باب من أحب بالوصف

ومن غريب أصول العشق أن تقع المَحبة بالوصف دون المُعاينة، وهذا أمر يُترقَّى منه إلى جميع الحب، فتكون المراسلة والمكاتبة والهم والوجد والسهر على غير الأبصار، فإن للحكايات ونعت المحاسن ورصف الأخبار تأثيرًا في النفس ظاهرًا.

وأن تسمع نَغمتها من وراء جدار، فيكون سببًا للحب واشتغال البال.

وهذا كله قد وقع لغير ما واحد، ولكنه عندي بُنيان هارٍ على غير أُسٍّ، وذلك أن الذي أفرغ ذهنه في هوى مَن لم يرَ لا بُد له إذ يخلو بفكره أن يُمثل لنفسه صورةً يتوهمها، وعينًا يُقيمها نُصب ضميره، لا يتمثَّل في هاجسِه غيرَها، قد مال بوهمه نحوها، فإن وقعت المُعاينة يومًا ما فحينئذٍ يتأكَّد الأمر أو يبطل بالكلية، وكلا الوجهين قد عَرض وعُرف. وأكثرُ ما يقع هذا في ربَّات القُصور المحجوبات من أهل البيوتات مع أقاربهن من الرجال، وحُب النساء في هذا أثبت من حُب الرجال؛ لضعفهن وسُرعة إجابة طبائعهن إلى هذا الشأن، وتمكُّنه منهن. وفي ذلك أقول شعرًا، منه:

وَيَا مَنْ لَامَنِي فِي حُبِّ
مَنْ لَمْ يَرَهُ طَرْفِي
لَقَدْ أَفْرَطْتَ فِي وَصْفِـ
ـكَ لِي فِي الحُبِّ بِالضَّعْفِ
فَقُلْ: هَلْ تُعْرَفُ الجَنَّـ
ـةُ يَوْمًا بِسِوَى الوَصْفِ

وأقول شعرًا في استحسان النَّغمة دون وقوع العين على العيان، منه:

قَدْ حَلَّ جَيْشُ الغَرَامِ سَمْعِي
وَهْوَ عَلَى مُقْلَتَيَّ يَبْدُو

وأقول أيضًا في مخالفة الحقيقة لظنِّ المحبوب عند وقوع الرؤية:

وَصَفُوكَ لِي حَتَّى إِذَا أَبْصَرْتُ مَا
وَصَفُوا علمتُ بِأَنَّهُ هَذَيَانُ
فَالطَّبْلُ جِلْدٌ فَارِغٌ وَطَنِينُهُ
يَرْتَاعُ مِنْهُ وَيَفْرَقُ الإِنْسَانُ

وفي ضد هذا أقول:

لَقَدْ وَصَفُوكَ لِي حَتَّى الْتَقَيْنَا
فَصَارَ الظَّنُّ حَقًّا فِي العِيَانِ
فَأَوْصَافُ الجِنَانِ مُقَصِّرَاتٌ
عَلَى التَّحْقِيقِ عَنْ قَدرِ الجِنَانِ

وإن هذه الأحوال لتحدُث بين الأصدقاء والإخوان، وعني أُحدث.

خبر

إنه كان بيني وبين رجل من الأشراف ودٌّ وكيد وخطاب كثير، وما تراءينا قط، ثم منح الله لي لقاءه، فما مرَّت إلا أيام قلائل حتى وقعت لنا مُنافرة عظيمة ووحشة شديدة متصلة إلى الآن، فقلت في ذلك قطعةً، منها:

أبدلت أَشْخَاصنَا كُرْهًا وَفَرْطَ قِلًى
كَمَا الصَّحَائِفُ قَدْ يُبْدَلْنَ بِالنَّسْخِ

ووقع لي ضدُّ هذا مع أبي عامر بن أبي عامر — رحمة الله عليه — فإني كنت له على كراهة صحيحة، وهو لي كذلك، ولم يرني ولا رأيته، وكان أصل ذلك تَنقيلًا يُحمل إليه عني وإليَّ عنه، ويؤكده انحراف بين أبوينا لتنافسهما فيما كانا فيه من صُحبة السلطان ووجاهة الدنيا، ثم وفَّق الله الاجتماعَ به، فصار لي أودَّ الناس، وصرتُ له كذلك إلى أن حال الموت بيننا. وفي ذلك أقول قطعةً، منها:

أَخٌ لِي كَسَّبَنِيهِ اللِّقَاءُ
وَأَوْجَدَنِي فِيهِ عِلْقًا شَرِيفًا
وَقَدْ كُنْتُ أَكْرَهُ مِنْهُ الجِوَارَ
وَمَا كُنْتُ أَرْغَبُهُ لِي أَلِيفًا
وَكَانَ البَغِيضَ فَصَارَ الحَبِيبَ
وَكَانَ الثَّقِيلَ فَصَارَ الخَفِيفَا
وَقَدْ كُنْتُ أُدْمِنُ عَنْهُ الوَجِيفَ
فَصِرْتُ أُدِيمُ إِلَيْهِ الوَجِيفَا

وأما أبو شاكر عبد الرحمن بن محمد القبريُّ فكان لي صديقًا مدةً على غير رؤية، ثم التقينا فتأكَّدت المودة واتصلت وتمادت إلى الآن.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤