الفصل الرابع

الإدارة الإنجليزية

مستقبل الهند

(١) الإدارة الإنجليزية

أقامت أمم كثيرة مستعمرات، وحافظت أمم قليلة على ما أسست، وعرفت إنجلترا كيف تحافظ على مستعمراتها على العموم، فكان هذا سبب نيلها مغانم عظيمة، فلذلك نرى من المفيد جدًّا أن نعلم كيف تَمْلِكها.

ودرس الموضوع في مجموعه واسع ما اختلف نظام الإنجليز الاستعماري باختلاف المستعمرات، فمن المستعمرات الإنجليزية ما هو مستقل استقلالًا تامًّا تقريبًا كأستراليا التي لم يكن سلطان الإنجليز فيها إلا اسميًّا، ومنها ما كان للإنجليز فيه حكام ذوو سلطان مطلق كالهند، فترى بين هذين الصنفين من المستعمرات مجالًا لتطبيق مختلف النظم.

والنظام الذي ندرسه في هذا الفصل خاص بالهند، فسنذكر فيه خطوط ذلك النظام الذي استطاع به ألف من الموظفين وجيش صغير من الأوربيين «لا يكاد يزيد على الجيش الفرنسي المرابط في الجزائر لحكم ثلاثة ملايين من المسلمين» أن يخضعوا به أكثر من مائتي مليون من الآدميين، أي أكبر إمبراطورية في العالم بعد الصين.

ليس من السهل استخلاص المبادئ العامة التي سار عليها الإنجليز في تأسيس إمبراطورية الهند الاستعمارية وما إليها من المستعمرات، وهذه المبادئ العامة هي من قواعد السلوك التي ترغب الأمم، كالأفراد، في العمل بها عملًا لا شعوريًّا في بعض الأحيان من غير أن يوصَى بها في الكتب، ونحن، إذ بحثنا في الإدارة الإنجليزية بالهند وفي تاريخها بحثًا دقيقًا أمكننا أن نستخرج تلك المبادئ كما يأتي:
  • (١)

    يجب أن يكون فتح إحدى المستعمرات تجاريًّا قبل فتحها حربيًّا؛ فالتجار، وحدهم، يستطيعون أن يثبتوا، برواج أسواقهم، وجودَ نفع بالغ في الاستيلاء على بلد، فإذا ما فعلوا ذلك دُوِّخ ذلك البلد عند القدرة على قهره عسكريًّا، وإلا فتِح بالحيل والدسائس.

  • (٢)

    يجب أن يتم قهر البلد الذي يراد فتحه بمال هذا البلد وبجنوده، فعلى الأوربي الغازي أن يقتصر على إدارة شئون هذا الفتح، وقد رأينا كيف أن هذا المبدأ الأساسي قد طبق في فتح الهند فاستطاع الإنجليز، بتدخلهم في منازعات أمراء الهند، أن يستولوا به على جميع الهند من غير أن يتكبدوا نفقة أو ضَياعًا في الرجال إلا قليلًا جدًّا.

  • (٣)

    يجب أن تستغل المستعمرة استغلالًا تامًّا في سبيل الأمة الغازية الفاتحة وحدها ما دامت عاجزة عن رفع نير هذه الأمة الأجنبية عنها كما رفع عن أمريكا وأستراليا.

  • (٤)

    يجب ألا تُمس نظم المستعمرة وعاداتها ومعتقداتها إذا ما أريد استغلالها اقتصاديًّا من غير أن يرفع سكانها راية العصيان، وذلك بأن تترك لهم إدارتهم وقضاتهم مع إشراف شِرذمة من الأوربيين لا يألون جهدًا في الوصول إلى المقصدين: حفظ الأمن وجباية أقصى ما يمكن من الضرائب، وتبصر من لقب «الجباة» الذي يطلق في الهند على أكابر موظفي الإدارة الإنجليزية هدفَ الإنجليز من استعمارهم للهند.

  • (٥)

    يجب ألا يتوالد الغالبون والمغلوبون أبدًا، ما دامت التجارب المكررة منذ القديم قد دلت على أن توالد الشعوب العليا والشعوب الدنيا في المستعمرات يؤدي إلى انحطاط الشعب المهيمن أخلاقًا وعقلًا ثم إلى خروج مستعمرته من يده في أقرب وقت كما أصاب البرتغاليين في الهند والإسبان في أمريكا، وقد رأينا في المطلب الذي درسنا فيه أمر الطوائف كيف أن الإنجليز عَضُّوا على هذا المبدأ بالنواجذ.

fig179
شكل ٤-١: عقد من فضة «سندها».

ولا مراء في أن المبدأ القائل باستغلال المستعمرة في سبيل الأمة الغالبة وحدها صعب التطبيق، فإذا ما جاوزت هذه الأمة الحدود فأساءت التصرف أصبح سلطانها لا يطاق فثار عليها الشعب المقهور، فتبيُّنُ هذه الحدود ليس من السهولة بالذي يُظَنُّ، فقد التبس الأمر على الإنجليز مع روحهم العملية الممتازة، فكادوا يخسرون الهند لمجاوزتهم تلك الحدود.

fig180
شكل ٤-٢: حلية من فضة على شكل شبكة «أوريسة».

ظلت حكومة الهند الإنجليزية قبل ثورة السباهي منذ ثلاثين سنة تستغل مائتي مليون من الآدميين بواسطة شركة تجارية اتخذت عصابات من الإنجليز المرتزقين حامية لها فلم يستفد من هذا الاستغلال سوى هؤلاء الإنجليز الذين فُوِّض إليهم أمر إدارة الهند، فلم ينل مساهمو تلك الشركة ربحًا ذا مال ما كان هَمُّ كل موظف إنجليزي من هؤلاء، صغيرًا كان أو كبيرًا، أن يغتني بسرعة، فبحث البرلمان الإنجليزي في فضائح هؤلاء الموظفين الإنجليز المالية في الهند، فلما عم الجور والطغيان وقفت الأعمال العامة فأُهملت الطرق والحياض والقنوات، إلخ. إهمالًا تامًّا.

دلَّت ثورة السباهي الدامية، التي كادت تؤدي إلى خروج الهند من أيدي الإنجليز، على ما في تلك الحكومة من الأخطار، فلم تكد تلك الثورة تُطفَأ حتى غُيِّرت تلك الحكومة تغييرًا سياسيًّا، فقد نُشر في سنة ١٨٥٨ المرسوم المعروف ﺑ «مرسوم الحكومة الرشيدة في الهند» فنُزعت به حكومة الهند من تلك الشركة التجارية وأسندت إلى الملكة، وعُيِّن وزير للهند وأضيف إليه مجلس مؤلف من أعضاء أقاموا بالهند عشر سنوات على الأقل، وقُسمت الهند إلى ولايات يرأسها نائب ملك على أن يساعده مجلس تنفيذيّ يُعيِّنه صاحب التاج ومجلس اشتراعي يعينه نائب الملك هذا، فاليوم ترى الهند مقسومة إلى الولايات الثماني: «البنغال، والمناطق الشمالية الغربية، والبَنْجَاب، والمناطق الوسطى، ومدراس، وبمبي، وأسام، وبرمانية»، لا إلى ثلاث رياسات كما قيل على العموم، وترى على رأس أهم هذه الولايات موظفين مستقلين لا يتلقَّون من نائب الملك أوامر في غير أمور الجيش والمالية، حتى إن حاكمي بمبي ومدراس يتصلان بالتاج رأسًا، أي من غير طريق نائب الملك، فتجدُ لكل واحد منهما مجلسًا اشتراعيًّا ومديرين.

وتقسَّم كل ولاية إلى مديريات يدير شئونها موظف تنفيذي يدعى ﺑ «الحاكم الجابي» أو «النائب المفوَّض»، وتكون السلطات الإدارية والقضائية في يد واحدة أو منفصلًا بعضها عن بعض بحسب حضارة كل منطقة، واليوم يكاد بعض هذه السلطات يكون مفصولًا عن بعض في كل مكان.

ويبلغ أهل كل مديرية، وهي ما تعدل المديرية الفرنسية، مليونًا في الغالب، ولا يزيد عدد موظفي الإنجليز المدنيين في الهند بأسرها على ألف، ويرتبط هؤلاء في إدارة «الخدمة المدنية»، فبهؤلاء يحكم الإنجليز مائتي مليون من بني الإنسان.

ويُعتنى باختيار هؤلاء الموظفين، فيتألف من مجموعهم طبقة راقية لا تملك أمة مثلها، وقد اتصلتُ بغير واحد من هؤلاء فقضيت العجب من أخلاقهم وقوة تمييزهم فضلًا عن ذكائهم وقوة معارفهم، فهم يديرون شئون الهند بحكمة وإخلاص.

وتُجزل الحكومة الإنجليزية رواتب موظفيها في الهند مع تدقيق في أمر تعيينهم، وقد كان هذا التعيين يتم بالخيار فيقوم الابن مقام أبيه في إدارة الهند كما كان يُرى، وأما اليوم فيتم التعيين للوظائف بالمسابقات، فيُجتنب، بذلك، بعض المساوئ، غير أن الخُلُق والنشاط الضروريين في مزاولة تلك الوظائف ليسا مما يُقدَّر بالامتحانات كما أصاب السر ريشارد تمبل في قوله.

وليس قبول المرشحين في تلك الوظائف بالأمر السهل، فبعد أن يمتحن المرشح فيما يُثبت به تعليمه ومعرفته التامة للهندوستانية «لأن الإدارة الإنجليزية لا ترضى بأن يُحكم قوم من غير أن تُعرف لغتهم» لا بد من مجاوزته بعض المراحل التي تنكشف بها أهلياته، فيدخل إذ ذاك دائرة «الخدمة المدنية» براتب يترجح بين ٩٠٠٠ فرنك و١٧٠٠٠ فرنك على حسب الفرع الذي رُئي استعداد له، فإذا مرت عليه أربع سنوات ترجح راتبه بين ٢٢٠٠٠ فرنك و٣٠٠٠٠ فرنك، وإذا مرَّت عليه ثماني سنوات، أي حينما يكون حوالي الثلاثين سنة من عمره، كان له أن يأمُل نيل ٥٠٠٠٠ فرنك راتبًا، فيسير من هذه الدرجة إلى أن ينال ١٠٠٠٠٠ فرنك، أو أكثر، راتبًا، وهذا مع نيله تعويضًا إذا ما تعلم لغة جديدة، ولا سيما العربية أو الفارسية أو السنسكرتية في غضون ذلك.

وبعد أن يمضي على الموظف البريطاني المرتبط في إدارة «الخدمة المدنية» ٢٢ سنة، أي إذا ما كان في الأربعين من عمره، حق له أن يعود إلى إنجلترا براتب تقاعد سنوي يترجح بين ١٥٠٠٠ فرنك و٢٥٠٠٠ فرنك.١

وتجد تحت موظفي الإنجليز أولئك مئات الألوف من موظفي الهندوس الثانويين الذين يندر أن يزيد الراتب الشهري لكل واحد منهم على خمسين فرنكًا، أي على هذا المبلغ الكثير على الهندوسي، فبهؤلاء وحدهم يتصل الجمهور الهندوسي، فهؤلاء إذ كانوا مطلعين على احتياجات ذلك الجمهور وأفكاره ونظمه المختلفة باختلاف الولايات بدوا قادرين على القيام بما فُوِّض إليهم، فتدار كل ولاية وكل مديرية بحسب عاداتها القديمة.

fig181
شكل ٤-٣: سارية سرير مدهونة باللك «سندها».

ترى، من ذلك، درجة كمال تلك الإدارة وبساطتها، وبينما تشاهد الأمم الأخرى ترسل إلى مستعمراتها الواقعة فيما وراء البحار جحافل من الموظفين المتفاوتي الدرجات الجاهلين للغة وطنهم الموقت ومبادئه وطبائعه وعاداته فلا يصدر عنهم غيرُ مسِّ مشاعر من يحيطون بهم، تَستخدم الحكومة الإنجليزية في إدارة مستعمراتها موظفين أهليين وقضاةً محليين تحترم بهم شرائع هذه المستعمرات وعاداتها، وما يناله أكابر الموظفين من رواتب ضخمة مما يحول دون ارتشائهم فيبذلون ذكاءهم في سبيل الأعمال التي وكلت إليهم، ومن هؤلاء الموظفين المرتبطين في «الإدارة المدنية» من أقاموا بالولاية الواحدة عشرين سنة فعرفوها معرفة تامة.

fig182
شكل ٤-٤: حلية من ذهب «بمبي».

ويمكننا انتقاد نظام يترك الأمم المقهورة حرة في نظمها وعاداتها إذا ما نظرنا إلى الأمر من حيث المبدأ القائل إن شأن الأمم العليا هو في فرض ما نسميه نِعَم الحضارة على الأمم الدنيا، وتراني، مع ذلك، غيرَ معتقد صواب هذا المبدأ النظريِّ غير الصالح لبقاء المستعمرة قبضة الأمة التي أقامتها، أجل، إننا نظن أننا نصنع خيرًا إذا منحنا ما بَقِيَ لنا من المستعمرات في الهند نظمنا الجمهورية كالمساواة والانتخاب العام إلخ، بَيْدَ أنه يجب على من يعجبون بهذا النظام الاستعماري ألا يأسفوا على أننا أضعنا الهند في عهد لويس الخامس عشر؛ وذلك لأن تطبيق مبادئنا العظيمة على الهند كان يؤدي إلى خُسْرِنا لها بسرعة لا محالة، فضلًا عن وقوعها في فوضى دامية كبيرة.

ولا شيء أقضى لعجب السائح الذي يصل إلى بونديجيري بعد أن يزور الهند من المقابلة بين قلة احترام الهندوس للأوربيين في هذه المستعمرة الفرنسية واحترامهم العميق للأوربيين في الهند الخاضعة لسلطان إنجلترا، فنحن نرى من المعروف الطيب أن نُنْعِم بنظمنا الراقية الحديثة على المشابهين لأبناء القرون الوسطى، والهندوس يرون أننا لم نصنع ذلك إلا لأننا نخشاهم، فنفقد، بذلك، نفوذنا لديهم، فلنحتفظ بمبادئنا في المساواة إذا لم نستطع العيش بدونها، ولكن لنَكُفَّ عن تأسيس المستعمرات ما تمسكنا بتلك المبادئ.

ونتمثَّل النتائج التي أسفرت عنها الإدارة الإنجليزية الجديدة فتوقفت عليها مقادير الهند منذ ثلاثين سنة مستعينين بالإحصاءات الرسمية، فبفضل تلك الإدارة سُتِرت الهند بالخطوط الحديدية والقنوات وأسلاك البرق والأشغال العامة فأضحت أنجح مستعمرة ملكتها أمة، ومن النظر في بعض الأرقام نتمثَّل حال هذه الإمبراطورية العظيمة بسهولة.

fig183
شكل ٤-٥: حلي «تري جزنابلي».

يخضع للإنجليز مائتا مليون من الأهالي، فإذا أضفت إلى هذا العدد سكان ممالك الهند الأهلية البالغ عددهم ستين مليونًا كان المجموع ٢٦٠ مليونًا، ولا تكاد تجد نصف مليون من هؤلاء نتيجة لتوالد الهندوس والأوربيين، ويرجع هذا التوالد، على الأكثر، إلى زمن كان الإنجليز والهندوس فيه على اتفاق أكثر مما هم عليه الآن.

والجيش الإنجليزي في الهند مؤلف من ٦٥٠٠٠ جندي فقط، وتجد بجانبه جيشًا من الهندوس مؤلفًا من ١٢٧٠٠٠ جندي، ويقود هذا الجيش ضباط من الإنجليز.

ويبلغ دخل بيت المال في الهند مليارًا و٧٠٠ مليون، ويُجبى ٥٦٥ مليونًا من هذا المبلغ من الخراج و١٣٠ مليونًا من الأفيون و١٥٥ مليونًا من الملح.

وتترجح نفقات الجيش، بحسب السنين، بين ٤٠٠ مليون و٥٠٠ مليون، وتبلغ نفقات الإدارة المدنية ٢٧٥ مليونًا، وتبلغ نفقات الأشغال العامة ٣٧٥ مليونًا، وتبلغ الديون العامة أربعة مليارات، ومن هذه المليارات الأربعة مليار واحد أُنفق لقمع ثورة السباهي، ومنها ٥٤٠ مليونًا أُنفق في محاربة الأفغان الأخيرة.

وتتالف الأشغال العامة الكبرى من الخطوط الحديدية والقنوات على الخصوص، وفي الهند أكثر من ٢٠٠٠٠ كيلو متر من الخطوط الحديدية، ونحوُ هذا المقدار من القنوات.

وتُقَدَّر موازنة الهند التجارية في الوقت الحاضر بثلاثة مليارات، فتبلغ الصادرات ١٧٠٠ مليون، وتبلغ الواردات ١٣٠٠ مليون، وأخذت صادرات الهند تزيد على وارداتها منذ سنين، فانتهت هذه الزيادة إلى ٤٠٠ مليون في الوقت الحاضر، ومعظمُ هذه الزيادة هو ما يجب على الهند أن تدفعه من النقود إلى إنجلترا في مقابل إدارتها، ويمكن عد هذا المبلغ ضربًا من الجزية الخَطِرة على كيان الهند الاقتصادي.

والقطن والأفيون «٢٧٥ مليونًا» والأرز والبُرُّ أهم صادرات الهند، والنسائج القطنية أهم ما تستورده الهند.

والهند تستورد النسائج القطنية «٦٥٠ مليونًا» من إنجلترا ما دامت مصانع الهند الابتدائية لا تقدر على مزاحمة المصانع الإنجليزية، وأخذت مصانع الهند تصنع، مع ذلك، مقادير كبيرة من النسج القطنية فتبيعه من الصين وشواطئ أفريقيا الشرقية وجزيرة العرب.

والصين وإنجلترا أهم البلدان استيرادًا من الهند، ومرفأ هونغ كونغ أهم مكان لهذا الاستيراد.

وتنقل صادرت الهند بحرًا في ١٢٠٠٠ سفينة أو ١٣٠٠٠ سفينة تقصد موانئ الهند، ويرفع ٨٣ في المائة من هذه السفن المترددة إلى مرافئ الهند أعلامًا إنجليزية.

fig184
شكل ٤-٦: سوار من فضة «البنغال».

وإذا كان رخاء الأمة بحسب سرعة مواليدها، وهذا ما أجادل فيه، كانت الهند أرغد عيشًا من أي بلد في العالم؛ لما اتفق لها ما لم يتفق لغيرها من زيادة المواليد، فالهند التي قُدِّر سكانها بمائة مليون في سنة ١٨٠٠ صارت تشتمل على مائتي مليون من الأهالي في سنة ١٨٧١، ومما حدث أن بلغت الزيادة في عشر سنين، أي بين السنتين ١٨٧١ و١٨٨١، اثني عشر مليونًا مع ما انتاب الهند من المجاعات والأوبئة التي تُهلك ملايين الناس فيها بأوقات معينة، وفي هذه الزيادة ما يُسَرُّ منه بعض الاقتصاديين لو لم يزعم اقتصاديون آخرون أن الأمم الفقيرة وحدها هي التي تتكاثر كالأرانب إذا عَدَوْتَ البلدان التي تحتوي على أرض واسعة غير عامرة كأمريكا.

ويقطن أولئك الأهالي، البائسون القانعون على العموم بما قسم لهم، في الأرياف على الخصوص، وليس في كل قرية من نصف قُرى الهند أكثر من مائتي نفس، ومن النادر أن ترى تجمعات كبيرة في الهند، فلا تجد فيها أكثر من خمسين مدينة تحتوي الواحدة منها ما يزيد على خمسين ألف نفس.

وإذا عَدَوْتَ مائتي المليون الذين يحكمهم الإنجليز رأسًا رأيت في الهند ستين مليونًا من الأهالي يقيمون بممالك يرأسها ملوك مستقلون يراقبهم الإنجليز في صِلاتهم السياسية، وأراضي هذه الممالك أهم من سكانها لبلوغها خُمْسَي أراضي الهند، ويقدر دخل هذه الممالك بأربعمائة مليون، وتشتمل جيوشها على ٣٥٠٠٠٠ جندي و٤٠٠٠ مدفع، وتتفاوت هذه الممالك اتساعًا، فبينما ترى منها ممالك كمملكة نظام التي تعدل إيطاليا مساحة مع تسعة ملايين من السكان وثلاثين مليونًا من الدخل، تجد منها ممالك كمملكة كاتهياوار المؤلفة من قرية واحدة يملكها أحد الراجوات، وترى في بعض الولايات، كبرار، أناسًا يلقبون براجه تلقيبًا شرفيًّا كما يلقب بعض الناس في أوروبا بدوك أو ببارون.

يتمتَّع ملوك تلك الممالك بسلطة مطلقة في تدبير شئون رعاياهم، ولم تتقيد سلطة أولئك الملوك إلا بمعاهدتهم لإنجلترا على ألا يشهر بعضهم حربًا على بعض وألا يتبادلوا السفراء وألا يقبلوا أوربيًّا في بلادهم من غير أن تأذن الحكومة البريطانية في ذلك، ويقيم بعاصمة كل مملكة مهمة من تلك الممالك سفير إنجليزي لا تعدو وظائفه دائرة الشئون الدبلوماسية ولا يتدخل في الأمور الإدارية إلا في أحوال شاذة، وبعض تلك الممالك يعطي إنجلترا جزية وبعضها لا يعطي شيئًا، وإذا عَدَوْتَ بضع ممالك منها وجدتها حديثة وتقوم بأمورها أسر مالكة بدأ سلطانها بعد سقوط دولة المغول.

(٢) التربية الإنجليزية في الهند

إن من أكثر المواضيع، التي توحي بها الهند الحاضرة إلى الباحث، طرافةً وأقلها وقفًا للنظر حتى الآن هو ما يؤدي إليه تطبيق تربية ملائمة لشعب راقٍ على شعب متأخر كالهندوس، وليس في التاريخ، على ما أعتقد، تجربةٌ تمَّت على مقياس واسع في ذلك كالتي تتم في أيامنا، ومما يفيد الأمم الراغبة في إنشاء مستعمرات وفي المحافظة على ما في يدها، على الخصوص، أن تطَّلِع على نتائج هذه التجربة.

تُعَدُّ الهند الحاضرة عنوان ما كانت عليه الحال في القرون الوسطى، فتطبيق أصول التربية الحديثة عليها هو كتطبيق هذه الأصول على أمم القرون الوسطى أن لو كانت موجودة في الوقت الحاضر، أي كوصل ما بين هذين العالمين اللذين تفصل بينهما هُوًى عميقةٌ؛ لما بينهما من اختلاف في المشاعر والأفكار والاحتياجات والمعتقدات، والحق أن هنالك وجه شبه بين علم الاجتماع والتاريخ الطبيعي في أن الروح، كالجسم، لا تستطيع أن ترتقي من طور ابتدائي إلى طور راقٍ من غير أن تجاوز ما بين هذين الطورين من الأطوار الوسطى، والحق أن شأن التربية كشأن النُّظم، فما لاءم منها احتياجات أمة لا يلائم احتياجات أمة أخرى.

أثَّر صُراخ مبشري البروتستان ومحبي الإنسانية في الإنجليز المحتاجين إلى موظفين من الدرجة الثانية فما دونها لإدارة الشئون العامة في الهند، فعقد الإنجليز النية على فتح مدارس لإعداد مثل هؤلاء الموظفين، ومن الطبيعي أن كان التعليم الذي يناله هؤلاء ملائمًا لما في برامج المدارس الابتدائية بأوروبا وأن كان الإنجليز يقومون به.

fig185
شكل ٤-٧: أسلحة وأدوات هندوسية مختلفة، حلي، خوذة مغولية، كلاب حديدي مكفت، يستعمل لسوق الفيلة، حذاء مزين باللآلئ لأمير مسلم هندي.

والهندوس هم الذين يتلقَّون ذلك التعليم بمقدار كبير منذ ثلاثين سنة، فأسفر ذلك عن ظهور طبقة خاصة شاملة لمئات الألوف من المثقَّفين في الوقت الحاضر.

وللمثقف الهندوسي الذي هو من تلك الطبقة طابع عقلي خلقي خاص، ويمكن درس أمره كعرق ذي وصف معين، ولا شيء كهذا الدرس يثبت خطر التربية الحديثة عندما ينعم بها على أدمغة غير مستعدة لتلقيها، وهذه التربية هي التي تُعَدُّ في الوقت الحاضر ترياقًا عامًّا.

ولا نرى ما هو أفضل من وصف المثقف الهندوسي بالذي فقد اتزانه عقلًا وخلقًا، فما حشر في دماغه من الكلمات يثير عنده من الأفكار الغريبة ما يعجز عن إدراكه، وإذا ما نُظِر إلى التعريف الذي لا قيمة له لدى العاجز عن إدراك ما يثيره من الأفكار أو ما يماثلها عُدَّ ذلك المثقف المسكين بالنسبة إلى العالم الجديد الذي نقلته تربيته المصنوعة إليه كالأعمى الذي يُحْمل على معرفة الألوان بوصفها له بألفاظ، ولا شيء يعدل عدم ارتباط أفكاره غيرُ هوسه المستعصي في الكلام بلا هدوء وبلا تعقل، فإذا وُجِد في إحدى المحطات ولقِيَ أوربيًّا سأله بوقار، ومن غير أن ينتظر جوابًا، عن ترجيحه شكسبير على بونس التيرائي وعن اصطياد ملكة إنجلترا للنمر، وعن الروبيات التي يكسبها العالم الأوربي في كل سنة، وعن المهنة التي يرغب في تدريب أولاده عليها.

ولا أمر يثير الدهش أكثرُ من عدم ارتباط أفكار المثقف الهندوسي، فليس وِشنو وشيوا وجوبيتر والتوراة وولي عهد إنجلترا وأبطال الإغريق والرومان والجمهورياتُ القديمة والممالك الحديثة إلا أشياء ترقص في رأسه رقص السارابند في سواء الجحيم، وهو يعتقد أن ملكة إنجلترا ووزيرها الأول وولي عهدها ثالوثٌ مشابه لثالوث بَرَهْمَا ووِشنو وشِيوا، وهو يفسر ما علمه من المبادئ الحديثة على حسب مبادئ عرقه الموروثة التي لا ينتهي إلا إليها، والتي لا يستخف إلا بها، مع ذلك، وفق الهُوِيِّ التي أغرقته فيها تربيته الإنجليزية، قال العالم الإنجليزي المعتدل الأستاذ مونيه وليامز:

لم يرقني ما أسفرت عنه تربيتنا التي نطبقها على الهندوس من النتائج، فقد وجدتُ بين هؤلاء متعلمين قليلين جدًّا، ووجدت بينهم كثيرين من شِبَاه المتعلمين، ووجدت معظمهم ناقصي التعليم فاقدي الاتِّزان، أجل، قد يقدر مثقفو الهندوس على القراءة الكثيرة، ولكنه لا حاصل لما يفكِّرون فيه.

هم ثرثارون، ويُخيَّل إلى الناظر أنهم يقذفون من أفواههم كلامًا لم يهضموا معانيه، ويدل كلامهم وحركاتهم على أنهم من القاصرين، ويهملون لغتهم ويزدرون آدابهم وفلسفتهم ودينهم من غير أن يكتسبوا شيئًا من صفات الأوربيين، ويُصوِّبون إلينا ما يقتبسونه منا غير شاكرين، وهكذا ينتقمون منا لما أصابهم من الانحطاط بسبب تربيتنا.

وليس ما أصابت به التربية الأوربية الهندوسي المثقف من انحطاط الخلق بأقل مما أصابته به من انحطاط الذكاء، وإنني قبل أن أبحث في هذه الناحية أذكر ما قاله عن أحوال الهندوسي المثقف السيد ملباري الذي ظهر فوق مستوى بني قومه الهندوس فكان كتابه الصغير النفيس عن كجرات نافعًا لي في غير موضع، فإليك قول السيد ملباري عن نفسه وعن صديقه الذي اشترك في إصدار جريدة، وإصدار الجرائد مما يصبوا إليه مثقَّفو الهندوس، وفيما تتمتع به الصحافة من الحرية ما يشبع هوسهم:

لم يقف جهلنا وصلفنا عند حد ولكن، ألم يكن من المفاخر أن يُنتقد أكرم رجال الإمبراطورية وأن يُسخر منهم؟ كتب صديقي (ب) كلمة عن معركة بلاونة ذات يوم فسألني عن الباب العالي، فأجبته بأن الباب العالي هو زوجة سلطان الترك المفضَّلة، فأنبأني صديقي (ب) بأنه كان يظن أن الباب العالي هو خديو مصر عند الأوربيين، فمثلُ هذا كان يتفق لنا في الغالب فنُحمِّل جريدتنا أوزارًا مضاعفة، فلما علمنا في الغد وجه الخطأ لعن كلٌّ منا صاحبه.

يضاف إلى ذلك الارتباك الفكري الهائل لدى الهندي المثقف تجريد التربية الأوربية إياه من أي خلق، فما كان يستند إليه في سيره من الأسس الدينية المتينة قد زال إلى غير رجعة، فهو قد خسر إيمان آبائه من غير أن يستبدل به مبادئ سير الأوربي، فانحصر صدقه في مراعاة قواعد الأخلاق العامة التي يحمله الشرطي عليها.

واضطر الإنجليز إلى اتخاذ أدق ضروب الحذر وما لا حد له من الرقابة؛ ليحولوا دون اختلاس مثقفي الهندوس، ولا شيء أدعى للخوف من دوائر البريد والنقل في الهند، فلا نصيب لكتاب يُظن أنه مشتمل على أوراق ذات قيمة لثقل وزنه بأن يصل إلى المرسل إليه ما لم تكن قيمته مضمونة، وقد عانيت الشيء الكثير حين سياحتي في بلاد الهند من أجل صناديقي المحتوية على أدواتي العلمية، فقد كان مُثقَّفو الهندوس الموظفون في الخطوط الحديدية يظنونها مملوءةً بالروبيات لثقلها فيكسرون أقفالها، فاضطررت إلى حفظ أدواتي تلك في ظروف معدنية محكمة اللحم ووضع هذه الظروف، المكتوب عليها أنها شاملة لمتفجرات، في صناديق خشبية، فأدى ذلك إلى زُهْد أولئك الموظفين عنها حَذَرَ الخطر.

وذلك الموظف الهندوسي المثقف النَّذْل أمام سادته الإنجليز ذو عُتُوٍّ تجاه بني قومه من أصحاب المصالح، وأولئك الموظفون هم المديرون الحقيقيون للهند ما داموا عمَّالًا في الإدارة الإنجليزية، وما كانوا ليرضوا بذلك، فتراهم يحلمون بحكم الهند في سبيل مآربهم الشخصية.

ذلك هو هدفهم الدائم، وإذا خلا ثلاثة أو أربعة بعضهم إلى بعض لم يبحثوا في غيره، ثم يحتدم الجدل بينهم فلا يتناوبون القول بل يتكلمون معًا، وهم إذا ما سكتوا فلأنهم يشعرون بخُطَى أوربيٍّ، وهذا الأوربي إذا ما دنا تفرقوا هنا وهنالك متنهدين، وما أشد اشمئزازي حين مقابلتي بين نذالة الموظف الهندوسي المثقف تجاه الأوربي وتصعير٢ خده لأبناء أمته، فالجهل أحب إليَّ من تلك الدناءة والوقاحة.

والإنجليز يعرفون أولئك المثقفين جيدًا، فيعاملونهم بجفاء وغلظة لا يقرهم السائح الأجنبي عليهما أول وهلة، واللغة التي يكلمهم الإنجليز بها هي لغة السياط التي يلجئون إليها حين لا ينفع الوعيد والتهديد، والسائح إذا ما أقام بالهند بضعة أيام لم يلبث أن يعترف بأن تلك وسيلة لا بد منها لحمل أولئك المنحطين على التزام جانب الحشمة والابتعاد عن ضروب الوقاحة، ومن النادر أن يسمح إنجليزيٌّ لهندوسي من ذلك الطراز بأن يركب معه في حُجيرة واحدة من حُجيرات مركبات القطار مع أن هذا من أقصى آمال الهندوسي، وقد اعتراني الدهش من هذه الشدة في البداءة، فمما حدث أن ركب هندوسي من أولئك في المركبة التي كنت فيها فأَنِس إلى قبولي إياه بلطفٍ فعَنَّ له أن يدلني على مركزه الاجتماعي فأسند رجليه إلى ظهر الصُّفَّة بما يحاذي مستوى رأسه، ثم أشعل سيغارًا كبيرًا وبصق على سقف المركبة وزجاجها، ولم يكن ليقطع ما يفعل إلا ليسألني بأسخف الأسئلة عن مقامي الاجتماعي ووسائل عيشي ونفقاتي وما إلى ذلك من الأمور التي جعلت البقاء في حُجيرتي أمرًا لا يطاق، فلما بلغنا أقرب محطة ركب إنجليزي في حجيرتي تلك فصمت ذلك الهندوسي وتكمش عالمًا ما ينتظره، فأمسكه الإنجليزي من أذنه وطرده من مركبتنا قائلًا له: اخرج!

وليس من الصعب إخضاع تلك الزمرة من مثقفي الهندوس المتوتري الأعصاب الجبناء كالهرر، والذين عدل الإنجليز عن استخدامهم كوقادين أو ميكانيكيين أو سائقين لما رأوه من وثوبهم من القاطرات عند الخطر وفرارهم في الحقول طلبًا للنجاة، والخطر إذا ما بدا في خط حديدي وُجِد موظفو المحطات المجاورة بعد زمن، لا ريب، متسلقين للأشجار أو مختبئين في المغاور أو متكدسين في الغرف متحسرين قانطين.

ذلك هو أثر التربية الأوربية في شعب غير ناضج، ويمكن تقدير ذلك بأحسن مما تقدم عند المقايسة بين أولئك المثقفين ومن تخرج في المدارس المحلية الخالصة، فهؤلاء يظهرون مُتَّزنين مهذبين محترمين جديرين بأن يتبوءوا مقاعد في أرقى مجالس أوروبا العلمية على خلاف أولئك المثقفين الوُقَّح الأنذال.

وترى الإدارة الإنجليزية مضطرة إلى استخدام أولئك المثقفين مع احتقارها لهم؛ لما يتعذر عليها من أن تجد أوربيًّا يرضى براتب مثل رواتبهم، والإدارة الإنجليزية إذا ما احتملتهم فلأنهم شرٌّ لا بد منه، وهذا مع علمها التام درجة عداوتهم الكبيرة لها.

ولا أجد ما يشمل النظر أكثر من تحويل التربية الأوربية الهندوس الموصوفين بالدَّعة فيما مضى إلى أعداء أشد للبريطان، ويمكن تمثُّل ما وصل إليه حقدهم على البريطان من الحملات التي توجهها الجرائد المحلية إليهم كل يوم، وإذ إن رأي الأجنبي في هذه المسألة يكون موطن شبهة بحكم الطبيعة، وإذ إن الشواهد التي يمكنني الاستناد إليها تأييدًا لدعواي هذه لا تكون مقبولة إلا بكثرتها فإنني أستشهد، مرجحًا، بالأستاذ مونيه وليامز الذي يَعُدُّ أبناءُ وطنه الإنجليز أحكامَه صائبة جدًّا في أمر الهند، فاسمع ما قاله في الطبعة الثالثة من كتابه: «الهند الحديثة»:

يؤسفني أن أقول إن رحلاتي في الهند أثبتت لي وجود هوة بين الإنجليز والهندوس تصبح مجاوزتها بعد ثورة السباهي متعذرة شيئًا فشيئًا، وأعمق من تلك الهوة الموجودة بين الشعبين في جنوب الهند.

وقد لاحظ ذلك الأستاذ أن الهندوس المثقفين يوجهون إلى الأوربيين تعبيرًا مشابهًا لتعبير البرابرة، وأن هذا التعبير لا يكفي للإعراب عن حقدهم الهائل على سادة الهند فقال:

رأيت أن استخفاف أولئك بحضارتنا وبنا كاستخفاف أجدادهم بالوحوش الفطريين، مع ما لدينا من أسلاك البرق والخطوط الحديدية، فهم يعتقدون تفوقهم علينا خُلُقًا ودينًا وعقلًا.

واليوم أخذ ذوو البصائر من الإنجليز يدركون مخاطر التربية الأوربية، فإليك ما قاله أحد حكام الهند سِير ألفرد ليل في كتابه «مباحث في طبائع الشرق الأقصى الدينية والاجتماعية»:

ظاهرة الوضع الحاضر في الهند هو أننا ننشر نظريات الحقوق السياسية وبذور النظم التمثيلية بين شعب كان يملكه سادة غيرُ مسئولين في غضون القرون، والهند، كما تعلم، بلد لم يكن له عهد بالحريات المحلية وبعادات الاستقلال منذ زمن طويل أو بلد لم يعرفها قط، وفي الهند، حيث لم يتقدم العلم في وقت إلى أبعد مما كان عليه في أوروبا في القرون الوسطى، نُطبق أصول التربية الحديثة.

ومن البديهي أن يؤمن بالتربية فلاسفةُ السياسة، كعلماء الاقتصاد في فرنسا وميل وستيوارت ميل في إنجلترا، وأن يقولوا إنها تقوم بدور المسكِّن الملطف عند الفوران الاجتماعي والانقلاب الثوري، أو إنها تمنع الشعب من التطاول إلى الوظائف السياسية التي لم يتعود ممارستها، ونحن نقول: إن التربية العامة إذا وضعت في غير محلها كانت سبب اضطراب في بعض الطبقات وعامل انحلال في النظام الاجتماعي القديم، وذلك كما يُرَى في الهند التي تقوم الحكومة فيها بنشر التعليم العام مستعينةً بمعلمين من الأجانب الذين يوجهون همَّهم إلى بذر أحدث النظريات العلمية والسياسية بين شعب لم تؤهله عاداته وثقافته السابقة لتلقِّي هذه النظريات وإلى إدخال تربية عصرية خالصة إلى شعب قام كل تعليم فيه على الدين منذ أقدم الأزمنة.

اتسع نِطاق مثقفي الهندوس أولئك، على الخصوص، في زمن نائب الملك الذي حكم الهند قبل حاكمها العام الحاضر، فنائب الملك ذلك إذ كان مسيحيًّا مؤمنًا قائلًا إن الناس يولدون إخوةً متساوين حقوقًا وذكاء، وإن من الممكن تحويل مثقفي الهندوس إلى أوربيين بين عشية وضحاها نال أولئك المثقفون حظوة لديه، فما كان أسوأ عدو يجلس على عرش الهند ليُسيء إلى إنجلترا بهذا المقدار، فأولئك المثقفون الذين أصبح لهم بعض الحقوق النظرية بذلك أخذوا يملئون الصحف المحلية بأعنف الحملات وأشد الشكايات، فالحق أن روسيا لو بلغت حدود الهند وفازت بشيء لوجدت المثقف الروسي حاضرًا لرفع راية العصيان في سبيلها، والحق أن ذلك المثقف المُسْتَحِرَّ ضد السلطة الإنجليزية، هو كالأَرَضَة الخفية التي تقرض أسفل التمثال الهائل.

أسهبتُ قليلًا في بيان نتائج التربية الإنجليزية في الهند، وعلة ذلك أنك لا تجد في التاريخ مثالًا أوضح من مثال الهند في إثبات الخطر الذي ينجم عن منح أمة تربية غير ملائمة لمزاجها النفسي، فقد أدى تطبيق التربية الأوربية على الهندوسي إلى تقويض ثقافته السابقة التي تمت له مع الزمن، وإلى إحداث ما لم يعرفه من الاحتياجات من غير أن تَمُنَّ عليه بوسائل قضائه، وإلى جعله بائسًا عدوًّا لمن طبقوها عليه، حقًّا أن الهندوسي المثقف يألم بمرارة من سوء حاله، وحقًّا أن له في الحوادث القادمة ما يقدر به على الانتقام فعلًا لا قولًا، فيتم على يده زوال السلطة التي ربته.

(٣) مستقبل الهند

ليست مسألة مستقبل الهند هي مسألة مستقبل السلطة الإنجليزية فيها فقط، بل نبصر لهذه المسألة، أيضًا، أفقًا أبعد مدى من ذلك، فعلى الأمر تتوقف نتائج الصراع بين الشرق والغرب اللذين يفصل أحدهما عن الآخر هوةٌ عميقة، وإنني قبل أن أتكلم في هذه المسألة في مجموعها أقول بضع كلمات حول مستقبل سلطان الإنجليز الممكن في الهند.

يرى القارئ المطلع على أحوال الهند الحاضرة، كما بيناها في هذا الكتاب، أن أمل الهندوسي في حكم نفسه بنفسه ضعيف جدًّا وأنه قُدِّر عليه أن يكون قبضة الفاتحين من الأجانب.

يعجز الهندوس عن تأليف أمة واحدة عَجْزَ الأوربيين عن ذلك، وتنتسب شعوب الهند إلى عروق مختلفة ذات مصالح متباينة فلا يستطيع الهندوس أن يكونوا إلْبًا٣ واحدًا على الأجنبي المسيطر، ولنفترض إمكان اتحاد شعوب الهند في الوقت المناسب لطرد عدوها المشترك، فإذا تم لها ذلك لم تلبث أن تتقاتل بعد انتصارها مثل ما وقع عند انهيار دولة المغول حين عمت الفوضى بلاد الهند، فيهتبل غزاةٌ من الأجانب فرصة ذلك، فيفتحون الهند بتسليط بعض أهاليها على بعض كما فعل فاتحوها في كل زمن مضى؛ ولذلك أرى أن كل ما يمكن الهند أن تطمع فيه هو أن تستبدل بسادتها سادة آخرين، فلعلها تصبح أحسن حالًا، وهذا ما أشك فيه.

وشبح سلطان الروس هو الذي يبدو في الوقت الحاضر على الأقل، فلم تتوان روسيا في التقدم إلى الهند، وقد لا يمضي زمن قصير حتى تكون على أبوابها، فيعود إلى ممرِّ كابل، الذي عبره الفاتحون في كل حين، سابقُ شأنه.

يحيق الخطر بسادة الهند الحاليين، ولن يستطيعوا تداركه إلا بصالح الإدارة، ومن حسن السياسة أن يستميلوا آلهة الهند بأن يدافعوا عن منافع الهند الدينية؛ لما لهذه المنافع من الشأن الأول فيها، وأن يناضلوا عن التقاليد والعادات القديمة لولوع الهندوس بمقومات ماضيهم، ومن حسن السياسة ألا يضعضعوا الإيمان القديم وألا يبذروا روح الجدل والشك بنشرهم أصول التربية الغربية بدون تبصُّر، فلو كان للهندوس فوائد حقيقية من هذه التربية لقلنا إن حب الإنسانية لدى الإنجليز تغلَّب على مصالحهم الخاصة، ولكن الواقع غير ذلك، فلم تؤدِّ التربية الغربية إلا إلى سخط الهندوسي على سوء حظه وارتباك في أخلاقه وما إلى هذا مما يجعله نصيرًا لكل فاتح مهما كان أمره.

ولم يَبْدُ من ذلك الشَّرِّ غير أوَّله، ولم يُصَبْ به سوى بضعة آلاف، وأما الملايين من إخوان هؤلاء فلا يزالون واهمين في أنه لم يُبدَّل من الأمور سوى اسم السلطة العليا، والسلطة العليا هي التي عانوا حكمها في غضون القرون فأيقنوا أنها أمر لا رادَّ له فغدوا غير مكترثين له.

وما هو الداء الشديد المفقود الذي تبحث عنه عروق الهند المسنة حينما تبلغ الأزمة التي تتدرج إليها ذروة حِدَّتها فتصبح أمرًا لا يطاق؟ أتسفر عن بعث إسلامي كما يتنبأ به بعضهم، والإسلام يسير قُدُمًا في الهند؟ أم إن دولة أوربية أخرى تغتنم فرصة ما يُقترف من الأغاليط، فتبدو، كما يدل عليه كل شيء، المنقذَ الذي تنتظره النفوس المضطرمة الضالة التي لا دليل لها؟ لا يستطيع أحد أن ينبئ، لا ريب، بما قد يحدث في القريب العاجل، وإنما الذي لا شك فيه هو أن معنى الاستقلال الحقيقي سيظل خافيًا على الهند عدة قرون أخرى، فالهند إذ تعوَّدت الخضوع لسادة من الأجانب منذ زمن طويل كُتب عليها أن تكابد نير الأوربيين مرة أخرى إلى أن تصبح آلة بيد عِرق آسيوي مرهوب، فحينئذ يصبح هؤلاء المغلوبون منذ القديم غالبين لنا، على ما يُحتمل، مستعينين بإخوانهم من أبناء الشرق الذين يقومون مقامنا في قيادة البشر تبعًا للسنة الحديدية القائلة بسلطان الأقوى فتهيمن على مقادير الأمم.

ومقامٌ كذلك ستناله أمم الشرق بغير قوة المدافع مع ذلك، فلا بد من تغيير نوع الأسلحة بسبب تطور الصناعة الحديثة، فلا تلبث ميادين القتال أن تنقلب إلى أسواق للسلع، فهذه الأسواق، وإن كانت في الظاهر أقل سفكًا للدماء من ميادين القتال، أشد منها هولًا، وبيان الأمر أن البشرية التي اتخذت الكهرباء والبخار دليلين لها ستدخل دورًا حديديًّا يكون الصراع فيه من أجل الحياة قاسيًا جدًّا فلا يترك للرحمة مجالًا، وقديمًا قال العرب: «لا ينبت العشب على أرض يطأها الترك»، والعشب قد ينبت في الأماكن التي ستشهد ذلك الصراع ولكنه سيكون من النادر أن تكون تلك الأماكن هي التي سيرعى الغالبون مواشيهم فيها.

هنا نصل إلى تعميم المسألة التي أشرنا إليها آنفًا فتدل على أن مسألة مستقبل الهند أبعد مدى مما نتصوره أول وهلة، فعلى هذه المسألة يتوقف مستقبل أوروبا في الحقيقة، فلندرس هذه المسألة الهائلة.

ظلت الهند، منذ أكثر من ألفي سنة، موضع طمع كبير لجميع الأمم التي علمت أخبار عجائبها، وانتقلت الهند من سيد إلى سيد على الرغم من الحواجز التي تحميها، ولم يحُلْ ما مُنيت به الهند من ضروب المغازي والفتوح دون بقائها على ما هي عليه في كل حين، وتشابه الهند أرض الفراعنة الحافلة بالأسرار في ازدرادها لقاهريها.

بَيْدَ أن الهند لم تعرف لها سادة من غير الشرقيين إلى أواخر القرن الماضي، فلما فتحها الأوربيون وجدت نفسها، لأول مرة، أمام شعوب تختلف عن شعوبها أشد الاختلاف، فيتعذَّر عليها أن تبتعلها، ولم يعرف التاريخ منذ أقدم الأزمان تَواجُه عنصرين ذلك مدى اختلافهما في أرض واحدة مع كثافة جموع.

fig186
شكل ٤-٨: قطعة من تصوير هندوسي في القرن الخامس على جدار بأجنتا، وتمثل هذه الصورة محاولة العفاريت أن يغووا بدهة «يمكن الناظر أن يتمثل حال التصوير الهندوسي منذ ١٣٠٠ سنة من هذه الصورة مع ما أصاب تصاوير الجدر بأجنتا من التلف.»

إنجلترا هي عنوان العالم الغربي بحضارته المعقدة وتقدمه على نسبة هندسية وسيره سريعًا إلى مستقبل مجهول متذرعًا بما لديه من القوى الجديدة، والهند هي عنوان العالم الشرقي الثابت الخيال والناظر إلى الماضي، لا إلى المستقبل، مستوحيًا أفكار الأجداد والآلهة بلا انقطاع.

ويتوقف مصير الهند على نتيجة الصراع الراهن بين الشرق والغرب، ولا يزال القتال في مرحلته الأولى مع تواجُه ذَيْنِكَ العالَمين غير مرة في الميدان، وليس دحر العرب من فرنسا ومن إسبانيا ومهاجمة العرب في عقر دارهم أيام الحروب الصليبية الهائلة وتدويخ إنجلترا للهند وسد الصين المنيع الذي صدعته المدافع إلا أنباء حرب بدأت منذ قرون، غير أن هذه الأنباء لم تكن، بالحقيقة، سوى أخبار مناوشات بسيطة إذا ما قيست بالصِّراع المرهوب الذي تسفر عنه طرق المعايش الحديثة الناشئة عن مبتكرات العلوم في الوقت الحاضر بحكم الضرورة.

أدت سرعة وسائل النقل التي نَجَمَت عن البخار والكهرباء إلى تقريب المسافات فأوجبت اتصال بعض أمم الأرض ببعض اتصالًا وثيقًا، فعاد النهران اللذان اقتسما مجرى الروح البشرية؛ «أي النهر الشرقي الكبير الهادئ العميق الجليل البطيء والسيل الغربي الصائل السريع» لا يجريان في أودية مختلفة، أجلْ، إن التوازن بين المَجْرَيَيْن، اللذين اختلطت مياههما، سيقع ذات يوم في ذَيْنِكَ العالَمين، ولكنك إذا بحثت في كيفية حدوث هذه التسوية المحتملة لم تَنْشَبْ أن تعترف بأنها لن تكون على ما فيه خير الغرب.

وإذا جاز لنا أن ندرك النتائج من العلامات الراهنة التي تزيد كلَّ يوم قلنا إن النتيجة الأولى لاقتراب ذَيْنِكَ العالَمين بفعل البخار والكهرباء هي تساوي قيم السلع الصناعية والزراعية، ومن ثم تساوي أجور العمال في الدنيا قاطبة، ومن الطبيعي أن يحدَّد معدل هذه الأجور بحسب ما يناله عمال الأمم الأقل احتياجًا والأرخص إنتاجًا، والشرقيون الذين يتألف منهم معظم البشر إذ إنهم أكثر الناس زهدًا وقناعة يكونون بحكم الضرورة الناظمين للأجور في مزاحمة كتلك، ومن ثَمَّ يكونون أكثر الفريقين استفادة من ذلك الاقتراب، نعم، قد ترتفع أجورهم عن المستوى الأدنى بنسبة نفقات النقل الضئيلة، ولكن ما يطرأ على أجور عمال الأوربيين من الهبوط سيكون عظيمًا جدًّا لا محالة.

ولا يحتاج الباحث إلى نظر ثاقب ليتبيَّن في الأفق علائم الصراع بين عالَمين، لا أمتين، فيؤدي هذا الصراع إلى أشد النتائج هوْلًا، فها هو ذا قمح الهند يباع في أوروبا بأرخص من حبوبنا فيورث زراع فرنسا بؤسًا وقنوطًا،٤ وقد أخذ زراع أوروبا يفكرون في ترك الصراع مع ما يجدونه من نظم الحماية العاجزة، وما أكثر الحقول التي لم تجد لها مزارعين يقومون بزراعتها في مقابل تأديتهم الضرائب المفروضة عليها، وماذا يحدث حينما تتوارى صناعة الغرب أمام أمم تستعين في صناعتها بما لدينا من الآلات فتُنْتِج سلعًا أرخص مما ننتجه عشرين مرة؟ سيرى المُعَدِّن، الذي تعود إنفاق خمسة فرنكات أو ستة فرنكات مياومةً فيُهدد البنيان الاجتماعي بالهدم لأن أجرته اليومية لا تزيد على ثلاثة فرنكات أو أربعة فرنكات، استيراد أرباب الصناعة من الصين الفحم الحجري الذي يستخرجه عمال يعدون أنفسهم من السعداء إذا ما نال الواحد منهم أجرة يومية تترجَّح بين خمسة دوانق وستة دوانق، وقد يأتي زمن على العامل، الذي يُضرِب من أجل رفع أجرته، لا يجد فيه مصنعًا يعمل فيه؛ لما تحتاج إليه مصانع الشرق الأقصى المجهزة بمثل آلاتنا من ذلك الفحم الحجري، والتي يقوم بشئونها عمال تَقِلُّ أجرة الواحد منهم عن أجرة العامل الأوربي عشرين مرة فتغمر العالم بما تنتجه غمرًا لا يقف أمامه أي حاجز، فمن أجل هذا ومن أجل زوال المسافات ستتساوى قيم المواد الأولية والمواد المصنوعة في جميع الأسواق، كما أن أجور العمال ستتساوى بحكم الضرورة، فالحق أن المزاحمة تتعذر بين فريقين من البشر يقضي أحدهما كالشرقيين احتياجاته بأجرة تترجح بين أربعة دوانق وخمسة دوانق، ويقضي الآخر، كالغربيين، احتياجاتِه بأجرة تزيد على تلك عشرين مرة، فلا يكون المَخْرَج من هذا المأزق، إذ ذاك، إلا بتنزيل أجور الفريق الثاني إلى معدل أجور الفريق الأول.

ولا ريب في أن تلك التسوية العامة التي سنرى فَجْرها عما قليل — وهي التسوية التي سَهُل أمْرُها، على الخصوص، بما ذكرته غير مرة مؤكدًا في كتبي، وهو أن القيمة العقلية المتوسطة لدى أمم الشرق ليست دون ما يقابلها من طبقات أهل الغرب — لا تمنع أوروبا من أن يكون لديها ما ليس في الشرق من صفوة رجال، ولكن ماذا تصنع هذه الصفوة الكثيرة الذكاء والقليلة العدد تجاه تلك الجموع الزاخرة التي يتوقف عليها المصير؟ وهل أنقذت صفوة المفكرين والمتفننين والعلماء من الإغريق بلاد اليونان من الفتح الروماني؟

ولا يتم النصر لأوروبا في ذلك الصراع الذي يتوقف عليه مصيرها بسبب حالتها الأدبية، ومشاعر مجتمعات الغرب الهَرِم، كما كانت عليه روما في دور انحطاطها، تدور حول الظهور والتمتع بأطايب النعم، ونرى ثقافتنا العقلية نفسها تؤدي إلى ابتعادنا عن العمل المنسجم وإلى انتخابنا وتقلبنا وعدم ثباتنا وإلى تشككنا العام وإلى اندثار عوامل السير والعزم فينا، وفي صفات غير هذه تجد سِرَّ قيام الدول العظيمة وسر بقاء هذه الدول، والغرب يفقد بالتدريج ما لا يزال متينًا لدى الشرقيين من حب الأُسْرة واحترام الأجداد ومتانة المعتقدات، وهذه المشاعر هي أساس التئام الأمم مهما كانت قيمتها الفلسفية، وهي عوامل القوة التي استعان بها أولو النفوس العالية في قيادة العروق إلى النصر، فإذا ما توارت هذه المشاعر لم تلبث المجتمعات المستندة إليها أن تنفصم عُرَاها فتنقلب إلى زُمَر مختلفة المصالح عاطلة من المشاعر المشتركة، واليومَ تُبْصِر الأديانَ المُسِنَّة المحافظة على سلطانها في الشرق، مع وصفنا إياها بالأوهام، والتي شِيدَت باسمها أكبر الدول فتمَّ حكمها بها، تخسر نفوذها في الغرب مقدارًا فمقدارًا، ولم يكتشف العلم بعدُ ما يقوم مقام الآلهة الميتة، واليوم نعيش بفضل ماض لا نؤمن به موجِّهين وجوهنا إلى مستقبل لا يزال خافيًا علينا.

وماذا يكون المثل الأعلى الجديد الذي يصلح أساسًا لمجتمعات الغرب القادمة؟ لا يقدر أحد على بيان أمره في الوقت الحاضر، ولا تجد معضلة أشد خطرًا وأبعد غورًا من تلك التي تشغل بال المفكرين، ولا غرو، فعليها يتوقف كياننا في المستقبل، ولن تعد شعوب الشرق التي أمعنَّا في ازدرائها من البرابرة بعد اليوم، ولا يزال منبع النشاط والفتوة الذي استنفده الغرب في القيام بجليل المشاريع وفي حقل الفكر والعمل راقدًا في أمم الشرق الكبرى، ولن تطول غفوة هذه الأمم الشرقية، فقد دنا وقت يقظتها، وحان الوقت الذي تسفر فيه مغازينا وفتوحنا واكتشافاتنا وأفكارنا عن إخراج الشرقيين من طور القرون الوسطى الطويل الذي هم عليه، وحينئذ ينتصبون أمامنا «كما انتصب البرابرة أمام الرومان، والعرب أمام العالم الإغريقي اللاتيني الهَرِم» بمثل ما خسرناه من الحماسة والنشاط والآمال والخيالات، هنالك تملك العالم، كما ملكته في الماضي، أممٌ ذات مُثُل عالية قوية واحتياجات ضعيفة، أقول ذلك وأنا أرى أن على أبنائنا أن يقوموا بعمل جِدِّيٍّ إذا أرادوا البقاء قادة للعالم زمنًا آخر وعدم الوقوع بسرعة في الهُوَّة الأزلية التي يَجُرُّ تطورُ الأمور الناسَ والدولَ إليها.

هوامش

(١) رواتب الضباط أقل من رواتب موظفي «الخدمة المدنية»، فالترقي في الجيش إذ كان يتم بسرعة فإن الجيش يكون لديه من يحتاج إليهم من المرشحين بدرجة الكفاية، ورواتب موظفي الجيش أعلى مما في أوروبا مع ذلك، فراتب العريف في الجيش ١٥٠٠ فرنك، وراتب الملازم ٦٠٠٠ فرنك، وراتب قائد المائة ٢٠٠٠٠ فرنك، وراتب القائد ٣٠٠٠٠ فرنك، ويكون راتب أمير اللواء مترجحًا، فقد يزيد عن ١٠٠٠٠٠ فرنك إذا كان أمير اللواء مندوبًا أو مقيمًا، ومن ذلك حال أمير اللواء الذي هو مندوب في راجبوتانا في الوقت الحاضر.
(٢) صعَّر خده: أماله عن النظر إلى الناس تهاونًا وكِبرًا.
(٣) الإلب: القوم تجمعهم عداوة واحد فيقال: «هم على إلب واحد.»
(٤) تتقدم زراعة القمح في الهند تقدمًا عجيبًا بفضل ما أنشئ فيها من الخطوط الحديدية الكثيرة فلا نتمثله بغير الأرقام، فبعد أن كانت الهند تنتج منذ عشر سنين هكتارًا ونصف هكتار من القمح صارت تنتج اثني عشر مليونًا في الوقت الحاضر، وأجرة الزارع في الهند؛ إذ كانت منخفضة فلا تزيد على أربعة دوانق في كل يوم فإن قنطار القمح يصل إلى لندن فيباع فيها بسبعة عشر فرنكًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤