الفصل الأول

منشأ عروق الهند وتقسيمها

(١) كيف تنشأ العروق وكيف تتحول

أرى قبل أن أصف عروق الهند أن أخصص بضع صفحات لتعريف العروق، وبيان ظهورها وتحولها، وذكر الصفات التي تُقسم بها.

لم أفتأ أشرح في مؤلفاتي الأخيرة ما يقوله العِلم وما أراه في تلك الأمور المهمة، فيكفي أن ألخص هنا ما فصلته في تلك المؤلفات.

تُقسم الجماعات البشرية المنتشرة في مختلف أقطار الأرض إلى عروق، ويجب أن تُعَدَّ كلمة «العرق» بالنسبة إلى الإنسان معادلة لكلمة «الجنس» بالنسبة إلى الحيوان، وتفترق العروق البشرية في أخلاقها افتراقَ أنواع الحيوان المتقاربة، ومن خواص هذه الأخلاق الأساسية أنها تنتقل بالوراثة انتقالًا منتظمًا ثابتًا.

وإذا كانت كلمة «العرق» مرادفة لكلمة «الجنس» فإنها لا تَعدِل كلمة «الأمة» أبدًا، فالأمة، في الغالب، عروق كثيرة جمعت بينها السياسة أو الجغرافية أو غيرها من الأسباب في حكومة واحدة، فالكلمةُ: الهندوس أو الفرنسيون أو النمسيون، إلخ. تدل على جماعات منتسبة إلى عروق مختلفة أشد الاختلاف مع أنها تقطن في قطر واحد وذات أنظمة سياسية واحدة وذات مصالح مشتركة.

ويشاهَد في جميع العروق البشرية، كما يشاهد في مختلف أنواع الحيوان، نوعان من الأخلاق ذوا أهمية متفاوتة، أحدهما هو الأخلاق التي انتقلت عن الأجداد بالوراثة، والنوع الثاني هو الأخلاق التي يكتسبها الإنسان في أثناء حياته القصيرة بفعل البيئة والتربية وما إليهما من مختلف العوامل، فنوع الأخلاق الأول هو تراث العِرْق الواحد بأسره، أي خلاصة ماضٍ طويل، فالإنسان يأتي به حين ولادته، ولا يستطيع أن يضيف إليه غير القليل في حياته، ولن تقدِر الصفات الجديدة التي تُنال في كل جيل أن تقاوم عِبء الماضي الثقيلَ الهائل إلا إذا تراكمت مع القرون في اتجاه واحد، وبهذا التراكم المتعاقب الذي هو وليد الانتخاب الطبيعي تتطور الأنواع تطورًا بطيئًا بعيد الغَوْر.

وبيَّنت في مؤلفاتي التي أشرت إليها آنفًا أنه يمكن العروق التي تتالف أمةٌ منها بفعل الأحوال السياسية أن تصهر في عِرق واحد مع الزمن، وذكرتُ أن تلك العروق تنتهي إلى عِرق واحد عندما تؤدي البيئة والتوالد والوراثة في غضون القرون إلى اكتسابها صفاتٍ جثمانيَّةً وأخلاقية وعقلية واحدة.

وفي تلك المؤلفات أثبتُّ أن ذلك الثبات لا يتم إلا بشرطين أساسيين؛ الأول: أن يكون التحول بطيئًا وراثيًا، والثاني: ألا يكون تفاوت في نِسَب العروق المتوالدة.

والشرط الثاني على جانب عظيم من الأهمية، فلا تلبث جماعات صغيرة من البِيض أن تزول إذا توالدت هي وفريق كبير من الزنوج، فعلى هذا الوجه غاب الفاتحون من غير استثناء عندما اختلطوا بأمم أكثر منهم عددًا، كالعرب في مصر؛ فالمصري المعاصر، وإن كان عربيًّا بلغته ودينه ونظمه، هو، بالحقيقة، من ذرِّية مصريي العصر الفرعوني كما تدل على ذلك مشابهتُه لما في المعابد والمقابر المصرية القديمة من الصور المنقوشة.

وما عُزي إلى البيئات من التأثير في تحول العروق هو، بالحقيقة، ضعيفٌ إلى الغاية، ولم يَبْد إلا بتراكم القرون، وإن شئت فقل قبل التاريخ، واليوم بلغ تأثير البيئات من الضعف في تبديل الأخلاق التي ثبت أمرها بالوراثة ما تراه، مثلًا، في بني إسرائيل الذين حافظوا على مثالهم الثابت مع وجود أناس منهم في كل بلد.

والأخلاق التي ثبت أمرها بالوراثة هي من الرسوخ ما يهلك به العِرْق القديم إذا ما انتقل إلى بيئةٍ تفرض عليه أن يتحول تحولًا أساسيًّا، فالتبوء وَهْمٌ باطل، ومن هذا أن الإنجليزي لم يقدِر على تبوُّء الهند مع مراعاته جميع قواعد الصحة، فتراه يربي أولاده في أوروبا، فلولا ذلك ما رأيتَ في الهند أوربيًّا بعد الجيل الثالث، فلا يَفُلُّ الوراثة إلا الوراثة، ولن تجد للبيئات مثل هذا السلطان.

وأثر البيئات في العرق، مهما يكن ضعيفًا، موجود على كل حال، والوراثة هي التي تمنُّ عليه بالقوة، فإذا كانت العناصر المتقابلة غير متفاوتة، على حسب الشرط الثاني المذكور آنفًا، تفاوتًا مانعًا من امتزاج عرقين انحلت مؤثِّرات الماضي الثقيلة بفعل المؤثرات الوراثية المعاكسة المساوية لتلك، فلم تجد البيئات، إذ ذاك، ما تكافحه فسارت طليقة وأتت بعملها حرة.

انتهينا إلى النتيجة الأولى القائلة إن جديد العروق يتكون بتوالد مختلف العروق، لا بفعل البيئة وحدها، والآن ترانا أمام مسألة ذات أهمية عملية لما يتوقف على حلِّها من تعيين مصير إحدى الأمم وهي: ماذا تكون قيمة عِرق جديد تكوَّن على هذا الوجه؟ لا ريب في خيره إذا كان مساويًا لأرقى العرقين المتوالدين أو أعلى منه، ولا ريب في ضيره لأرقى ذَيْنِكَ العرقين على الأقل عند العكس.

درسنا هذه المسألة الأساسية في مباحثنا السابقة، ولا نذكر هنا غير النتائج، ونحن حين استندنا إلى درس ما نشأ عن التوالد من النتائج في مختلف أقطار الأرض أثبتنا أنه يكون نافعًا أو ضارًّا بحسب الأحوال، فهو يكون نافعًا عندما يكون بعض العناصر المتقابلة مُتِمًّا لبعض بدلًا من أن تتعاكس، وذلك كما اتفق للعناصر التي تألَّف الإنجليز من توالدها، وهو يكون ضارًّا عندما تكون العناصر المتوالدة مختلفة حضارة وماضيًا وأخلاقًا، وذلك كما أسفر عنه توالد الأسود والأبيض وتوالد الهندوسي والأوروبي.

وسنعود إلى مسألة توالد الهندوس والأوروبيين في الفصل الذي خصصناه للبحث في طوائف الهند، وفيما نجم عن ذلك التوالد من النتائج السيئة، فسنرى أن مثل هذه النتائج السيئة، التي نشأت عن توالد متباين الشعوب، مما عرفه فاتحو الهند القدماء فوضعوا، على الأرجح، نظام الطوائف الذي هو أساس نظم الهند الإجتماعية.

وفي كتاب آخر درسنا أمور التوالد وبحثنا فيما تؤدي إليه من النتائج السياسية والاجتماعية بحسب الأحوال، فأثبتنا أنها أهم العوامل في انحطاط العروق والدول، وذكرنا ما تسفر عنه مُصاقبة عِرقين عبَّدَ أحدهما الآخر، وألمعنا إلى السبب في سهولة احتمال السيطرة الأجنبية عند قليل من التباين بين شعبين كما اتَّفق للمسلمين في الهند، حيث اعتنق خمسون مليون هندوسي دين النبي، وأشرنا إلى السبب في صعوبة احتمال تلك السيطرة عند شدة التباين بين شعبين كما يحدث للإنجليز الذين مضى على فتحهم لبلاد الهند قرون فلم يستطيعوا حمل رعاياهم على انتحال ديانتهم ولغتهم، والديانة واللغة هما العاملان اللذان يبدأ بهما ادِّغام إحدى الأمم.

ولا أُسهب هنا في بيان القواعد العامة التي تطبق على جميع الأمم، فقد فصَّلْتها، بدرجة الكفاية، في كتابي١ الذي وضعته؛ ليكون مقدمة لتاريخ الحضارات، فلندَعْ، إذن، ما هو خاص بتكوين العروق، ولنقتصر على بيان الأخلاق التي تتميَّز بها العروق بإيجاز.

(٢) مبادئ تقسيم العروق: قيمة المقايسة بين الصفات التشريحية والخلقية والعقلية في ذلك التقسيم

يظهر، أولَ وهلةٍ، أن أهم الصفات التي تتميَّز بها العروق البشرية هي الصفات التشريحية، كلون الجلد، ولون الشعر، وشكل الجمجمة مثلًا، وذلك لأن الصفات التشريحية هي التي تُرى حالًا، ولكن الباحث إذا ما أنعم النظر في قيمتها اعترف بأنها لا تصلح لغير التقسيمات الثقيلة، فبلون الجلد والشعر يمكن تقسيم سكان الأرض إلى أربع جماعات أو خمس جماعات على الأكثر، وبشكل الجمجمة يمكن تقسيم كل واحدة من هذه الجماعات إلى زُمرتين أو ثلاث زُمَر، ثم نقف عند هذا الحد، فإذا قسَّمنا البيض، أي جميع شعوب أوروبا، مثلًا، إلى شعوب عريضة الجماجم وشعوب مستطيلة الجماجم، وشعوب شُقْر وشعوب سُمْر فإننا لا نصل إلى نتائج تُذكر ما اشتملت هذه التقسيمات على أمم مختلفة كالفرنسيين والإنجليز والروس والألمان، إلخ.

فالصفات التشريحية، إذن، غير كافية لتمييز العروق البشرية، وما قلناه عن اختلاف العروق التي تتألف منها أمة، في الغالب، يثبت أن اللغة والديانة والجماعات السياسية ليست أصلح من تلك في تقسيم العروق.

وما عجزت عنه اللغات والأديان والجموع السياسية والصفات التشريحية تستطيعه الصفات الخلقية والعقلية، وهذه الصفات التي هي عنوان مزاج الأمة النفسي ذي العلاقة بتركيب الدماغ الخاص هي من الدقة ما لا نقدر على تقديرها بما لدينا من الوسائل والأدوات.

وليس من المهم، مع ذلك، أن ننفذ، فيما ننشده من التقسيم، إلى سر ذلك التركيب ما استطعنا أن نقدر ما هو عنوانه من الكفاءات الخلقية والعقلية.

وتُعيِّن الصفات الخلقية والعقلية تطور الأمة والدور الذي تمثله في التاريخ، فهي، لذلك، على جانب عظيم من الأهمية، فليعوِّل على دراستها من يرغب في معرفة إحدى الأمم أكثر من أن يعول على صفاتها التشريحية.

ولن نستطيع أن نُميز الراجبوتي الشجاع من البنغالي الجبان بشكل جمجمتيهما، بل نقدر على ذلك بالبحث في مشاعرهما، فنرى، إذ ذاك، عُمْقَ الهُوَّة التي تفصل بينهما، ويمكننا أن نقايس بين جماجم الإنجليز وجماجم الهندوس من غير أن نكتشف بذلك سبب استخذاء ٢٥٠ مليونًا من هؤلاء لبضعة آلاف من أولئك مع أن دراسة صفات تَيْنِكَ الأمتين الخلقية والعقلية يكشف لنا ذلك السبب، وذلك باطلاعنا على شدة نمو خلق الثبات والعزم في إحداهما وضعفه في الأخرى.

والكفاءات العقلية والخلقية هي تراث العرق، وهي بواعث السَّير الأساسية، وهي ما سميتها في كتاب آخر بصوت الأموات، فالنظم هي وليدة تلك البواعث، ولا عكس، وتلك الكفاءات، وإن كانت مختلفة في أفراد العِرْق الواحد اختلاف صورهم، يتَّصف أكثر هؤلاء الأفراد بما يشتركون فيه منها اشتراكًا ثابتًا ثبات الصفات التشريحية الخاصة بالجنس.

ويدل علم التشريح الحديث على أن أجسام ذوات الحياة مركبة من ملايين الخليات التي تتصف كل واحدة منها بحياة مستقلة متجددة بلا انقطاع، وأن مدة هذه الحياة أقل من مدة حياة الجسم الذي يتركب منها، ويمكن أن يُعَدُّ أمر العِرْق مثل ذلك فيقال: إنه مؤلف من ألوف أفراده الذين يتجدَّدُون، فلكل من هؤلاء الأفراد حياة خاصة كحياة خلية الجسم الواحد، وللعرق المشتمل عليهم حياةٌ جامعة وأخلاق عامة، فإلى تلك الحياة والأخلاق يجب أن ينظر الباحث في التاريخ.

وحينما يتم وضع علم نفس الأمم المقارن غير الموجود الآن، يمكن الناقد البصير أن يستخلص من الأخلاق الخاصة الأخلاقَ العامة الصالحة لتصوير المثال الخيالي المتوسط الذي هو عنوان الأمة فيقترب جميع أفرادها منه أو يبتعدون عنه إلى حدٍّ ما،٢ فالإنسان ليس ابن أبويه وحدهما، بل هو وارثُ عِرْقه أيضًا.

ويتألف مثال الأمة المتوسط من اجتماع الأخلاق المشتركة بين أكبر عدد من أفرادها، وتكون الأخلاق المشتركة بين أفراد الأمة كثيرة بنسبة تجانس العناصر التي تتألَّف منها هذه العناصر، فإذا كانت هذه العناصر متباينة أو قليلة التمازج بَدَت تلك الأخلاق المشتركة أقل عددًا، وإذْ كنا نستعير مقايساتنا من التاريخ الطبيعي فإننا نقول: إن الجماعات التي تتألف منها الأمة المتجانسةُ تُقاس بأنواع الجنس الواحد المتماثلة، وإن الجماعات التي تتألف منها الأمة القليلة التمازج تقاس بأنواع الجنس الواحد المختلفة.

ومن ذلك أنك تجد، مثلًا، اختلافًا كثيرًا بين ألف فرنسي وألف إنجليزي في آن واحد، مع أنهم ذوو أخلاق مشتركة يتألف منها مثالٌ فرنسيٌّ إنجليزيٌّ مشابه للمثال الذي يجده العالم الطبيعي عند وصفه لجنس الكلب أو الفرس، فوصف العالِم الطبيعي إذ كان ينطبق على جميع الكلاب والأفراس من حيث أوجه الشبه بينها فإنه لا يشتمل على أوجه الخلاف بينها البتة.

ونحن حين نضع تلك المبادئ الأساسية نَصِف مختلف عروق الهند، فنتبع في هذا الوصف الوضع الجغرافي لكل واحد من هذه العروق، ونحن بعد أن نصف سكان أقطار الهند نخصِّص فصلًا خاصًّا للبحث فيما أسفر عنه التوالد وتشابُه البيئات والنظم والمعتقدات من الأخلاق المشتركة بين شعوب الهند المختلفة.

(٣) تكوين عروق الهند: تقسيماتها الأساسية

لم يمضِ سوى وقت قصير على الزمن الذي كانت الهند تُعد فيه بلدًا واحدًا ذا صفات عامة واحدة، وعِرق واحد، وديانة واحدة، وحضارة واحدة، وفنون واحدة ثابتة غير متقلبة منذ قرون.

فرأيٌ فاسد مثل هذا لا يُقبل في هذا الأيام، فقد أوضحنا في فصل «البيئات» أن الهند ذات مناظر متنوعة وأجواء متباينة ومعايش مختلفة، فالناس في الهند متغايرون أجناسًا ومبادئ وطبائع وأخلاقًا وتمدنًا تغايُرَ البيئات التي تكتنفهم، فإذا قلنا إن الهند، بتخالفها، خلاصة الدنيا، فإننا نقول، أيضًا، إن سكان الهند خلاصة آدميي أدوار التاريخ المتعاقبة لما نرى فيهم من تفاوت.

يبدو البشر في الهند ذوي أمثلة متباينة، ففي الهند تجد شعوبًا بيضًا بياض الأوربيين بجانب المتوحشين السود، وفي الهند تستطيع أن تدرس صفحات تطور العالم سائرًا من طور الهمجية الأولى البادية في بعض مناطق الهند الوسطى الجبلية إلى طور الحضارة الزاهرة البادية في المدن الزاهية الراقية القائمة على ضفاف الغَنْج، فإلى دقائق الزمن الحديث التي أدخلها إليها آخر الفاتحين.

يمكن تقسيم اﻟ ٢٥٠ مليون الشخص الذين ندعوهم في أوروبا بالهندوس إلى أربعة عروق مختلفة وهي: العرقُ الأسود والعرقُ الأصفر والعرقُ التورانيُّ والعرقُ الآري، ونَجَم عن توالد هذه العروق الأربعة الكبرى على نِسَبٍ متفاوتة مع تفاوت البيئات ظهورُ عروق ثانوية في الهند أكثر عددًا وأشد اختلافًا من العروق التي تسكن أوروبا جميعها مثلًا.

إذن، ليس لكلمة «هندوسي» أيُّ معنى من الناحية الإثنولوجية، هذه الكلمة تطلق، في الهند نفسها، على كل شخص ليس مسلمًا ولا نصرانيًّا ولا يهوديًّا ولا مجوسيًّا، أي إنها تطلق على أتباع إحدى الطوائف التي أوجدتها الدِّيانة البرهمية فاعترف بها البُدَّهِيون فعلًا إن لم يكن مبدأً، وكانت هذه الطوائف، التي لا يُحصى عددها الآن، أربعًا وهي: طائفة البراهمة «الكهنة» وطائفة الأكشترية «المقاتلة» وطائفة الويشيَّة «التجار»، وطائفة الشُّودرا «الزراع»، ولا تدل هذه الطوائف على أقسام عرق، بل تشير إلى أصلها إشارة مفيدة كما نبين ذلك، فسنرى أن طبقة البراهمة آرية، وأن طبقة الأكشترية راجبوتيةٌ، وأن طبقة الويشية تورانية، وأن طبقة الشودرا ممزوجةٌ من التورانيين وسكان البلاد الأصليين.

والسود هم أقدم سكان الهند، ويلوح أنهم مقسومون إلى فرعين منذ أقدم العصور وهما: النيغريتو ذوو القامات القصيرة والشعور الصَّوِفَة٣ والتقاطيع المعصورة القاطنون في المناطق الشرقية والمناطق الوسطى، والزنوج ذوو المثال الأسترالي القاطنون في المناطق الجنوبية والمناطق الغربية والذين هم أطول من أولئك وأذكى منهم وأملس شعرًا من شَعْرهم، وترى من أولئك أناسًا في بعض أصقاع غوندوانا البائرة الجبلية، وترى من هؤلاء أناسًا في أودية نِلْ غيري، وكان ذانك الفرعان الفِطريان المتوحشان، اللذان لا تجد فيهما بصيصَ رقيٍّ، يسكنون غابات الهند وشواطئها قبل التاريخ فدُحِروا يومًا بعد يوم مع تقدم الحضارة فطَفِقوا ينقرضون بالتدريج.

والهند، كما ذكرنا في فصل سابق، بلدٌ مغلق عسير دخوله، فتفصلها جبال هِمَالْيَة والبحار عن بقية العالم، ويتعذر الاقتراب من شواطئ خليج البنغال بسبب ارتداد أمواجه إلى الوراء، ومن المحتمل أن دفعت الرياح الموسمية زوارق أناسٍ من أفَّاقي أفريقيا إلى سواحل بحر العرب فوقفت راكبيها جبال كهات الغربية التي كان يحتمي بها أهالي الهضاب العزل، فكان يمكنهم أن يقاوموهم من غير خطر.

والهند، إذ لم يُفكَّر في غزوها من البحر لذلك السبب، لم يدخلها الفاتحون إلا من جبال هِمَالْيَة العظيمة الواقية للهند على طوال واسع، والتي تُوطَؤُ في طرفيها فيتسع وادي بَرَهْمَا بوترا في شرقها وادي كابل في غربها طائفين بها.

من ذَيْنِكَ الواديين انقض غزاة آسيا على سهول الهندوستان الخصيبة في غضون القرون، وأكثر هؤلاء الغزاة وأرهبهم جاءوا من الغرب؛ لسهولة سلوك وادي كابل أكثر من وادي بَرَهْمَا بوترا الذي يمر من بقاع مجهولة الأمر قاسيةٍ مانعة من سير الإنسان بنباتها الأشعث وجوِّها المُوهِن.

ومع ما تراه من اختلاف ذَيْنِكَ الواديين سمَّاهما الإنجليز باسمين غير صحيحين دالَّين على أهميتهما الجغرافية والأهلية فدَعَوُا الغربي منهما بالباب الآري ودَعَوا الآخر بالباب التوراني.

لم يكن الباب التوراني «وادي بَرَهْمَا بوترا» ممرًّا للتورانيين بالمعنى الحرفي، بل بالمعنى العام، فاسم «التورانيين»، الذي يدل على شعوب التركستان أو توران ومن إليهم، أطلق على العِرْق الأصفر بأسره في بعض الأحيان، فكان أول من دخلوا باب الهند التورانيَّ قبل التاريخ، فبدوا أول عنصر أجنبي في الهند، أناسٌ صفرٌ جردٌ زُورٌ،٤ ولم يغمر طوفان التورانيين الحقيقيين ذوي الشعر الأملس واللُّحى الكَثَّة والعيون الأفقية سهول الهند إلا بعد ذلك بزمن طويل، وذلك من الباب الآري.

وقبل أن نتكلم عن أولئك التورانيين، نرى أن نبحث فيما آل إليه العِرْق الأصفر في الهند وما تركه فيها من أثر.

ابتعد غزاة الهند الأولون عن وادي بَرَهْمَا بوترا، متوجهين إلى الجنوب فوجدوا أنفسهم أمام منطقة الجبال الوسطى الشاهقة المعروفة اليوم بجبال غوندوانا، فكانت هذه المنطقة ملجأً للأهالي السود الذين لم يستطيعوا لأولئك الغزاة ردًّا، والذين هم مدينون فيما نالوه من الوقاية للجوِّ الخطر القاتل للأجنبي أكثر مما لطبيعة الأرض القَفْر الكثيرة المصاعب.

وانقلب الغزو الأصفر إلى اتجاهين بعد أن وُقِف على ذلك الوجه: أحدهما نحو وادي الغَنْج، والآخر نحو الجنوب سائرًا مع شواطئ خليج البنغال.

وأول ما أسفر عنه توالد غزاة آسيا وسُود الهند ظهورُ قدماء الدراويد الذين يُعدُّون سكان الهند الأصليين لتغلُّب العنصر الفطري، ثم جاء غزاة آخرون فدحروا هؤلاء إلى الجبال فانتشروا في جنوب شبه جزيرة الهند، ثم توالدوا هم وقدماء الدراويد، لا هم والزنوج رأسًا، فأسفر هذا التوالد عن ظهور الدراويد أو التَّمُول الذين يبتعدون عن المثال الأصلي أكثرَ مما تقدم.

وإذا نظرت إلى أثر الغزو الأصفر في عروق الهند رأيته يَتَجَلَّى في الشمال حيث وادي بَرَهْمَا بوترا الذي ازدحم عليه في قرون كثيرة ما خرج من آسيا الشرقية من الجموع لا ريب، وينتسب إلى العِرْق الأصفر الخالص مليونَا النفس اللذان يسكنان ولاية آسام، ومنطقة البنغال، وإن كان يسكنها مزيج من الآدميين تجد فيها أثر الغزوات الأولى التي اجتاحت بغير عائق سهولها الخصبة، وكلما تدرجتَ إلى الجنوب سائرًا على سواحل البنغال وجدت العِرْق الأصفر يغرق في طبقات السود القديمة، ويمكن تبيُّن العِرْق الأصفر في الشمال، حيث يسكن السانتهال مثلًا، أحسن من تبيُّنه في المناطق الجبلية الوسطى حيث ظل الكوند والملير والغوند قريبين من المثال الأول، وحيث تجد، على ما يُحتمل، حَفَدَة قدماء النيغريتو الأصليين.

ثم تبلغ جنوب الهند الممتد من غوداوري إلى رأس كُمَاري فترى الشعوب الدراويدية التي يُعَدُّ التَّمُول والتيلغو أهمها، والتي هي نتيجة توالد الأمم الصفر والأمم السود وما امتزج بها بعد زمن طويل من شتى العناصر، ولا سيما العنصر التوراني.

ونحن قبل أن نتكلم عن المغازي التورانية التي جاءت من غرب الهند، ولننتهي إلى العروق الصُّفر، نذكر أن سكان هضاب هِمَالْيَة العليا والأودية الواقعة بين هذه الجبال وكاراكورم، خلا وادي كشمير، هم من أهل التبت القريبين من جيرانهم سكان الصين الغربية، ولكننا لا نُعْنَى هنا كثيرًا بما أسفر عنه غزوٌ عنيف مفاجئ من النتائج، وإنما نقول: إن هذه الأودية والهضاب جزءٌ من التبت أكثر من أن تكون جزءًا من الهند من الناحية الجغرافية، وإن الشعوب التي تقطن فيها هي من أَرُومة التبت، وتعتنق الدين الذي يعتنقه أهل التبت، وتتصف بما يتصف به أهل التبت من الطبائع والأخلاق، وإنه يسكن لدَّاخ ودارستان وبالتي وبهوتان وجزءًا من نيبال تبتيون ذوو وَجَنات ناتئة وأجفان مزمومة.

ومع أنه يتعذر تعيين الزمن الذي نَفَذَت فيه المغازي من الباب التوراني إلى الهند، ومع أننا لم نرَ غزوةً تمت من هذه الطريق منذ بدء الأزمنة التاريخية نعرف مفصلًا تاريخ كثير من الغزوات التي جاءت من آسيا الغربية مجاوزةً الباب الآري، وهذا إلى أن أقدم هذه الغزوات ظل مجهولًا في مجاهل الزمن، ولم يُعرف إلا من نتائجه الإثنولوجية كما عُرفت نتائج مغازي الشعوب الصُّفر.

والتورانيون أشد الغزاة تحويلًا لعروق الهند من الناحية الجثمانية، والآريون هم الذين تركوا أقوى الأثر في عروق الهند من الناحية المدنية، فمن التورانيين أخذ سكان الهند نِسَب أجسامهم وتقاطيع وجوههم، وعن الآريين أخذ سكان الهند لغتهم ودينهم وسجيَّتهم وطبائعهم، وفي الهند تبصر ١٧٠٠٠٠٠٠٠ هندوسي يتكلمون باللغات الآرية مع أنك لا تجد من هذه الملايين غير فريق قليل يتَّصل بالعرق الأبيض الخالص اتصال دم.

والتورانيون أول من قصدوا الهند، فأقاموا في البداءة بجميع وادي السِّنْد وبقسم من وادي الغَنْج، وكانوا كلما زاد عددهم بمن ينضم إليهم من العُصَب الجديدة أوغلوا في داخل الهند فدخلوا الدَّكَن في آخر الأمر، فاندحر أمامهم الأهلون، كما اندحروا أمام الشعوب الصُّفر فيما مضى، فاضطُر هؤلاء الأهلون الذين عجزوا عن الدفاع إلى الاعتصام بمناطق الدَّكَن الوسطى الجبلية ذوات الغاب والآجام.

ففي تلك الجبال الوسطى يجب، كما قلنا، البحث عن حفدة قدماء السكان، أي قدماء الدراويد أو الزنوج الخُلَّص، وأكثر هؤلاء الشعوب القديمة عددًا وأعظمهم أهمية هم الذين يعرفون بالكول، ويقطن الكول في جهوتاناغبور الواقعة في وادي مهاندي الأعلى، ويقسَّمون إلى عدة أقوام تهنَّدوا، مع بقاء نحو مليون شخص منهم غير مقتبسين شيئًا من عادات الدراويد، الذين يسكنون الأودية والسهول، ومعتقداتِهم.

ومن لفظ «الكول» الدال على أهم الشعوب الأصلية اشتُقَّ التعبيران «الجماعة الكولية واللغة الكولية» الدالان على أكثر سكان المنطقة الجبلية القاطعةِ شبهَ جزيرة الهند من خليج كمبي إلى نهر الغَنْج وعلى لهجاتهم، وفي اتجاه الشرق من هذه المنطقة، على الخصوص، تبدو بكثرةٍ الشعوب الفطرية التي لم تتوالد هي والشعوب الأخرى، ويعيش في اتجاه منابع بَرَهْمني الواقعة في شمال وادي مهاندي «أصحابُ الأجَمَة» الذين يُعرفون بالدُّوَانغ، فيقولون إنهم أقدم البشر فيبدون وحوشًا من كل وجه.

ونحن، إذ نُشير إلى اللغة الكولية، نقول: إن اللغات في الهند لا تُعَيِّن العروق، فالشعب الذي يتكلم باللغة الكولية الخالصة فيسمَّى بسانتهال لم يكن من سكان الهند الأصلين ما أُشبع من العنصر الأصفر، ولا يُبحث في الجنوب، حيث تسود اللغات الدراويدية، عن حفدة العِرْق الآسيويِّ الشرقيِّ الذي أدخل هذه اللغات إلى الهند، ولا يخرج عن هذا المعنى قولنا إن الشعوب الهندية التي يمكنها أن تعتزَّ بانتسابها إلى أجداد آريين هي أقل الهنود عددًا مع شيوع اللغات الآرية أكثر من سواها في الهند.

وحينما دخل العِرْق الأبيض، الذي نسميه بالعرق الآري، الهندَ اضطرَّ إلى مقاتلة الدول المنظمة القوية التي أقامها التورانيون، لا الشعوب المتوحشة العزل الهيَّابة، فقهر ما هو قائم منها في وادي السِّنْد، فاستقر بهذا الوادي زمنًا طويلًا قبل أن يوغل في غرب الهند وجنوبها.

وما كان الآريون ليجاوزوا المنطقة التي تحميها جبال وِنْدهيَا قبل الميلاد بخمسة عشر قرنًا، وكان استعباد تُورانِيِّي الشمال أول ما صنعوه فجعلوا منهم طبقة الويشية «التجار» التي تجيء بعد طبقة البراهمة «الكهنة» وطبقة الأكشترية «المقاتلة»، ولم يجعلوا بعدهم سوى طبقة الشودرا «الزراع» المؤلفة من سكان الهند الأصليين.

حلَّ القرن الخامس عشر قبل الميلاد، فقام الآريون بغزوهم الأكبر الذي اتُّخذ موضوعًا للراماينا «إيلياذة الهندوس»، فأوغلوا في الدَّكَن بقيادة زعيمهم راما، فوصلوا، بعد ألف مفخرة، إلى نهاية شبه جزيرة الهند، فحملوا الناس، ومنهم أهل سيلان، على انتحال شرائعهم.

ومما جاء في أساطير الراماينا أن الآريين حاربوا الغيلان فاستعانوا بالقِرَدَة، فقلبوا عروش عبدة الأفاعي ملوك النَّاغا الأقوياء الأشداء رأسًا على عقب، فنرى أن أولئك الناغا هم الفاتحون التورانيون الأولون الذين شادوا في جنوب الهند دولًا زاهرة، فعَبَدوا، هم ورعاياهم قدماء الدراويد، الأفاعيَ، وأن أولئك القردة الذين أعانوا راما هم أهل البلاد السود.

وكان ذلك الغزو الآريُّ لجنوب الهند حملةً عسكرية أكثرَ من أن يكون استيلاءً ما ظلَّ عاطلًا من أثر في البلاد المحتلة.

ثم حل القرن الرابع قبل الميلاد، فكانت الهند عرضة لغزو جديد قام به الراجبوت الذين هم آريون على الأرجح، فهؤلاء الراجبوت، «أو أبناء الملوك كما يدل عليهم اسمهم»، الذين هم قوم جُسُرٌ محاربون أكفاء متماثلون، عُرِفوا بالأكشترية «المقاتلة» فأقاموا بالمنطقة الممتدة من شرق نهر السِّنْد إلى ما وراء آراولي الذي لا يزال يسمى براجبوتانا.

رأينا آنفًا أن الغزوات التي جاءت من الباب التوراني الواقع في شمال الهند الشرقي أسفرت عن سيطرة العِرْق الأصفر الذي توالد هو والزنوج فأُكره هذا العِرْق بعد زمن طويل على الاحتكاك بالتورانيين في وادي الغَنْج وجنوب الدَّكَن، فبمثل هذا نُلخِّص نتائج المغازي التي أتت من الباب الآري فنقول: إنها أدَّت إلى استيلاء العروق التورانية على غرب الهند وعلى شمال الهند الغربي، وإن هذه العروق التورانية لم تلبث أن خضعت لصفوة من الآريين فنجمت عن ذلك نتائج خلقية تختلف عن النتائج الجثمانية والمادية اختلافًا تامًّا كما بينا ذلك.

وإذا سرنا من الشمال إلى المنطقة الغربية، كما صنعنا ذلك بشأن المنطقة الشرقية، فكنا في البَنْجَاب وجدنا الجات والغوجر والسِّك، الذين هم من الشعوب التورانية على ما يظهر، يؤلِّفون ثلاثة أخماس الأهالي، وأن بقية هؤلاء يقتربون بلون جلودهم من الآريين، وإذا نزلنا إلى ما تحت ذلك رأينا الراجبوت الذين ينتسبون إلى الفصيلة الآرية، وإن لم يكونوا من خُلَّصها، ورأينا أن أهل الكجرات مزيج من مختلف العروق وإن كان العِرْق التوراني هو الغالب في هذا المزيج، ثم رأينا أن العنصر الآري يقف عند الهضاب التي يشتمل عليها وادي الغَنْج في الجنوب وعند جبال وِنْدهيَا التي تصل إليها، ثم لا نجد للعنصر الآري أثرًا تحت هذه المنطقة مع هيمنة نظم الآريين ومعتقداتهم في الغالب، ونجد فيما وراء بَمْبِي، وعلى جانِبَي جبال كهات، بضعة ملايين من الشجعان المقاتلين الذين هم من أصل توراني فيبلغون عدة ملايين فيسمَّون بالمراتها، وكلما أقبلنا إلى الوسط أو نزلنا إلى الجنوب وجدنا الحضارة الآرية والسَّحنة التورانية تذوب في الشعب الدراويدي، ونشأ عن امتزاج تلك العناصر على نِسَب مختلفة ظهورُ البِهيل الذين دحرهم الراجبوت إلى الجبال فغدوا عنوان قدماء الدراويد الذين أثَّر التورانيون فيهم قليلًا، فكانت منهم قبائل محافظة على تقاطيعها الأولى، فأقاموا بوِنْدهيَا الغربية، فبلغ عددهم نحو ثلاثة ملايين، وظهور المهار المتصلين بالجات التورانيين فسكنوا سلسلة جبال آراوَلي الشمالية فبلغ عددهم ٦٠٠٠٠٠ شخص، وظهور المينا المقيمين بمملكة جيبور في وادي الغَنْج الأعلى فبلغ عددهم نحو ٣٠٠٠٠٠ شخص، وظهور الراموسي والدهانغ المقيمين بسفوح جبالي كهات الغربية فتُبصر فيهم أثر العنصر الدراويدي كما تشهد بذلك جلودهم الدُّكْن وأنوفهم الفطس ووجناتهم الناتئة.

وبدأت غزوات الشعوب الإسلامية للهند في القرن الحادي عشر من الميلاد، فهذه الشعوب إذ كانت منتسبة إلى أصول شديدة الاختلاف من عربٍ وفرس وأفغان ومغول زاد اختلاط العروق السائدة لشمال الهند تعقيدًا، ونجم عن سلطان المسلمين تغيير عظيم في الطبائع والعادات والمعتقدات والحضارة بوادي السِّنْد ووادي الغَنْج، وإن لم يؤدِّ ذلك إلى ظور عِرق جديد من الناحية الإثنوغرافية؛ لعدم تمازج المسلمين وقدماء السكان تمازجًا وافرًا كافيًا.

ونحن، بعد أن أتينا بتلك الخلاصة الخاطفة فقسمنا سكان الهند إلى أربع جماعات كبيرة: «الكولية والدراويدية والتورانية الآرية والتبتية»، نبحث في العروق الثانوية ذوات السحنات المختلفة، ثم نفصِّل مظاهرها وأصولها وعاداتها ودياناتها والأدوار التي مثلتها في مختلف القرون، فإذا ما أتممنا ذلك أمكننا أن ندرس ما يشمل أكثرية الشعب الهندوسي من العادات والطبائع والأخلاق والنُّظُّم والحضارات.

هوامش

(١) كتاب «الإنسان والمجتمعات ومصدرهما وتاريخهما» وهو يقع في مجلدين.
(٢) يفترض نشوء هذا المثال المتوسط سريعًا بفعل الانتخاب الطبيعي الذي يُنتقى به خيار الناس في كل جيل فتنتقل صفات هؤلاء الخيار إلى ذراريهم، ولكن ميل الأفراد إلى التفاوت فيما بينهم بالتدريج، نتيجة لتقدم الحضارة، كما بينا ذلك في مكان آخر، يقضي بمكافحة سنن الوراثة المؤدية إلى أفول جميع من يجاوزون مستوى الطبقة الدنيا الكثيرة العدد المتوسط، أو برجوعهم إلى المثال المتوسط على الأقل، ومن أكثر الأمور التي أسفرت عنها المباحث الحديثة شمولًا للنظر وإيلامًا هو أن أرقى طبقات المجتمع في الذكاء والعقل تنحلُّ وتفنى بسرعة؛ لعطلها من الذراري أو لرجوعها القهقرى وتحولها إلى بُلْهٍ وأغبياء كما يشاهد في كثير من كبير الأُسَر، وقد يُفسَّر هذا بأن ما يُنال من الأفضلية في ناحية يكون في مقابل ما يقع من تدنٍّ في ناحية أخرى، فاختلال توازن كهذا لم يلبث أن يشتد في الذراري فيوجب تواريها لا محالة.
ويدلنا التاريخ على أن المجتمعات تعاني حكم هذه السُّنَّة القائلة بألا تجاوز المجتمعات مستوى معينًا في مدة طويلة، وبأن تخضع هذه المجتمعات لما تخضع له جميع الموجودات: ولادة فنمو فانحطاط فموت.
حقًّا إن اختلال التوازن يرفع الأفراد، ولكنه يؤدي عند اشتداده إلى خفض المجتمعات وانهيارها بسرعة، وحقًّا إن انحلال تلك الأسر يقضي بظهور غيرها، ولكن اختلال التوازن متى عمَّ لأسباب خلقية أو لتوالد أناس كثيري التماثل أو كثيري التباين أو لأسباب أخرى حانت ساعة الانحطاط كما نرى دنو بعض الأمم الأوربية منها.
(٣) الصَّوِفُ: الكثير الصوف.
(٤) الزور: جمع أزور، وهو الناظر بمؤخرة عينيه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤