خاتمة القول في الشعر

رأينا صورًا مختلفة من الشعر المصري في العصر الفاطمي، وعرفنا موضوعاته المتنوعة المتشعبة، فنحن نتساءل بعد أن رأينا ذلك كله: إلى أي حد وُفِّقَ شعراء مصر في التعبير عن شخصية مصر في شعرهم؟ وإلى أي حد نستطيع أن نميِّز الشعر المصري في هذا العصر من غيره من شعر الأقطار الإسلامية الأخرى؟

قبل أن نجيب عن مثل هذه الأسئلة، نرى أن نتحدث أولًا عن بعض خصائص ظهرت في الشعر العربي في كل عصوره وبيئاته، منذ عرف الشعر العربي إلى الآن، بل ستظل هذه الخصائص موجودة في الشعر العربي ما وُجِد الشعر العربي، وهذه الخصائص هي التي تجعله — مهما اختلفت بيئاته وتطورت عصوره — وحدة يشبه بعضها بعضًا، فالحياة العربية تتطور وتختلف باختلاف الأقاليم التي تنشد الشعر بالعربية، ولكن هذه الخصائص في الشعر لم تتطور بتطور الحياة، ولم تختلف باختلاف الأقاليم، وبالتالي يتطور الشعراء فلا تتطور معهم هذه الخصائص، بل ظلت مثلًا عليًّا للشعراء جميعًا دون أن يصيبها تغيير جوهري.

فمثلًا نجد الشعراء جميعًا منذ العصر الذي اتفق المؤرخون على تسميته بالعصر الجاهلي إلى عصرنا هذا ينشدون أشعارهم في ألفاظ عربية حاوَلَ النقاد أن يصفوها في كتبهم وأبحاثهم بالرقة والعذوبة والجزالة والسلالة … إلى غير ذلك من هذه الصفات التي وُصِفت بها الألفاظ الشعرية، فلا نكاد نجد شاعرًا من شعراء العربية اصطنع ألفاظًا تُوصَف بصفات تختلف عن تلك التي تحدَّثَ عنها النقاد القدماء والمحدثون. حقيقة حاوَلَ بعض الشعراء أن يتظرف في الشعر باستعمال بعض ألفاظ أعجمية، ولكننا نستطيع أن نقول: إن ذلك كان قليلًا جدًّا بحيث لا نستطيع أن ندَّعِي أن هذه ظاهرة يقف عندها الباحث في تاريخ الأدب العربي؛ ولذلك لم يأبه لها مؤرخو الأدب، وإذن فقد اشترك الشعراء جميعًا في استعمال الألفاظ العربية في أشعارهم مهما اختلفت عصورهم، وتباينت بيئاتهم، فلا نستطيع أن نتخذ الألفاظ أساسًا للتمييز بين شعر قطر من الأقطار التي أنشدت بالعربية من شعر قطر آخَر، فالألفاظ مثل من المثل العليا لشعراء العربية جميعًا، لم يصبها تغيير، ولن يصيبها تغيير.

كذلك نقول عن هذه الأوزان التي جرى الشعر العربي على أوتادها وأسبابها، والتي تحدَّثَ عنها علماء العروض في كتبهم، فشعراء العربية لم يعدلوا عن الأوزان التي عرفها القدماء، وأغلب الظن أن شعراء العربية لن يعدلوا عن هذه الأوزان مهما بَعُدَ بهم الزمن عن الشعر القديم، وتلوَّنت حياتهم بألوان مختلفة. ورب معترض يقول: إن الأندلسيين أوجدوا الموشحات والأزجال، وإن المصريين اخترعوا البليق، وأدخل شعراء الفرس الدوبيت والرباعيات في الشعر العربي، وهذه كلها أوزان لم يعرفها القدماء، ولكن أتى بها المولدون، فكيف تكون الأوزان إذن مثلًا من المثل العليا للشعر العربي في كل العصور وكل البيئات! فأجيب هؤلاء المعترضين بأن المولدين لم يعدلوا عن التفعيلات القديمة، ولم تخرج أوزانهم الجديدة عن الدوائر العروضية التي عُرِفت قبل اختراع هذه الألوان من الشعر، وإنما الذي فعله هؤلاء المولدون أنهم غيَّروا بعض أشكال الشعر، واحتفظوا بالوزن الأساسي وبلون من ألوان القافية، أي إنهم في تجديدهم هذا لم يستطيعوا أن يحيدوا عن المثل القديمة في الشعر العربي، ومع ذلك كله فلو ذهبنا — جدلًا — إلى أن الموشحات الأندلسية والبليق المصري والدوبيت الفارسي تجديد في الوزن العربي — مع أننا لا نوافق على هذا الرأي — فإن هذه الألوان من الشعر كانت جزءًا يسيرًا جدًّا بجانب الشعر الآخَر الذي خلفه الأندلسيون والمصريون والفرس، والذي حافَظَ فيه الشعراء على الأوزان القديمة، وإذن فالوزن مثل آخَر من المثل العليا لشعراء العربية جميعًا، لم يُصِبْه تغيير إلى الآن.

كذلك نقول عن القافية وعن الأساليب الشعرية العربية، فهذه كلها مثل من مثل الشعر العربي التي اتبعها الشعراء في كل العصور والبيئات، وحافَظَ عليها الشعراء أشد المحافظة، حتى هؤلاء الشعراء الذي نزعم أنهم أسرفوا في التجديد، فالشاعر أبو نواس مثلًا الذي هاجَمَ الأساليب القديمة وتهكَّمَ بها، لم يستطع أن يغيِّر هذه الأساليب ولا طرائقه في التعبير، وكذلك نقول عن المجددين اللفظيين من أصحاب البديع، الذين أسرفوا في التلاعب اللفظي، واستخدام ألوان الزينة البديعية، فهم لم يستطيعوا أن يعدلوا عن عمود الشعر القديم، فلم يبتكروا قافية غير القافية التي نهج عليها القدماء، ولا تفعيلات غير التي عرفتها دوائر العروض، ولم يستخدموا ألفاظًا غير عربية.

معنى ذلك كله أن الشعر العربي في كل عصوره وبيئاته يشترك في هذه الخصائص التي أصبحت مثلًا للشعراء، فلا نستطيع إذن أن نقول: إن مصر لم تظهر شخصيتها في الشعر، أو إن المصريين قلَّدوا العباسيين واتخذوهم مثلًا لهم؛ لأن شعراء مصر اتبعوا هذه الخصائص العامة، وكذلك لا نستطيع أن نقول: إن الأندلس أظهرت شخصيتها بأن أوجدت الموشحات، فالذين زعموا أن العباسيين كانوا مثلًا عليًّا لشعراء العرب لم يدركوا فن الشعر العربي حق إدراكه، ونظروا إلى الشعر نظرة خاطفة، فتوهَّموا أن العباسيين كانوا مثلًا للشعر العربي. ألم يذهب القدماء إلى أن ابن هانئ الأندلسي كان يقلِّد المتنبي حتى لُقِّبَ بمتنبي الغرب؟ ألم يقل القدماء أيضًا: إن الأمير تميم بن المعز كان يقلِّد ابن المعتز وينهج نهجه؟ فإذا كان القدماء ذهبوا إلى أن العباسيين كانوا أساتذة لشعراء مصر والمغرب والأندلس، فلِمَ لا يذهب هؤلاء أيضًا إلى أن العباسيين كانوا مثلًا عليًّا للشعر العربي؟ الواقع أن العباسيين أنفسهم خضعوا لتقاليد الشعر العربي وخصائصه، شأنهم في ذلك شأن جميع شعراء العربية في كل العصور وكل البيئات، فلم يكن العباسيون مثلًا عليًّا لغيرهم من شعراء الأقاليم العربية.

وإذا كان شعراء العربية اشتركوا جميعًا في هذه الخصائص، فإنهم اختلفوا في المعاني التي تحدَّثوا عنها باختلاف عصورهم وبيئاتهم، فنحن إذا أردنا أن نبحث عن شخصية مصر في الشعر، فنحن لا نجدها في الأوزان، ولا في القوافي، ولا في اللفظ، ولا في أساليب الشعر، بل نجدها في المعاني التي ذكرها الشعراء، وفي الأخيلة الشعرية، وهنا فقط نستطيع أن نقول: إن الشعر المصري صوَّرَ البيئة المصرية والحياة المصرية أصدق تمثيل، بحيث إنك إذا قرأت هذا الشعر المصري لا تستطيع أن تنسبه إلى قطر غير مصر.

فمن ناحية الشعر السياسي يعتبر شعر مصر الفاطمية سجلًّا للأحداث التي جرت في هذا العصر. حقيقة ضاع جل هذا الشعر السياسي، ولكننا نستطيع أن نحكم على ذلك بما بقي لنا من آثار هذا الشعر، وقد ذكرنا شيئًا عن شعراء القصر وشعراء الوزراء، وأن هؤلاء الشعراء كانوا لسان الدولة في مثل هذه الأحداث السياسية، وكذلك كان أمر غيرهم من الشعراء الذين كانوا ينشدون الخليفة أو الوزير، ومن البديه أن ما كان يُنشَد من الشعر السياسي هو صورة لحياة مصر السياسية دون غيرها من الأقطار الأخرى.

ورأينا جانبًا من الشعر المصري في الزهد والدين بجانب الشعر المصري في المجون والإباحة، وهذان اللونان من ألوان الشعر المصري يدلان دلالة صريحة على ناحية هامة من نواحي الحياة في الشعب المصري؛ فقد ذكرنا أن الشعب المصري شعب يميل إلى التمسك بأهداب الدين، وأنه شعب يعمل لآخرته، ولكنا في الوقت نفسه نراه شعبًا يميل إلى المجون في حياته، وأنه شعب يميل لدنياه فيأخذ بنصيب من متاع الدنيا، فمصر على هذا النحو متناقضة مضطربة بين متاع النفس ومتاع الجسد، وإذا الشعر المصري يضطرب أيضًا فيمثِّل الناحيتين من حياة هذا الشعب، ولعل هذه الظاهرة لا تزال ماثلة إلى اليوم في حياة المصريين، وفي شعر المصريين، والذين درسوا الشعب المصري عجبوا للفكاهة والدعابة المصرية، وكيف يرسل المصريون الفكاهة تلو الفكاهة، والنادرة بعد النادرة، وهم يضحكون على مسمع هذه الفكاهات والنوادر بأصوات عالية، وذكر الكتَّاب أن الفكاهة المصرية تدل على ذوق المصريين وسرعة بديهتهم، وعلى وعي شديد في تذوُّقها. وزعم بعض الكتَّاب أن المصريين أكثر الشعوب حبًّا للفكاهة وكلفًا بإطلاقها وسماعها، وأن الفكاهة تجري في دم كل مصري، ولكن هذه الفكاهات المصرية أكثرها في الحديث عن الناحية الجنسية، وهي تتناول بعض أعضاء الجسم، حتى إن أشد ألوان الفكاهة المصرية إضحاكًا هي هذه الفكاهات التي تتحدث عن العلاقة الجنسية أو أعضاء الجسم، وهذا يؤيِّد ما ذهبنا إليه من أن للمصريين لونين من الحياة؛ لونًا يميلون فيه إلى المجون، ولونًا آخَر يميلون فيه إلى الدين، فإذا الشعر المصري في كل عصوره يمثِّل هذين اللونين، وقد رأينا صورًا لهما في الشعر المصري في العصر الفاطمي.

ونضيف إلى ذلك كله أن مصر بما تمتاز به من هذا الجو البديع الذي تكاد تنفرد به، وأرض خصبة تُروَى في أوقات منتظمة، جعلت المصريين شعبًا يميل إلى الهدوء واللين في كل شيء، وظهر أثر ذلك في التفكير عند المصريين، فنحن لا نكاد نجد عند المصريين عمقًا في تفكيرهم وفي دراساتهم المختلفة، ولعل هذا هو السبب في أننا لا نجد فيلسوفًا مصريًّا، ولا نجد فلسفة مصرية لها أثرها في تاريخ الفكر البشري. ونحن نعجب لهذا الشعب العظيم الذي استطاع أن يهضم كل المدنيات التي ظهرت، وعرف كل الدراسات المتنوعة، بل استطاع أن يمصر الشعوب التي وفدت على مصر، ومع هذه القوة الكامنة في مصر لم ينتج المصريون فلسفة خاصة بهم. ورُبَّ معترضٍ يقول: إن مدرسة الإسكندرية أوجدت فلسفةً تباين الفلسفة الهلينية بعض التباين، ولكن فاته أن فلاسفة مدرسة الإسكندرية لم يكونوا من المصريين، بل كانوا من الغرباء الذين وفدوا على مصر لطلب العلم على أساتذة مدرسة الإسكندرية.

وقد ذهب بعض مؤرِّخي مدرسة الإسكندرية إلى أن أفلوطين من صعيد مصر، وأنه تأثَّرَ بالبيئة المصرية والحياة المصرية، وظهر ذلك في آرائه التي حاوَلَ فيها أن يقرِّب بين فلسفة اليونان والمسيحية واليهودية، ولكن حياة أفلوطين لم تكن كلها في مصر، فقد وفد على الإسكندرية سنة ٢٣٣، وأقام إحدى عشرة سنة في الاستماع إلى الفلسفة اليونانية، ثم رحل عن مصر إلى سوريا والعراق، وفي سنة ٢٤٥م رحل إلى رومة حيث لبث بقية سني حياته إلى أن توفي سنة ٢٧٠م. فآراء أفلوطين لم تكن بتأثير البيئة المصرية، ولكنها كانت بتأثير هذه الرحلات التي قام بها، فمدرسة الإسكندرية على الرغم من استمرارها في مصر عدة قرون، لم تؤثِّر في المصريين تأثيرًا له خطره، والذي قبله المصريون من دروسها هو شيء قريب إلى عقلية الشعب المصري التي تميل إلى كل شيء بسيط لين؛ ولذلك لم تمكث مدرسة الإسكندرية الفلسفية طويلًا عقب الفتح العربي؛ إذ انتقلت تعاليمها إلى الرها وحران وأنطاكية ونصيبين، إلى أن أعاد الفاطميون تعاليم المدرسة الإسكندرية مصبوغة بالصبغة الإسلامية، ثم خرجت هذه التعاليم من مصر بانقراض الدولة الفاطمية، ولم تَعُدْ إليها إلى الآن، وأغلب الظن أنها لن تعود مرة أخرى إلى مصر، وفي تاريخ الحياة الصوفية في مصر لم نجد صوفيًّا له فكرة متميزة به، وإذا قلنا: إن ذا النون المصري كان من أوائل الصوفية الذين لهم رأي في وحدة الوجود؛ فإن تعاليمه لم تزدهر في مصر، وإنما الذين حملوا آراءه من غير المصريين، وذلك كله لأن المصريين شعب يميل إلى الهدوء واللين في حياتهم وفي تفكيرهم، وذلك من تأثير البيئة المصرية.

وغلبت هذه الطبيعة المصرية على الشعراء؛ فنراهم هادئين في تفكيرهم، وفي ميلهم إلى اتخاذ الأوزان الخفيفة الهادئة التي تلائِم طبيعتهم، وظهر في وصفهم للطبيعة تلك الصور الهادئة التي ليس بها تعقيد الفلاسفة، ولا عمق المفكِّرين، إنما كانت صورهم هي صور الحياة اليومية التي كان يحياها المصريون.

والمصري عُرِف منذ القدم بشدة تعلُّقه ببيئته، لا يريد الابتعاد عن حياته التي عرفها منذ أدرك الحياة، وإذا غاب عن بيئته فهو يحن إليها حنينًا شديدًا جدًّا، ولا يلبث أن يعود إليها، وفي شعر مصر الفاطمية نجد الشعراء يعنون بتصوير هذه البيئة، ولم يحاول الشاعر المصري أن يخرج فنه عن دائرة هذه الحياة التي حوله، ومن هنا كان تصوير الشعر المصري للبيئة المصرية وللحياة المصرية في صور متلاحقة تكاد تكون حسية، فإذا قرأنا هذه الأشعار في تصوير هذه البيئة، لا نستطيع أن ننسبها إلى بيئة أخرى غير بيئة مصر، ولا يصوِّر الشاعر شعبًا غير شعب مصر، فليطمئن الذين زعموا أن مصر لم تُنتِج أدبًا، أو الذين يزعمون أن مصر لم تظهر شخصيتها في الشعر، إلى أن مصر كان لها شخصية ظاهرة واضحة في الشعر المصري في العصر الفاطمي، ثم العصور التي وليت هذا العصر، وأن الشعر المصري يصوِّر حياة المصريين المتشعبة النواحي أصدق تمثيل.

أما أخيلة المصريين في التعبير عن تصوير بيئتهم وألوان حياتهم، فهي أخيلة مستمَدَّة من بيئتهم ومن حياتهم أيضًا، فالفاطميون في أشعارهم التي أوردنا بعض صورها استخدموا الألوان الحسية، فاستعمال الجناس والطباق إلى غير ذلك من ألوان الفن تمثل لنا أخيلة شعراء العصر الفاطمي بأنها صور منتزعة من الحياة الفاطمية، وأن توسُّع الشعراء الفاطميين في استعمال هذه الألوان والمغالاة في استخدامها هي ضرورة اضطرتهم إليها حياة العصر الفاطمي نفسه. حقيقة نرى عند شعراء مصر قبل العصر الفاطمي هذه الألوان الحسية في شعرهم، وقد تحدَّثْنا عنها في كتابنا «أدب مصر الإسلامية»، وأوردنا شيئًا من شعر شعراء هذا العصر، مما يدل على أن هذا اللون من الفن عرفته مصر الإسلامية، ولكن مصر الفاطمية كانت تمتاز بالغلو في كل شيء؛ فقد رأينا غلو الفاطميين في الدين، وغلوهم في اللهو، وغلوهم في التزين والتجمل، وغلوهم في الملبس والمسكن؛ غلو في أعياد فرحهم، وغلو في ذكريات مآتمهم؛ فظهر هذا الغلو في فن الشعر ظهوره في نواحي الحياة المختلفة، فأسرف الشعراء في العصر الفاطمي في استخدام ألوان الزينة البديعية حتى تلائم أشراف الفاطميين في حياتهم، فإن الحياة كانت تمد الشعراء بهذه الألوان الحسية عن الزينة. ليس معنى ذلك أن الشعراء في غير مصر الفاطمية لم يعرفوا الزينة البديعية، أو أنهم لم يسرفوا في استخدامها، بل كانت الزينة البديعية في الشعر العربي أقدم عهدًا من الفاطميين، وإن هذه الزينة عرفها شعراء العراق وغير العراق قبل أن تقوم دولة الفاطميين في مصر، فقد فتنت الزينة البديعية الناس جميعًا في كل البلاد العربية، وأخذ الشعراء في استخدامها في شعرهم لإرضاء ذوقهم الفني، وإرضاء الجمهور الذي فُتِن بها، وتبع شعراء مصر الفاطمية تيار الشعر العربي، ولم يتخلَّفوا عنه، وإنما أسرفوا في استخدام هذه المحسنات البديعية، فسبقوا غيرهم في مضماره، وذلك لما في المصريين من دقة الحس، ورقة الشعور، وميل إلى الفكاهة، وخفة الروح، فإذا بك لا تشعر أن بالشعر المصري هذا التكلُّف الذي يظهر عند غير المصريين من الشعراء، ولا تلمس جهد الشاعر في الحصول على هذه الصورة الفنية التي ابتدعها في شعره، فالصور أمامهم وبين أيديهم ينتقون منها ما يشاءون دون جهد، فأحسنوا التحدث عن هذه الصور وأحسنوا تعليلها، وهي صور مصرية وتعليلات مصرية منتزعة من الحياة المصرية الحضرية.

وإذن فنستطيع أن نطمئن أيضًا إلى أن أخيلة المصريين كانت مصرية أيضًا، لم يتبعوا فيها غيرهم من شعراء البلاد العربية، وهكذا ظهرت شخصية مصر في الشعر بارزة واضحة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤