مقدمة

في مثل هذه الأيام أو قبلها بقليل منذ عامين، كتبتُ في مجلة «الكاتب» ثلاثَ مقالات أعطيتها اسمًا «نحو مسرح مصري»، كان الهدف منها زلزلة العقيدة التي كانت لدى نفرٍ من مثقفينا زمنًا، والتي لا تزال قائمة إلى الآن، وهي أن المسرح ظاهرة أوروبية مَحضة، كل ما علينا حياله أن نتلقاه عن الإغريق والأوروبيين المعاصرين، ونحاول أن ننسج على منواله، وكل ما نستطيع أن نفعل من أجل تمصيره أن نتناول داخل هذا «الشكل» المسرحي الأوروبي والعالمي موضوعاتٍ مصرية، باعتبار أن الشكل المسرحي الأوروبي هو الشكل العلمي الذي تواضعتْ وانتهت إليه البشرية، ولا سبيل إلى تغييره أو تبديله.

ولستُ أدري لماذا؟ ولكني منذ أول وهلة سمعت فيها هذا الافتراض وأنا بكل كياني أعارضه. ليس هناك مانع قطعًا أن يستولي هذا الفرض على عقول بعض كتابنا ونقادنا، ولكن المشكلة الرئيسية أني أشك شكًّا كثيرًا في صحته. إن هذا الإيمانَ الذي يعتقد باختلاف العقلية والوجدان البشري؛ حتى ليقول إن هناك عقليات بشرية درامية وعقليات غير درامية، إيمان قد ينتهي بنا إلى تصديقِ النظريات النازيَّة عن تميز بعض العقول عن غيرها وتمتعها بسموٍّ أكبر وذكاء أكبر. إني أومن، والعلم معي يؤكِّد وحدةَ العقل البشري وعالمية إمكانياته. قد تختلف القدرات الفردية، ولكن هذه القدرات إذا تجمعت على هيئة شعب؛ فإنها تتساوى بحيث لا نستطيع أن نقول إن بعض الشعوب أذكى من بعضها الآخر، أو أن عقلياتِ بعض الشعوب أكثر قابلية للتعقيد من الشعوب الأخرى.

من أجل هذا لا أستطيع أن أصدِّق أن المسرح هبَط على الشعب الإغريقي من قمة الأوليمب دون غيره من الشعوب، باعتبار أن السماء قد اختصَّتْه بهذه الميزة. إن المسرح خاصية من خصائص كل شعب، فكما أن لكل شعبٍ لغتَه ولكل شعب رقصه ورسمه وموسيقاه وغناءه، فكل شعب لديه ميل غريزي إلى المحاكاة (أي التمثيل)، وكل شعب لديه تجمعاته الخاصة التي تتمُّ فيها هذه المحاكاة، وتُوجِدُه في حالة «التمسرح» التي طالما أشرت إليها.

كل ما في الأمر أن العبادة الإغريقية اتخذت طقوسَها من أفعال الجماعات البشرية، وبالذات من فن المحاكاة وحالات التمسرح، بمعنى آخر أباحت العبادة، بل وشجعت كافة فنون الإنسان المعروفة آنذاك، وأبرزها النحت والشعر وتلك الظواهر المسرحية التي كانت بدائية، ثم بالتطوير على أيدي شعراء عظام متخصصين اتخذت شكل الرواية المسرحية، وشكل حركة مسرحية نامية متطورة متجددة وصلت إلى الحد الذي وُضعتْ فيه للمسرح تعريفات وقوانين على أيدي أرسطو وغيره، وتميز من بينها نوعان أساسيان: التراجيديا والكوميديا.

وقد ظل هذا يحدث إلى أن جاءت الديانة المسيحية، فأوقفت نمو هذه الأنواع من الفنون، بل حرمتها باعتبارها أشكالًا من العبادة الوثنية، وكما حرَّمت الكنيسة رسم الجسم البشري عاريًا فكذلك اختنق المسرح، إذ كيف في عالم مسيحي يصور الإنسان باعتباره ضحية للعنة الآلهة، أو وقد حدد مصيره ومنتهاه بأحكامها؟ ولم ينتعش المسرح إلا مع بدايات عصور النهضة حين خفَّتْ قبضة الكنيسة على الشعوبِ وعاداتها، وهكذا عاد المسرح من حيث انتهى عند الإغريق، وإن كان بمفهومات أخرى؛ ليكون المسرح الأوروبي الذي ظلَّ يتطور إلى يومنا هذا.

في ذلك الوقت يقول القائلون: إن «الكوميديا ديللارتي» ظهرت في إيطاليا، والحقيقة أنها لم تنشأ وتظهر. الحقيقة أنها كانت طوال تلك العصور المسيحية قائمة وموجودة، ويزاولها الشعب في تجمعاته الصغيرة على أضيق حدود، يزاولها خلسة فهي إحدى ظواهر التمسرح الغريزية لدى كل شعب من الشعوب. كل ما في الأمر أنها أصبحت، مع بداية عصر النهضة، تؤدى في الأسواق العامة والتجمعات الكبيرة، وإن كان يُقال إنها أيضًا كانت تؤدى بشبه خلسة؛ إذ كان الممثلون يضعون الأقنعة على وجوههم حتى لا يتعرف عليهم أحد.

هذه التي يسمونها الكوميديا ديللارتي هي بنصِّها وفصها السامر الشعبي المصري. ذلك الشكل البدائي من حالات التمسرح الذي كان قائمًا وموجودًا منذ عصور ضاربة في القدم، والذي لا يزال موجودًا إلى يومنا هذا. كل ما في الأمر أن السامر لم يُعنَ بدراسته أحد، ولم يجد له «خواجا» يعطيه اسمًا لاتينيًّا عويصًا ويثبته في كتاب. أليس يُضحك ما يذكره بعض من كبار الدارسين لشئون المسرح، من أن سامرنا الشعبي هذا ليس نابعًا منا وإنما نحن قد اقتبسناه من إيطاليا من الكوميديا ديللارتي؟ أقول يُضحك؛ لأنهم يفسرون هذا الانتقال الغريب بقولهم: إنه ربما حدث من خلال بعض الفنانين الفرنسيين الذين صاحبوا الحملةَ الفرنسية على مصر، الذين قلَّدهم بعد هذا الفنانون المصريون، وانتشر هذا الفن بعد ذلك في قُرى مصر وأنحائها. إذا كان من الممكن أن تنقل الحملة الفرنسية مسرحًا، فلماذا لم تنقل المسرح التقليدي؟ لماذا لم تنقل موليير وغيره، وتعمد إلى نقل هذه الكوميديا ديللارتي التي لا نصوص مكتوبة لها؛ إذ هي تعتمد على ارتجال الممثل لدوره؟ وكيف يمكن أن يحدث هذا كله في غَيبة الجبرتي؛ ذلك الذي لم يفته ما جلبه الفرنسيون إلينا شيء؟ أليس الأسهل والأعقل والأكثر علمية أن نقول إنَّ فنَّ المحاكاة المرتجل (الكوميديا ديللارتي) ظاهرة مسرحية شعبية بدائية موجودة لدى كلِّ شعبٍ من الشُّعوب؟ كانت موجودة لدى الإغريق وظلوا يطوِّرُونها إلى أن أوصلوها للكوميديا والتراجيديا، وكانت موجودة لدى الإيطاليين ولم يكشف عنها الغطاء إلا بزوال تحريم المحاكاة، وكانت ولا تزال موجودة لدينا في مصر. كل ما في الأمر أن أحدًا لم يهتم بالبحث عنها ورصدِها وإعطائها اسمًا!

ولأني أومن بهذا؛ فإني أومن أيضًا أن المسرح — مثله مثل الموسيقى وكل الفنون — لا يوجد شكل عالمي له، إنما لا بد أن يتخذ لدى كل شعب من الشعوب شكلًا. كل ما في الأمر أن هذا الشكل «العالمي» — أو الذي نظنه عالميًّا — ليس إلا الشكل الأوروبي المتطور عن الشكل الإغريقي. ولا يمكن أن يصلح هذا الشكل لإيصالنا إلى حالات التمسرح التي نصل إليها في قمتها، لا بدَّ لنا من البحث الشاق الدائب عن شكلِنا المسرحي المستمدِّ من بيئتِنا وتاريخ وجداننا وظُروفه. قال لي أحد كبار نقادنا مرة: إن هذا الشكل العالمي للمسرح هو التطور في تكنيكية المسرح، تطور علمي في الشكل لا علاقةَ له بمضمون العمل المسرحي. تطور في الشكل ممكن أن تضع له أنت ما شئتَ من مضمون ليصبح مصريًّا أو كينيًّا أو فيتناميًّا، بالضبط مثله مثل السيمفونية والأوبرا في الموسيقى.

ولكن المشكلة أني أرى أيضًا أن السيمفونية والأوبرا ليست أشكالًا عالمية، وإنما هي أشكال خاصة بالموسيقى الأوروبية، ولا يمكن أن تصلح للتعبير عن مضمون مصري. ففي الفن لا يوجد شكل ومضمون، إن الشكل مضمون فني والمضمون شكل فني، وإذا تطورت موسيقانا فإنها ستصل إلى أشكال أخرى غير السيمفونية والكونسيرت؛ إذ هذه الأشكال إنما خلقها المضمون الموسيقى الأوروبي، أشكال خلقها الوجدان الأوروبي؛ ليخاطب بها نفسه مثلما خلق اللغات الأوروبية لتتفاهم بها عقوله.

ألا ترون معي أن الموضوع جد خطير، وأننا بنقاشه إنما نضع «ألف باء» مفهومنا ليس فقط لمسرحنا، وإنما لفنوننا عامة؟

فالفنون تختلف اختلافًا جذريًّا عن العلوم، باعتبار أن العلم عالمي في شكله ومضمونه، في حين أن الفن على الدوام محليُّ الموضوع والمضمون، ومن هنا تنشأ عالميته.

إني أومن إذن أن هناك ظواهر بدائية للمسرح موجودة في بلادنا أُسميها ظواهر بدائية لحالات التمسرح، تلك التي ينسَى فيها كل فرد قائم ذاته ويندمج في الذات الجمالية الأكبر، باعتبار أن الخاصية الأولى لأيِّ فنٍّ هي جماعيته، مثل السامر وحفلات الذِّكر والاحتفالات بالموتى والأراجوز وخيال الظل، وحتى الجلوس على المقاهي، إنه حالة بليدة من حالات التمسرح. وإنه بالبدء من هنا، وبأخذ هذه الظواهر وتطويرها للوصول بها إلى المستوى الفني والموضوعي الذي وصل إليه المسرح الأوروبي، ممكن ليس فقط أن ننشئ مَسرحًا يقف إلى جوار المسرح الأوروبي، وإنما من الممكن أن نضيف ونُسهم به في إثراء الظاهرة المسرحية في العالم كلِّه.

يوسف إدريس

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤