تمهيد

العالم الإِسلامي في فجر العصر الحديث

شهد العالم الإسلامي في القرن السادس عشر تغيرات أساسية، ففي السنوات الأولى من هذا القرن اصطدمَتْ قُوى الدولة التركية العثمانية بقوى دولة المماليك، وعُقِدَت ألوية النصر للدولة الأولى، وورثت ملك المماليك في الشام ومصر، وقضَت على الخلافة العباسية الصورية القائمة في مصر، وانتزع سلاطين العثمانيين منذ ذلك الحين لقبَ الخلافة، وأصبحوا بهذا خلفاءَ للمسلمين بعد أن كانوا سلاطين على دولتهم التركية وحسب.

ثم امتد ملك الأتراك العثمانيين بعد هذا، وفي هذا القرن أيضًا، حتى شَمِل بلاد العرب واليمن في آسيا، والجزائر وتونس وطرابلس في أفريقيا، ولم يبق خارجًا عن ملك العثمانيين غيرُ مَرَّاكُش.

وفي أوائل هذا القرن أيضًا قامت دولتان إسلاميتان جديدتان في القسم الشرقي من العالم الإسلامي:

الأولى: الدولة الصفوية الشيعية في بلاد فارس، ومؤسسها هو الشاه إسماعيل الصفوي (٩٠٦ﻫ / ١٥٠٠م)، وقد ضم إلى ملكه العراقَ العربي وديار بكر، وشمل ملكُه بلاد فارس وخراسان جميعًا، وامتدت دولته من الخليج الفارسي إلى بحر الخزر، وجعل عاصمته في تِبْريز.

وقد قام نزاع آخر بين هذه الدولة وبين دولة الأتراك العثمانيين، وانتصر السلطان سليم الأول في موقعة شالدران Chàldirân (١٥١٤م)، ولكنه لم يكن انتصارًا حاسمًا، ولم يستطع العثمانيون القضاء على ملك الصفويين قضاءً تامًّا كما فعلوا بدولة المماليك، وكل ما نجحوا فيه هو ضم بلاد العراق والجزيرة في عهد مراد الرابع في سنة ١٦٣٨م، وظلت الدولة الصفوية قائمة إلى أواخر القرن التاسع عشر (٩٠٧–١٣١١ﻫ / ١٥٠٢–١٨٩٣م).

أما الدولة الثانية فهي دولة أباطرة المغول في الهند، ومؤسس هذه الدولة هو بابرشاه من سلالة تيمورلنك، وقد خلفه من نسله عدد من الأباطرة العظام من أمثال همايون وأكبر وجهانجير وشاه جهان وأورنجزيب، ثم خلَف من بعدهم خَلْفٌ من الملوك الضعاف، وظلت الدولة قائمة إلى أن انتهت في منتصف القرن التاسع عشر.

فهذه دول ثلاث اقتسمت الحكم في العالم الإسلامي في القرون الثلاث؛ السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر، اثنتان منها سُنَّيتان، وهما: الدولة التركية العثمانية، والدولة المغولية في الهند، والثالثة شيعية وهي الدولة الصفوية، وهي جميعًا لم تكن دولًا عربية الجنس أو اللسان، ولهذا أثره الواضح في اضمحلال الدراسات العربية، وانتعاش الدراسات التركية والفارسية.

ولقد بدأ العالم الإسلامي في القرن السادس عشر قويًّا مرهوبَ الجانب؛ لأن الدول الثلاث كانت دولًا حربية، ولكنها لم تلبث في القرنين التالِيَيْن أن نالت منها عواملُ الضعف والانحلال.

والسِّمة الظاهرة الواضحة للعالم الإسلامي في هذه القرون الثلاثة هي انعزالُه وانقطاع الصلة بينه وبين العالم الأوروبي، في وقت كان العالم الأوروبي يخطو خطوات واسعات في نهضته العلمية وفي مخترعاته الصناعية وفي اكتشافاته الجغرافية.

أما المسلمون فقد نَسُوا علومَهم المدنية القديمة، وبدَءوا يجترُّون الكتب القديمة، وقَصُر اهتمامهم على العلوم الدينية واللغوية يبدَءون فيها ويعيدون، وكان أقصى ما يستطيعه عالم منهم أن يكتب شرحًا لمتن قديم أو حاشية على هذا الشرح، أو أن يَنْظِمَ أبياتًا من الشعر في مدح أحد الملوك أو السلاطين، أو يؤرِّخ بها وفاةَ واحد منهم.

وتدهور — تبعًا لهذا — المجتمع الإسلامي، وانتقلت السيادة على العامة لنفر من المتصوِّفة الذين أشاعوا كثيرًا من البدع المستحدَثة التي تتنافى مع روح الإسلام.

ومع هذا فقد كانت تَظهر وسط هذه الغياهب المظلِمة وبين الحين والآخر بعضُ النجوم المضيئة تحاول أن تبدِّد هذا الظلام، وتبعثَ في المجتمع الإسلامي روحًا تجديديَّة، تقوده إلى النهضة الثقافية الاجتماعية، وقد ظهرَت هذه الحركاتُ الإصلاحية أو الثقافية التجديدية في مختلِف أجزاء العالم الإسلامي، وكان لها في المشرق الإسلاميِّ مراكزُ أربعة: الهند، وبلاد العرب، ومصر والشام، وإيران.

وسنحاول أن نُلْقِي بعض الضوء على كل مركز من هذه المراكز، وأن نتتبع النشاط الثقافي والحركات التجديدية التي ظهرت فيه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤