الفصل الثاني والعشرون

القول في القوة الناطقة وكيف تعقل وما سبب ذلك

ويبقى بعد ذلك أن ترتسم في الناطقة رسوم أصناف المعقولات. والمعقولات التي شأنها أن ترتسم في القوة الناطقة، منها المعقولات التي هي في جواهرها عقول بالفعل ومعقولات بالفعل، وهي الأشياء البريئة من المادة؛ ومنها المعقولات التي ليست بجواهرها معقولة بالفعل، مثل الحجارة والنبات، وبالجملة كلُّ ما هو جسم أو في جسم ذي مادة، والمادة نفسها وكلُّ شيء قوامه بها، فإن هذه ليست عقولًا بالفعل ولا معقولات بالفعل، وأمَّا العقل الإنساني الذي يحصل له بالطبع في أول أمره، فإنه هيئة ما في مادة معدة لأن تقبل رسوم المعقولات، فهي بالقوة عقل وعقل هيولاني، وهي أيضًا بالقوة معقولة. وسائر الأشياء التي في مادة، أو هي مادة أو ذوات مادة، فليست هي عقولًا لا بالفعل ولا بالقوة، ولكنها معقولات بالقوة ويمكن أن تصير معقولات بالفعل، وليس في جواهرها كفاية في أن تصير من تلقاء أنفسها معقولات بالفعل، ولا أيضًا في القوة الناطقة، ولا فيما أعطي الطبع كفاية في أن تصير من تلقاء نفسها عقلًا بالفعل، بل تحتاج أن تصير عقلًا بالفعل إلى شيء آخر ينقلها من القوة إلى الفعل، وإنما تصير عقلًا بالفعل إذا حصلت فيها المعقولات.

وتصير المعقولات التي بالقوة معقولات بالفعل إذا حصلت معقولة للعقل بالفعل، وهي تحتاج إلى شيء آخر ينقلها من القوة إلى أن يصيِّرها بالفعل. والفاعل الذي ينقلها من القوة إلى الفعل هو ذات ما، جوهره عقلٌّ ما بالفعل، ومفارق للمادة، فإن ذلك العقل يعطي العقل الهيولاني، الذي هو بالقوة عقلٌ، شيئًا ما بمنزلة الضوء الذي تعطيه الشمس البصر؛ لأن منزلته من العقل الهيولاني منزلة الشمس من البصر، فإن البصر هو قوة وهيئة ما في مادة، وهو من قبل أن يُبصر فيه بصرٌ بالقوة، والألوان من قبل أن تُبصَر مبصرة مرئية بالقوة، وليس في جوهر القوة الباصرة التي في العين كفاية في أن يصير بصرًا بالفعل، ولا في جوهر الألوان كفاية في أن تصير مرئية مبصرة بالفعل، فإن الشمس تعطي البصر ضوءًا يُضاء به، وتعطي الألوان ضوءًا تضاء بها، فيصير البصر بالضوء الذي استفاده من الشمس مبصرًا بالفعل وبصيرًا بالفعل، وتصير الألوان، بذلك الضوء، مبصرة مرئية بالفعل بعد أن كانت مبصرة مرئية بالقوة. كذلك هذا العقل الذي بالفعل يفيد العقل الهيولاني شيئًا ما يرسمه فيه، فمنزلة ذلك الشيء من العقل الهيولاني منزلة الضوء من البصر، وكما أن البصر بالضوء نفسه يبصر الضوء الذي هو سبب إبصاره، ويبصر الشمس التي هي سبب الضوء به بعينه، ويبصر الأشياء التي هي بالقوة مبصرة فتصير مبصرة بالفعل، كذلك العقل الهيولاني فإنه بذلك الشيء الذي منزلته منه منزلة الضوء من البصر، يعقل ذلك الشيء نفسه، وبه يعقل العقلُ الهيولاني العقلَ بالفعل الذي هو سبب ارتسام ذلك الشيء في العقل الهيولاني، وبه تصير الأشياء التي كانت معقولة بالقوة معقولة بالفعل، ويصير هو أيضًا عقلًا بالفعل بعد أن كان عقلًا بالقوة. وفعل هذا العقل المفارق في العقل الهيولاني شبيه فعل الشمس في البصر، فلذلك سُمِّي العقل الفعَّال، ومرتبته من الأشياء المفارقة التي ذكرت من دون السبب الأول المرتبة العاشرة، ويسمى العقلُ الهيولاني العقلَ المنفعل، وإذا حصل في القوة الناطقة عن العقل الفعَّال ذلك الشيء الذي منزلته منها منزلة الضوء من البصر، حصلت حينئذٍ عن المحسوسات التي هي محفوظة في القوة المتخيلة معقولاتٌ في القوة الناطقة، وتلك هي المعقولات الأولى التي هي مشتركة لجميع الناس، مثل أن الكلَّ أعظم من الجزء، وأن المقادير المساوية للشيء الواحد متساوية.

المعقولات الأُوَل المشتركة ثلاثة أصناف: صنفٌ أوائل للهندسة العلمية، وصنفٌ أوائل يوقف بها على الجميل والقبيح مما شأنه أن يعمله الإنسان، وصنفٌ أوائل تُستعمل في أن يعلم بها أحوال الموجودات التي ليس شأنها أن يفعلها الإنسان ومباديها ومراتبها، مثل السموات والسبب الأول وسائر المبادي الأُخر، وما شأنها أن يحدث عن تلك المبادي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤