الفصل الثاني

ديانات الهند الحاضرة

لم تؤدِّ الجهود العلمية الحديثة إلا إلى إذاعة مُخْتَلِّ الآراء حول ديانات الهند، ورأينا، حين البحث في البُدَّهِيَّة، درجة اختلاف هذه الديانات في الحقيقة عما ورد في الكتب، وتفْقد تعاريفنا الأوربية الصريحة المضبوطة قيمتها إذا أريد تطبيقها على تلك المعتقدات المتحولة على الدوام، والتي نبتت في الهند ولا تزال تنبت في الهند فلم تدل تسمياتها بأسماء مشتركة على غير تشابه ظاهري، وتتحد المعتقدات المتناقضة في نفوس الهندوس المذبذبة الخيالية البعيدة من المنطق اتحادًا لا نفهم أمره أبدًا، ويسجد الهندوسي الذي يكتب، معتقِدًا، تأملاتٍ في الزندقة المتطرفة، أمام ألوف الآلهة الغريبة الغليظة المرهوبة أو يقبِّل باحترام أثر قَدَم بُدَّهة ووِشنو، ولا يقتصر أمر الأديان في الهند على توافقها، بل تجد بعض العقائد المتناقضة بجانب بعض في الدين الواحد، ونحن إذ ندرس في الهند نفسها شعائر أديانها نُدرك تلك المتناقضات الغريبة علينا واختلاف معنى كلمة «الديانة» عند الهندوسي وعند الأوربي.

وتُشتق الديانات السائدة للهندوس في الوقت الحاضر، نظريًّا، من الديانات التي كان يُعمل بها في زمن الويدا، وفي زمن مَنُو ما دامت تعترف بسلطان الكتب القديمة المقدسة، ولكنك تجد فرقًا بين الديانة الموصوفة في الفصول السابقة باسم الويدية والبرهمية والديانة الجديدة المعروفة بالبرهمية الجديدة أو الهندوسية التي ظهرت في القرون الأولى بعد المسيح فقامت مقام البُدَّهِيَّة مقدارًا فمقدارًا بابتلاعها إياها، والبرهمية الجديدة هذه هي التي ندرسها فيما بعد.

(١) الثالوث الهندوسي

تُقسَّم المذاهب الكثيرة التي تتألف البرهمية الجديدة أو الهندوسية من مجموعها إلى ديانتين سائدتين: ديانة شِيوا وديانة وِشنو، ويتألف الثالوث الهندوسي من هذين الإلهين الكبيرين اللذين يُقدِّس لهما الهندوسي التقيُّ مع بَرَهْمَا العظيم.

ومع أن بَرَهْمَا أقوى هذه الآلهة الثلاثة فإنه ليس له عُبَّادٌ خصوصيون، ولا تكاد تجد في الهند معبدًا خاصًّا به، وسبب ذلك هو أن الدين لدى الهندوسي تصويريٌّ مادي، فبينما تعمر رموز شِيوا وتقمصات وِشنو المعابدَ بالأشكال والصور لم يُمثَّل بَرَهْمَا تمثيلًا ظاهرًا؛ بل يظل بَرَهْمَا هذا الروحَ الكبرى التي تُلْمَس فتَهَبُ الحياة لجميع الخلق فيطمع الهندوسي أن يفنَى فيها.

fig145
شكل ٢-١: دهلي. العصر المغولي، مزار الملك همايون «أنشئ سنة ١٥٥٥»، «بني هذا الأثر من حجارة حمر مرصعة بالرخام الأبيض على رصف تبلغ جوانبه ٨٨ مترًا.»

ولكل إله في الثالوث الهندوسي نصيبُه في أمر العالم، فأما بَرَهْمَا فهو البارئ، وأما وِشنو فهو الحافظ، وأما شِيوا فهو المبيد، ومع مناقضة شأن شِيوا لشأن الإلهين الآخرين فإن هذا لم يكن في الحقيقة، فليس في الفلسفة الهندوسية موت بالمعنى الصحيح، فالإبادة والتحول فيها مترادفان، فصورة الكون فيها تتحول بلا انقطاع من غير أن تفنى عناصرها، فشيوا العظيم هو الذي يقوم بهذه التحولات، وهو، لذلك، منعمٌ كالإلهين الآخرين، وهو، لذلك، ظهيرُهما الواجب الوجود.

ونحن، حين نُنعم النظر في شِيوا المرهوب، إله الإبادة والتحول الذي كانت تقرَّب إليه الضحايا الدامية، والقرابين البشرية أحيانًا، كما تقرَّب إلى زوجته كالي، ندرك أنه أقدم من عَبَدَه الهندوس، وأنه يظلُّ الإله الراجح في الثالوث البرهمي على ما يُحتمل.

ولا تجد كالهندوس، قومًا فطِنوا إلى ما هو نسبيٌّ وهميٌّ متحول في ظاهر الأشياء، فعند الهندوسي أن الذي يدركه الإنسان من الكون ليس إلا مهامايا أو وهمًا كبيرًا، والإنسان لا يدرك جوهر الأشياء أبدًا، وما يشعر به من الطبيعة هو سلسلة التطورات التي لا أول لها ولا آخر، وفي تعاقب العلل والمعلولات السرمدي ذلك يُبْعث الأموات ويموتون بعد أن يبعثوا، ولكن الموت والبعث هذين من الظواهر، وهما مظاهر لمجهول ثابتٍ جوهرًا متحوِّلٍ صورةً.

وقد أبصر الهندوس، منذ قرون، المهامايا، ذلك الوهم الأبدي الذي يخدع عيوننا ويُقَيِّد قلوبنا أو يحزنها والذي يخفي حقيقةً يتعذر على الإنسان أن يلمُسها، وعرف الهندوس كيف يدركونه ويعرفونه في زمن اعتقد فلاسفة الغرب فيه أنهم لمسوا المطلق، فهنالك عظمة الفكر الهندوسي البرهمي أو البُدَّهِي.

والشعب لم يُبالِ، مع ذلك، بتلك التأملات الفلسفية الصادرة عن قليل من المفكرين كما قلنا ذلك حينما درسنا البُدَّهِيَّة، فبدت هذه المجرَّدات التي لا تُدرك هَيُولِيَّة لدى الشعب على الدوام.

(٢) الشيوائية

شِيوا هو إله الإبادة، وإن شئت فقل إله التحول، هو إله الحياة والموت، هو الإله الذي يُعَدُّ عضو التوليد من صفاته الرمزية فتُقرَّب له القرابين مع ذلك، هو إله الجوهر الأصلي الذي تصدر عنه الموجودات والموت الذي يحلُّها، هو إله الهند الحقيقي ومبدع عبقرية عرقها.

والإله شِيوا هو أقدم آلهة البرهمية الجديدة، ويمكن عده متحدًا هو والإله رودرا الذي ذُكر في الأغاني الآرية، أي بإله الرياح الذي يأتي بالمطر وخِصب الأرض، ثم خُلِط بالإله أغني، وكان قدماء الآريين يعدُّون النار أصل الحياة التي تسري في جميع الموجودات فتَهَبَ لها الحياة فيعبدونها بحرارة، وكان الآريون أولئك يعدون النار مُبيدَة، أو مُحوِّلة فيرون إبادتها للمادة تؤدي إلى تناسخاتٍ بعيدة الغور.

وانتقل شأن الإله أغني وصفاته إلى شِيوا في البرهمية، وظاهرة هذا الإله ذي الاسم الجديد وشعائرُ دينه مما ذكره ميغاستين في القرون القديمة فشبَّهه بديونيزوس الإغريق، واتخذ القوم رمز شِيوا، وهو عضو التوليد، حوالَيْ بدء التاريخ الميلادي لا ريب، فلما قام محمود الغزنوي بمغازيه في القرن الحادي عشر كان يوجد اثنا عشر معبدًا مشهورًا لتقديس هذا الرمز.

وجُهَّال القوم إذ أُشربوا حبَّ الوثنية بالتدريج جعلوا مما هو رمزٌ إلهًا حقيقيًّا، فظهر المذهب القضيبي الذي اتخذ عبادةَ شِيوا في صورة عضو التوليد موضوعًا له، فترى جميع معابدهم مملوءةً بهذا الرمز، ويحمِلون عليهم تصاوير صغيرةً له من ذهب أو فِضة على الدوام، فيقبِّلونها بين حين وحين مصلين لها.

وكان مؤسس هذا المذهب بِيْسَوا يعيش في القرن الثاني عشر فيقول بإلغاء نظام الطوائف فنال نفوذًا كثيرًا، ثم تلاشت مبادئه بموته، ولكنه ابتدع مذهبًا قائمًا على الذكورة متخذًا عضو التوليد إلهًا فظلَّ هذا المذهبُ سائدًا للدراويد في ميسور ونظام وجميع جنوب الهند.

fig146
شكل ٢-٢: دهلي. «العصر المغولي» مدخل قصر ملوك المغول «بدئ بإنشائه سنة ١٦٣٨.»

ولم يلبث رمزُ عضو الاستيلاد في النساء أن بدا في تلك المعابد بجانب رمز عضو التوليد في الذكور فصار الشيوائيون يُصَلون له، ويمثل هذا الرمز زوجة شِيوا، بارَوَتي أوكالي، أي إلاهَة الحياة والموت والأمَّ التي خرج العالم منها وإليها مردُّه.

ولا تجد عبادة أدت إلى مناظر مخالفةٍ للذوق والأدب كعبادة كالي الهائلة.

ولسُرعان ما أصبحت تلك العبادة مألوفة لدى أشد قبائل الهند جَلفًا فاختلطت بعبادة إلاهة سكان البلاد الأصليين الزنوج الوحشية المضرجة، وفي سبيل تمجيد هذه الإلاهة امتزجت الدَّعارة بالقسوة، فأريقت على مذابح معابدها دماء الضحايا البشرية الأخيرة التي أُبطِل تقريبها في الزمن الأخير إلى الأبد لدى الأهالي البراهمة، ولا يزال يُرى في معابدها من الفحشاء والمنكر والدعارة ما يستحيل وصفه، وأظهر ما يكون ذلك في المعابد التي يتردَّد إليها الشِّيوائيون أصحابُ اليد اليسرى.

(٣) الوِشنَوِيَّة

ليس الإله الأعلى وِشنو، إله الهندوس البراهمة الذين ليسوا من أتباع شِيوا، قديمًا قدم هذا الإله المنافس المرهوب، ولوِشنو ذكرٌ غالب في كتب الويدا مع ذلك، وعنه حدَّث ميغاستين فشبَّهه بهرقليس الإغريق.

ويجيب وِشنو عن احتياجات القلب الأبدية على حين يخاطب شِيوا الذكاء فيعد شِيوا هذا عنوانَ عبقرية الهندوسي في تفهم الكون، ووِشنو ذلك هو إله الحب والإيمان، ويتطلب أتباع شِيوا عملًا لنيل النجاة وقهر الشهوات والتبتل إلى شديد العبادات، ومن أتباع شِيوا، أوكالي، تجد الزهاد الحقيقيين مع ما تراه من السفه في أعياده.

وديانة وِشنو، كديانة شِيوا، لم تبقَ روحية رمزية، والهندوس يرغبون في الصور المنظورة؛ ليعبدوها أكثر من أيِّ شعب آخر، فلم تُجْدِ نفعًا جهود المصلحين في تفسير أديان الهندوس بما يلائم التوحيد، فلا يزال الهندوس كما في العصر الويدي يجدون في كل شيء ما يعبدون فيرون موضوعَ عبادةٍ فيما لا يدركون فيرهبون.

ولم تَحْبَط مجهودات براهمة الهندوس ومفكريهم في ابتداع مذهب توحيدي فقط، بل حبطت، أيضًا، في جمع هذا الاحتياج الدائم إلى العبادة في إلهين كبيرين أو ثلاثة آلهة كبيرة، أجل، إن الشعب الهندوسي استمع لوعظ هؤلاء المفكرين، ورضي بمذاهبهم طائعًا، ولكن هذه المذاهب لم تلبث، بعد أن نَفَذت فيه، أن تحولت وكثُرَت وانقسمت واكتسبت مظاهرَ واكتَست بألوان وحياة، أي تجسَّدت.

fig147
شكل ٢-٣: دهلي. ردهة الاستقبال في قصر ملوك المغول.

ووِشنو هو إله واحد لدى الهندوس لا ريب، بَيْدَ أن هذا الإله اكتسب صُوَرًا مختلفة يتعذَّر تعريفها وعدُّها، فترى بين هذه الصور صورًا للغيلان والأبطال والإنسان والحيوان فضلًا عن كوكب الشمس الكريم القادر الذي اختلط به وِشنو منذ أقدم العصور.

وتُمثِّل تلك التقمصات، المعروفة بأواتار وِشنو، آلهةً كثيرة خاصة يُعبد كل واحد منها، على الخصوص، بحسب المكان والجيل والمقام الاجتماعي، وترجع التقمصات الأساسية التي ذُكرت في الكتب المقدسة المعروفة فيقدس لها الوشنويون إلى عشرة فقط، وأما التقمصات الأخرى فلا تعرف قاعدة ولا حدًّا لما يُولَد منها في كل يوم.

من أجل ذلك تُمْكِن دعوة الهندوس إلى عبادة أيِّ إله من غير خوف مهما كان هذا الإله رفيعًا أو غليظًا، فالهندوس لا يقاومون الداعيَ لما ظهر من أنهم أكثر شعوب الأرض تسامحًا، ومن المحتمل أن يرضوا عنه من غير صعوبة فيجعلوا منه في الحال واحدًا من تقمصات وِشنو.

ومن ذلك أنك ترى جهود مبشري النصارى غير مجدية في الهند، فلم يلبث المسيح، الذي لا تبعد قصته عن قصة كرشنا، أن صار واحدًا من تقمصات وِشنو، فيجيب الهندوس عن أدلة المبشرين بأنه ليس لدى المبشرين ما يتعلمونه ما دام الهندوس نصارى أكثر من النصارى، ومن ذلك أن عَدَّ بعض الهندوس ولي عهد إنجلترا من تقمُّصات وِشنو حينما زار بلاد الهند وأحيط بضروب العظمة والجلال.

واثنان من تقمُّصات وِشنو شعبيان في الهند، وهما يُعرفان براما وكرشنا.

ولا نستطيع أن نُعيِّن تاريخًا صحيحًا لوضع ديوان الراماينا وديوان المهابهارتا اللذين مُجِّدت فيهما أعمال ذَيْنِكَ البطلين راما وكرشنا، وأمر هذين الديوانين عند الهندوس مشابه لأمر دواوين هوميروس عند الإغريق، فهما مدار فخر الهندوس الأدبي، وهما مصدر إلهام لا ينضُب لدى شعرائهم، وهما منبع أساطير لدى جماهيرهم المولعة بالخرافات.

ووضع ذانك الديوانان المشهوران وعُدِّلا وزيدا في قرون، فكانا موجودين حينما مجَّد الشعب بطلَيْه المنصورين العظيمين راما وكرشنا فجعل منهما تقمصين لوِشنو.

وليس مجد انتصارات ذَيْنِكَ البطلين «راما وكرشنا»، وحده، هو ما أُعجب به الهندوس، بل أعجبوا، أيضًا، بما اتصفا به من الحلم والعاطفة والحب، ولم ينشب الحنان الحافل بالأسرار الذي كانت الأفئدة تهفو به نحو وِشنو أن انقلب إلى حب بشري حسِّيٍّ حارٍّ قائم على الشهوة في الغالب، وذلك حينما أصبح موضوعه صورتا ذَيْنِكَ البطلين «راما وكرشنا» اللتان تُشِعَّان حياة.

وفي شخص راما يُعبد فاتح الهند وسيلان والغالب الذي تمَّ بفضله انتصار العِرْق الآري، ولكنه زوجُ سِيتا قبل كل شيء، وهذان الزوجان المخلصان العاشقان هما، في الوقت نفسه، شِيوا وزوجتُه إلاهةُ الجمال لَكْشمي، وما كانت عليه سيتا من التعس والوفاء، وما أوحت به إلى راما من الحب الشديد مشاعر قويةٌ خَصْبَة أورثت الهند لِينًا ورقَّة منذ قرون.

وإليك ما قاله في هذا الموضوع الكاتب الهندوسي والمفكر الحر السيد ملباري في كتاب نشره حديثًا بعنوان «كجرات وأهلها» فاستشهدنا به في فصل آخر:

fig148
شكل ٢-٤: دهلي. العصر المغولي، صحن المسجد الكبير «عرض: نحو ٦٢ مترًا، ارتفاع المئذنة: ٤٠ مترًا»، «أنشئ سنة ١٦٥٨.»

طوبى لذلك الشعب الذي اتخذ راما وسيتا مثلًا عاليًا له، طوبى لذلك البلد الذي يدفع ضريبة الإخلاص والتقديس لذَيْنِكَ الزوجين المنقطعي النظير، ترى الصانع الهَرِم الفظَّ وزوجته الساذجة الجاهلة وابنته الفتاة العذبة المثالية يسكبون دموع الوفاء حينما يتلو الكاهن ما تيسر من الكتاب المقدس، فطوبى، ثلاث مرات، لمن قَدَر، وهو رجل، على الارتقاء إلى مرتبة الوحي الإلهي فأبدع موجودين من الظرف الرفيع.

وتُعبِّر الراماينا تعبيرًا عاليًا عن مسار الأسرة التي أتت في المرتبة الأولى لدى الآريين على الدوام، فتجد في كرشنا العاشق الكامل الغاوي الملتهب منذ صباه غرامًا ببنات الهوى الكثيرات ففتن جميع النساء، فكان، مع راما الجميل، أكثر أبطال الهند حظوة لدى الشعب.

وليست أسطورة كرشنا الصبي بعيدة من أسطورة يسوع، فكرشنا هذا عزيز على جميع الأمهات الهندوسيات عِزَّة يسوع الطفل على أمهات النصارى، وما يأتيه النسوة النواسك والبنات والأرامل من عبادة ذلك الإله العاشق عبادةً حارَّة حافلة بالأسرار هو كعبادة نِسْوَة الغرب، في الغالب، لزوجهن السماويِّ يسوع المصلوب.

وما في ديانة وِشنو من الغرام يأتي في الهند ذات الجو المحرق وذاتِ السكان الملتهبي المزاج بنتائج مخالفةٍ للآداب الأوربية.

ونجد في كجرات، على الخصوص، بعضَ المذاهب القائلة بعبادة كرشنا فيُدعى كُهَّانها بالمهاراجوات، فمن أقصى آمال النساء هنالك أن يُصبحن عاشقات لكرشنا أي لممثليه أولئك الكهان الذين يبيعون قضاء الأوطار بأعلى الأسعار، فاسمع ما قاله في ذلك الكاتب الهندوسي السيد ملباري الذي ذكرتُه غير مرة:

قد يرى الأوربيون أن المهاراجوية خرافةٌ شانئة أو طريقة شهوانية ساقطة، بَيْدَ أن ألوف الأسر الهندوسية ستظل رازحة تحت نيرها البهيميِّ ما بقي هذا النِّير مستترًا تحت رائحة الطهر.

(٤) تنوع ديانات الهند وتحولاتها المستمرة

رسمنا خطوط ديانة وِشنو وديانة شِيوا، وأشرنا إلى العقيدة القائلة بالثالوث المؤلف من هذين الإلهين ومن بَرَهْمَا فبدت أساسًا لجميع المعتقدات.

fig149
شكل ٢-٥: دهلي. العصر المغولي، مزار صفدرجنك بالقرب من دهلي «هذا الأثر الذي أنشئ سنة ١٧٥٤ هو آخر المباني المهمة التي أقيمت في العصر المغولي، وهو مبني من حجارة حمر مرصعة بالرخام الأبيض»، «يبلغ عرض هذا المزار ثلاثين مترًا.»

ومن المتعذر أن نَصِف للقارئ جميع ديانات الهند التي لا تكاد تحصى، وأن نصف ما يعتور هذه الديانات من التحول الدائم، فليس بين هذه الديانات ما هو ثابت، وكل واحدة منها ترجع إلى أقدم القرون فتجد مصدرها في كتب الويدا، نعم، يجمعها اسم البرهمية الجديدة أو الهندوسية المشترك، ولكنها بلغت من كثرة العدد والتنوع ما تُشَبَّه بورق الشجر في غابة كبيرة، وتميل كلها إلى التوحيد، ولا سيما أنها تشتمل على ألوف الآلهة وعلى أصنام حجرية وخشبية، في الغالب، ممثلة لأغلظ الأدوات، ويُشتق من كل واحدة منها أفكارٌ فلسفية تورث العجب بغورها البعيد، كما أنك ترى في كل واحدة منها أسخف الخرافات.

وإذا أردنا أن نلخصها في مجموعها ببضع كلمات قلنا إنها تقوم على الآلهة البرهمية القديمة المؤلفة من قوى الطبيعة التي ألَّهتها كتب الويدا وشخَّصها البراهمة، ثم جاءت البُدَّهِيَّة فألانت هذه الآلهة المزعجة الحاقدة القاسية وجعلتها رحيمة، وتجد تأثير البُدَّهِيَّة ظاهرًا في جميع فروع البرهمية الجديدة؛ لما يبدو من تسرب روحها ذات المحبة والرأفة في كل مكان، وضاعت البُدَّهِيَّة، التي هي بشرية بما تأمر به من المحبة، والتي هي فوق البشرية بفلسفتها المجردة، بأحد الأمرين وانتصرت بالأمر الآخر، فحافظ بُدَّهة على ألوهيته بين الآلهة الكثيرة التي تملأ المعابد مع تحوله إلى واحد من تقمصات وِشنو.

fig150
شكل ٢-٦: دهلي. «العصر المغولي»، ضريح من الرخام الأبيض في داخل المزار السابق.

ويمكننا أن نستخلص من اختلاط المذاهب والآلهة ذلك ثلاثة خطوط أو أربعة خطوط أساسية عن عبقرية الهند الدينية، وهذه الخطوط تدور حول كيفية تصور العالم وميل الروح إلى التوحيد وميل الخيال إلى الإشراك والتسامح المطلق والإخاء بين العقائد المتناقضة، ألم يكن هذا التنوع الذي لا حد له تراثَ قدماء الآريين ونتيجة ذهنية هذا العِرْق الذي يؤثر فيه منظر الطبيعة الدائمُ التحول والمملوء عظمةً وتبيانًا؟

ولا تجد في لغات الغرب الباردة المتزنة التي توصف بها الآفاق الرائعة القاتمة المملة، في الغالب، غير ثلاثة نعوت أو أربعة نعوت صالحة لتعريف لون السماء وشكل السحاب وحركة عين الماء، حتى إن هوميروس نفسه دلَّ بكلمة واحدة على نشاط أشيل أو جلالة جوبيتر «المشترى» فلم يتحول عن هذه الكلمة بجانب اسم كل إله أو بطلٍ مصورًا له بمنظر واحد على الدوام.

وغير ذلك أمر الويدا، فلا ترى في كتب الويدا سحابًا واحدًا، بل ترى فيها ألوف السحب من كل الألوان والأشكال المتحركة أو الثابتة بحسب ما تبدو للشاعر في السماء بالحقيقة، وفي الويدا، كما في الطبيعة، تقلبٌ في لهب أغني أمواج سوما وجري بالرياح وألوان الشَّفق والفجر والآلهة الكثيرة ما دام كل شيء إلهًا، وتبصر مثل هذه الكثرة في البرهمية الجديدة ما انقلبت مظاهر قوى الكون إلى آلهة هَيُولِيَّة.

وحينما يتمثل الهندوسي المؤمن إلهه على وجه من وجوهه وصِفة من صفاته يكون قد ألَّف بذلك مذهبًا، ولا يحتاج تأسيس مذهب إلى مؤسس برهمي، ما أصبح أناس من الطبقات الدنيا من المصلحين في بعض الأحيان، فلا يكاد الحبر يجمع حولَه بعض المريدين حتى يصير زعيمًا مرشدًا، وإذا لم يُقيَّض لهذا الحبر أن يفسر مذهبه الخالص قام خلفاؤه المرشدون مقامه في ذلك، وقد يصير المرء مرشدًا بالوراثة أو بالاستعداد، ويكون المرشد في الغالب من غير طائفة الكهان، ويبدو المرشد ملهمًا من الله فيتفق له نفوذٌ عظيم.

ونعد مؤسس مذهب السِّك نَانَك من أشهر زعماء الهند المرشدين وأجدرهم بالذكر في تاريخها، فنانك هذا وُلد بالقرب من لاهور في أواخر القرن الخامس عشر، فخُيِّل إليه أن يقيم ديانةً قائمة على التوحيد جامعة للمسلمين والهندوس، فكان له الأتباع من الجات التورانيين المقيمين بوادي السِّنْد.

داوم ذلك المذهب على الازدهار خلافًا لما يحدث عادة، فلم يمض قرنان على وفاة مؤسسه حتى نظَّمه المرشد غووند سنغ تنظيمًا عسكريًّا فانقلب المذهب إلى شعب جسور غدَا نذير سوءٍ على المغول وبدا مقاتلًا قويًّا تجاه الإنجليز زمنًا طويلًا، ومما قلناه في فصل سابق أن السِّك أضحَوْا عرقًا حقيقيًّا من أجمل عروق الهند بفضل ما قاموا به منذ البداءة من الرياضات البدنية وبفضل تزاوجهم فيما بينهم.

fig151
شكل ٢-٧: لاهور. منظر مسجد أورنغ زيب «أقيم في القرن السابع عشر» ومنظر مزار رنجيت سنغها «أقيم في القرن التاسع عشر»، «التقطت هذه الصورة من أعلى القلعة.»

أوردنا مثال السِّك لإثبات ما قد يُسْفِر عنه تأسيس المذاهب الدينية في الهند من النتائج، أجل، إن قليلًا من المذاهب يصل إلى ما انتهى إليه مذهب السِّك من الأهمية، غير أنه عقب جميع هذه المذاهب قيامُ طوائف جديدة لا يتزاوج أفرادها إلا فيما بينهم عادِّين جميع سكان الهند أجانب عنهم كالأوربيين، والحق أن هنالك أسبابًا كثيرة تحول دون انصهار شعوب الهند في أمة واحدة ذات يوم، وانقسامُ أهل الهند إلى طوائف يكفي وحده ليمنع حدوث هذا الانصهار.

ونذكر ديانات سكان الهند الأصليين بجانب الديانات الكثيرة التي جُمعت تحت اسم البرهمية الجديدة، وقد قلنا بضع كلمات عن تلك الديانات في الفصل الذي خصصناه للبحث في العروق، ومن أظهر ما في تلك الديانات عبادة جن الهواء وعبادة الحيوانات المؤذية كالأفاعي والأنمار، ومما رأيناه في نِلغيري وجود أقوام من الرعاة، نذكر منهم البداغا والتودا على الخصوص، يتخذون من أبقارهم وثيرانهم آلهة ومن رعاتهم كهَّانًا.

وقد أثرت تلك الديانات الوثنية في البراهمة أنفسهم، ومن ذلك الشأن الكبير الذي تراه لعبادة الحيوانات في جميع ديانات الهند على الإطلاق، والأفعى والبقرة أكثر هذه الحيوانات محلًا للاحترام، فلا تجد في الهند قومًا لا يُقدِّسون لهما.

وذبح البقرة أو قتل الحية من أفظع الجرائم عند بُدَّهِيي نيبال وبراهمة وادي الغَنْج ووحوش غوندوانا، فترى صورة الأفعى بجانب تماثيل الآلهة في جميع المعابد، وترى الثعبان والقرد خاصَّين بوِشنو، كما أن البقرة والثور خاصان بشيوا.

fig152
شكل ٢-٨: لاهور. مزار رنجيت سنغها ومئذنة لمسجد أورنغ زيب.

ويعبد الإله الشمس في الهند منذ القديم، وتمزج عبادته بجميع دياناتها، وكان الآريون يتقربون إليه بالأدعية والصلوات، فشادوا بذكره في أروع الأقوال، وشخَّصه حفدتهم في وِشنو كما رأينا، وتجد من الآريين والدراويد والسكان الأصليين من يدعون الإله الشمس رأسًا من غير أن يُشخِّصوه.

(٥) أشكال ديانات الهندوس الخارجية

يُحب الهندوس الصور والعلائم الخارجية، فهم شكليون في ممارسة أديانهم مهما كان نوعها، وتجد معابدهم مملوءة بالرموز التي تشير إلى عضو التوليد وعضو الاستيلاد، وبلغوا من الغلواء في ذلك ما ترى أعمدة أشوكا حافلة معه برموز عضو التوليد، وهم يجدون في كل أسطوانة أو سارية أداة للاحترام والتقديس.

ومما يجلب الثواب عند الهندوس النذور والتوبة والتقشف وتلاوة الكتب المقدسة والأوراد والصلوات والحجُّ، فيقومون بهذه الواجبات خير قيام، ولا ترى قومًا، كالهندوس يتشدَّدون في ممارسة الفروض الدينية.

fig153
شكل ٢-٩: لاهور. مدخل رواق في قصر المرايا «يرجع أقدم أجزاء قصر لاهور إلى عهد الملك أكبر، وهي الآن صائرة إلى خراب، وقد بني مدخل الرواق الظاهر في هذه الصورة حينما كان رنجيت سنغها ملك لاهور.»

والرِّغْ ويدا أكثر الكتب دراسةً من قِبَل البراهمة والمؤمنين، وينال من يتلوه ثوابًا عظيمًا، وللغة السنسكرتية التي كُتب بها شأن كبير لدى الهندوس كشأن اللاتينية لدى الكاثوليك وشأن العبرية لدى بني إسرائيل، ولا بد للأدعية عند الهندوس من أن تُحفظ وتُكرر عن ظهر القلب عدة مرات، فتراهم يستعينون على ذلك بالسُّبُحات، واستُعملت النواقيس في المعابد البُدَّهِيَّة على الخصوص، ثم استُبدلت الأقراص النحاسية بها في المعابد البرهمية على العموم، وكانت القرابين كثيرة فيما مضى فتألف منها أهم الشعائر الدينية، ثم فقدت اليوم شيئًا كبيرًا من سابق شأنها، وما كان ليُوضع على مذبح وِشنو غير الأزهار والأثمار، مع أن القرابين الدامية، ومنها القرابين البشرية في بعض الأحيان، كانت تقرَّب إلى شِيوا.

fig154
شكل ٢-١٠: بدهة ناتهه «نيبال». منظر المعبد الكبير «يبلغ ارتفاعه نحو ٤٢ مترًا ويبلغ قطره نحو ٩٠ مترًا»، «انظر إلى المطلب الخاص بفن البناء الهندي التبتي من فصل فن البناء للوقوف على تاريخ إقامة مباني نيبال.»
fig155
شكل ٢-١١: بتن «نيبال». باب قصر الملك «مصنوع من البرونز.»
fig156
شكل ٢-١٢: بتن «نيبال». المعبد الحجري الكبير القائم أمام قصر الملك «هذا المعبد هو الذي ترى قسمًا منه في الصورة التي رقمها ٧، فهذا المعبد هو، بالحقيقة، من أكثر مباني الهند بداعة، وقد التقطنا جميع صور هذا الجزء من كتابنا بأنفسنا لتزيين ما نشرناه في مجلة «حول العالم» من أنباء رحلتنا في نيبال.»

وكان للكهنة أهمية كبيرة، وكانوا أعظم ثقافةً مما هم عليه في أيامنا، وكانوا يفسرون للمؤمنين نصوص الكتب المقدسة الغامضة مجانًا، وكانوا يمارسون في معابدهم الرائعة الطقوس ويقرِّبون القرابين باحتفال عظيم.

وكانت مظاهر الأبَّهة في بعض المعابد المشهورة بالهند بادية، وكانت أيام الأعياد الدينية تتم رائعة، ولا يزال الحجيج الذين يزورون بنارس وجكن ناتهه ومعابد جنوب الهند الكبيرة يعدون بمئات الألوف في كل سنة، وداخلُ هذه المعابد، ولا سيما داخل ما هو قائم منها في جنوب الهند، رائعٌ إلى الغاية، وهو يحرك نفوس المؤمنين الذين يأتون من أقاصي البلاد تحريك احترامٍ ووجلٍ؛ ليضرعوا إلى الآلهة المرهوبة.

وأماكن الحج الشهيرة مشتركة، في الغالب، بين الديانتين الكبيرتين: الوشنوية والشيوائية، فيختلط أتباع الديانتين بعضهم ببعض في المواسم، وغير قليل أن يحضر المسلمون هذه المواسم عن تقوى، لا للاستطلاع فقط، فيعظم الجمهور بهم.

ولا مكان للحج في الهند أشهر من جكن ناتهه أو بوري الواقعة على شاطئ أوريسة، ولا مكان في الهند يتجلَّى فيه الإخاء بين أديان الهند واختلافها كذلك المكان الذي يُمثل جميعها فيه، فالهندوسي، مهما كان دينه، ومهما كان بُعد البلد الذي يسكنه، ومهما كانت مصاعب الرحلة، لا يألوا جهدًا في زيارة جكن ناتهه مرةً واحدة في عمره.

ويقاسم وِشنو الكئيب المشئوم شِيوا عبادة الجمهور الذي يبلغ بتقواه الهائجة درجة الهذيان ويسير الجمهور مركبه أي معبده الدَّوَّار، وبلغ بعض متعصبي الجموع من الحماسة في غابر الأزمنة الابتدائية ما كانوا يُلقون به أنفسهم تحت عجله فرحين.

وفي الهند أماكن حج كثيرة أقل أهمية من بنارس وجكن ناتهه على العموم، وَتُعَدُّ ضفاف نهر الغَنْج مقدسة من منبعه إلى مصبه فيأتي المؤمنون إلى زيارتها من أقاصي البلاد، وَتُعَدُّ مياه الغَنْج مقدسةً أيضًا فتنقل بين مكان وآخر في الهند بِأُجَر عالية، ولا تخلو قصور بعض الراجوات من مقادير منها للغُسل.

ذكرنا في وصفنا لطبيعة بلاد الهند، وذلك حين البحث في أنهارها، أن الهندوس يعدون جميع مجاري المياه مقدسة، ولا نهر في الهند، مع ذلك، يقرب من نهر الغَنْج تقديسًا، وترجع عبادة الينابيع والسحب والرياح الموسمية في الهند إلى أقدم العصور، ومن الطبيعي أن يقوم الهندوس بهذه العبادة في بلد الجفاف حيث يجلب الماء معه الحياة، وحيث يموت سكان كثيرون حين يقل الماء.

(٦) الْجَيْنِيَّة

خصصنا في هذا الفصل مطلبًا للجَيْنِيَّة التي تزعم أنها ديانة مستقلة عن البُدَّهِيَّة والبرهمية، وإن كان هذا الزعم لا يقوم على أساس صحيح.

فالحق أن الْجَيْنِيَّة مشتقة من تَيْنِكَ الديانتين معًا، فلها فلسفة البُدَّهِيَّة وطقوسها وأساطيرها وإن فُصلت عنها منذ القديم فعاشت بعدها بسبب ما تنزَّلت عنه للبرهمية من الامتيازات.

ونجهل تاريخ الْجَيْنِيَّة ونشوءها تمامًا، ونرى، مع ذلك، أنها مثلت دورًا مهمًّا في إحدى العصور، ودليلنا على ذلك أن المعابد الْجَيْنِيَّة التي شيدت في القرن العاشر من الميلاد تُعَدُّ من أجدر مباني الهند بالذكر، ونجد قبل إقامة هذه المعابد العجيبة آثارًا للديانة الْجَيْنِيَّة في كتابات ميسور التي خُطَّت في القرن الخامس من الميلاد وفي مراسم أشوكا التي ورد فيها ذكر لواحد من مذهبيها الكبيرين، والْجَيْنِيَّة هذه كانت ديانة الدَّكَن في زمن الحاج الصيني هيوين سانغ.

والْجَيْنِيَّة قديمة قِدَم البُدَّهِيَّة تقريبًا، ويجب عدُّها فرعًا من البُدَّهِيَّة إلى أن يقوم دليل على خلاف هذا، ولا شيء يدل على أنها أقدم من البُدَّهِيَّة كما يزعم أتباعها.

ويعتقد الْجَيْنِيُّون، كالبُدَّهِيين، أزلية العالم، وينكرون، مثلهم، كل خالق، ويختلفون عنهم في كيفية النظر إلى النِّروانا التي هي عندهم جَنَّةٌ حقيقية أو سعادة تحظى بها روح الإنسان، لا فناءٌ.

ويرى الْجَيْنِيِّون، كالبُدَّهِيين، أن النروانا تبلغ بعد مجاوزة سلسلة من الكينونات تتدرج حلقاتها إلى الكمال حتى تنتهي إلى جَيْنَا الذي هو آخرها فيبدو لنا أنه متحد ببدهة ذاتًا.

والْجَيْنِيِّون، كالبُدَّهِيين الذين يقولون بعدة بُدَّهات بجانب شا كيه موني، يرون جيناوات بجانب جينا على أن عددهم بلغ أربعة وعشرين جَيْنَا، فهؤلاء «اﻟ ٢٤ جينا» هم آلهة الْجَيْنِيَّة العليا.

ويرى الْجَيْنِيِّون آلهةً وإلاهات ثانوية بجانب أولئك الجيناوات الذين بلغوا تلك المرتبة بتكامل متلاحق نابذين أثقال الحياة، وتقول الْجَيْنِيَّة، من جهة العمل، بتعدد الآلهة كالبرهمية، فكان للجَيْنِيَّة مثل نصيب للبُدَّهِية من هذه الناحية، فهي مع قيامها نظريًّا على الإلحاد كالبُدَّهِيَّة، وذلك من ناحية التأملات الفلسفية، لم تلبث أن استحوذت عليها آلهة ما ابتلعته من الأديان إلى حين.

ولم تَسْطِع الْجَيْنِيَّة أن تعيش على وئام مع البرهمية التي هي ديانة الهند القديمة بسبب اعترافها بالآلهة البرهمية فقط، بل لإعلانها أيضًا نظام الطوائف الذي دحضته البُدَّهِيَّة روحيًّا إن لم يكن زمنيًّا، فلم يكن البراهمة ليقاتلوا ديانة تعترف بمقامهم القديم، وتقول بأن من أهمِّ الواجبات احترامهم المطلق.

وطقوس الْجَيْنِيَّة وأساطيرها نسخة من طقوس البُدَّهِيَّة وأساطيرها، فجينا الأعلى مطابقٌ لآدي بُدَّهة الذي تقول به بُدَّهِية نيبال، وهنالك موافقة بينه وبين شا كيه موني ولادةً وحياةً وظهورًا وأمرًا ونهيًا، فهما متحدان ذاتًا ومعنى وإن اختلفا اسمًا.

والاعتراف والنواقيس والحج مما تجده في كلتا الديانتين، وللرهبانية شأنٌ واحد في هاتين الديانتين.

وللجَيْنِيَّة، كما للبُدَّهِية، كتبها الدينية، وهي، مثل البُدَّهِيَّة، ترفض عدَّ الويدا حُجَّةً.

ولا تجد ديانة تعتدُّ بالمعابد اعتداد الْجَيْنِيَّة، ولا تجد ديانة شادت من المعابد الكبيرة الغالية أعظم مما شادته الْجَيْنِيَّة، فالحق أن معابد كهجورا وجبل آبو الْجَيْنِيَّة هي عجائب فن البناء في الهند، والحق أنه يُخيل إلى الناظر في أروقتها شبه المظلمة اهتزاز قومٍ من الخلائق الغريبة المنقوشة على الحجر يُشِعُّون حياة ويكتنفون أحد الجيناوات البادي هادئًا رزينًا متربعًا في جلوسه على العموم، والحق أنك إذا عَدَوْتَ الرموز التي تُميِّزُ الجيناوات الأربعة والعشرين بعضهم من بعض اعتقدت وجود جينا واحدٍ ما مُثِّل أولئك الجيناوات عراة ذوي ملامح واحدة.

ورسمت على صدور الجيناوات وحول أعناقهم خطوط مختلفة، ونُقشت في أكفهم وتحت أخامصهم١ إشاراتٌ خاصة على شكل السدر أو الدولاب اللذين هما رمز دهرما البُدَّهِي، أي الشريعة والحياة.

وترى للجَيْنِيَّة أتباعًا كثيرين في الهند، وتبدو الجَيْنِيَّة مزدهرة في الكجرات وفي جميع شبه جزيرة كاتهياوار تقريبًا.

(٧) مبادئ جميع أديان الهند العامة

يُطبَّق وصفنا الوجيز لديانات الهند على جميع الدور الذي دام من زمن بعث البرهمية الجديدة إلى أيامنا، ولم تتغير طقوس هذا الدور منذ ألف سنة.

ويجب أن تطبق روح الوحدة، التي لاحت لنا من خِلال تلك التموجات والاختلافات، على جميع أدوار الديانات في الهند إذا ما وفقنا لجعل القارئ يلمسها، فليست الويدية والبرهمية والبرهمية الجديدة، بالحقيقة، إلا ديانةً واحدةً تُعَدُّ البُدَّهِيَّة والْجَيْنِيَّة فرعين لها.

ترى جميعُ أديان الهند أن الحياة شر، وأن المادة مظهر حطيط لمبدأ الحياة، وأن الطبيعة سلسلة تطورات دائمة، وأن الآلهة والناس ظواهر باطلة ومظاهر وهمية للأصل الأعلى، أي لبَرَهْمَا العظيم، وأن هذا الأصل الأعلى هو الله الواحد الذي يهب الحياة لجميع الموجودات وإليه يصعد جميع الأديان، سواء عليك أدعوته بأغني أم دعوته ببَرَهْمَا أم ببُدهة، وأن الأجداد والحيوانات وقُوى الطبيعة والجن والغيلان والأبطال الذين يتقمصهم لا يلبثون أن يصبحوا موضوعات عبادة ثم أصنامًا للجماهير، وأن الروح الخالدة تنتقل من موجود إلى موجود حتى تفنى في الأصل الأعلى، وأن أفعال الإنسان في هذه الدنيا تُقرر أحوال كيانه القادم.

ويشعر القارئ بالفروق التي يُميَّز بها بين فروع الديانة الهندوسية الثلاثة الكبرى القديمة والحديثة حينما يتمثل الويدية وقربها من دين الطبيعة الفطري، والبرهمية ومجرداتها وحقدها وشؤمها، والبرهمية الجديدة وتشرُّبها روح المحبة التي أسفر عنها الإصلاح البُدَّهِي، وأما الشكليات فقد تغيرت ولا تزال تتغير، فلم ينفك خيال الهندوس الخصيب، الذي زادها كثيرًا، عن نشاطه فيعدِّلها بلا انقطاع.

fig157
شكل ٢-١٣: بتن «نيبال». عمود من الخشب المحفور في أحد البيوت.

(٨) الإسلام في الهند

لدين محمد أتباعٌ كثيرون في الهند، فقد بلغ عددهم فيها خمسين مليونًا، أي خمس سكانها، ولا يزال هذا العدد يزيد بمن يعتنقون الإسلام في كل يوم.

ولا شيء أسهل على الهندوسي من انتحال دين جديد مع محافظته على دينه القديم في الغالب، فالهندوسي مستعد بطبيعته لاعتقاد كل شيء، والهندوسي إذا ما رضي بآلهة جديدة لا يتضمن ذلك، على العموم، أنه ترك الآلهة القديمة، وإنما يؤدي ذلك إلى زيادة عدد آلهته، ويعمل الهندوسي تارة بأوامر آلهة وتارة بأوامر آلهة أخرى، وذلك على حسب ما تمليه عليه حرفته أو طراز عيشه أو إحدى المصادفات.

وكلما صعدت في سُلَّم الطبقات الاجتماعية وجدت الفروق واضحة، فترى بين من هم على شيء من الثقافة مسلمين حقيقيين وبراهمة حقيقيين، ولكنك إذا ما هبطت إلى الشعب وجدت اختلاط تَيْنِكَ الديانتين في بعض المرات اختلاطًا تامًّا، فتبصر محمدًا والأولياء المسلمين آلهةً لها ما لآلهة الهندوس من الصفات، وما أكثر ما تتبادل تانك الديانتان الطقوس جامعةً لأتباع مختلف المعتقدات أحيانًا.

فانظر إلى بُوهرا الكجرات الذين هم من الشيعة المسلمين والذين هم من سلالة قدماء الهندوس، لا من سلالة قدماء المسلمين، تجدهم لا يعملون بتعاليم محمد إلا قليلًا، وتشابه طقوسهم بعض الطقوس الهندوسية مشابهةً تامة.

وأهلُ السنة، الذين تتألف منهم أكثرية المسلمين في الهند فيعدون أنفسهم على الإيمان الصحيح، يزدرون الشيعة، وما بين هاتين الفرقتين الإسلاميتين من الاختلاف فأكثر مما بينهما وبين الهندوس، وهذا إلى أنك تشاهد انقسامهما إلى فرق صغيرة كثيرة.

وقولُ الإسلام بالمساواة من أهم الأسباب في تقدمه السريع، فالحرص والرغبة في رفع النير الثقيل عن الكواهل مما يَدُعُّ ملايين الناس إلى اعتناق دين النبي طائعين مسرورين.

بَيْدَ أن الدين الذي جاء به محمد بسيطٌ عند قوم تعودوا عبادة آلهة كثيرة جدًّا، فلذلك لم تنجح جميع الجهود التي بذلت لحمل الهندوس على التوحيد، بل أدت إلى إضافة إله جديد على الآلهة التي كانوا يعبدونها، فالحق أن كثيرًا من الهندوس المسلمين يؤلِّهون محمدًا، ثم أخذوا يؤلهون صهره عليًّا، وأن أبناء طبقات المسلمين الدنيا يؤلهون كثيرًا من الأولياء، فيخلطونهم بالآلهة البرهمية القديمة.

وخلطٌ بين المعتقدات كهذا الخلط المؤدي إلى أسخف الخرافات وإلى الوثنية، أحيانًا، مما أوجب ظهور مصلحين لتطهير العقائد العامة وتحويلها إلى توحيد راقٍ.

ذلك أمر كبير الذي ظهر في القرن الخامس عشر فثار على القرآن والويدا فجدَّ في إقامة ديانة روحية واحدة مقامهما، وذلك أمرُ نَانَك مؤسس مذهب السِّك، وذلك أمر رام مُوهَن راي الذي مارس ديانة مقتبسة من النصرانية والإسلام والبرهمية، وذلك أمر الملك أكبر المرتاب الذي خُيِّل إليه صَهر ديانات الشعوب التي كان يملكها.

fig158
شكل ٢-١٤: بهات غاؤن «نيبال». ميدان قصر الملك.

نعم، جمع أولئك المصلحون بعض الأنصار حولهم، غير أن نجاحهم كان محدودًا على الدوام، وهم لم يوفَّقوا، في الحقيقة، إلا لزيادة أديان الهند عما كانت عليه من قبل.

وبدا الإسلام كما يزاوله القوم في الهند، متموجًا متحولًا على حسب الطابع الذي يتجلى في جميع معتقدات الهندوسي الدينية، ولم يوفَّق الإسلام لنشر المساواة بين جميع الناس في البقاع الهندية التي يهيمن عليها فكانت سبب دخول الناس فيه أفواجًا، فالمسلمون في الهند يعرفون نظام الطوائف عمليًّا إن لم يعرفوه نظريًّا.

واقتبَس الإسلام في الهند من البُدَّهِيَّة ومن البرهمية، فمن ذلك أن جميع المسلمين يمارسون عبادة الذخائر العزيزة على البُدَّهِيين، فترى عندهم شعراتٍ من لحية النبي كما ترى عند البُدَّهِيين شعرات من شا كيه موني، ومن ذلك أن أتباع الديانات الثلاث يُقدِّسون لبعض آثار الأقدام بحسب ما يرونها لِقَدَم بَرَهْمَا أو بُدَّهة أو محمد.

والخلاصة أن الإسلام عانى نفوذ أديان الهند القديمة أكثر من أن يُعدِّلها، وأنه ظل منتشرًا في وادي الغَنْج وفي كجرات على الخصوص، وأن له أتباعًا كثيرين في الدَّكَن، وأنه لا يكاد يُفرَّق عن البرهمية عند الدراويد في الدَّكَن.

ولكن المسجد الصامت العاري يُفتح في جميع مدن الهند بجانب المعبد المملوء بالأصنام، وكلما تقدمت الحضارة وتنوَّر الناس زاد عدد المسلمين فيسفر عن لين تعصب الطوائف وانتشار المبدأ القائل بإله واحد في ذلك القطر المملوء بالخرافات انحناء النفوس بالتدريج أمام جلال الله وعظمته.

حقًّا أن فتح الإسلام للهند لمَّا يتم، وهو سائرٌ، صامتًا بطيئًا، على طريقه، فلم يقف تقدمه سلطان إنجلترا النصرانية.

(٩) تأثير الدين في الأخلاق عند الهندوس

أشرنا في الفصل الذي درسنا فيه مزاج الهندوس النفسيَّ إلى الهوة بين الديانة والآداب عندهم، وترانا نؤكد هذا الأمر الذي يعْسر على الأوربيين إدراكه، فالآداب، أي قواعد السلوك عند الأوربيين اشتُقت من الديانة رأسًا منذ قرون، وبلغت الآداب من الارتباط في المبادئ الدينية مبلغًا لا نكاد نبصر معه انفصالها عنها.

واستقلال الديانة عن الآداب عند الهندوسي تام تقريبًا، وقيل عن الهندوسي، بحق، إنه كان أشد الأمم تدينًا، وإذا ما نُظِر إليه من الناحية الأوربية وُجِد، بحق، أقلَّ الأمم آدابًا على ما يُحتمل.

أَجَلْ، إن نيل الحُظوة لدى الآلهة والتودد إليها هما الغاية التي يسعى إليها الهندوسي في أدق أعماله، فلا تغيب هذه الغاية عن عينيه ثانية، ولكن العجب يعتري الباحث إذا علم أن مما قيل له هو أن الآلهة أقل العالم اكتراثًا لصدق علائقه بالناس ولنقاء حياته وإخلاصه في القول والعمل، وأن تلك الآلهة القادرة على كل شيء أقل الموجودات غَضَبًا من أجل سَرِقَته لمال جاره أو قتله لولده.

ويصبح الهندوسي عرضة لانتقام الآلهة الشديد إذا ترك الصلاة أو الدعاء أو تلاوة الكتب المقدسة أو لم يحضر الاحتفالات الدينية أو ذبحَ بقرةً أو لم يقُم بواجب الطهارة أو لم يغسل يديه قبل الطعام أو لم يغسل فمه بعده.

تلك هي الذنوب التي تثير سُخْط الآلهة، وإذا نظرت إلى الشعائر الدقيقة الكثيرة التي يقوم بها الهندوسي في أدق شئون حياته وجدتها قد وُضِعت لتمجيد القُوَى السماوية ودفع غضبها ونيل بركتها وأن الهندوسي يرى صدورها عن الآلهة، وأنها تشابه وصايا موسى عند النصارى وإن كان ستٌّ من هذه الوصايا من الآداب.

وقد كُرِّرت الوصية: «أكرِمْ أباك وأمك، لا تَقْتل، لا تزْنِ، لا تسرق» تكرارًا متصلًا باسم الله، فيعد بعض الأوربيين عزوها إلى الإنسان كفرًا، ولا تطالب الآلهة الهندوس بشيء من ذلك، وهي تطالبهم بالقرابين والحج والتوبة والصلاة والقيام بمئات الشعائر في كل حين، وأما غير هذا فمن الأمور المادية النفعية العملية التي هي من شأن الإنسان وحده، فلا تبالي الآلهة بها أبدًا.

وكيف يروق أدب الحياة الآلهة التي هي عنوان قلة الأدب؟ لقد استهزئ بجوبيتر «المشترى» الإغريقي الفاجر، وبمركور «عطارد» اللص وبفينوس «الزهرة» البغيِّ فلم تطالب هذه الآلهة الإغريقية عبادها بالأدب أيضًا، فالحق أن الأدب عند الإغريق ظل منفصلًا عن الدين أيضًا، والحق أن الآلهة عند الهندوس لم تُبال بالطهر والعفاف كما أن سكان الأولمبيا الإغريقية «الآلهة اليونانية» لم يبالوا بهما.

وهنالك صنفان من الواجبات يسيطران على حياة الهندوسي وهما: الأوامرُ الدينية، أي أمور العبادة، والطهاراتُ التي هي من الواجبات الدينية مع أن لها مصدرًا آخر، فأما الصنف الأول: فقد نشأ عن ضرورة التودد إلى الآلهة الهائلة القادرة على إثارة الأعاصير وإصابة الناس بضروب الجدب والأوبئة، وأما الصنف الثاني: فمصدره ضرورة التطهر من أناس من الطوائف الدنيا وقع عَرَضًا.

فمن مراعاة ذَيْنِكَ الصنفين الأساسيين «وهما استعطاف الآلهة بالعبادة وتوكيد نقاوة الطائفة» تتألف قواعد الآداب لدى الهندوس تقريبًا وما في شرائع مَنُو من القواعد فيُردُّ إلى ذَيْنِكَ الصنفين، وما تراه في الغرب من الواجبات الأدبية فصادرٌ عن الدين مع أنه لا علاقة له بالدين في الهند.

وارجِع البصر إلى شرائع مَنُو تجد أن مخالفة أتفه الشعائر يُعَدُّ لدى الهندوسي جرمًا عظيمًا لا يكفَّر عنه إلا بضروب التعذيب وبالقتل في الغالب، وأنه يمكن السارق والقاتل أن يكفِّرا عما اقترفا بالتوبة والاستغفار.

وإذا عَدَوْتَ زِناء الأزواج الذي يُهدِّد كِيان الأسَر والعرق تهديدًا عظيمًا رأيت جميع الذنوب الحسية قليلة الخطر لدى الهندوس، فما يمارسه الهندوس من العبادات الشهوانية يدُعُّهم إلى التحلل دعًّا، ولا ينقلب الغرام إلى جرم إلا إذا كانت الطائفة الدنيا محله.

ويتوقف جرم القتل على صنف المجني عليه، فإذا كان المجني عليه بقرة أو برهميًّا كان الجرم عظيمًا، ويكون الجرم من الصغائر في أية حال أخرى، وترى أنواعًا للقتل لا تُعَدُّ من الآثام كقتل البنات.

وليست آداب الهندوسي ضعيفة فقط، بل إن ما لديه منها خاصٌّ بالذين يولدون مرتين، فما على الشودريِّ سوى الخضوع المطلق.

قال الأسقف إيبر: يجب على الشودري أن يجتنب الذنوب الآتية: ذبح بقرة وإساءة برهمي وترك إحدى الشعائر التافهة التي تستعطف بها الآلهة كما يفترض.

وتختلف تلك الآداب الهزيلة بحسب الطوائف، وهي تَعُدُّ الذنوب من الكبائر أو الصغائر على حسب طبقة الجاني أو المجني عليه، وهي لا تقاس بأهمية الدين الذي يستوعب الروح ويستغرق أدق أعمال الحياة.

«فالهندوسي يسير ويجلس ويشرب ويأكل ويعمل وينام دينيًّا.»

هذا ما قاله الهندوسي، وهو قول واقعي، فالهندوسي لا يسيح ولا يبدأ بالطعام ولا يلقى صديقًا ولا ينام من غير أن يعوذ بالآلهة، والهندوسي لا يخيط ثوبًا ولا يلبس حُليًّا إلا بوحي ديني، والهندوسي يسكن، لذلك، قطرًا يُعَدُّ أكثر أقطار العالم شعائر وعبادات.

fig159
شكل ٢-١٥: كهات مندو «نيبال» معبد من آجر وخشب منقور.

والعنصر الأدبي الوحيد الذي نَفَذَ طبيعة الهندوسي هو روح المحبة البُدَّهِيَّة، وتسربت هذه الروح في صميم الشريعة الشديدة التي وُضعت إرضاءً للآلهة الوهمية القاسية، لا من أجل صلاح الناس، فألانتها وأضافت إلى تعاليمها الجافة الثقيلة مبادئَ محبةٍ وكرم، فالحق أن العصر البُدَّهِيَّ هو أكثر أعصر الهند أخلاقًا، ولا يزال تأثيره الطيب باديًا حتى اليوم.

وما تحلَّى به الهندوسي من الصفات، كالحلم والوفاء للسادة وحبِّ الأسرة وروح التسامح العجيبة، فمن مقتضيات سجيته، لا من مقتضيات آدابه، وأكثر صفاته تلك هي، مع ذلك، منفعلةٌ غير فاعلة، فالهندوسي يعرف كيف يطيع، ولا يبدو حسنًا إلا حين خضوعه لسيد، وهو إذا ما ساس ظهر ظالمًا مستبدًّا جبارًا، ولا تجد في الهندوسي صفة يمكن أن يقال إنها ثمرة أدب ديني أينعت مع القرون، ولم ينشأ الأدب في الهند مع أن للدين سلطانًا عظيمًا فيها على الدوام.

فالهندوسي، إذن، رجل دين، لا رجل أدب، وقد تعود الخضوع والانقياد لما فطر عليه من الأخلاق الهينة التي اقتضاها الاستعباد الطويل وجو بلاده المبطل للنشاط، ولو كان شعورُ الهندوسي الأدبي رادعَه لكان من أقسى شعوب الأرض طرًّا وأشدها خطرًا، ولكنك تجد سر عدم أذيَّته في سجيته.

هوامش

(١) الأخامص: جمع الأخمص، وهو ما لا يصيب الأرض من باطن القدم، وربما يراد به القدم كلها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤