الفصل الأول

رُكود الحياة العلمية في مصر والشام

فيما بين القرنين السادس عشر والثامن عشر

أصبحَت القسطنطينيَّة — بعد انتقال الخلافة الإسلامية إليها — مركزَ الثِّقَل ومِحورَ الارتكاز في العالم الإسلامي، ولعل هذا يفسر لنا — بعضَ التفسير — ركودَ الحركة العلمية في مصر والشام طيلةَ القرون الثلاثة التي خضَعَتا فيها للحكم العثماني؛ فقد أصبحت القسطنطينية هي مركزَ النشاط العلمي في الدولة العثمانية؛ فهي مقر السلطان والخليفة، بل هي عاصمة الدولة الإسلامية، والدولة كانت تركيةَ اللسان، فمن البديهي إذن أن تنشط حركة التأليف بين علماء الأتراك وباللغة التركية، وأن تَضعُف حركة التأليف باللغة العربية.

يُضاف إلى هذا أن السلطان سَليمًا الأول كان قد صحب معه حين خروجِه من مصر عددًا من كبار العلماء، وكلَّ ماهر في فنٍّ أو صنعة، كما حمَل معه معظم ما كانت تَذخَر به مكتبات القاهرة من نوادر الكتب والمؤلفات.

وتدهورَت الأحوال في مصر والشام تدهورًا شديدًا في النواحي الثقافية والصحية والاقتصادية؛ نتيجةً للعُزلة التي عاش فيها هذانِ القُطران، ولانقطاع الصِّلة بينهما وبين العالم الخارجي في العصر العثماني.

وتوزَّعَت السلطة في مصر بين قُوًى ثلاث: الباشا العثماني، والديوان، والمماليك، ثم لم تلبَث السلطة أن تركَّزَت إلى حد كبير في أيدي البكَوات المماليك، وخاصة في القرن الثامن عشر عندما ضَعُفت الدولة العثمانية، وشُغِلَت بحروبها المستمرة مع الدولتين الأوروبيتين المجاورتين: الروسيا والنمسا.

ولكن هؤلاء البكوات المماليكَ شُغِلُوا بأطماعهم، وقامت بينهم المنافسات الحربية المتتابعة، وكان الشعب هو دائمًا الضحيةَ بما كان يصيبه من سلبٍ ونهب، أو مُصادَرة لأمواله أو اغتصابٍ لحقوقه …

وكان الشعب إذا حَزَبَه الأمر أو اشتد به الضيق يلجأ إلى العلماء، يشكو إليهم ما يصيبه من ظلم، وكان العلماء يستمعون دائمًا إلى هذه الشكوى، ويسعَوْن لدى الأمراء والحكام لرفع هذا الحَيْف والظلم، وما يزالون بهم حتى يَستجيبوا لنداء الواجب والقانون.

وبذلك أصبحت للعلماء زِعامةٌ تقليدية، تَستمد مقوِّماتها من روح الإسلام ومن الشريعة الإسلامية، فالمجتمع يقوم على أسسٍ من الشريعة الإسلامية؛ فهي القانون الذي تلتزمه الدولة في أحكامها، والعلماء هم أصحاب هذه الشريعة ودارِسوها، منهم الفقهاء والقضاة والمفتون والمدرِّسون.

(١) مَعاهد العلم

وكان الجامعُ الأزهر هو أكبرَ المعاهد العِلمية في مصر، ولكنه مع هذا لم يكن المعهدَ الوحيد للدراسات العليا ولتخريج العلماء، بل كان يوجد إلى جانبه عددٌ من المدارس والمساجد تُشاركه في القيام بهذه المهمة.

ومع هذا فقد كان الأزهر أهمَّ هذه المعاهد جميعًا وأشهرَها، وقد يَرجع هذا إلى أنه كان أغناها؛ لِوَفْرة الأوقاف المرصودة للصرف عليه وعلى طلابه وشيوخه، وإلى أنه كان يمتاز بكثرة عدد مُدرِّسيه؛ فقد كان به في العصر العثماني نحوُ ستين أو سبعين مدرسًا، يقومون بالتدريس للجمِّ الغفير من الطلاب، وكان معظم هؤلاء الطلاب من القاهرة أو من مدن مِصر المختلفة، وإلى جانبهم توجد أعدادٌ أخرى من الطلاب الوافدين من البلاد الإسلامية الأخرى.

ونتيجةً للشهرة والسُّمعة العلمية الطيبة التي كان يتمتَّع بها الأزهرُ أصبحَت مساجد القاهرة ومَدارسُها الأخرى تعتبر وكأنها فروعٌ له، حقيقة كان لهذه المساجد والمدارس أوقافُها الخاصة، ولكن كانت القاعدة أنَّ وظائف التدريس بها يتولاها شيوخٌ من الأزهر.

وإلى جانب هذا كانت توجد في مصر نحوُ ثماني عشْرة أو عشرين مدينةً من المدن الكبرى بها مَدارسُ للتعليم العالي، وكان يَختلف عددُها في كل مدينة؛ من مدرسة واحدة إلى سبع مدارس، وفي هذه المدارس أيضًا كان المدرسون عادةً شيوخًا تَلقَّوْا تعليمهم في الأزهر، وكانت هذه المدارس بدَوْرها تُمِدُّ الأزهر بمعظم طلابه، ويكفي أن نُشير هنا — للدلالة على أهمية هذه الظاهرة — إلى أن الشيوخ الذين تَولَّوْا مشيخة الأزهر في القرن الثامن عشر لم يكن من بينهم واحدٌ قاهريُّ الأصل.

وكانت أكثرُ هذه المدارسِ نشاطًا وأفضلُها دراسةً هي مدارسَ الإسكندريةِ ورشيدٍ ودمياط ودُسوقٍ والمحلَّةِ والمنصورةِ وطنطا في الوجه البَحري، وطَهْطا في الوجه القِبْلي.

أما في الشام فقد كان التعليمُ أقلَّ مركزية، فإلى جانب المركزين الرئيسيين: حلَب ودِمَشْق كانت توجد مَدارسُ إقليميةٌ في مدن أخرى كثيرة، وخاصة في بيت المقدس ونابُلس.

وإلى جانب المساجد الجامعة في دمشق وحلب — التي كانت تُعتبَر المراكزَ الكبرى للدراسات الدينية — كان يوجد في المدينتين عددٌ من المدارس والمساجد التعليمية، بعضها متَّصل بالمسجد الجامع معتمِدٌ عليه، والبعض الآخرُ منفصِل عنه، والمراديُّ يشير إلى وجود ما لا يقل عن ٤٥ مدرسةً في دمشق — بما فيها المساجد — في القرن ١٨، ومن المرجَّح أن عددها في حلب لم يكن أقلَّ من هذا.١

وكان طلاب العلم في مصر والشام لا يزالون في هذا العصر العثماني حريصين على التقليد القديم الطيِّب، وهو الرحلة في طلب العلم والاستزادة من المعرفة، وفي التراجم التي يَزدحِم بها كِتابا: المرادي والجبَرتي أمثلةٌ كثيرة للعلماء الذين كانوا يرحلون إلى مدن مصر المختلفة، وخاصة دمياط والإسكندرية وطنطا وطهطا وأسيوط، أو إلى دمشق وبيت المقدس، أو إلى المدينتَيْن المقدَّستَين مكَّةَ والمدينة؛ للأخذ عمَّن في هذه المدن من شيوخ، وكثيرون من الشوام كانوا يلتحقون بالأزهر؛ حيث يوجد رِوَاقٌ خاص لهم كان من أكثرِ الأروِقَة نشاطًا، كما كان بعضُهم يرحل إلى إستانبول؛ حيث يَشتغِلون بالتدريس في مدارسها.

(٢) نُظُم التعليم: مَزاياها وعيوبها

وكانت الدراسة في هذه المعاهد قد تأخَّرت كثيرًا عما كانت عليه في العصور السابقة؛ فهي لا تُعنَى إلا بالعلوم اللغوية؛ من نحوٍ وصرفٍ وبلاغة وعَرُوض، وبالفقه وعلوم الشريعة، والمنطِقِ ومَبادئ الحساب.

وقد كان لنظام التعليم في هذه المعاهد مَزايا كثيرة؛ يقول لين بول مثلًا عند كلامه عن الأزهر: «إن نظام الجامعة الأزهرية نظامٌ مثالي كامل؛ فإنَّ أفقر شابٍّ يتقدم إليها يُرحَّب به في الحال، ويستطيع أن يَتعلَّم كلَّ ما يعرفه الأساتذة، ويمكنه أن يُحصِّل أعلى تعليمٍ يمكن أن يُحصِّله مسلم، وبالطرق الإسلامية، وذلك دون أن يُطالَبَ بدفع قرش واحد.»٢

ومع هذا فقد كان للنِّظام عيوب كثيرة؛ منها أن وظائف التدريس كانت أحيانًا تُؤخَذ بالوراثة لا بالجدارة، فيُعيَّن الابنُ مدرسًا مكانَ أبيه، ولو لم يكن كُفئًا لتولِّي هذه الوظيفة.

ومنها أن بعض المدرسين كان يُوكَل إليه التدريس في أكثرَ من مدرسة، أو يتولَّى أكثر من وظيفة، وبذلك لا يكون لديه الوقتُ أو الجهد الكافي للقيام بالتدريس على الوجه الأكمل.

ومنها أيضًا جمودُ الدراسات وتأخُّرها، بحيث أصبح المدرسون يُردِّدون ما قاله السابقون، ويُدرِّسون المتون والكتب القديمة دون أن يُؤلِّفوا أو يَكتبوا جديدًا، فانعدَم الابتكار، وأثَّر هذا بالتالي في الطلاب، فأصبحوا يُعيدون ما يَسمعون، ويُعنَوْن بالمسائل الشكلية التافهة، ويعتمدون على الاستذكار والحفظ عن ظهر قلب، دون الفهم أو الوعي السليم.

ونستطيع أن نتبين من تراجم شيوخ هذا العصر وعلمائه أن بعضهم كان غزير الإنتاج؛ فكم مِن عالم أنتج العشَرات من الكتب والرسائل، ولكننا لا نستطيع أن نجد من بينها بحثًا له قيمة أو كتابًا يُضيف إلى العلم جديدًا، أو رسالةً فيها شيءٌ من الابتكار أو أصالةِ الفكر، وإنما كان أقصى ما يفعله الواحد منهم أن يكتب شرحًا لمتن، أو يُضيفَ حاشيةً على شرح، فنحن نستطيع أن نسمِّيَ هذا العصر بحقٍّ عصرَ الشروح والحواشي، ومن الممكن أن نقدِّر الحالة العلمية في العالم العربي على ضوء ما أنتجه العلماء ورجال الفكر في هذا العصر:

كان العالم العربي قد فقَد استقلاله السياسي، وأصبح في عُزْلة تامة، وانقطعت الصِّلاتُ بينه وبين غرب أروبا، وكان الناس يعيشون في ظلام العصور الوسطى، وزادت الحالة سوءًا نتيجةً لانتشار المتصوِّفة وانقلابِ التصوف إلى نوع من الدَّروَشة، فأصبح الناس يعتقدون في الخرافات والغيبيات، والسحر والشعوذة، وغَدَا كلُّ مجذوب وليًّا من أولياء الله الصالحين، وكلُّ أبلَهٍ شيخًا جليلًا تُلْتَمَس بركاته ويُرْجَى رِضاؤه ودعواته، ونال كثيرٌ من الشيوخ مكانة مرموقة لدى العامة والمتعلمين، بل ولدى الخاصة والحكام؛ لتأليفهم رسائلَ في هذه الموضوعات، أو لاشتغالهم بقراءة الغيب، وعمل الأحجبة والتمائم والتعاويذ.

(٣) الدراسات الطبية

وأهم ما يَعيب الحياةَ الثقافية في العالم العربي في هذا العصر العثماني أنها تأخَّرَت كثيرًا عما كانت عليه في القرون السابقة، ولعلَّ خير دليل على هذا ما وصَلَت إليه حالةُ الطب مثلًا من الناحيتين: النظرية والعملية.

ففي أوائل القرن السابعَ عشر كانت لا تزال هناك بقايا من العلوم الطبية التي عرَفها المسلمون في عصورهم المزدهِرة، وإن كانت قد تأثرَت هذه البقايا كثيرًا بالسحر والخرافات، ورغم هذا فقد أُلِّفَت في مصر وسوريا بعضُ الرسائل والكتب في الطب.

وخير هذه الكتب هو «تذكرة داود» لصاحبها داود الأنطاكي، وهو طبيب ضرير، وُلِدَ في أنطاكيَة، وفيها درس الطبَّ وعلوم الأوائل واللغة اليونانية على رجلٍ من العجم كان قد وفد على بلدته، ثم رحل داود بعد ذلك إلى دمشق، واستقر في القاهرة سنين طويلة، وزار مكة أخيرًا، وبها تُوفِّي سنة ١٠٠٨ﻫ.

وكانت مِهنة الطبِّ تُورَثُ — كبقية المهن — في معظم الأحوال، ومع هذا لم يكن غريبًا أن تجد قاضيًا أو عالِمًا يُعيَّن رئيسًا للأطباء.

والظاهرة الجديدة أن المجتمع في مصر بدأ يستعمل — إلى جانب الطب العربي المعتمِد على الطب اليوناني القديم — نوعًا جديدًا عُرِفَ بالطب النبوي، وهو أشتاتٌ من المعلومات القائمة على دراسة الإشارات الطبية والصحية الواردة في الأحاديث النبوية.

وقد أورد العالم الفرنسي «روييه Rouyer» معلوماتٍ كثيرةً عن حالة الطب في مصر٣ في أواخر القرن الثامن عشر في الفصل الذي كتبه في كتاب Description de l’Egypte I, 1217–32، وعنوانه: Notice sur les Médicamens Usuels des Egytiens.

وتبعًا لهذا؛ تأخَّر علم الصيدلة والأقرباذين، كما تدهورَت أحوال المستشفَيات وأصبح البِيمارِسْتان يستعمل مُستشفًى للعلاج ومصحَّةً للأمراض العقلية، وظهرَت طبقةٌ من الحلاقين الصحيِّين تمارس العلاج والجراحة، ولم تكن الحالة في سوريا تختلف كثيرًا عنها في مصر.

ولكن في السنوات الأخيرة من القرن الثامن عشر بدأ يظهر في القاهرة عددٌ من الأطباء الأوروبِّيين وعددٌ من الصيدليات الأوروبية، ويَذكر Rouyer (ص٢٢٢-٢٢٣) أنه كان يوجد في القاهرة ثلاث صيدليات: واحدة يديرها يوناني، والأُخرَيان يديرهما جماعةٌ من البنادقة، وكان معظم رُوَّادها من الأوروبيِّين والسوريِّين المسيحيين، ومع هذا كان يتردَّد عليها نفرٌ من المصريين — مُسلمين وأقباطًا، أما في دمشق فقد كان الدكتور شابوكو Chaboceau هو الطبيبَ الأوروبيَّ الوحيدَ بها.٤
يُضاف إلى هذا أنَّ كتابَين أوروبيَّين في الطب قد تُرْجِمَا إلى التركية والعربية في أواخر هذا القرن.٥

(٤) الدراسات العلمية

وكانت العلوم الأخرى التي عرَفها العرب باسم «العلوم الفلسفية» أو «علوم الأوائل» — مثل الفلسفة والرياضيات والفلَك — قد أصابها ما أصاب الطبَّ من ركود وجمود، وفي الأوصاف التي أوردها الرحَّالة الأوروبيُّون — من أمثال «سافاري» و«فولني» — في رحلاتهم صورٌ واضحة لهذا التأخر والجمود العلمي، قال فولني يصف الحالة الصناعية والعلمية في مصر في القرن الثامنَ عشر: «الجهل عام في هذه البلاد مثل سائر الدولة التركية، وهو يشمل كل الطبقات، ويتجلَّى في كل النواحي الأدبية والطبيعية وفي الفنون الجميلة، حتى الصناعات اليدوية؛ فإنها في أبسط أحوالها، ويَندُر أن تجد في القاهرة مَنْ يُصلِح الساعة، وإذا وُجِدَ فهو إفْرَنجي، أما الصياغة فأصحابها فيها أكثرُ مما في أزمير وحلب، لكنهم جهلاء، وإنما يُتقِنون المنسوجات الحريرية، وإن كانت أقلَّ إتقانًا وأغلى ثمنًا من تلك التي تُصْنَع في أوروبا، أما العِلم فوجود الأزهر فيها جعلها قِبْلة الطلاب في الشرق الإسلامي.»

وحتى هذا العِلم، وحتى هذا الأزهر لم يكونا في القرن الثامن عشر في حالة طيبة مبشِّرة، بل شمِلَتْهما — كما ذكرنا من قبل — موجةٌ من الركود والجمود، وقد وَصَف مؤرِّخُ مصر في هذا القرن عبدُ الرحمن الجبرتي مدى ما وصلَت إليه الحالة العلمية من تأخُّر وصفًا يُغني عن غيره من أقوال الرحَّالة الأوروبيين.

ذكر الجبرتي أن أحمد باشا الواليَ التركيَّ على مصر (١١٦٢-١١٦٣ﻫ/١٧٤٩-١٧٥٠م) كان «من أرباب الفضائل، وله رغبة في العلوم الرياضية، ولما وصل إلى مصر واستقر بالقلعة، وقابله صدور العلماء في ذلك الوقت، وهم: الشيخ عبد الله الشبراوي — شيخ الجامع الأزهر — والشيخ سالم النفراوي، والشيخ سليمان المنصوري، فتكلَّم معهم وناقشهم وباحَثَهم، ثم تكلم معهم في الرياضيات فأحجَموا، وقالوا: «لا نعرف هذه العلوم»، فتعجَّب وسكت.»

ثم ذكر الجبرتي أن الشيخ الشبراوي طلَع على عادته إلى القلعة في يوم جمعة، واستأذن، ودخل عند الباشا يُحادثه، فقال له الباشا: المسموع عندنا في الدِّيار الرومية أن مصر منبَع الفضائل والعلوم، وكنتُ في غاية الشوق إلى المجيء إليها، فلما جئتُها وجَدتُها كما قيل: تَسمع بالمعيدي خيرٌ من أن تراه»، فقال له الشيخ: «هي يا مولانا — كما سمعتم — مَعدِن العلوم والمعارف»، فقال: «وأين هي وأنتم أعظم علمائها؟ وقد سألتُكم عن مطلوبي من العلوم، فلم أجد عندكم منها شيئًا، وغاية تحصيلكم الفقهُ والمعقول والوسائل، ونبَذتُم المقاصد»، فقال له: «نحن لسنا أعظمَ علمائها، وإنما نحن المتصدِّرون لخدمتهم وقضاء حوائجهم عند أرباب الدولة والحُكَّام، وغالب أهل الأزهر لا يَشتغِلون بشيء من العلوم الرياضية إلا بقدر الحاجة الموصِّلة إلى علم الفرائض والمواريث؛ كعلم الحساب والغبار» فقال له: «وعلم الوقت كذلك من العلوم الشرعية، بل هو من شروط صحَّة العبادة؛ كالعلم بدخول الوقت، واستقبال القبلة، وأوقات الصوم والأهِلَّة، وغير ذلك» فقال: «نعم، معرفة ذلك من فروض الكفاية، إذا قام به البعضُ سقط عن الباقين، وهذه العلوم تحتاج إلى لَوازِمَ وشروط وآلات وصناعات، وأمور ذوقية؛ كرِقَّة الطبيعة وحُسن الوضع والخطِّ والرسم والتشكيل، والأمور العُطاردية، وأهل الأزهر بخلاف ذلك؛ غالبهم فُقراء وأخلاطٌ مجتمِعة من القرى والآفاق، فيَندُر فيهم القابلية لذلك»، فقال: «وأين البعض؟» فقال: «موجودون في بيوتهم، يُسْعَى إليهم» ثم أخبره عن الشيخ الوالد (يقصد والده الشيخ حسن الجبرتي، العالم الرياضي الفلَكي الكبير في ذلك الحين) وعرفه عنه وأطنَب في ذِكره.»

ثم ذكر الجبرتي بعد ذلك أن الباشا أرسل إلى الشيخ حسن الجبرتي، فاستدعاه لمقابلته، وأنه «سُرَّ برؤياه واغتبَط به كثيرًا، وكان يتردد إليه يومين في الجمعة، وأدرك منه مأموله … ولازم المطالعة عليه مدَّة ولايته، وكان يقول: «لو لم أغنم من مصر إلا اجتماعي بهذا الأستاذ لكَفاني.»

وأخيرًا يختم الجبرتيُّ قصة والده وعلماء مصر مع الباشا بجملة لطيفة فيها نقدٌ ساخر لاذع، فيقول: «وكان المرحوم الشيخ عبد الله الشبراوي كلَّما تلاقى مع المرحوم الوالد يقول له: «ستَرك الله كما سترتَنا عند هذا الباشا؛ فإنه لولا وجودُك كنا جميعًا عنده حَميرًا …»

(٥) الدراسات الأدبية

ولم يكن الإنتاج الأدبيُّ في هذا العصر يُفضل كثيرًا الإنتاجَ العلمي؛ فقد بلغ الأدبُ أقصى مراحل التأخر أسلوبًا ومنهجًا وموضوعًا، وقد يُعلِّل البعضُ تأخُّر الأدب إلى انصراف الناس إلى الدراسات الدينية والصوفية، ولكن هذا الانصرافَ لا ينهض وحده سببًا كافيًا، بل هناك في الحقيقة أسبابٌ أخرى حالَت دون ظهور أدباء ممتازين أو إنتاجٍ أدبي رفيع مبتكَر، ولعل أهمَّ هذه الأسباب أن أدباء العرب في هذا العصر قد فقدوا رعاية الحكام والرؤساء إلا في حالات قليلة نادرة منذ انضمت البلادُ العربية للدَّولة العثمانية، وهذا النوع من الأدب الرفيع لا يَزدهِر إلا إذا نال صاحبُه شيئًا من التشجيع والرعاية.

وكان لانقطاعِ الصِّلة بين البلاد العربية والعالم الخارجي أثرٌ واضح كذلك في تأخُّر الأدب في هذا العصر؛ فقد فقدَت الدراسات الأدبية الدوافعَ المثيرة والنقدَ المفيد، ولم تُتَحْ لها فرصة الاتصال بين الأفكار أو المحاكاة أو المقارنة بينها وبين الآداب الأخرى، فانكمش الأدباء العرب على أنفسهم، وعاشوا في عُزلة تامة داخل ديارهم يجترُّون الأدب الماضيَ الذي أنتجه أسلافُهم، ثم يلفظونه أدبًا جديدًا فاقد الروح ممسوخ الأسلوب، وحتى الأدبَين الشرقيَّين المعاصرَين: التركي والفارسي كان الاتصال بهما ضعيفًا، وكان أثر هذا الاتصال ضئيلًا — فيما عدا مدينة حلب إلى حد ما.

وقد يكون لنوع الحياة التي كان يحياها أدباء هذا العصر أثرٌ في ضعف إنتاجهم الأدبي؛ فقد تدهورت الحالة الاقتصادية وقلَّ الرخاء، وضاقت — نتيجة لذلك — الآفاق التي يُحلِّق فيها الأدباء، وقلَّت مظاهر الحضارة والصورة الفنية التي تُوحي إليهم، فعُنُوا في إنتاجهم بالأسلوب دون المعنى، وبالصَّنعة دون المبنى، وعُنُوا عناية كبرى بالمحسِّنات البديعية على اختلاف أنواعها؛ يستعينون بها على تنميق الأسلوب، واستنفَدوا جهدهم في نظم أنواع عجيبة من الشعر، بعضها مما تصح قراءته طَرْدًا وعَكسًا، وبعضها مما تصح قراءته أفقًا وعرضًا، وأكثَروا من الأشعار الملغِزة أو المؤرِّخة لإقامة مبنًى أو لوفاةِ عظيم … إلخ.

(٦) الدراسات التاريخية

أما حركة التأليف التاريخي — التي بدأَت في مصر الإسلامية بابن عبد الحكَم، والتي ظلَّت مستمرَّة متصِلة مزدهِرة إلى أواخر القرن الخامس عشر — فقد انقطعت انقطاعًا يكاد يكون تامًّا في العصر العثماني، ولا نكاد نجد مؤرِّخًا مصريًّا له شأن أو قيمة بعد ابن إياس، اللهم إلا إذا اعتبرنا صوفيًّا كالشعراني مؤرخًا حين يَكتب كتابه «الطبقات الكبرى» في تراجم الصُّوفية!

حقيقة لقد ظهر في مصر في العصر العثماني عددٌ من المؤلفين الذين كتبوا في التاريخ، ولكنهم في جملتهم لا يَستطيعون أن يَرقَوْا إلى مرتبة مَنْ سبقوهم من مؤرِّخي القرن الخامس عشر أو القرون التي قبله، ويكفي لإيضاح هذه الحقيقة أن نأتي هنا بأمثلة للمؤرخين المصريين القلائل الذين ظهَروا في هذا العصر العثماني.

منهم محمد بن أبي السرور البَكْري الصديقي، وقد عاش في القرن الحادي عشر (١٧م)، وتوفِّي سنة ١٠٨٧ﻫ، وله ثلاثة كتب تاريخية لا زالت مخطوطة، وهي:
  • (١)

    الروضة المأنوسة في أخبار مصر المحروسة، وفيه يؤرِّخ لولاة مصر وقضاة العسكر في العصر العثماني إلى سنة ١٠٥٤ﻫ.

  • (٢)

    عيون الأخبار ونزهة الأبصار، وهو تاريخ مختصر لمصر والدول التي تعاقبَت على حكمها، إلى آخر عصر المماليكِ الجَراكِسَة.

  • (٣)

    المِنَح الرحمانية في الدولة العثمانية، وفيه يُؤرِّخ لسلاطين آل عثمان، وينتهي إلى سنة ١٠٣٩ﻫ.

ومن هؤلاء المؤرخين الإسحاقي المنوفي «محمد بن عبد المعطي» وهو من رجال القرن الحادي عشر أيضًا، ترجم له المحبي فقال: إنه كان قاضيًا فاضلًا عالِمًا مؤرخًا، كثيرَ النَّظْم للشعر، صحيح الفكرة، وله تاريخ لطيف ورسائلُ كثيرة، قرأ ببلده على شيوخ كثيرين، وكان يتردَّد إلى مصر، وأخَذ بها عن أكابر علمائها، وتُوفِّي سنة ١٠٦٠ﻫ ببلدة منوف.

وكتابه التاريخي عنوانه «لطائف أخبار الأُوَل، فمن تصرَّف في مصر من أرباب الدول» رتَّبه على مقدمة وعشَرة أبواب وخاتمة، وأرَّخ فيه لمن ولي مصر من حكام منذ الفتح العربي إلى أوائل القرن الحادي عشر، وانتهى من تأليفه سنة ١٠٣٣ﻫ، وقد طُبِعَ هذا الكتاب في القاهرة طبعات مختلفة في السنوات ١٢٧٦ و١٢٩٦ و١٣٠٠ﻫ.

ومنهم أيضًا مرعي الحنبلي، وهو من رجال القرن العاشر (١٦م) ومن مؤلَّفاته في التاريخ «دُرر الفوائد المنظَّمة في أخبار الحاجِّ وطريق مكة المعظَّمة» ضمَّنه أخبار الحاجِّ والمنازل، وكيفيةَ الرحيل والنزول والإقامة، وأرَّخ فيه لمن حجَّ بالناس مِن الخلفاء والصحابة، والأمراء والأعيان، من مختلِف البِقاع والأماكن، كما شرح مناسك الحج على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، ورتَّب الحوادثَ فيه على السنين الهجرية، ويوجد من هذا الكتاب الجزءُ الأول فقط، ويَنتهي إلى آخر الباب الثالث «فيمن وَلِي إمرة الحاج إلى سنة ٩٦٦ﻫ» وهو مخطوطٌ بدار الكتب المصرية رقم ٣٧م.

ونحب أن نشير هنا إلى أن المصريِّين كانوا هم السابقين في وضع كتب تُترجم لرجالِ قرنٍ بأكمله؛ بدأ هذا النوعَ من كتب التراجم ابنُ حجر، حين ألَّف كتابه «الدُّرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة»، ثم أتى بعده تلميذُه السخاوي فألَّف كتابه «الضَّوء اللامع في تراجم أعيان القرن التاسع».

ثم انقطع هذا اللون من ألوان التأليف التاريخي من مصر في العصر العثماني، وانتقل إلى أيدي السوريِّين، فألَّفوا كتبًا ثلاثة ضخمة للترجمة للرجال الذين عاشوا في قرون العصر العثماني الثلاثة: العاشر والحادي عشر والثاني عشر:

أرَّخ الغَزِّي (نجم الدين محمد بن محمد) لرجال القرن العاشر في كتابه: «الكواكب السَّائرة في تراجم أعيان المائة العاشرة».

وأرَّخ المحبِّي لرجال القرن الحادي عشَر في كتابه «خلاصة الأثَر في أعيان القرن الحادي عشَر».

وأرخ المرادي لرجال القرن الثاني عشر في كتابه «سلك الدُّرر في أعيان القرن الثاني عشر».

وسيُحاول مؤرِّخ مصري — هو أحمد تيمور — إتمام السلسلة فيما بعدُ بالترجمة لرجال القرن الثالثَ عشر، ولكنه لم يُنجِز من مؤلَّفِه هذا إلا قسمًا يسيرًا هو الذي طُبِعَ بعد وفاته بعنوان: «تراجم أعيان القرن الثالث عشر وأوائل الرابع عشر» (القاهرة ١٩٤٠م).

١  هناك إشاراتٌ كثيرة في تاريخ المراديِّ إلى وجود بعض المدارس في الرَّمْلة وحِمْص وغَزَّة وصيدا وحَماة وعَكَّا وطرابلس وبَعْلَبك.
٢  Lane-Poole, Social Life in Egypt. P. 84.
٣  انظر أيضًا Cbot Bey: Apercu generale sur l’Egypte. t II, p.p. 383-4.
٤  Olivier, II, 255, Gibb: Islamic Society and the West, vo, II part 2. p. 136.
٥  C. E. Daniels: La version Orientale, Arabs et Turque de deux premiers livres de Herman Boernaave, in janus (Leiden 1612), 295–312.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤