حضارة العصر البرهمي
(١) الوثائق التي يستعان بها في بعث المجتمع الهندوسي كما كان قبل الميلاد بنحو ثلاثة قرون
كان وادي السِّنْد مقرًّا للحضارة الآرية التي وصفناها في الفصل السابق، وكان وادي الغَنْج محل نشوء الحضارة البرهمية التام.
استمر فاتحو الهند على زحفهم إلى الشرق في الدور الذي دام نحو ألف سنة ففصل بين دَوْرَيْ هذه الحضارة البارزيْن، فأضحَوْا سادة جميع الهندوستان، أي جميع القطر الواقع بين بحر عمان وخليج البنغال، وبين جبال هِمَالْيَة وجبال وِنْدهيَا، وخضع سكان هذا القطر الواسع الغني القدماء لقاهريهم نهائيًّا، وكفُّوا عن مقاتلتهم راضين بنيرهم مختلطين بهم، ورأى الآريون أن يجتنبوا هذا الاختلاط الذي بدا في الصميم فصار يؤدي إلى انصهار بعض العروق في بعض بعد أن كان سطحيًّا، فوضعوا، وضْع المُتِمِّ، نظام الطوائف الذي ذكرنا ظهوره الأول في العصر الويدي.
بلغت الحضارة البرهمية ذروتها قبل الميلاد بثلاثة قرون أو أربعة قرون، ففي ذلك الزمن، لا ريب، ألِّفت مجموعة شرائع مَنُو «مانوا، دهرما، شاسترا» التي صارت دستور الهند المدني والسياسي.
وظُن في بدء الأمر أن تلك المجموعة أقدم من ذلك بزمن طويل، فرجعها جونس إلى القرن الثامن قبل الميلاد ورجعها آخرون إلى القرن الخامس قبل الميلاد، ثم أُبدي حديثًا رأيٌ أقوم من ذلك كما يظهر، فلم يرجعها إلى ما قبل القرن الثاني أو الثالث قبل الميلاد.
إن مانوا دَهرما شاسترا أوثق مصدر لدينا عن العصر البرهمي، وهو يَعْدِل الرِّغْ ويدا عن العصر الويدي، وما وصفناه في أمر الويدا نصنع مثله في أمر شرائع مَنُو فنستنبط من هذه الشرائع الأساسية جميع الشواهد التي نتمثل بها، بالضبط، ما تشير إليه من الأزمنة.
وليست الكتب المقدسة وحدها هي التي نستجلي بها العصر البرهمي مع ذلك، فقد أخذ التاريخ، أيضًا، يُلقي بصيصًا، ولو ضعيفًا، على الهند القديمة بعد غزوة الإسكندر.
أَجَلْ، إن غزوة الإسكندر لم تُسفر عن كبير معرفة للغربيين، غير أنهم أبصروا بها القطر الحافل بالأسرار الواقع فيما وراء نهر السِّنْد فوجهوا إليه بعدئذ أفكارهم وأنظارهم في الغالب، فعنَّ لنيكاتور السلوقي، الذي هو أحد الأمراء المقتسمين لدولة الإسكندر المقدوني، أن يُتم ما بدأ به هذا الفاتح راجيًا أن يكون أوفر حظًّا منه فخاب أمله، فقد كان لدى ملوك الهند الشمالية من الحرس والجيوش الكثيرة ما لم يجرؤ معه على مقاتلتها مُخاطِرًا.
بَيْدَ أن ذلك الأمير فتح بقطريان فأصبح جارًا لأولئك الملوك فعرض عليهم أن يتفاوض هو وإياهم، فحالفه جندرا غوبتا «المعروف لدى الإغريق بساندروكوتوس» الذي كان من أعظمهم سلطانًا، فتزوج هذا الملك الهندوسي بابنته مضيفًا إياها إلى نسائه، مما عُدَّ خارقًا للعادة عند الإغريق والهندوس على السواء، فذهبت هذه الأميرة الفتاة إلى عاصمة زوجها باتلي بوترا الواقعة على ضفاف الغَنْج وغير البعيدة من رأس الدلتا لتلحق به، فرافقها إليه السفير ميغاستين، فقضى هذا السفير أوقات فراغه في وصف ما كان غريبًا عليه من طبائع الشعوب التي أصبح بين أظهُرها.
ومن المؤسف أن رحلة ميغاستين الكاملة المفصلة، كما يظهر، لم تصل إلينا، واليوم تعدُّ مُزَوَّرةً المجموعة التي عزاها أنيوس الفيتربي في القرون الوسطى إلى ذلك السفير السلوقي على أنها صحيحة، غير أن مؤرخي الإغريق واللاتين وجغرافييهم المعاصرين لهذا السفير والذين ظهروا بعده قد استشهدوا برحلته في الغالب فاقتطفو منها فصولًا كاملة، فتجد أسترابون، مثلًا، يستند إليها كثيرًا في الجزء الذي درس فيه جغرافية الهند، فنشأ عن ذلك أن انتهت إلينا منها قِطَعٌ واسعة بعض الاتساع، تُعَدُّ، بالإضافة إلى شرائع مَنُو، الأساس الذي نعتمد عليه في بعث الهند البرهمية.
حقًّا أن رحلة ميغاستين وشرائع مَنُو هي الوثائق الوحيدة التي تُستنبط منها معارف، على شيء من الصحة، عن العصر البرهمي، وأما القصائد الحماسية الكبرى، كالراماينا والمهابهارتا، فمحشوةٌ بالأساطير مهذبة عدة مرات لا ريب، فلا تَصْلح لمعرفة الزمن الذي وُضعت فيه ولا لتعيين ما أشارت إليه من الحوادث بالضبط، وإن كانت آثارًا أدبية خالصة يُرجع إليها أحيانًا بتحفُّظ كبير.
(٢) تقسيم المجتمع الهندوسي إلى طوائف
رأينا في أواخر العصر الويدي تقسيمَ الوظائف وتطورها لتكون إرثية، وذكرنا أن ذلك يوجب نظام الطوائف وإن كان لا يؤدي وحده إلى ظهور هذا النظام.
كانت ضرورة المحافظة على نقاوةِ العِرْق واحترام الأنساب وبقاء الأسر القديمة مما يشغل بال آريي العصر الويدي، فصار التفكير في ذلك هَمَّ مشترعي الآريين عندما دان للآريين الفاتحين شمالُ الهند فتفرق هؤلاء القليلو العدد بين سكانه المغلوبين الكثيرين.
وكانت الحقائق الإثنولوجية، التي هَدَت إليها التجارب فوُضعت في نصوص من الحِكَم، بديهيةً عند الآريين، فالآريون كانوا يعلمون، لا ريب، أن الغزاة لا يلبثون أن يفنوا في الشعب المقهور إذا امتزجوا به فلا يبقى لهم أثر بعد بضعة أجيال، وكانوا يعلمون، أيضًا، أن تزاوج رجل وامرأة من عرقين متفاوتين يؤدي في الغالب إلى ولادة أولاد متوسطين خَلقًا منحطين خُلقًا.
لم يلبث كل بلد يولد فيه أولاد من عِرق متوالد مُفسِد لصفاء الطبقات أن تُقَوَّض دعائمه وينحطَّ سكانه.
وأسرة الرجل مهما تكن شريفة ممتازة لا بد لهذا الرجل، إذا كان وليد طبقات مختلطة، من أن ينتقل إليه بالإرث شيءٌ من سجية أبويه وسوء خُلقهما.
وما في الرجل من فُقدان المشاعر النبيلة وغلظة الكلام والجَلَف وإهمال الواجبات فموروثٌ عن أم جديرة بالاحتقار.
والآريون قد تعلَّموا تلك المبادئ على حسابهم الخاص لا ريب، فلما راعهم، على الأرجح، هبوط عرقهم أقاموا الحواجز الواقية الشديدة التي لا تزال باقية.
ولا يدلُّ على ما في شرائع مَنُو من التعاليم على سلامة العِرْق الآري قبلها، وإن دلَّت على تقدير الآريين لضرورة سلامة عرقهم، فتوالد الآريين وغيرهم قد حدث حتمًا، فلم يُعَتِّم المثال الآري أن تغير، فلا تجد شريعة قادرة على مقاومة بعض الضرورات الفيزيولوجية.
ومما يؤيد هذه النظرية ما في المباني القديمة من النقوش، فتدل نقوش ذلك العصر، كنقوش بهَارَت مثلًا، على مثال نجده في القرون الآتية وفي مناطق الهند البعيد بعضها من بعض بُعدًا كبيرًا، كسانجي وبهاجا على الخصوص، فلا نرى بينه وبين المثال القفقاسي وجه شبه، فهو ذو وجه عريض صفيح يُثبت تغلُّب العنصر التوراني، والآريون الخُلَّص إذا ما وُجدوا في ذلك الحين كانوا أقلية صغيرة منتسبة إلى طائفة البراهمة وحدها لا ريب.
ويدل درس المجتمع في ذلك العصر على تطوره خَلقًا وخُلقًا، فقد أضيف ثقل نظام الطوائف الذي وُضع لإنقاذ ما بقي من النقاوة والفخر إلى نير التقاليد الشديد الذي حُصِرت فيه الحضارة الهندوسية فلا تخرج منه أبدًا، فَغَدَت الآلهة هيولانية، وحلت تعاليم مَنُو الجافة محل الشعر الآري الرائع، نعم، إن الخيال لم يُقيد تمامًا، بَيْدَ أنه أضحى أشعث ثقيلًا منتجًا للأساطير المطولة التي لا حد لها بدلًا من أدعية الويدا البليغة أو نشائدها الساطعة.
والطوائف التي ورد ذكرها في شريعة مَنُو أربع: طائفة البراهمة «الكهنة» وطائفة الأكشترية «المقاتلة» وطائفة الويشية «الزراع والمرابين والتجار» وطائفة الشودرا «سِفْلة الناس ليس لهم مهنة خاصة فلم يُعترف لهم بعمل غير خدمة الآخرين.»
وعلى الرجل أن يتزوج بامرأة من طائفته أو من طائفة أدنى منها، ولكن الرجل الذي يتزوج بواحدة من الشودرا يصبح مفضوحًا مهتوك السِّتر، ويطرد من طائفته، ويصيبه خزيٌ في الدنيا والآخرة، فلا يتزوج نساء الشودرا إلا رجال من الشودرا.
ويمكن البرهمي أن يتزوج امرأة من الأكشترية أو من الويشية، ولا عكس، فمن معتقدات الآريين أن الأب الذي هو من طائفة أعلى من طائفة زوجته يستطيع أن ينقل بعض صفاته إلى ابنه، وأن الأب الذي هو أدنى من طائفة زوجته يُنْزِل هذه الزوجة وأولاده منها إلى مستواه، فيُنظر في عدم الكفاءة الحقيقية في الزواج إلى زواج المرأة من حيث الذراري.
أراد الرب المولى تكاثر الجنس البشري فخلق من فمه وذراعه وفخذه ورجله البراهمة والأكشترية والويشية والشودرا، وأراد دوام هذا الجنس فجعل لكلِّ واحدة من هذه الطبقات أعمالًا خاصة.
فعهد إلى البراهمة في درس أسفار الويدا وتعليمها وتقريب القربان وإدارة ضحايا الآخرين والعطاء والأخذ.
وفرض على الأكشترية حماية الشعب وممارسة الإحسان والتضحية وتلاوة الكتب المقدسة وعدم الانهماك في الشهوات.
وخصَّ الويشية بتربية المواشي وإيتاء الزكاة والتضحية ودراسة الكتب المقدسة والتجارة والربا والحرث.
وأوجب على الشودرا عملًا واحدًا فقط، وهو خدمة تلك الطبقات من غير أن يحُطُّوا من قدرها.
وليُعْرَف أمر الرجل الذي ينتسب إلى طبقة دنيئة، والذي ولد من أم حقيرة فلم يظهر أمره جيدًا فيُخيَّل إلى الناظر إليه أنه رجل شرف وما هو بذلك.
يمكن المرءَ الذي يولد من أب شريف وأمٍّ حقيرة أن يكون شريفًا بخصائله، ولكن الذي يولد من أم شريفة وأب حقير يُعَدُّ حقيرًا كما هو حكم القَدَر.
لا يَنْجُل الرجل الشودريُّ الذي يتزوج امرأةً من طبقة الكهان غير ولدٍ أدنى منه، كما أن كل واحد من هؤلاء المُوَلَّدين الأدنياء يتزوج بواحدة من بنات الطبقات الأربع الخالصة لا يَنْجُل إلا ولدًا أدنى منه.
نار جهنم هي دار البرهمي الذي يتزوج امرأة من الشودرا، لا من طبقته، فإذا وُلد له ولد منها طُرد من طبقة البراهمة.
كان تفوُّق رجال البراهمة على بقية الشعب عظيمًا، وما كانوا يتمتعون به من السلطان والحقوق والاحترام يجعلهم من شِبَاه الآلهة أكثر من أن يكونوا من البشر، وقد نالوا هذا المقام الممتاز بعنصرهم الطيب وبما لصلواتهم من التأثير المزعوم في عزائم الآلهة وبما اكتسبوه من العلم في جميع أيامهم.
وكان البراهمة يقومون ببعض الواجبات، في الحقيقة، في مقابل ما يتمتعون به من الامتيازات، وبيانُ الأمر: أن حياة البرهمي كانت تُقسم إلى أربعة أدوار: دور المراهقة وفيه يتخرج البرهمي على أساتذة مخصوصين في دراسة الكتب المقدسة والاطلاع على أسرار الدين، ودور الفتوة وفيه يتزوَّج البرهمي فيصبح أبًا وربَّ أسرة ما كانت وظائفه وراثية وما كان واجبه الأول أن يكون ذا ولد، ودور الكهولة وفيه يقضي البرهمي أيامه معتزلًا متبتلًا زاهدًا، ودور الشيبة وفيه يصبح البرهمي كاملًا متصلًا بالآلهة رأسًا متأملًا متأهبًا للموت.
ويجب أن يكون هذه الحياة، التي قُسِّمت على هذا الوجه إلى هذه الأدوار الأربعة «المراهقة والفتوة والكهولة والشيبة»، لكل هندوسي وُلِد مرتين أي لكل هندوسي مقبول، وَيُعَدُّ جميع رجال الطوائف الثلاث الأولى من الذين ولدوا مرتين، فالواحد منهم إذا خرج من دور المراهقة وضع حول عنقه حبلٌ رمزي في احتفال؛ ليكون علامةً على الولادة الروحية وعلى أنه ابن برهمة، غير أن البراهمة وحدهم هم الذين يمارسون بدقة الوظائف الأربع: وظيفة المرشح للرهبانية ووظيفة رب الأسرة ووظيفة الناسك ووظيفة القانت.
يؤجر الواهب مرة على هبة المال لغير البرهمي، ويؤجر مرتين على هبته لرجل يزعم أنه برهمي، ويؤجر مائة ألف مرة على هبته لبرهمي مُتبحِّر في كتب الويدا، ويؤجر أجرًا لا حد له على هبته لبرهمي متبتل إلى علم اللاهوت.
إذا وُلد البرهمي وُضع في الصف الأول من صفوف هذه الدنيا، والبرهمي إذ كان السيدَ الحاكمَ لكل مخلوق وجب عليه أن يحافظ على كنز الشرائع المدنية والدينية.
والبرهمي محلٌّ لاحترام الجميع والآلهة بسبب نسبه وحده، وأحكامه حجة في العالم، والكتاب المقدس هو الذي يمنحه هذا الامتياز.
كل ما في هذا العالم ملك البرهمي، وللبرهمي حق في كل موجود بسبب البِكْرِيَّة والنَّسَب.
والبرهمي إذا ما افتقر حُقَّ له أن يمتلك الشودري الذي هو عبدٌ له من غير أن يجازيه الملك على ما فعل، فالعبد وما يملك لسيده.
ولن يُدنَّس البرهمي صاحبُ الرِّغْ ويدا بذنب ولو قتل أهل العوالم الثلاثة وتناول طعامًا من أسفل رجل.
ولا ينبغي للملك أن يجبي خراجًا من برهمي عالِم بالكتاب المقدس ولو مات الملك محتاجًا، ولا يجوز له أن يصبر على جوع برهمي في ولاياته.
وليجتنب الملكُ قتلَ برهمي ولو اقترف جميع الجرائم، وليطردْه، إذا رأى، من مملكته على أن يترك له جميع أمواله وألا يصيبه بأذى.
والبرهمي المُحْصَن إذا ما زنى قُصَّ شعر رأسه قصًّا شائنًا، على حين يُقتل الزناة المُحْصَنون من أبناء الطبقات الأخرى.
ومن حقوق البراهمة أن يكونوا مشيرين للملك، فعلى الملك ألا يقطع أمرًا مُهِمًّا قبل أن يستشير أكثرهم دراية، فكان يجتمع بانتظام مجلسٌ يدعى بالمجلس الكبير للبحث في أهم الشئون.
وشاهَد ميغاستين ما كان يتمتع به البراهمة من ضروب العز والشرف، وحدَّث عن فلسفتهم معجبًا فقال: إنها قريبة من فلسفة سقراط وفيثاغور.
وكان الأكشترية «المقاتلة» يقومون بأمور الحرب وحدها فلا يمارسون حرفة أو مهنة أخرى، وكان وقت السلم لهم وقت بطالة، وكان يجب عليهم أن يستعدوا للحرب على الدوام، وأن يُلَبُّوا أول نداء ما قامت رسالتهم على حماية الشعب وما أركن الويشيُّ «الزارع» إلى مرابطتهم في الثغور فحرث حقله مطمئنًا.
لا فَلَاحَ للأكشترية بغير البراهمة، ولا ارتقاء للبراهمة بغير الأكشترية، فَتَانِكَ الطائفتان إذا ما اتحدتا كُتب لهما الفوز في الدارين.
يجب أن يُعَدُّ البرهمي أبًا للأكشتري ولو كان عمر البرهمي عشر سنوات وعمر الأكشتري مائة سنة، ويجب أن يحترم الأكشتريُّ البرهميَّ على هذا الأساس.
ومن ثَمَّ ترى الفرق بين تَيْنِكَ الطائفتين الأوليين، وهذا الفرق ليس بالذي يذكر إذا ما قِيس بالهُوَّة التي تفصلهما عن بقية الشعب، ويبدو الأكشتري نِدًّا للبرهمي من بعض الوجوه كما يُستشفُّ من ذلك النصِّ الدالِّ على الصلة الوثيقة بينهما، ويبدو ما لا يتصوره العقل من الوهاد العميقة بينهما وبين الويشية، ولا نقول الشودري الذي يكاد يكون غير موجود في المجتمع.
وكانت طبقة الويشية تشتمل على الزراع والتجار والمرتهنين، وكان هؤلاء يُعَدُّون من الذين يُولدون مرتين، وإن كان قبولهم يتم بعد الأكشترية بمدة، كما أن قبول الأكشترية هؤلاء كان يتأخر عن قبول البراهمة.
وما كان الويشي ليهبط إلى درجة الأُجَرَاء مهما رأيت من اتِّضاع مهنته، فكان للويشي منزله وأسرته التي هو ربُّها المحترم، ولا شيء كان يجلب العار لدى الهندوسي البرهمي كإيجار المرء نفسه من الآخرين، فالخدْمةُ من شأن الدواب والشودرا.
يجب على الويشي بعد أن يُقلَّد الحبل المقدس ويتزوج امرأة من طائفته أن يُعْنَى جادًّا بمهنته ويُربي المواشي على الدوام.
وليعلم جيدًا كيف يبذر الحبوب، وليُفرِّق بين الأرض الجيدة والأرض الرديئة، وليطلعْ على نظام الأوزان والمكاييل اطلاعًا تامًّا.
وليعرف أُجَرَ الخَدَم ولغات الناس وما تُحفظ به السلع وكل ما يَمُتُّ إلى البيع والشراء بصلة.
يجب على الشودري أن يمتثل امتثالًا مطلقًا أوامر البراهمة سادة الدار العارفين بالكتب المقدسة والمشتهرين بالفضائل، فترجى له السعادة بعد موته «ببعث أسنى».
خدمة الشودري للبراهمة هي أفضل عمل يُحمد عليه، ولا أجر للشودري على عمل آخر يقوم به.
ولا يجوز للشودري أن يجمع ثرواتٍ زائدة، ولو كان على ذلك من القادرين، فالشودري إذا جمع مالًا آذى البراهمة بِقِحَتِه.
ويجب نفي ابن الطبقة الدنيا الذي تُحدِّثه نفسه بأن يساوي رجلًا من طبقة أعلى من طبقته وأن يُوسم تحت الوِرْك.
وتُقطع يده إذا علا من هو أعلى منه بيده أو عصاه، وتُقطع رجله إذا رفسه برجله حين الغضب.
وإذا ما دعاه باسمه أو باسم طائفته مُتَشتِّمًا أُدخل إلى فمه خنجرٌ مُحْمًى مثلوث النصل طوله عشرة قراريط.
ويأمر الملك بصب زيتٍ حار في فمه وفي أذنيه إذا بلغ من الوقاحة ما يُبدي به رأيًا للبراهمة في أمور وظائفهم.
ومن يك ذا علاقات برجل منبوذ أُسقط في نهاية سنة، ولا يكون هذا السقوط، فقط، بأن يُقرَّب معه أو يُقرأ معه الكتاب المقدس أو يُحالَف مما يؤدي إلى السقوط حالًا، بل ينجُم أيضًا عن الذهاب معه في مركبة واحدة أو الجلوس معه على متكأ واحد أو الأكل معه حول خِوَان واحد.
(٣) المدن والمباني
أقام الهندوس في العصر البرهمي مبانيَ فخمةً ومدنًا زاهية على ضفاف الغَنْج، فكانوا بذلك على عكس آريي العصر الويدي الذين لم يُنشئوا غير قرًى حقيرة.
وأطلال ما شاده الهندوس في العصر البرهمي قيلةٌ جدًّا، ويُثبت ما بقي منها، كنقوش بهَارَت وأعمدة أشوكا، أن الهندوس كانوا ماهرين في فن العمارة.
ومن المحتمل أن أُنشئت أبنية الهند الأولى من الخشب والآجُرِّ، وأن المباني الحجرية لم تكن غير نسخة عنها، وليس ما قام به ميغاستين من الوصف وحده هو الذي أَستند إليه في هذا، بل أستند، أيضًا، إلى مشاهداتي في نيبال التي حافظت على طبائع الهند القديمة، فقد وجدتُ فيها أعمدة حجرية غير قليلة اقتُبِسَت نقوشها من نقوش الأعمدة الخشبية اقتباسًا تامًّا.
والأمر مهما يكن فإن الذي لا ريب فيه هو أن الهندوس كانوا مالكين لمدن مهمة في زمن ميغاستين، فما وصف به هذا السفير اليوناني مدينة بالي بوترا الكبرى من القول يدلنا على اتساعها وقوتها وعظمتها.
قامت تلك المدينة، كما روى ميغاستين، على ضفاف الغَنْج وكانت مسطحة مستطيلة جدًّا وكان يحيط بها سورٌ، وكان يوجد في أسفل هذا السور خندق عريض، وأثار عجب ميغاستين قصر الملك فيها وأسواقها وحوانيتها المملوءة بالسلع الثمينة والمواكب الزاهية التي كانت تجوب شوارعها.
هي بقعة واسعة دَسِمَة باسمة وافرة الغنى مملوءة بالحبوب والمواشي واقعة على ضفاف سراجو مسماةٌ كوسلا، هنالك كانت مدينةٌ مشهورة في جميع العالم أنشأها سيد البشر مَنُو، فكانت تدعى بأجودهيا.
يا لجمال تلك المدينة ويا لسعادة تلك البلدة التي كان عرضها ثلاثة أودجنا، وكان طول سورها الرائع اثني عشر أودجِنا!
كان لتلك المدينة أبواب يفصل بعضها عن بعض مساوفُ متساوية، وكان يقطعها شوارع كبيرة عريضة، وكان يسطع من هذه الشوارع الشارعُ الملكي حيث تَرْشَاشُ الماء يُسَكِّن ثائر الغبار.
وكان تجار كثيرون يترددون إلى أسواقها، وكان كثير الحلي يزخرف حوانيتها، وكانت منيعة، وكان كبير البيوت يُغَطِّي أرضها، وكانت مزينة بالغياض والحدائق العامة، وكانت تحيط بها الخنادق العميقة التي يتعذر اقتحامها، وكانت دُور صِناعتها طافحة بأنواع الأسلحة، وكانت الأقواس البديعة تُتَوِّج أبوابها فيحرسها النَّبَّالة على الدوام.
وكان الملك المنصور العالي الشأن دَشَرَتْها يملك تلك المدينة كما يملك الإله إندرا مدينة الخالدين أمَرَاوَتِي.
وكانت البنود الخافقة ترفرف فوق حنايا مداخلها المنقوشة، وكانت تتمتع بكل ما ينتجه مختلف الفنون والمهن، وكانت زاخرة بالمراكب والخيل والفِيَلَة والعُدد والمقامع وآلات الحرب، وكانت طرقها ذوات الأبواب المتينة، وأسواقها الحسنة التوزيع على أبعاد محسوبة حسابًا دقيقًا تَعِجُّ بالباعة والسُّعاة والسياح، وكانت ألوف الجموع تغدو وتَعْدو فيها، وكانت تحليها العيون الساطعة والبساتين العامة وَرِدَاه المجالس وضخم المباني الموزَّعة توزيعًا كاملًا، وكانت تبدو محطة لمراكب الآلهة الحية في هذه الدنيا؛ لما فيها من هياكل هذه الآلهة.
(٤) الحكومة والإدارة
يجب ألا يُستخف بالملك ولو كان طفلًا، وذلك بأن يقال: إنه إنسان، فالألوهية تتجسَّم في صورة الملك البشرية.
ويظهر أن حكومة ذلك العصر كانت ذات حُنُوٍّ أَبَوِيٍّ فلم تَبْدُ شديدة على الرعية، وكان البراهمة على رأسها تقريبًا بسبب مركزهم الطائفي، فكان على الملك أن يعمل برأيهم وأن يُجزل لهم العطايا، وكان لصلواتهم من النفوذ ما كانوا يُعَدُّون به قادرين على جعل أيام حكمه سعيدة مجيدة أو على صبِّ ضروب الغضب وجميع اللعنات السماوية على رأسه.
ومن الأكشترية كان يُنْصَبُ الملك، وللملك على الأكشترية، وقد كانوا رفقاءه في الجيش، احترامُ الجنود لقائدهم.
إذن، كل سلطان الملك المطلق يتجلَّى على الويشية، ولم يُعَدَّ رجال هذه الطائفة إلا من مُساقيه ومزارعيه، فكانوا يزرعون الأرض ويتاجرون لأجله، وإن شئت فقل لأجل الدولة، فالضرائب، وإن كانت تُجبى للملك، كان على الملك أن ينظم الجيش ويرعاه وأن يقوم بكل ما ينفع الرعية من الأعمال.
وكان في الولايات وفي المدن وفي أحقر القرى مفتشون لمراقبة إنتاج الأراضي وقِيَم السلع والأثمان التي تُباع بها كي تُجبى ضرائب الملك منها بعد أن تعين.
ويلوح لنا أن نوع الإدارة ذلك مزعج جائر، بَيْدَ أن احتماله كان سهلًا على الهندوس كما يظهر، وهم الذين شبههم ميغاستين بالأولاد السَّهْلِي الانقياد فقال إنهم أكثر شعوب العالم دماثة وتسليمًا، شأنهم في الزمن الحاضر.
والملوك، مع ما كانوا يتمتعون به من السلطان المطلق، لم يكونوا قادرين على إساءة استعمال مقامهم، فهم، إذ كانوا مُنْزَوِين في قصورهم مُلزمين، مع انتظام في العيش، بتطبيق شرائع مَنُو والعمل بتعاليمها الكثيرة في واجبات الملك، كان همهم الكبير مصروفًا، على ما يظهر، إلى الخلاص من الخنجر والسُّمِّ، فعلى ما كان يَحُفُّ منصبهم من الأخطار كان محل رغبة وطمع، والقاتل الموفَّق الذي يَخْلُف الملك إذ كان يُعَدُّ موجودًا إلهيًّا فور قبضه على التاج والصولجان وإذ كان لا يخشى سوى الإخفاق وجب على الملك أن يتذرع بالحذر وحده لإنقاذ حياته، والحذر ما توصيه به شريعة مَنُو أيضًا، فترى أن تُؤلَّف حاشية الملك من أناس ضعاف ذوي حياء يخشون حَوْكَ الدسائس حوله والائتمار به، وأن يُغيِّر الملك مكان نومه في الغالب، وألا يسكر لاحتمال قتل إحدى زوجاته إياه في أثناء سكره، طمعًا في الزواج بخَلَفِه.
ولم يكن من حق إنسان، مع ذلك، أن يسكن داخل القصر غير الملك وأزواجه، فكان على حرس الملك أن يقيموا بخارجه.
وكنت ترى بين حين وحين موكبًا رائعًا مشتملًا على الملك وزوجاته مؤلَّفًا من فُيُول مجهزة بأفخر جهاز ومن نساء مسلحات ومن نَبَّالة وحرس سائرًا بأُبَّهة من الشوارع إلى الصيد بين حبال ممدودة على الجانبين وقفًا لمحبي الاستطلاع.
وكنت ترى الملك حينما يذهب ليقرب القرابين الرسمية أو ليحكم بين الرعية أو ليقود الكتائب.
ليجتذب الملك من يستطيعون أن يساعدوه على بلوغ مآربه، كأقرباء الأمير العدو الطامعين في عرشه أو وزراء هذا الأمير الساخطين، وليعلم جميع ما يصنعه الأعداء، فإذا ما آنس من السماء عطفًا حارب، غير هيَّاب، ليفتح بلادًا.
ولم يكن التجسس نافعًا ضد الأعداء وحدهم، بل كان يُعَدُّ أداة حكومية صالحة، فبالعيون كان الملك يكتشف الائتمار به، وبهم كان يعلم مدى نزاهة مفتشيه وإخلاصهم، وبهم كان يراقب الغلال والأسواق درءًا لكل غشٍّ وتدليس في جباية الخراج.
يمكن إبلاغ الضريبة المفروضة على التجار في زمن العُسر إلى ثُمُن الغلات، وإلى رُبعها، وإلى واحد من عشرين من الربح النقدي بعد أن تكون في زمن اليُسر واحدًا من اثني عشر من الغلَّات وواحدًا من خمسين من الربح النقدي، ويجب على الشودرا والعمال والمحترفين أن يؤدوا عمل يوم واحد في الشهر من غير أن يُؤتُوا ضريبة.
ومن ثم تبصر أن الشودرا ليس لهم ثروة غير العمل فلا يؤدون إلى بيت المال ضريبة سوى عمل يومٍ واحد في الشهر.
وكانت المراقبة العامة في البلاد محكمة التنظيم، فكان لكل قرية وكل مدينة مفتشها الذي يرفع تقريره إلى المفتش الأعلى لمجموعةٍ من المدن، ثم يرفع هذا المفتش تقريره إلى مفتش الولاية، ثم يرفع مفتشو الولايات النتائج رأسًا إلى وزراء الملك الذين كانوا يُختارون من أعلم البراهمة.
وكان للجيش أيضًا مفتشون من مراتب مختلفة على حسب أهميتهم.
(٥) إقامة العدل، الشرائع والعادات
على الملك الذي يود أن ينظر في الخصومات أن يذهب إلى مجلس القضاء متواضعًا هو وأناس من البراهمة والمشيرين المحنكين.
فالملك إذا لم يفعل ذلك وجب عليه أن ينيب عنه برهميًّا مثقفًا.
وليدقق هذا البرهمي في القضايا المعروضة للفصل فيها مستعينًا بثلاثة مساعدين.
وليختر الملك لتفسير الشريعة، إذا أراد، رجلًا من طبقة الكهنوت فلا يستند هذا الرجل في القيام بالواجبات وبالدلالة عليه إلى غير نسبه، أو ليختر رجلًا يبدو من البراهمة وإلا فمن الأكشترية أو الويشية، ولكن ليتجنب اختيار مفسرٍ لها من الطبقة السُّفلى.
يجب على الملك الصالح أن يدرس قوانين الطبقات والولايات الخاصة، وأن يدرس نُظُم شركات التجار وعادات الأُسر، وأن يجعل لها قوة القانون إذا لم تكن تلك القوانين والنظم والعادات مخالفة لتعاليم الكتب المنزلة.
والخصومات بين الناس كانت قليلة، فكان الهندوس يَمْقُتون الدعاوى خلافًا لما يشاهَد في أيامنا، وكانت الجنح والجنايات تُفصل بعد عناية كبيرة واحتفال عظيم.
والعيون هم الذين كانوا يكتشفون الجرائم في الغالب، فكان التجسس شاملًا للعدل والسياسة، والبغايا، على الخصوص، هُنَّ اللائي كن يقمن بأعمال التجسس، وكان الغريب إذا ما وصل إلى البلد يحاط، من غير أن يشعر، بجواسيس لا يتركونه.
يجب على كل عاقل ألا يحلف زورًا ولو من أجل أمر تافه، فالبوار في الدنيا والآخرة للشاهد الكاذب.
وَيُعَدُّ لشاهد الزور من النكال ما يُعد لقاتل البرهمي أو لقاتل المرأة أو لقاتل الصبي أو للذي يؤذي الصديق أو للذي يُتلف المال.
سيهوي في نار جهنم رأسًا على عقب المجرم الذي يشهد الزور عند سؤاله من قبل القضاء.
يجب أن يختار الشهود للقضايا في جميع الطبقات، من أناس موثوق بهم عالِمين بواجباتهم خالين من الغرض، ويجب أن يرد من لم يكونوا من هؤلاء.
لا يجوز أن تقبل شهادة من لهم مغنم، ولا شهادة الأصدقاء، ولا شهادة الأُجَراء، ولا شهادة الأعداء، ولا شهادة من اشتهروا بسوء النية، ولا شهادة المجرمين.
لا يُفرض تقصِّي أمر الشهود في جرائم الغصب والسرقة والزناء والشتائم وسوء المعاملة.
تُثبت تلك النصوص وغيرها، مما لا نرى سرده في هذا الكتاب، درجة حرص براهمة الهندوس على إحقاق الحق بتدقيق ووضوح.
ليُحَلِّف القاضي البرهميَّ بصدقه، وليُحَلِّف الأكشتريَّ بخيوله أو فُيُوله أو سلاحه، وليُحلِّف الويشيَّ ببقره وحبوبه وذهبه، وليُحَلِّف الشودريَّ بكل الجرائم.
أو ليأمر القاضي، بحسب أهمية المعضلة، من يريد امتحانه بأن يمسك النار بيده أو يُغطَّس في الماء أو يمس رأس زوجته ورأس كل واحد من أولاده على انفراد.
فالذي لا يحرقه اللهب أو لا يطفو فوق الماء فلا يناله أذًى يُعَدُّ صادقًا في يمينه.
ومن يتصفح السِّفر الثامن والسِّفْر التاسع من شرائع مَنُو يجدهما مملوءين بما يجب عمله في تحري الآثام والجرائم وبالعقوبات التي تفرض على المذنبين.
وتوجَّه تلك الأحكام رأسًا إلى الملك الذي هو قاضي المملكة الأعلى والمسئول عن جميع ما يُقترف فيها من الجرائم الصغيرة والكبيرة.
سدس ثواب طيِّب الأعمال للملك الذي يحمي رعيته، وسدس جزاء سيئ الأعمال يقع على الملك الذي لا يسهر على مصالح رعيته.
وسدس ثواب ما يُقَدَّم إلى الآلهة من القراءات الصالحة والقرابين والهبات والتسابيح للملك الذي يُجير رعيته.
يمكن الدائن أن يتخذ جميع الوسائل المألوفة لإكراه المدين على رد ما استدانه.
وعلى الملك ألا يُعزِّر دائنًا أكره مدينه على رد ما استدانه.
والمقصود من عبارة «اتخاذ جميع الوسائل المألوفة لاسترداد ما استدانه المدين» هو اتخاذ طرق الإرغاب والإرهاب وتوسيط الأصحاب نحو المدين وتعقُّبه في كل مكان وفي بيته والقبض على زوجته وأولاده، ووقف هؤلاء في بيت الدائن، والالتجاء إلى الجَلْد في نهاية الأمر.
ولم تكن أبواب اليُسر موصدةً دون المدين، فكان يمكنه أن يوفِّي ما عليه من الدين بأن يعمل مقدارًا فمقدارًا، وإذا ما عقد مقايضة أو مصالحة أو مبايعة أمكنه الرجوع عنها في خلال عشرة أيام، فذلك العقد لا يصبح باتًّا لا يُنقض إلا بعد انقضاء عشرة أيام.
والشريعة عيَّنت مقدار الربا، وكان هذا المقدار يختلف باختلاف الطوائف، فما كان يؤديه البرهمي من الربا أقل مما يؤديه الأكشتري، وما كان يؤديه هذا أقل مما يؤديه الويشي.
يجب على الملك الذي يطمع في سيادة العالم وفي السعادة الثابتة الأبدية ألا يغفل طرفة عين عن مجازاة الذي يقترف أعمال العنف كالحرق وقطع السَّابلة.
وما الملك الصابر على مقترف أعمال العنف إلا بالذي يلقي نفسه في الهاوية فلا ينال غير بغض الناس.
بَيْدَ أن من يقترف من أبناء الطبقات الأخرى تلك الجناية غير متعمد يخسر أمواله ويُنفى من البلاد، ومن يقترفها عمدًا يُقتل.
وتقول العقوبات المنصوص عليها في شريعة مَنُو بمصادرة الأموال أو النفي أو القتل عند اقتراف الجنايات الكبرى كالقتل أو زنا الأزواج، وبالغرامة أو قطع العضو أو السجن عند السرقة.
وعُد خطف البنات وغصب الفتيات وزناء الأزواج من الجنايات الكبرى؛ لما يؤدي إليه ذلك من تمازج الطوائف الذي حرمته شرائع مَنُو، وسنعود إلى هذا الموضوع في المطلب الذي خصصناه للبحث في أحوال النساء.
وإنني أختم قولي الإجمالي في النظام القضائي بكلمة عن المواريث فأقول: إن الأولاد كانوا يقتسمون ميراث أبيهم بالتساوي حين وفاته، ومما كان يحدث أن يخصص الأب ابنه البكر ذا المزايا الحميدة بجميع التركة فيقوم مقامه بعد موته، وكان إخوة الميت وأبواه يرثونه عندما يتوفى بلا ولد، وكان الملك والبراهمة يرثونه إذا مات بلا وارث.
(٦) الجيش وفن التعبئة
كان جيش براهمة الهندوس يؤلَّف من طبقة الأكشترية، وكان مما يخالف الشريعة أن يتعاطى أكشتري غير مهنة الجندية، والشريعة كانت لا تأذن للأكشتري في اتخاذ مهنة أخرى إلا عند أقصى الضرورة، والأكشتري كان يعيش جنديًّا حتى في زمن السِّلْم.
ومما رواه ميغاستين وجود معسكر جامع لجميع المقاتلين مُقدِّرًا عددهم بأربعمائة ألف، فكان هؤلاء يقضون أيامهم في تمرين قوَّتهم وحذقهم في اللعب والشرب والنوم، وكان الملك يعرضهم بين حين وحين.
وأُعجب ميغاستين بانتظام ذلك المعسكر المحتوي على أربعمائة ألف مقاتل وبأمانة الهندوس، فروى أنه لم يسمع من الأخبار السيئة عنه سوى سرقة جندي منه لبعض ما عند جندي آخر.
وكان المقاتلون يتجمَّعون عند أول نداء، فما كان عليهم أن يُعِدُّوا عُدَّة ولا أن يجهزوا حصانًا أو مركبة، فكان الملك يقوم بجميع ذلك، والملك كان يُخصِّص معظم الضرائب لهذا الغرض كما رأينا، وكانت قوة الجيش وأُبَّهته تتجليان فيما فيه من المراكب والفيول والخيول، فكان يركب كلَّ فيل أربعة رجال وثلاثة نبالة وسائق، وكان يركب كل مركبة ثلاثة رجال ونبَّالان وسائق.
قوة الجيش في الفيل على الخصوص، فلا شيء يعدل الفيل، فتعد أعضاء الفيل وحدها أسلحةً ثمانية، وفي الحصان تتجلى قوة الجيش أيضًا، فالحصان حصن متحرك، فالملك الذي يملك خيولًا أكثر من عدوه يكون النصر حليفه في ميدان الوغى.
لا بد لمن يقاتل في السهول من المراكب والخيول، ولا بد لمن يقاتل في أماكن المياه من السفن والفيول، ولا بد لمن يقاتل في الأدغال من الأقواس والنبال، ولا بد لمن يقاتل في الميدان من السيوف والتروس وما إليها من الأسلحة.
لم نقتطف ذلك القول من شريعة مَنُو، بل أخذناه من مختارات الأقاصيص التي جُمعت بعد زمن فعرفت بالهتوبديشا؛ لما رأيناه فيه من دقائق الطبائع الحربية الموافقة لعادات العصر البرهمي.
يجب أن يكون القائد العام وأشجع الجنود في مقدمة الجيش، وأن يكون النساء والأمير والمال وكل ثمين في القلب، وأن يكون الخيل والمراكب والفيول والمشاة في الميمنة والميسرة.
ويجب على القائد المساعد أن يكون في المؤخرة، وأن يشد عزيمة كل تَعِبٍ، ويجب على الملك، ويَحُفُّ به وزراءه وأعوانه، أن يقود الفيلق المهم من الجيش.
يجب على من يرغب في النصر المؤزَّر أن يناوش جيش العدو فيُبيده بالتدريج، فمن السهل قهر العدو إذا ما أُتعب زمنًا طويلًا.
وإذا أحاط بالعدو وجب عليه توطيد معسكره، وتخريب أملاك العدو، وإتلاف ما فيها من الكلأ والقوت والماء والوقود.
وليهدم أحواض العدو وحصونه وخنادقه، ولينازله نهارًا وليباغته ليلًا.
لا يجوز لمحارب أن يقاتل أعداءه بأسلحة غادرة كالعصي ذوات الخناجر المثلوثة النَّصل أو النبال ذات الأسنان أو السهام السَّامَّة أو الحِراب الملتهبة.
ولا يجوز لمحارب أن يضرب عدوًّا ماشيًا إذا كان هو راكبًا مركبة، ولا رجلًا مخنَّثًا، ولا متكتِّفًا طالبًا الرحمة، ولا من يفك شعره، ولا من هو جالس، ولا من يقول: أنا أسيرك.
لا تزيد موارد الملك ووسائله إلا إذا جعل الملك صديقًا من الضعيف الذي قد يقوى ذات يوم، ولو نال الملك كنوزًا واكتسب أملاكًا.
اغتصاب الأشياء الثمينة المؤدي إلى الحقد أو منح الأشياء الثمينة المؤدي إلى تألُّف القلوب قد يكون محمودًا أو مذمومًا بحسب الأحوال.
يجب على المالك الفاتح أن يمجِّد آلهة الشعب المغلوب وأصحاب الفضيلة من كهانه، وليُسبغ عليه النعم، وليُزِلْ مخاوفه بمراسيم خاصة، وليحترم قوانينه كما هي، وليُنعم على أميره وأعوان أميره بالجواهر.
يجب على الملك أن يبذل جميع جهوده في حمل أعدائه على الخضوع فلا يقصِّر في مفاوضتهم ولا في تقديم الهدايا إليهم، ولا في نشر بذور الشقاق بينهم، وليفعل ذلك دفعة واحدة أو على انفراد متجنبًا القتال.
والملك إذ كان لا يعلم تمامًا من سيخرج من الحرب منصورًا ومن سيخرج منها مقهورًا وجب أن يُبعد شبحها ما استطاع.
فإذا لم يستطع أن يتخذ واحدة من تلك الوصايا الثلاث وجب عليه أن يحارب ببسالة ليغلب العدو.
(٧) الزراعة والتجارة
يُغرَّم الزارع الذي تُتلف مواشيه حقلَه أو الذي لا يبذر الحب في الوقت غير الملائم بغرامة تعدل ثمن حصة الملك من الغلة عشر مرات ما حدث هذا بإهماله، أو بنصف هذه الغرامة إذا نشأ الإهمال عن أُجَرَائه من غير أن يعلم.
يجب على الملك أن يضع مراسيم لتنظيم أمور البيع والشراء بعد أن ينظر إلى المسافة التي تجلب بها السلع الأجنبية، وإلى المسافة التي تصدر بها السلع المحلية، وإلى مدة خزنها، وإلى ما يمكن أن يُربح منها وما يُنفَق عليها.
ولينظم الملك، بواسطة الخبراء، أثمان السلع المتقلبة في كل خمسة أيام أو خمسة عشر يومًا.
وليعين الملك قيم المعادن الغالية، وليحدد العيارات والمكاييل، وليفحصها في كل ستة أشهر مرة.
يغرم من يخادع في أمر الضرائب أو من يبيع ويشتري في غير الأوان أو من يُزوِّر في قيم السلع ثمانية أمثال القيمة.
ويجب ألا تُباع سلعة مخلوطة بغيرها على أنها غير مخلوطة، ولا أن تباع سلعة رديئة على أنها جيدة، ولا أن تباع سلعة أخفُّ من المتفق عليها، ولا أن تباع سلعة غير مُحْرَزَة، ولا أن تباع سلعة مع إخفاء عيوبها.
ولم يكن اتصال الرقابة وجور المفتشين الملكيين الدائم والضرائب الثقيلة على الزارع والتاجر وما إلى ذلك من القيود الشديدة؛ ليثير ذلك الشعب الجاهل الهادئ الذي حَنَا النِّير الديني ظهره فضلًا عن الاستعباد الإداري، وما كان لذلك الشعب أن يتوجع من هذا، فقد كان يرى المقابل فيما يتمتع به من السلام الذي هو أطيب الأموال.
وكان معظم ما يُجبى ينفق، بالحقيقة، على شئون الحرب، وكان الويشي غير مكلف بأية خدمة عسكرية ما انطوت هذه الخدمة على نُبْل كثير عليه، وما كان يحرث حقله آمنًا مطمئنًا على حين يدافع الأكشترية عن الثغور، فإذا ما أتت المواسم جيدة حاز الويشي الغِنَى، وإذا ما أتت رديئة فكان عُسْرٌ رَجَا العَوْنَ من بيت المال ما بدا الملك مولاه وأباه الذي لا يرضى بهلاكه، وكان للويشي أعياده الريفية، وكان ربًّا لأسرته فيتمتع بما يتمتع به أرباب الأُسَر من الهناء المنزلي، وكان الويشي ممن يولدون مرتين، فكان له بهذا حق قيادة الشودرا، وما كان له أن يقوم بالأعمال الدنيئة.
للأُجراء سبعة أنواعٍ وهي: أسير الراية أو أسير المعركة، والأجير بشرط الإعالة، وابن الأَمَة في بيت السيد، والمملوك المُشترَى أو الموهوب، والعبد الموروث، والمُسترقُّ عقوبة، والعاجز عن دفع الغرامة.
ولا يملك الولد والزوجة والرقيق شيئًا، فكل ما يُحرزونه ملك لمُعيلهم.
لا يجوز للملك أن يفرض ضريبة على الأعمى والأبله والأكسح وابن السبعين ومن يساعد المتبتلين إلى الكتاب المقدس.
وكان الصانع الفقير لا يطالَب بغير عمل يوم في الشهر ضريبةً.
ليقبض الدائن الراهن في كل شهر واحدًا من ثمانين في المائة أو واحدًا ورُبعًا زيادة على رأس ماله.
وليقبض، عند عدم الرهن، اثنين في المائة في كل شهر، ذاكرًا أهلَ الخير والصلاح، فهو إذا ما قبض اثنين في المائة لا يُعَدُّ مقترفًا لذنب الربح غير الشرعي.
وليقبض، فقط، في كل شهر اثنين في المائة من البرهمي وثلاثة في المائة من الأكشتري وأربعة في المائة من الويشي وخمسة في المائة من الشودري، وذلك بحسب الترتيب الطائفي.
يجب على الويشي، بعد أن يتقلد الحبل المقدس ويتزوج بامرأة من طبقته، أن يقوم كادحًا، بمهنته وبتربية المواشي.
فالحق أن رب المخلوقات فوَّض أمر الحيوانات النافعة، بعد خلقها، إلى الويشي ليقوم بتربيتها، كما وضع الجنس البشري تحت وصاية البراهمة والأكشترية.
ولا يتبع ويشيٌّ هواه فيقول: «عدت راغبًا عن تربية المواشي»، فإذا تشاغل عنها وجب ألا يقوم آخَر مقامه فيها.
وليكن على علم بتقلب أثمان الجواهر واللآلئ والمرجان والحديد والنسج والعطور والتوابل.
وليعرف كيف تبذر الحبوب، وليفرق بين الأراضي الجيدة والأراضي الرديئة، وليطلع جيدًا على نظام المكاييل والعيارات.
وليقف على خبيث السلع وطيبها ومحاسن البلدان ومساوئها وما يُحتمل من الربح والخسران عند البيع وما تزيد به المواشي من الوسائل.
وليُلِمَّ بأجور الأُجَرَاء وبلغات الناس وبطرق حفظ السلع وبكل ما يمت إلى البيع والشراء بصلة.
وليبذل جهود في إنماء ثروته حلالًا، وليُعْنَ بإطعام ما عنده من الخلائق الحية.
(٨) أحوال النساء
واجبات النساء هي أن يلدن ويربين أولادهن ويدبرن أمور منازلهن.
وتكون المرأة، بحسب شريعة مَنُو، تحت وصاية دائمة وتقضي حياتها مطيعة.
فيجب على الحفيدات والفتيات والعجائز ألا يصنعن شيئًا كما يَشَأْنَ ولو في بيوتهن.
وتكون المرأة تحت رعاية أبيها في صباها، وتحت رعاية زوجها في فتوتها، وتحت رعاية أبنائها في شيبتها، فلا ينبغي لها أن تسير كما تريد.
يجب على الأزواج، مهما بلغوا من خور العزيمة، أن يراقبوا سلوك نسائهم، وأن يَعُدُّوا هذا الأمر شريعة سائدة لجميع الطبقات.
فالحق أن الزوج يصون ذريته وتقاليده وأسرته ونفسه وحقَّه إذا ما صان زوجته.
ويجب على المرأة الفاضلة أن تقدس لزوجها على الدوام كإله، وإن كان فاسد السيرة عاطلًا من الصفات الحميدة منهمكًا في ضروب العشق والغرام.
والمرأة إذا لم تكن وفية لزوجها غدت عُرضة للخزي في الدنيا، وبُعثت بعد موتها في بطن ابن آوى أو أصيبت بعده بالجذام والسل.
يؤدي زناء الأزواج إلى اختلاط الطبقات، وهذا الاختلاط يؤدي إلى انتهاك الواجبات وهلاك النوع البشري وخراب الكون.
إذا كانت المرأة الفخورُ بأسرتها وصفاتها غير وفية لزوجها فخانته وجب على الملك أن يَدَعَ الكلاب تفترسها في مكان عام.
وليحكم على الزاني بها بالحرق على سرير من حديد مُحمى على أن يزيد منفذو الحكم النار سعيرًا بالحطب إلى أن يُحرق الداعر.
إذا حدث أن اغترب الزوج في بلد أجنبي وجب عليه ألا يحرم زوجته وسائل العيش قبل أن يغيب، فالمرأة التي يعضها البؤس قد تأتي المنكر ولو كانت صالحة.
وَلْيَنْفِ الملك من يُغوون نساء الآخرين بعد أن تُقطَّع بعض أعضائهم.
وما فرضته شريعة مَنُو على الزوج من الوفاء لزوجته والعناية بها ليس بأقلَّ مما فرضته على الزوجة، وهذه الشريعة قد رأت أن سعادة العِرْق في الحال والمستقبل قائمة على اتحاد الجنسين بالزواج، فأوصت الرجل أن يختار زوجةً صالحة له فلا يستطيع أن يتركها بعدئذ إلا إذا أبغضته أو كانت عاقرًا أو كانت لا تضع غير إناث.
بَيْدَ أن الزوجة الطيبة المتحلية بالأخلاق الصالحة لا تَحِلُّ زوجةٌ أخرى محلها إلا برضاها ولو كانت مريضة، ولا يجوز أن يزدريها أبدًا.
رِضَى الآلهة باحترام النساء، ولن يكون للعمل الصالح ثواب إذا ما احتُقِرت النساء.
والسعادة كل السعادة في الأسرة التي يتحابُّ فيها الزوجان.
يجب أن يَحْبُوَ الزوجاتِ آباؤهن وإخوتهن وأزواجهن، وإخوة أزواجهن بضروب الاحترام والعطايا إذا رغبوا في الفَلَاح.
ليصنع الفتى ما يروق أبويه ومُعلِّمه ويرضيهم على الدوام وفي كل حال، فإذا فعل ذلك قام بأعمال التقوى ونال ثوابًا.
والمعلِّم أجدر بالاحترام من عشرة مُربِّين، والأب أجدر بالاحترام من مائة معلم، والأم أجدر بالاحترام من ألف أبٍ.
يجب على والد البنت ألا ينال مالًا عندما يزوجها ولو كان شودريًّا؛ لما يدل عليه ذلك من بيعها المضمر.
وأحرى بالبنت الصالحة للزواج أن تقبع في بيت أبيها إلى أن تحضرها الوفاة من أن يزوجها أبوها بزوج عاطل من الأخلاق الحسنة.
أهم واجب على الزوجين أن يَفِيَ أحدهما للآخر وفاء متبادلًا إلى آخر العمر.
وما على الزوجين من التحابِّ فقد أُظهِر لكم.
وليس في شرائع مَنُو ذكر لعادة حرق الأرملة على موقد زوجها التي لم تَزُل عن بلاد الهند إلا في أيامنا، وتلك العادة أخذت تشيع في ذلك الزمن مع ذلك، فقد روى خبرها مؤرخو الفتح المقدوني من اليونان.
(٩) معتقدات الهندوس الدينية قبل الميلاد بثلاثة قرون أو أربعة قرون
ظهرت البُدَّهِيَّة في الهند في العصر البرهمي، وكاد يكون لها شأن فيه، فقد حدث ميغاستين عن رهبان بُدَّهِيين وعن مذاهبهم الحديثة التي كانت حديث القوم في زمانه وعن معارضة البراهمة لها، غير أن البُدَّهِيَّة لم يستفحل أمرها فتصبح دين الهند الرسمي إلا بعده قليلًا، أي في عهد آشوكا الذي ظهر قبل الميلاد بقرنين ونصف قرن كما نرى ذلك في فصل آتٍ، وأما الآن فإننا نبحث في الديانة البرهمية قبل المسيح ببضعة قرون.
ظل دين القوم، من الناحية النظرية على الأقل، كما هو منصوص عليه في كتب الويدا، فقد بقيت هذه الأسفارُ الكتبَ المقدسة المعتبرة التي يُحتج بنصوصها على الدوام، بيد أن المعتقدات تطورات تطورًا شاملًا مع بقاء الآلهة القديمة، فترى من جهة ظهورَ نظريات فيما بعد الطبيعة جديدةٍ حول مقادير الإنسان ومصاير الكون وأسبابه، وترى من جهةٍ أخرى تحول الدستور الكهنوتي إلى دستور شديد إلى الغاية، وبلغ أمر الطقوس وتقريب القرابين من الأهمية ما نقول معه إن قدرته السحرية غدت تفوق قدرة الآلهة، وإقامة الشعائر هي التي تُهِمُّ قبل كل شيء، ولن تجد ديانة ذات شعائر جافة معقدة كتلك، وكأن ريحًا صرصرًا قد هبَّت في العالم الويدي القديم فأتت إلى الأبد على الآلهة العجيبة التي وصفتها كتب الويدا بالقول الرائع والخيال الساطع، فَصِرْتَ لا تبصر في الشرق ذلك الفجر العذب اللطيف، بل ترى كوكب النهار فوق مركب النصر، وصرت لا تشعر بالرياح الطيبة تسوق البقرات الإلهية إلى المراعي السماوية فتدرَّ ثُدِيُّها بما يغمر الأرض من المطر السخي، حقًّا لقد غابت هذه الأساطير وما كانت تثيره في النفوس من الخيالات.
ولا ندرس في هذا المطلب بالتفصيل علم اللاهوت البرهمي القديم الزاخر بدقائق الشعائر وتقريب القرابين، وإن كنا نعود إلى ذلك، مع تعديل، في الفصل الذي خصصناه للبحث في ديانات الهند الحديثة، وكل ما نفعله الآن هو أننا نشير إلى أكثر المناحي الفلسفية انتشارًا في ذلك الحين، وهي ما نراها مجملة بوضوح في كتاب مَنُو الذي لم يفعل غير تكرار ما يقوله البراهمة والأوبانشد بإسهاب.
تستقر الروح العليا في أرقى المخلوقات وأسفلها.
فمن جوهر تلك الروح العليا يَخرُج، كالشرر، ما لا يُحصى من أصول الحياة فتوجب هذه الأصول الصادرة حركة جميع المراتب على الدوام.
والإنسان، حين يعرف تجلِّي الروح العليا في روحه الخاصة وفي جميع المخلوقات، يبدو هو إياه تجاه جميعها فيُثاب بأن يفنى في بَرَهْمَا، أي بأحسن مصير.
وإذا عجز البرهمي عن تكفير ما اقترفه من قتل حيةٍ أو مخلوق آخر فليَتُبْ، فبالتوبة تمُحى الذنوب.
وليتُبْ، أيضًا، إذا قَتَل ألف حيوان صغير ذي عظام أو قَتَل من غير ذوات العظام ما يملأ مركبًا، كما يتوب عندما يقتل شودريًّا.
ألا إن الروح هي مجمع الآلهة، وإن الروح العليا هي مقر الكون، وإن الروح هي مصدر أعمال ذوات الحياة.
وليس رب الكون الأعلى بالذي يتصوَّره الخيال؛ فهو غيرُ الهيولانيِّ القاهرُ الذي يسري في الكون فيَهَبُ له الحياة كأغنِي إله الآريين القديم، وهو النور القوي الموجود في كل مكان، وهو الذي يُقدِّس البرهمي له مرتجفًا فيشعر بسريانه في عروقه، جاء في شريعة مَنُو:
فبعض الناس يعبده في عنصر النار، وبعضهم يعبده في شخص سيد المخلوقات مَنُو، وبعضهم يعبده في إندرا، وبعضهم يعبده في عنصر الهواء الخالص، وبعضهم يعبده في بَرَهْمَا الأزلي.
ذلك هو الله الذي يحيط بجميع المخلوقات بجسم مؤلف من العناصر الخمسة فتنمو هذه المخلوقات بعد أن تولد ثم تنحلُّ فيتم ذلك كله بحركة تُشابه دوران العَجَلة.
والخلاصة أن ذلك هو مذهب وحدة الوجود، ولكن ذلك ليس بمذهب وحدة الوجود الهيولانية الساطعة الظاهرة التي عرفها الآريون، وليس بقوى الطبيعة التي أضحت آلهة مع محافظتها على ثيابها المؤلفة من السحب والأشعة وعلى شذا عطورها وعلى هديرها ودويِّها، بل هو مذهب وحدة الوجود الأكثر تجردًا وقولًا بالقضاء والقدر، هو مذهب وحدة الوجود الذي يحجب الله فلا يُبديه رائع الكلام ولا ساطعُ الألوان، هو مذهب وحدة الوجود الذي يجعل الله أسيرًا في العناصر، هو مذهب وحدة الوجود الذي يقيم عزة الله ومجده على تجريده من الصورة والظاهر والإرادة والحياة، فيشابهه من يتطهرون من الذنب، أو يَفْنُون فيه.
وعلى الإنسان، قبل أن يصل إلى ذلك النعيم الدائم، أن يحتمل أذى الحياة زمنًا لا يتصور طوله المرهوب سوى خيال الهندوسي الخصيب، فمدى حياة الإنسان ليس بالشيء الذي يذكر إذا ما قيس بذلك الزمن الطويل، فالولد الذي يولد لا بد من أن يكون قد جاوز عدة أطوار قبل أن يولد، والأشيب الذي يموت لا بد من أن يولد ويعود أشيبَ عدَّة مرات في عدة أجسام.
وتجد في شريعة مَنُو تفصيلًا واضحًا لمذهب تناسخ الأرواح الذي هو أساس جميع مذاهب الهند الدينية ومنها البُدَّهِيَّة، وتجد فيه، أيضًا، تفصيلًا لمذهب الكرما الذي يرى أن عمل الإنسان في هذه الحياة الدنيا يعين الحال التي يولد بها مرة أخرى فعمَّ أمره، كذلك، جميع المذاهب الدينية التي انتشرت في الهند فيما بعد.
إذا عملت الروحُ الصالحاتِ على الدوام وقليلًا من السيئات فتقمَّصت جسمًا من العناصر الخمسة تمتعت بأطايب النعم.
وإذا عملت الروحُ السيئاتِ على الدوام وقليلًا من الصالحات جُرِّدت بعد الموت من جسمها ونُزعت من العناصر الخمسة وتقمصت جسمًا آخر مؤلفًا من أجزاء دقيقة من العناصر وعذَّبها يَمَا عذابًا شديدًا، والروح، بعد أن تُقاسيَ هذا العذاب الأليم كما يقضي به قاضي النهار وتَطْهُر، تتقمَّص جسمًا من العناصر الخمسة، أي تكتسي ببدن.
فعلى الإنسان أن يعلم بنفسه أن نوع التناسخ يكون على حسب ما يعمل من الصالحات والسيئات فيُوجه نفسه إلى الفضيلة على الدوام.
ويَلْبَثُ أكابر المجرمين في جهنم أحقابًا، ثم يُقضى عليهم بأن يجاوزوا المراحل الآتية تكفيرًا عن خطيئاتهم.
فيتقمص قاتل البرهمي، بحسب أهمية جرمه، جسم كلب وخنزير وحمار وجمل وثور وتيس وكبش ووحش وعصفور وجندالا.
الإنسان مجزيٌّ بأي عمل يأتيه بقلبه أو لسانه أو جسمه إن خيرًا فخير وإن شرًّا فشر، وعلى ما يصنعه الإنسان يتوقَّف حاله فيكون طيبًا أو متوسطًا أو سيئًا.
وتلك العقيدة هي مصدر خضوع الهندوسي لنظام مرهوب لا يترك له خيار القيام بأي عمل مهما صغر ولا قضاء أي احتياج جثماني مهما ضؤُل.
ومن يطالع ما في شرائع مَنُو من الأوامر الشديدة يتبين ثقل النِّير الذي كان مفروضًا على الهندوس وأثره في أدق شئون حياتهم في العصر الذي نحاول بعث تاريخه، ويتمثل الفرق بينه وبين أدب آريي العصر الويدي السمح اليسير، فالحق أن الزمن تغير وأضحى شعب الأجيال القديمة الحر السعيد قطيعًا من الرعايا الخُوَّف الذين يتجلى فيهم الذعر والألم إذا ما ساروا على الدوام.
ذلك أمر المجتمع البرهمي القديم، ونجد مبادئه الأساسية في المجتمع البرهمي الجديد، حتى في الهند الحديثة، بَيْدَ أنك ترى شدة تلك المبادئ قد خفت بفعل البُدَّهِيَّة السمحاء.
وبلغت البرهمية القديمة من شدة التوتر حول النفوس ما كانت تتقصف به تحت الضغط فتنتظر المنقذ، وكانت وطأة النير تَثْقُل على الناس في أدق أعمالهم فتنسحق قلوبهم فلا يرون بخيالهم سوى رجس الحياة وقبحها، فيبدو لهم كل شيء سيئًا إلا الفناء، وما وصف «دانتي» به العذاب في رواية «جهنم» هو وحده يمثل لنا رأي قدماء البراهمة في ضروب العذاب الذي يبدأ في الدنيا فيتدرَّج شدةً في أحقاب لا يتصورها خيال إلى أن يغدو الإنسان جديرًا بالفناء في الكون، وإن شئت فقل في العدم، ومن طبيعة الأمور أن ينبثق فجر الأمل في تلك الأمم المُثْقَلة من خلال الضغط المُشتدِّ عليها، ومثل هذا ما حدث بعد زمن قليل في العالم الروماني حين ظهر المسيح وإن اختلفت الأسباب.
ظهر في الهند، أيضًا، المنقذ الذي جاء بما كانت النفوس الظمئة تنتظره من القول العذب، فكان لهذا القول صدى بعيد المدى في أرجاء آسيا، فوجدت به ملايين البشر — الذين حنا كواهلهم نير الطوائف وأثخنتهم قيود الدين الثقيلة وأولَهَتْهم أنواع العذاب الأبدي المنتظر الذي لا مفر منه — ريحًا طيبة مملوءة حنانًا ورحمة وإحسانًا.
كان بُدَّهة شا كيه موني ذلك المنقذ، وكانت البُدَّهِية تلك البشرى الطيبة.