المركز الثاني: بلاد العرب

محمد بن عبد الوهاب (١١١٥–١٢٠٦ﻫ/١٧٠٣–١٧٩١م)

كانت بلادُ العرب المركزَ الثانيَ من مراكز الحركات الثقافية أو الحركات الإصلاحية التي ظهرَت في الشرق الإسلامي في هذه الحِقْبة من الزمن.

وفي هذه البلاد قام محمد بن عبد الوهَّاب بحركته الإصلاحية، وفي الجزء الجنوبي من شبه الجزيرة في اليمن دعا الإمام الشوكانيُّ — في نفس الوقت تقريبًا — دعوة إصلاحية مشابهة.

والحركة الوهابية أُولى الحركات الإصلاحية التي ظهرَت في الدولة العثمانية، أو بمعنًى أصحَّ: بين الشعوب العربية الخاضعة للدولة العثمانية، وستَتْلوها حركاتٌ إصلاحية أخرى، تنبثق في أجزاء أخرى من العالم الإسلامي، بعضها مُشابِه للحركة الوهابية، وبعضها متأثر بها آخِذٌ عنها، وتَعدُّد هذه الحركات الإصلاحية وظهورها في مختلِف أنحاء العالم الإسلامي في وقت واحد أو في أوقات متقاربة، وتشابهها جميعِها أو معظمِها في صُدورها عن منبع واحد، وعملها لهدف واحد؛ دليلٌ كافٍ على يقظة وعيٍ جديد في الأمة الإسلامية، وإحساسٍ بمدى ما وصلَت إليه هذه الأمة من تأخر وفساد، والرغبة كل الرغبة في علاج هذا التأخر، وإصلاح هذا الفساد.

وظاهرة أخرى تُميِّز هذه الحركة؛ هي ظهورها في إقليم نَجْد، في تلك المنطقة الصحراوية المباركة؛ حيث انبثَق نور الإسلام الأول، والبيئة الصحراوية كانت دائمًا أصلحَ البيئات لظهور الدعوات الإصلاحية، وخاصة تلك التي تدعو إلى دين جديد، أو التي تقوم على أساس من الدين، فهذه البيئة تكون عادةً بعيدةً عن مؤثِّرات المدنية، وعن حياة الحضَر التي أفسدها الانغماس في التَّرف، وسُكَّان هذه البيئة يكونون عادة — لِبَساطتهم وبداوتهم — أكثرَ تقبُّلًا لمثل هذه الدعوات الإصلاحية التي تدعو إلى التقشف والبساطة والجهاد والمثُل العليا.

نشأ محمد بن عبد الوهاب في بلدة العيينة إحدى قرى نجد، وبدأ بالقرآن فأتمَّ حفظه في العاشرة من عمره، ثم تتلمذ على والده الشيخ عبد الوهاب — وكان قاضيًا للعيينة — فقرأ عليه الفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، وكان منذ طفولته وصباه شَغوفًا بالعلم والدراسة، لا يلهو كما يلهو الصبيان، بل يَصْرف وقته كلَّه في قراءة كتب الفقه والتفسير، والحديث والعقائد، ثم بدأ الرحلة بعد ذلك؛ ليستزيد من العلم، فذهب إلى مكة وأدى فريضة الحج، ثم انتقل إلى المدينة، ثم طوَّف في البلاد الإسلامية المجاورة يأخذ على شيوخها وعلمائها، فزار الأحساء وأقام في البصرة نحو أربع سنوات، وفي بغداد خمس سنوات، ثم انتقل إلى كردستان وأمضى بها سنة، ثم رحل إلى بلاد فارس، فزار همَذان وأصفهان حيث درَس فلسفة الإشراق والتصوف، ثم زار مدينة قُمٍّ، وعاد أخيرًا إلى حريملة حيث كان يقيم أبوه — بعد تركه العيينة — وهناك استأنف الدراسة على أبيه، وهناك بدأ دعوته.

كان محمد بن عبد الوهاب حين وصل حريملة في نحو الخامسة أو السادسة والثلاثين من عمره، وقد تم نُضجه واتَّسعَت ثقافته، واستوعب الكثيرَ من تجاريبه ومُشاهداته أثناء رحلته، وقد بدأ دعوته بجدال أبيه وقومه، وكان موضعُ الجدال «الوحدانية»؛ رسالة الإسلام وفكرته الأساسية، هذه الفكرة التي تدعو إلى عبادة الله الذي لا إله إلا هو، والتي تُنكِر عبادة كل شيء سواه، والتي تُحارب تعدُّد الآلهة وعبادةَ الأوثان والأصنام، ثم تأثر في دراسته بمذهب ابن حنبل؛ فأبوه حنبلي، وكُتُب هذا المذهب هي أول ما قرأ منذ طفولته الأولى، ومذهب ابن حنبل أكثرُ المذاهب تشددًا في الرجوع إلى القرآن والسنة، وإنكار البِدَع المستحدَثة، وقد كان محمد بن عبد الوهاب يرى في نجد أشياءَ كثيرة لا تتفق وهذا المذهب، ثم هو قد رأى في رحلته أشياء كثيرةً أخرى بَعُدت بالمسلمين عن روح الإسلام الصحيحة، وعن الوحدانية السليمة التي جاء بها الإسلام.

فمعنى قولنا: «لا إله إلا الله» أن الله وحده هو خالق هذا الكون ومنظِّمه وَفْق القوانين التي وضَعها، وهو وحده الواجبُ العبادةِ لا شريك له، ولكن المسلمين على عهد محمد بن عبد الوهاب قد نَسُوا أو تناسَوْا هذه العقيدة الواضحة، وراحوا يُقدِّسون الأولياء، ويحجون إلى قبورهم، ويتمسَّحون بأضرحتهم، ويقدمون لهم النُّذور، ويستشفعون بهم لجلب منفعة أو لدفع ضر، وانتشرت هذه الأضرحة والقبور في كل مكان وفي كل مدينة من مدن العالم الإسلامي، ولم يكتفوا بهذا، بل عادوا إلى الجاهلية الأولى فقدَّسوا الجمادَ والنبات.

وقد فصَّل ابن غنام — تلميذ ابن عبد الوهاب ومؤرِّخه — الحديثَ عن هذه المنكَرات والبدع في كتابه١ «روضة الأفكار والأفهام لمرتاد حال الإمام»، وأحصى القبور والأضرحة والأحجار والأشجار التي كان المسلمون يُقْبِلون عليها ويعظمونها، وقدَّم لهذا الإحصاء بقوله: إن المسلمين قد عدَلوا إلى «عبادة الأولياء والصالحين، وخلَعوا رِبْقة التوحيد والدين، فجَدُّوا في الاستغاثة بهم في النوازل والحوادث، والخطوب المعضِلة والكوارث، وأقبلوا عليهم في طلَب الحاجات، وتفريج الشدائد والكربات، من الأحياء منهم والأموات، وكثيرًا ما يعتقد النفع والإضرار في الجمادات، كالأحجار والأشجار … أحدثوا من الكفر والفجور، والإشراكِ بعبادة أهل القبور، وصَرْف الدعاء لهم من النذور، وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ

ثم يضرب ابنُ غنام الأمثالَ لما كان يَحدث في مدن الإسلام المختلفة، ويبدأ بنجد فيقول: إن أهلها كانوا يَعكُفون على «قبر زيد بن الخطاب، فيدعونه لتفريج الكُرَب بفصيح الخطاب، ويسألونه كشف النُّوَب من غير ارتياب.» وفي بليدة الفدا «ذَكَرُ النخل المعروف بالفحال، يأتونه النساء والرجال، ويفعلون عنده أقبح الأفعال، وتأتيه المرأة إذا تأخرت عن الزواج، فتضمُّه بيديها بحضورٍ ورجاء الانفراج، وتقول: يا فحل الفحول، أريد زوجًا قبل الحول …» «وشجرة الطرفية تشبَّث بها الشيطان واعتلق، فكان ينتابها للتبرُّكِ طوائفُ وفرق، ويُعلِّقون فيها — إذا ولدَت المرأة ذكَرًا — الخِرَق، لعلَّهم عن الموت يَسلَمون.»

«وفي أسفل الدرعية غار كبير يزعمون أن الله تعالى فلقه في الجبل لامرأة تُسمَّى بنت الأمير، أراد بعضُ الحكام أن يظلمها، فصاحت ودعت، فانفلَق لها الغارُ بإذن العلي الكبير … فكانوا يرسلون إلى ذلك الغار اللحم والخبز ويُهْدون، أتعبدون ما تنحتون، والله خلقكم وما تعبدون؟!»

ثم يشير المؤلف بعد ذلك إلى ما كان يفعله المسلمون عند قبورِ ميمونة بنت الحارث والسيدة خديجة وعبد الله بن عباس، وإلى ما يُفْعَل عند قبر النبي عليه السلام «من الأمور المحرَّمة العظام؛ من تعفير الخدود، والانحناء بالخضوع والسجود، واتخاذ ذلك القبر عيدًا … إلخ.»

وأما ما يُفْعَل في جُدَّة مما عمت به البلوى، فقد بلغ من الضلال والفحش الغاية القصوى؛ فعندهم — كما يقول ابن غنام — قبرٌ طوله سِتُّون ذِراعًا، عليه قُبَّة، يزعمون أنه قبر أمنا حوَّاء، يَجْبي عنده السَّدَنةُ من الأموال كل سنة ما لا يكاد يخطر على البال، «فلا يدخل يسلم على أمه كل إنسان، إلا مُسلِّمًا دراهمَ عاجلًا من غير تَوان، أيبخل أحدٌ من اللئام — فضلًا عن الكرام — ببذل بعض الحطام، ويدع الدخول على أمه والسلام؟!»

وعند أهل جدة أيضًا معبدٌ يسمى العلوي، غالَوْا في تعظيمه كلَّ المغالاة «فلو دخل قبرَه قاتلُ نفس أو غاصبٌ أو سارق، لم يُعترَض بمكروهٍ من مؤمن ولا فاسق.» ولم يجسر أحد أن يخرجه من هناك، فمن استجار به أُجِير، ولم يُعرِّج عليه حاكمٌ ولا وزير.»

ثم ينتقل ابن غنام من بلاد العرب إلى أقطار العالم الإسلامي الأخرى، فيشير إلى ما يوجد بها من قبور أو جماد أو نبات يَعكُف المسلمون على تعظيمها والتقرب إليها والاستغاثة بها؛ فمن البلاد التي ذكَرها: مصر، واليمن، وحضرموت، والشحر، وعدن، ومُخا، والحديدة، وحلب، ودمشق، والموصل، والعراق، وبلاد الأكراد، ومشهد، والقطيف، والبحرين … إلخ.

كانت هذه الأفعال وأشباهُها هي التي أثارت محمد بن عبد الوهاب ودفعَتْه دفعًا إلى القيام بدعوته الإصلاحية، وكانت هذه الدعوة تتلخص في الرجوع إلى القرآن والسنة، إلى الإسلام في حالته الأولى إلى التوحيد؛ ولذلك كان أتباعه يُسمَّون بالموحِّدين، وإنما سمَّاهم أعداءُ الحركة بالوهَّابية؛ إضعافًا لشأنهم.

ولتحقيق هذا كله كانت الدعوة تُنادي بمحاربة البدع المضلِّلة وزيارة القبور وتقديم النُّذور والاستشفاع بالأولياء والإيمان بالخرافات وتقديس بعض الجمادات والنَّبات، كما كانت تُحارب المتصوِّفة وما أحدثوا من طقوس يرى الموحِّدون أنها تُمثِّل مَظاهر الشِّرك والوثنية، كحلقات الذِّكر وما يُصاحبها — في بعض الطرق — من رقصٍ وطرب، وتقديس الأولياء من الأحياء والأموات، والإيمان بما لهم من قدرة على الإتيان بالخوارق والمعجزات، والاستغاثة بهم لجلب نَفْع أو دفع ضر، وهكذا.

ودعوة محمد بن عبد الوهاب — على هذا الوضع — لم تكن جديدة، بل سبقَتْها قبل ذلك بنحو خمسة قرون حركة كبرى مشابهة، هي حركة تقيِّ الدين ابن تيمية في القرن الثالثَ عشرَ الميلادي، ثم حركة تلميذه ابن قيِّم الجوزية في القرن الرابعَ عشر، وابنُ تيمية وتلميذه حنبليَّا المذهب، وقد أثارَت حركتهما ضجة كبرى في مصر والشام، وقامت المناقشات العنيفة بين الفقهاء ورجال الدين من أتباع ابن تيمية ومُعارضيه، وكاد الأمر ينتهي إلى فتنة لولا أن الحكومة كانت تتدخل بين الحين والآخر، فتَحُدُّ من نشاط ابن تيمية قليلًا، أو تودعه السجن وقتًا ما في مصر أو في الشام.

فالمنبع الذي صدرَت عنه الحركتان؛ حركة ابن تيمية وحركة ابن عبد الوهاب واحد، هو مذهب ابن حنبل، ولكن ابن عبد الوهاب تأثَّر كذلك بحركة ابن تيمية، وقرأ كتبه ورسائله وفتاواه، وتفهَّمها وأخذ عنها وترسَّم خُطاه وأخذ بآرائه، كما تأثر كذلك بكتب تلميذه ابن قيم الجوزية وآرائه، ومما يُثبت هذا كلَّه أن بعض رسائل ابن تيمية الموجودة في المتحف البريطاني مكتوبةٌ بخط محمد بن عبد الوهاب، فهي مما كان ينسخه لنفسه، وهو في رسائله التي كتبها لشرح دعوته أو لمناقشة مُعارضيه يعتمد كثيرًا على آراء ابن تيمية وابن قيم الجوزية ويستشهد بأقوالهما.

ومع هذا فنحن نلاحظ أن حركة ابن تيمية — رغم الضجة التي أحدثتها — لم تبلغ من النجاح ما بلغَتْه حركة ابن عبد الوهاب؛ وذلك لأسباب كثيرة:
  • منها أن بيئة الحَضَر التي ظهر فيها ابن تيمية بدعوته لم تكن البيئةَ الصالحة لنجاح الدعوة وانتشارها، فسكان الحضر تَشغَلُهم شئون الحياة ومباهجها وعوامل التَّرف والرفاهية، والدعوة تنادي بالزهد والتقشف والبساطة، ولو أنها ظهرت بين البدو في بيئة صحراوية لَلاقت نجاحًا أكثر.

  • ومنها أن ابن تيمية — وهو يدعو للعودة إلى الإسلام في حالته الأولى — اضطُرَّ إلى مهاجمة كل الفرق الدينية التي وُجِدَت منذ ظهر الإسلامُ إلى عهده؛ كالخوارج والمرجئة، والرافضة والقَدرية، والمعتزلة والجهمية، والكرَّامية والأشعرية، والنُّصيرية وغيرها، واضطُر كذلك إلى الطعن في رجال الدين والمتصوِّفة وفقهاء المذاهب المختلفة، ومعظمُ هؤلاء كانوا يَلُون الوظائفَ الكبرى في الدولة كوظائف قَضاء القضاة والحِسْبة ومَشْيخة الشيوخ والتدريس، وكانوا تبعًا لهذا يَنالون الأموال الجمة التي تأتيهم من الجوامك والرواتب والأوقاف والنذور … إلخ، ونجاح دعوة ابن تيمية يَسلُبُهم كلَّ ما كان لهم من سلطان ومال؛ ولهذا كانوا هم — لا الشعب — الذين حمَلوا عليه وحارَبوا دعوته، إلى أن أضعَفوا من شأنها، أما بلاد العرب فلم يكن بها هذا العددُ الوفير من العلماء والفقهاء والمتصوِّفة وأتباع المذاهب المختلفة، ولم يكن للقِلَّة الموجودة منهم في بلاد العرب من المصالح قدر ما كان لعلماء مصر والشام على عهد ابن تيمية. حقيقةً قد عارض ابنَ عبد الوهاب بعضُ مُعاصريه من علماء نجد والأحساء، ولكن معارضتهم لم تكن من القوَّة بحيث تؤثر في حركة ابن عبد الوهاب أو تُضعِف من شأنها.

  • ومنها أن حركة ابن تيمية ظهرَت والعالمُ الإسلامي لا يزال في عُنفوان قوته، بعد أن انتصر انتصاراتِه الحاسمةَ على الصليبيين والتتار في حِطِّين وعين جالوت، وبينما هو يبذل الجهود لمقاومة غَزوات التتار المتجدِّدة على الشام، في حين أن دعوة ابن عبد الوهاب ظهرَت والعالم الإسلامي قد شاخ ونالَت منه عواملُ الضعف والانحلال، فربَط المسلمون في أذهانهم بين عواملِ التأخُّر الديني وعوامل الضعف السِّياسي، ورأَوْا أن الأُولى سببٌ للثانية، واعتقَدوا أن القضاء على عوامل التأخر الديني والعودة إلى أصول الإسلام قد يَقْضي على عوامل الضعف السياسي، ويُعيد للعالم الإسلامي ما كان له من عزة وقوة.

  • ومنها أن حركة ابن تيمية اقتصرَت على الجدل الديني والمناقشات الفقهية، ولم تستَعِن بسنَد حربي أو بقوة سياسية، أما ابن عبد الوهاب فكان أبعدَ نظرًا وأكثر نجاحًا، ورأى أنه لكي يضمن لدعوته النجاح؛ لا بد له أن يضع لها برنامجًا سياسيًّا إلى جانب البرنامج الديني، وأن يستعين بقوة سياسية حربية، وأدرك منذ اللحظة الأولى أنه لا أمل في الدولة العثمانية التي كانت تَحكُم جميع أجزاء العالم الإسلامي الواقعةِ في الشرق الأوسط؛ لأنها كانت دولة ضعيفة، وهي في ضعفها ترى في كل حركة إصلاحية خطرًا عليها وعلى كيانها؛ فهي لذلك تُحارب كل مُصلح، وتُناهض كلَّ ناصح.

وأدرك ابن عبد الوهاب كذلك أنه لا أمل في علماء الدِّين في الحواضر الإسلامية الكبرى؛ كالقسطنطينية ودمشق والقاهرة، فهم قد تحوَّلوا مع الزمن إلى عقول جامدة، لا تَنشط إلى تفكيرٍ جديد أو إلى محاولةٍ للإصلاح، وهم قد أصبَحوا موظَّفين رسميِّين يؤمنون بالطاعة العمياء لوليِّ الأمر ما دامت لهم مناصبهم الموقرة وأرزاقهم الموصولة؛ ولذلك لم يكونوا على استعداد لأن يُجازفوا بهذا كلِّه في سبيل نظريَّات أو دعوات جديدة تتطلَّب الكثير من الجهد والتضحية، وقد يُكْتَب لها النجاح أو الفشل.

لهذا كله قدَّر محمد بن عبد الوهاب أنه — لكي يدرك شيئًا من النجاح لدعوته — لا بد له أن يتعاون مع قوة سياسية حربية؛ لأن النظرياتِ والمُثُلَ العليا لا تستطيع أن تنتصر بقوتها وصِدْقها وحسب، بل بما يؤيِّدُها من قوى السياسة؛ ولهذا اتصل بأمير الدرعية محمد بن سعود، وتعاهد الرجلان على الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى استقامة الشعائر، ونشر الدعوة في جزيرة العرب باللسان عند مَن يقبلها، وبالسيف عند مَن لم يقبلها.

ونجحَت الدعوةُ شيئًا فشيئًا، ودخل الناس فيها أفواجًا، ومَن عارضها مِن أمراء أو شيوخ العرب حُورِبَ وأُخْضِعَ بالقوة، وكلما دخَل الرجلان — الشيخُ والأمير — بلدةً أزالا البِدَع ونشَرا تعاليمهما، وبعد موتهما تعاقد أبناءُ الأمير وأبناء الشيخ على أن يعملوا مُتآزِرين لنُصرة الدعوة، وظلُّوا يَعملون إلى أن دخَلوا مكة والمدينة.

وعند ذلك شعَرت الدولة العثمانية بخطر الحركة وخطر نجاحها، إن نجاحها يؤدي إلى فصل الحجاز، وخروجه من يدها، أو بمعنًى آخر خروج الحرَمَين الشريفين، وهذا يُفقِدها الشيء الكثير؛ يُفقِدها الزِّعامة التي تتمتَّع بها على العالم الإسلامي بحُكم إشرافها على هذين الحرمين، في وقتٍ كانت قد بدأَتْ تسعى فيه إلى القضاء على عوامل الضعف الداخلية وتقوية الصِّلات بينها وبين أجزاء العالم الإسلامي؛ باعتبارها مركز الخلافة الإسلامية.

وكانت الدولة العثمانية مشغولةً في ذلك الوقت بنضالها مع العالم الخارجي، ولم يكن لديها القوة الحربية الكافية التي تُرسلها لبلاد العرب، فاستعانت بمحمد علي، وأرسل محمد علي جيوشه إلى الحجاز، وسافر إلى هناك بنفسه، وظلَّت هذه الجيوشُ تقاوم الوهَّابيين إلى أن انتصرَت عليهم، وفي نفس الوقت نشِطَت الدعوة العثمانية في جميع أنحاء العالم الإسلامي ضد هذه الحركة، واتهمَت الوهَّابيين بالكفر والخروج على طاعة الخليفة، وشارك علماء المسلمين في هذه الدعوة التشهيرية، وشارك الإنجليزُ كذلك في التشهير بالدعوة الوهابية وتشويه مبادئها؛ لأن أيَّ اضطراب يصيب بلاد العرب يُهدِّد طريق تجارتهم إلى الهند؛ ولأن بعض مُسلِمي الهند قد اتصلوا بالحركة في مواسم الحج، وبدَءوا عند عودتهم إلى وطنهم يَدْعون دعواتٍ إصلاحيةً مُشابهة.

وهكذا اجتمعت قُوى كثيرةٌ على محاربة الدعوة الوهابية؛ ولهذا فَشِلَت الحركة في أول الأمر فشلًا ظاهريًّا، فلم تَلقَ الأفكار الوهابية قَبولًا في المجتمع الإسلامي خارج بلاد العرب، حتى إن بعض المصلِحين المعاصرين من أمثال شاه ولي الله الدهلوي كان يُتَّهم بالوهابية لتنفير الناس من اتِّباعه، ولعل هذا راجعٌ إلى أن المجتمع الإسلامي في ذلك الوقت كان يتعلق بفكرة الوَحْدة أو الجامعة الإسلامية، ويرى أن هذه الوحدة هي السبيل للنَّهضة ولمقاومة الخطر الأوروبي، وأن أيَّ انفصال أو أية دعوة انفصالية تؤدي حتمًا إلى إضعاف الخلافة رمز هذه الوحدة، وقد كانت الحركة الوهابية حركةً انفصالية؛ لأن سعودًا الثانيَ عندما فتح المدينة ودخَلها في سنة ١٨٠٣م، أرسل إلى السلطان ينهاه عن إرسال المحمَل السنوي إلى الحجاز مصحوبًا بالطبول والزمور، ثم أخذ يُعِدُّ الحملات لمهاجمة العراق والشام.

وقد أثارت الحركة الوهابية معارضةَ نفَرٍ آخرَ من المسلمين، وخاصة رجال الدولة والعلماء؛ لأنها اصطنعَت أسلوب القوة والعنف لتنفيذ تعاليمها، فاعتبرت البلاد الإسلامية التي لا تؤمن بمبادئها والتي تنتشر فيها البدعُ دارَ حرب وجهاد، وكان الوهابيون إذا دخلوا بلدًا استعمَلوا العنف لإجبار أهلها على اعتناق مبادئهم، فهم عند دخولهم مكة مثلًا هدَموا كثيرًا من القِباب الأثرية؛ كقُبَّة السيدة خديجة، وقبة مولد النبي عليه السلام، ولما دخَلوا المدينة نزَعوا بعض الزينة والمعادن الثمينة والحلي التي كانت تُزيِّن قبر الرسول، مما أثار شعور المسلمين وأسَفَهم، ولكن الوهابيين لم يُريدوا أن يلتزموا أضعف الإيمان فيَعملوا على تغيير المنكر باللسان، بل أرادوا أن يستعملوا أقوى الإيمان، فاستعانوا بالأيدي لتغيير هذا المنكر.

وقد أثارت الحركة الوهابية عند ظهورها جدلًا كثيرًا، فأيَّدها الكثيرون وعارَضها الكثيرون، ومن الغريب أن أشدَّ الناس معارضة للشيخ محمد عبد الوهاب كان أخاه الشيخ سليمان مؤلِّف كتاب «الصواعق الإلهية»، وهو يُنكِر على أخيه مرتبة الاجتهاد، ويعارض تفسيراته بتفسيراتٍ تُقابلها، ويعتمد في مناقشته على نفس المراجع التي يَعتمد عليها أخوه، وهي كتب ابن تيميَّة وابنِ القيم، وأهمُّ ما ينتقد فيه أخاه مسألة تكفير المسلمين المتعلِّقين بالبدع والخرافات؛ فسُليمان يلتمس لهؤلاء العذرَ من جهلهم، ويرى أن تَعلُّقهم بالبدع خطأ ناشئ عن الجهل، ومن الواجب تبصيرهم بأمور دينهم، أما محمد بن عبد الوهاب فيُغالي ويعتبر هذا التعلُّقَ إثمًا، ويُكفِّر صاحبه، ويعتبر بلاد هؤلاء المسلمين دارَ حرب ويدعو لجهادهم، وسليمان يقول مثلًا في معرض مناقشته لآراء أخيه:

«إن هذه الأمور حدثَت من قبلُ زمنَ الإمام أحمد، وفي زمانِ أئمة الإسلام، وأنكَرها مَنْ أنكرها منهم، ولا زالت حتى ملَأت بلاد الإسلام كلَّها، وفُعِلت هذه الأفاعيل كلها، تُكَفِّرون بها، ولم يُرْوَ عن أحد من أئمة المسلمين أنهم كَفَّروا بذلك، ولا قالوا: هؤلاء مرتدُّون، ولا أمَروا بجهادهم، ولا سمَّوْا بلاد المسلمين بلاد شِرك وحرب كما قلتم أنتم! بل كفَّرتم مَنْ لم يُكفِّر بهذه الأفاعيل وإن لم يفعلها، أتظنون أن هذه الأمور مِن الوسائط التي يُكفَّر فاعلها إجماعًا، وتَمضي قرون الأئمة من ثمانِمائة عامٍ ولم يُرْوَ عن عالم من علماء المسلمين أنه كُفْر؟! نبَّهَنا الله وإياكم من الضلال.»

ومما أخذه المعارضون على الحركة الوهابية كذلك تزمُّتها الشديد واتهامُها لكل مَنْ لا يأخذ بمبادئها بالكفر والمروق، واقتصارها على الدعوة إلى إصلاح الروح والعقيدة بالارتداد إلى الإسلام الأول، وإهمالها ناحيةَ الإصلاح المادي، بل لقد غالى الوهابيُّون في أول عهدهم، فاعتبَروا المخترَعاتِ الأوروبيةَ الجديدة — كالتلغراف والسيارات والتليفون — من البدع المستحدَثة التي لا يَرضى عنها الدين.

ولقد عاصر الحركةَ الوهابية حركةٌ إصلاحية أخرى في مصر؛ هي حركة محمد علي، ولكنها عُنِيَت بالناحية الحضارية المادية وبالنقل عن أوروبا؛ لأنها أدركَت أن سر تفوق أوروبا يرجع إلى نهضتها العلمية، ولو أن الحركتين اتفقَتا وتعاوَنَتا لنال العالمَ العربيَّ الإسلامي خيرٌ كثير؛ لأن العالم الإسلامي حينَ كان قويًّا مرهوبَ الجانب لم تَقُم قوته على الدين وحده أو على الحضارة المادية وحدها، وإنما قامت عليهما جميعًا.

ولكنه لم يكن من طبيعة الأشياء أن يدعو محمد بن عبد الوهاب هذه الدعوةَ المزدوجة؛ لأن ثقافته كانت دينية بحتة، وتأثر فيها بأساتذةٍ من المتشددين من أمثال ابن حنبل وابن تيمية وابن قيِّم الجوزية الذين يَلتزمون الأصول، ولا يَحيدون عنها قِيدَ شعرة، وهو في رحلاته زار بلادًا إسلامية لم تكن تعرف حتى ذلك الحينِ شيئًا عن الحضارة الأوروبية الحديثة أو العلوم الأوروبية.

ولكن فشل الدعوة الوهابية كان فشلًا ظاهريًّا ومؤقتًا؛ فإن السعوديين لم يلبثوا أن حاولوا تكوين دولتهم من جديد، وقد نجحوا، ثم حاوَلوا بعد هذا النجاح أن يُوائِموا بين المبادئ الوهابية وبين مقتضَيات المدنية الحديثة، فعدَّلوا نظرتهم إلى البلاد الإسلامية الأخرى، واعتبَروا أهلها مسلمين، وفتحوا الأبواب لمظاهر المدَنية الحديثة، فاستعمَلوا التِّلِغراف والتليفون والراديو والسيارة والطيارة، وأخذوا يعملون لنشر التعليم المدني إلى جانب التعليم الديني.

أما الدعوة نفسها فقد كانت أعمقَ جذورًا وأقوى آثارًا خارج بلاد العرب؛ ففي مواسم الحج اجتمع المسلمون من مختلِف أجزاء العالم الإسلامي في مكة والمدينة، واستمعوا إلى دعوة محمد بن عبد الوهاب ومبادئها، وآمن الكثيرون منهم بها، وتحمَّس لها البعض من القادة المصلِحين، فلما عادوا إلى بلادهم أخَذوا يَعملون على نشرها؛ لهذا لم يكن من الغريب أن كل الحركات الإصلاحية التي ظهرَت في العالم الإسلامي في أواخر القرن الثامن عشر وفي القرن التاسعَ عشر كانت كلها دعوات دينية، كما كان معظمها متأثرًا بالدعوة الوهابية، سائرًا على نهجها.

•••

ففي اليمن، وفي نفس الوقت ظهر الإمام الشوكاني (١١٧٢–١٢٥٠ﻫ/١٧٥٨–١٨٣٤م) ودعا دعوةً مشابِهة لدعوة ابن عبد الوهاب، فنادى بمحاربة البدع والتقليد، ونادى بالاجتهاد. حقيقةٌ أنه لم يتصل بابن عبد الوهاب ولم يأخذ عنه، ولكن الدعوة واحدة؛ لأن المقدِّمات والأسبابَ التي أثرَت في الرجلين واحدة، ولأن المنبع الذي صدَرا عنه كان واحدًا؛ فإن الشوكاني تأثر بمبادئ ابن تيمية؛ ولهذا ألَّف كتابَه «نيل الأوطار» لشرح كتاب ابن تيمية «منتقى الأخبار»، ثم ألَّف بعد ذلك رسالته «القول المفيد في حكم التقليد»، وقد أثارت دعوتُه مناقشاتٍ كلاميةً وجدلًا فقهيًّا عنيفًا بينه وبين معاصريه من العلماء، وخاصة في صنعاء، ولكنها لم تخرج عن هذا النطاق، ولم يَصطنِع الشوكاني العنف والقوة كما فعل محمد بن عبد الوهاب.

•••

وفي أوائل القرن التاسع عشرَ حج الزعيم الهندي السيد أحمد بن عرفان، واعتنق المذهب الوهابي، فلما عاد إلى بلاده بذَل جهودًا صادقة لنشره في إقليم البنجاب، وحارب البدع والخرافات حربًا عنيفة، وأنشأ دولة وهابية، وامتد سلطانه حتى هدَّد شمال الهند، وهاجم الوعاظ ورجال الدين، وأعلن الجهاد على كل مَنْ لم يؤمن بمذهبه أو يعتنِقْ دعوته، وأن الهند دار حرب، وقد أثار بحركته المتاعب الكثيرة للحكومة الإنجليزية، ولكنها قاومَتْه وأتباعَه إلى أن أخضعتهم.

والسيد أحمد بن عرفان البريلوي Ahmad Brelwi (١٢٠١–١٢٤٦ﻫ/١٧٨٦–١٨٣١م) مصلحٌ ديني مُجاهد، أبوه محمد عرفان، وينتهي نسبه إلى الحسين بن علي، وُلِدَ في ٦ صفر سنة ١٢٠١ﻫ/٢٨ نوفمبر سنة ١٧٨٦م في مدينة بريلي Breli حيث تلقى دروسه الأولى، ثم انتقل إلى لُكْناو Lucknow، وبعد أن أقام فيها شهورًا قليلة انتقل إلى دلهي حوالي سنة ١٢١٩ﻫ/١٨٠٤م، حيث تتلمذ على الشاه عبد العزيز أكبر أولاد شاه ولي الله، ودرس كذلك على أخيه الأصغر شاه عبد القادر.
وحوالي سنة ١٢٢٢ﻫ/١٨٠٧م عاد إلى بريلي حيث تأهل، وفي سنة ١٢٢٥ﻫ/١٨١٠م رحل إلى راجبو تانا Racjputana حيث عمل جنديًّا لمدة سبع سنوات في جيش نواب أمير خان Nawab Amir Khan حاكم إقليم تونك Tonk.

وفي سنة ١٢٣٢ﻫ/١٨١٧م ترك خدمة النواب وعاد إلى دلهي، ثم أثارته حالة الضعف والتأخر التي كان يعانيها مواطنوه من المسلمين، فبدأ رحلة إصلاحية تبشيريَّة لتعليم الناس ووعظهم، وكانت آراؤه تشبه إلى حد كبير آراء محمد بن عبد الوهاب، فقد كان يدعو إلى العودة إلى الإسلام في حالته البسيطة الأولى، وتنقيته مما علق به من بدع وخرافات، وتقديسٍ مُبَالَغ فيه للأنبياء والأولياء، وسرعان ما ذاع صيته في كل مكان واعتنق مبادئه آلافٌ من المسلمين.

ومن أشهر تلاميذه وأصحابه الذين شاركوه جهاده: مولاي محمد إسماعيل، ابن أخي الشاه عبد العزيز، ومولاي عبد الحي، خِتْن (زوج بنت) الشاه عبد العزيز، ومولاي يوسف الفولاتي of Phulhat من نسل شاه أهل الله، الأخ الأكبر لشاه ولي الله.

وفي سنة ١٢٣٦ﻫ/١٨٢١م خرج السيد أحمد لأداء فريضة الحج «وتخلَّف شهورًا قليلة في كلكتا وهو في طريقه إلى مكة، وبعد عودته إلى الهند سنة ١٢٣٩ﻫ/١٨٢٤م بدأ يُعِدُّ العُدة للجهاد، ويتضح جليًّا من رسائله أنه كان يهدف من وراء حركته الإصلاحية إلى وضع حدٍّ لحكم الإنجليز والسيخ، وإلى استعادة الحكم الإسلامي في الهند، وكان أول أهدافه القضاء على حكم السيخ في البنجاب.

وبعد أن حصَل على عطف المسلمين في كابل وقندهار، ووعد بتأييدهم له، بدأ حملته في سنة ١٢٤١ﻫ/١٨٢٦م وتحت قيادته جيش من أتباعه المتحمسين، ومرَّ في طريقه بإقليم راجبوتانا والسِّند وبلوخستان وأفغانستان، إلى أن وصل مدينة بشاور، ثم هاجم جيش السيخ وهزمَه عند أكوراختاك Akora Khattak (في ٢٠ نوفمبر سنة ١٨٢٦م)، ولكنه هُزِمَ في موقعة سيدو Saydo بعد أن تخلَّى عنه يار محمد خان دراني Yar Med Khan Durrani وإخوته، ومع أنه نجح في احتلال مدينة بشاور في سنة ١٨٣٠م فقد فتَّ في عَضُده خيانةُ الدُّرَّانيين وبعض الخانات المحليين؛ ولهذا قرر أن يلجأ إلى منطقة كشمير، وفي طريقه اشتبكَت به جيوش السيخ في بالاكوت Balakot في سنة ١٢٤٦ﻫ/١٨٣١م حيث هزم جيشه، واستشهد السيد أحمد كما استشهد معه شاه محمد إسماعيل، ورغم هذه الهزيمة فقد استمرَّت فلول جيشه في نضالهم في إقليم الحدود الشمالية الغربية؛ لتحقيق الأهداف التي رسَمها قائدهم في حياته.

وقد تابع تلاميذُه حركتَه الإصلاحية في الهند، وأنتجوا أدبًا دينيًّا ضخمًا، اصطنَعوا اللغة الأوردية؛ ليَضمنوا إيصال تعاليمهم إلى الشعب، كما آثر أتباعُه الاشتغال بالنشاط التِّجاري، بدلًا من الالتحاق بالوظائف تحت حكم الإنجليز.

وقد ترك السيد أحمد بعض الرسائل القصيرة والكتيبات التي تعالج الموضوعات الدينية. كذلك يُنْسَب إليه أنه كان الموحي للأفكار التي أثبتَها تلميذاه: شاه محمد إسماعيل، ومولاي عبد الحي في كتابهما الذي ألَّفاه باللغة الفارسية، وعنوانه «صراط مستقيم»، ولا تزال مجموعات كثيرة من رسائل السيد أحمد المكتوبةِ بالفارسية مخطوطةً حتى الآن.

•••

كذلك تأثر السيد محمد بن علي السنوسي بالمذهب الوهابي، حين ذهب لأداء فريضة الحج، فلما عاد إلى وطنه أخذ يعمل على نشرها، ثم أخذ بعد ذلك يؤسِّس طريقته الخاصة في بلاد المغرب وفيها شيء كثير من الآراء الوهابية؛ من ضرورة الرجوع إلى الإسلام الأوَّل في بساطته الأولى، وتنقيته من البدع، وإن كانت تقوم على أساس آخر من التصوف، وهو ما كان يُنكِره المذهب الوهابي.

فالسنوسية طريقة من طرق التصوف تقوم على الأخوة والزهد والعبادة، والْتِزام أصول الإسلام، ولا يُطْلَب من المريد حين يأخذ العهد إلا أن يقرأ الفاتحة؛ للحفاظ على هذا العهد، ثم يمر المريدون بدرجاتٍ ثلاث؛ أولها درجة الخوَاصِّ، وثانيتها درجة الإخوان، وثالثتها درجة المنتسبين.

والسيد محمد بن علي السنوسي مالكيُّ المذهب، ولكنه مجتهد، وقد يخالف المذهب في بعض الموضوعات التي يَصِحُّ عنده أنها أقربُ إلى السنة، ولم يبدأ الشيخ اجتهاده إلا بعد أن اكتمل نضجه، ودرَس الفقه والتفسير والحديث في بلده، وفي مَرَّاكُشَ ومصر والحجاز، واتصل بعلماء هذه البلدان، وتعرَّف على الطرق الصوفية المنتشِرة فيها، ثم بدأ الدعوة لطريقته بعد عودته لوطنه، فلم ترضَ الحكومة العثمانية عنه ولا عن دعوته، فقد كانت تخشى دائمًا مثل هذه الدعوات الإصلاحية، وما قد تؤدي إليه من حركات انفصالية، فاضطُرَّ الشيخ إلى الاعتكاف في واحة جغبوب، وبنى هناك مسجدًا ومدرسة للعلوم الدينية، واتخذ لنفسه أسلوبًا جديدًا لنشر الدعوة، وذلك ببناء الزوايا لأتباعه في مختلِف أنحاء العالم الإسلامي، وسرعان ما انتشرت هذه الزوايا في برقة وطرابلس والسودان ومصر وبلاد العرب، وفي كتاب Pritchard ثبت بأسماء مائة وستٍّ وأربعين مدينةً وقرية بها زوايا للسنوسية، ويقوم شيخ الزاوية عادةً مقام المرشِد لتابِعيه ومريديه في أمور دينهم ودنياهم.

ولكن الطريقة السنوسية تختلف عن غيرها من طرق التصوف في أنها تحارب الغلوَّ في تقديس الشيوخ والأولياء من الأحياء والأموات، أو في الأخذ بالطقوس الوثنية؛ من التمسُّح بالقبور والأضرحة، وتقديم النذور، والإيمان بقدرة المشايخ على جلب النفع أو دَفْع الضرر، وغاية ما تسمح به زيارة الأضرحة والمقامات للدعاء لصاحبها والترحُّم عليه، والْتِماس العظة والبركة في رحابه، وهذا هو وجه الشبه بينها وبين الحركة الوهابية، ومدى ما قد يكون لهذه الحركة الأخيرة من أثر فيها، فالدعوتان تتفقان في المناداة بالاجتهاد ومحاربة البدع، وتختلفان في أن الحركة الوهابية تصطنع العنف في تنفيذ مبادئها، وأن الحركة السنوسية تصطنع طرق المتصوفة من إنشاء الزوايا، واتخاذها أماكن للزهد والعبادة، وتثقيف المريدين وتعليمهم أصول دينهم.

وقد عارضت السنوسيةُ في أول الأمر السيادةَ العثمانية، وكان من برنامجها إعدادُ المريدين للجهاد، وكان هذا الاتجاه ضروريًّا؛ لِتَمكينها من القيام بواجبها في نشر الدعوة، وتنظيم البدو في الصحراء الليبية.

وقد أفاد هذا التنظيمُ والإعداد فائدة كبرى، فهم عندما وُوجِهوا بالغزو الأوروبي قاموا بدَوْر المدافعين عن دينهم ووطنهم، وقد بدَءوا هذا الجهاد أولًا عند التدخل الفرنسي في أفريقيا الاستوائية، ثم تحالفوا بعد ذلك مع تركيا في نضالها مع الإيطاليين في ليبيا ومع الإنجليز في مصر، ومع أن السنوسيين قد حُطِّمُوا حربيًّا نتيجة لهذا النضال، وبدا للناس جميعًا أن الفاشست قد قضوا عليهم؛ فإن الأخوَّة السنوسية أظهرَت حيويتها الكامنة عندما بُعِثَتْ بعثًا جديدًا مفاجئًا، إبان العمل على طرد الإيطاليين من برقة.

•••

ونستطيع أن نلمس أثر الدعوة الوهابية في مصر في أفكار محمد عبده الإصلاحية؛ فقد كانت هذه الأفكارُ تَرمي إلى تحقيق هدفين، هما قوام الدعوة الوهابية؛ وهما: فتح باب الاجتهاد، ومحاربة البدع وما يتصل بها من التعلُّق بالخرافات وإشراك القبور والأولياء مع الله سبحانه وتعالى.

•••

ولمحمد بن عبد الوهاب إنتاجٌ علمي وفير، شرح فيه دعوته وآراءه، بعضُه رسائل وفتاوى، وقد أثبتَها جميعًا تلميذُه ابن غنام في كتابه، غير أن أهمَّ مؤلفاته كتاب: «التوحيد … حق المولى على العبيد» وفيه يُحصي الشيخُ الذنوبَ التي تُكفِّر صاحبها وتُعْتَبر شركًا بالله، فمن الشرك في رأيه اتخاذُ الرُّقَى والتمائم للوقاية، والتبرُّكُ بالشجر والحجر، والاستعانة بغير الله، والنَّذر لغير الله، والذبحُ لغير الله، وأن الغلوَّ في بناء قبور الصالحين وتقديسها يُصيِّرها أوثانًا تُعْبَد من دون الله، وأن الاستشفاء بالأنواء حرام، والتصوير حرام، وحذَّر من المغالاة في تعظيم النبي — عليه السلام — مستشهدًا بقول أنس: «إن أناسًا قالوا: يا رسول الله، يا خيرَنا وابنَ خيرِنا، وسيدَنا وابنَ سيدنا، فقال: أيها الناس، قولوا بقولكم ولا يَستهوينَّكم الشيطان، أنا محمد بن عبد الله ورسولُه، ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل.»

١  ابن غنام: روضة الأفكار، ص٣–١٨.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤