمْ هِيَ القَمَرُ؟
أَظنَّهُ العَقْلُ أَبْدَاهُ تَدَبُّرُهُ
أَوْ صُورَةُ الرُّوحِ أَبْدَتْهَا لِيَ الفِكَرُ
أَوْ صُورَة مثلت في النَّفْسِ مِنْ أَمَلِي
فَقَدْ تَخَيَّلَ فِي إِدْرَاكِهَا البَصَرُ
أَوْ لَمْ يَكُنْ كُل هَذَا فَهْي حَادِثَةٌ
أَتَى بِهَا سَبَبًا فِي حَتْفِيَ القَدَرُ

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤