الفصل الأول

عقائد الفاطميين

جاء الفاطميون مصر يدعون إلى عقيدة تختلف عما كان عليه أكثر المسلمين؛ فقد كان السواد الأعظم من مسلمي مصر ينقسمون بين مذهب مالك وبين مذهب الشافعي، وقليل منهم مَن كان على مذهب أبي حنيفة، ومهما كانت الفروق بين هذه المذاهب فكلها من مذاهب أهل السنة والجماعة التي تخالف عقائد الفِرَق الشيعية وتُبايِنها؛ والفاطميون فرقة من فِرَق الشيعة عُرِفت بالإسماعيلية نسبةً إلى الإمام إسماعيل بن جعفر الصادق. قال الفاطميون بنبوة محمد عليه السلام، ووصاية علي بن أبي طالب،١ وإمامة ابنه الحسن، فالحسين، فزين العابدين، فمحمد الباقر، فجعفر الصادق. فهم على هذا النحو يتفقون في تسلسل الإمامة مع الشيعة الاثني عشرية، وبعد وفاة جعفر الصادق سنة ١٤٨ﻫ انقسمت الشيعة الإمامية إلى الإسماعيلية، وهي الفرقة التي قالت بإمامة إسماعيل بن جعفر، فابنه محمد بن إسماعيل، فأئمة «دور الستر» وهم: عبد الله بن محمد، فأحمد بن عبد الله، فالحسين بن أحمد،٢ ثم أئمة دور الظهور، وأوَّلهم عبيد الله المهدي مؤسِّس الدولة الفاطمية. وإذا قرأنا كتب دعاة الفاطميين استطعنا أن نطمئن إلى أن الفاطميين نظروا إلى أئمتهم على أنهم من البشر، يجري عليهم ما يجري على البشر من موت وحياة، فهم في ذلك يخالفون الغلاة من الشيعة الذين ألَّهوا عليًّا والأئمة من ذريته، وقالوا: إنهم أحياء يُرزَقون، ويخالفون الشيعة الاثني عشرية الذين ذهبوا إلى غيبة الإمام محمد بن الحسن العسكري، وأنه سيظل حيًّا حتى يعود ليملأ الدنيا عدلًا كما مُلِئت جورًا. وقال الفاطميون: إن الإمامة تنتقل من الآباء إلى الأبناء، ولا تنتقل من أخ إلى أخ بعد انتقالها من الحسن إلى الحسين ابنَيْ علي بن أبي طالب، فالأب ينصُّ على ابنه في حياته. وهذه العقيدة أصل من أصول المذهب في تسلسل الإمامة عند الفاطميين، وقد أوَّلُوا قول الله تعالى: وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ بأن الله — سبحانه وتعالى — لا يترك العالَمَ خاليًا من إمام ظاهر مكشوف أو باطن مستور، تنتقل الإمامة إليه بعد أبيه الإمام من نسل علي بن أبي طالب.
والإمام حجة الله على عباده، وهاديهم إلى الطريق القويم؛ فوجب على كل مؤمن أن يتبع هذا الإمام، وجعلوا ولاية الإمام أحد أركان الدين ودعائمه، بل ذهبوا إلى أن الولاية أفضل دعائم الدين وأقواها، ولا يستقيم الدين إلا بها. قال المؤيد في الدين هبة الله الشيرازي في مجالسه: «فلو أن رجلًا عمل بفرائض الله تعالى وسننه التي جاء بها رسوله كلها، ثم لم يقترن بعمله اعتقادُ ولايةِ الرسول — عليه الصلاة والسلام — الآتي بها لم يُغْنِ عنه ما عمل فتيلًا، ولم يتبع غير أهل النار سبيلًا؛ إذ ولاية الرسول كالمركز الذي تدور عليه دائرة الفرائض، فلا يصح وجودها إلا بوجوده، وإذا كانت هذه نصبة الرسول في حياته كانت نصبة مَن يولِّيه أمرَ دينِه مثلها، ومثل ذلك نصبة مَن يليه ومَن يلي مَن يليه ما انتقلت الولاية من واحد إلى واحد، وورثها ولد عن والد؛ إذ الولاية هي الأصل الذي يدور عليه موضوع الفرائض.»٣ وبهذا الرأي يقول الشيعة الإمامية جميعًا، وهو ما يتمايزون به عن جمهور أهل السنة، وأيَّد الشيعة الإمامية ومنهم الإسماعيلية هذا الرأيَّ، بقصة تروي أن النبي بعد أن أدَّى حجة الوداع ونزل عند «غدير خم» في اليوم الثامن عشر من ذي الحجة، هناك أُنزِل عليه قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ۖ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ۚ وَالله يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ، فذهب الشيعة إلى أن النبي الكريم صدع بأمْرِ ربه وأمَرَ بالصلاة، حتى إذا انتهى منها أخذ بيد علي بن أبي طالب فقال: «ألستم تعلمون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟» قالوا: بلى. قال: «ألستم تعلمون أني أولى بكل مؤمن من نفسه؟» قالوا: بلى. قال: «مَن كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه، اللهم وَالِ مَن والاه، وعادِ مَن عاداه، وانصر مَن نصَرَه، واخذلْ مَن خذَلَه، وأَدِرْ الحق معه حيث دار.» واعتبر الشيعة قول الرسول — عليه السلام — تبليغًا لأمر الله تعالى، ونصًّا صريحًا بوجوب اتِّبَاع عليٍّ وولايته، ومَن بعده من ذريته المنصوص عليهم. وقد أخرج أحمد بن حنبل في مسنده الكبير من حديث البراء بن عازب هذه القصة وأتبعها بقوله: «فلقيه — أي لقي عليًّا — عمر بن الخطاب، فقال: هنيئًا لك يابن أبي طالب أصبحت مولى كل مؤمن ومؤمنة.»٤
فالشيعة الإمامية على اتفاق مع الإسماعيلية في وجوب ولاية الوصي علي بن أبي طالب، ويَرْوُون عن النبي أحاديث كثيرة في شأن عليٍّ، مثل قولهم: «أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها.» و«علي مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبيَّ بعدي.» و«أنا المنذر وعليٌّ الهادي من بعدي.» و«النجوم أمان لأهل السماء، وأهل بيتي أمان لأهل الأرض.» و«مَن مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية.» و«أهل بيتي كسفينة نوح، مَن ركبها نجا ومَن تركها غرق.» و«إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي.»٥ واشترك الفاطميون في رواية هذه الأحاديث وغيرها.
واتخذ الفاطميون دليلًا آخَر أخذوه من تاريخ الأنبياء الذين سبقوا دور محمد — عليه السلام — فذهبوا إلى أن لكل نبي وصيًّا يكل إليه أمر المؤمنين، وأن الله تعالى هو الذي يوحي إلى نبيه بإعلان مَن اختاره الله وصيًّا لنبيه، وخليفةً له، فكان وصيَّ آدم هابيلُ، ووصيَّ نوح ابنُه سام، ووصيَّ إبراهيم ابنُه إسماعيل، وكان وصيَّ موسى أخاه هارون، ووصيَّ عيسى بن مريم حواريُّه شمعون الصفا — سمعان بن يونا المعروف بالصفا٦ — فوجب أن يكون لمحمد وصي، شأنه في ذلك شأن غيره من الأنبياء السابقين، وأن الله تعالى اختار علي بن أبي طالب لمرتبة الوصاية، ويُخَيَّل إليَّ أن الفاطميين أخذوا هذا الرأي مما جاء في إنجيل يوحنا في مواضع متعددة أن سمعان بن يونا هو الذي سمَّاه المسيحُ بطرسَ أو صفا، وأمره المسيح أن يرعى بعده خرافه أي جماعة المؤمنين، فصبغ الشيعة هذه العقيدة بالصبغة الإسلامية، اتخذوا لها أدلة من القرآن والأحاديث، على أن الإسماعيلية الذين جعلوا عليًّا وصيًّا للنبي جعلوا عليًّا من ناحية أخرى يشارك النبي في كل صفاته وخصائصه وفضائله، إلا في مرتبة النبوة والرسالة اللتين خُصَّ بهما النبي وحده، فكل الآيات القرآنية التي جاءت في النبي كقوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ، وإِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ ۖ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ إلى غير ذلك من الآيات، هي في محمد وفي علي أيضًا، بل جعلوها في كل الأئمة المنصوص عليهم من نسل عليٍّ.
ولم يكتفِ الإسماعيلية بذلك بل ذهبوا في تأويل كثير من آيات القرآن إلى أن الله تعالى يشير فيها إلى عليٍّ والأئمة من ذريته، مثل قوله تعالى: وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا، وقوله: وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ ۖ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ، وقوله: وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ، وقوله: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا وغير ذلك. فقد أُوِّلَتْ جميع هذه الآيات بأن الإشارة فيها إلى علي بن أبي طالب والأئمة من أهل بيته الذين اصطفاهم الله واختارهم دون غيرهم من البشر. فمحمد وعليٌّ عندهم صنوان متشابهان في كل الصفات إلا في مرتبة النبوة التي أطلقوا عليها اسم «مرتبة الاستيداع»، فقد اختص بها محمد عليه السلام، على حين اختص عليٌّ بمرتبة الوصاية والإمامة التي أطلقوا عليها اسم «مرتبة الاستقرار»؛٧ ولذلك يَرْوُون أن النبي قال: لم أزل أنا وأنت يا عليُّ من نور واحد ننتقل من الأصلاب الطاهرة إلى الأرحام الزكية، كلما ضمنا صلب ورحم ظهر لنا قدرة وعلم، حتى انتهينا إلى الجد الأفضل والأب الأكمل عبد المطلب، فانقسم ذلك النور نصفين في عبد الله وأبي طالب، فقال الله تعالى: «كُنْ يا هذا محمدًا، ويا هذا كُنْ عليًّا.»٨ ولهذه العقيدة التي تجعل من علي شريكًا وشبيهًا للنبي في كل شيء قال الإسماعيلية بعصمة الأنبياء والأوصياء والأئمة، بل لعل الفاطميين لم يدينوا بعصمة الأنبياء ولم يؤوِّلوا قصص الأنبياء هذا التأويل الذي نراه في كتبهم،٩ إلا لإثبات عصمة أئمتهم، ولا ينفرد الإسماعيلية بالقول بهذه العصمة، إنما هو رأي جميع فِرَق الشيعة، وكان موضوع عصمة الأنبياء من موضوعات الجدال بين علماء الكلام.

ولعل المشاركة الكبرى التي جعلوها بين محمد وعليٍّ هي عقيدتهم في التأويل الباطن، وهو العلم الذي خصُّوا أنفسهم به، وسُمُّوا من أجله بالباطنية، فقد جعلوا محمدًا هو صاحب تنزيل القرآن، وجعلوا عليًّا صاحب تأويله، أي إن القرآن الكريم أُنزِل على محمد بلفظه ومعناه الظاهر للناس، أما أسرار الدين وأسرار التأويل الباطن فقد أُنزِلت على محمد، ولكنه خصَّ بها عليًّا وأبناءه من بعده دون غيرهم من البشر، وأن عليًّا وأبناءه من الأئمة هم الذين يدلون الناس على هذه الأسرار. أخذ الإسماعيلية بعض آيات القرآن الكريم دليلًا على عقيدتهم في وجوب التأويل كقوله تعالى: وَكَذَٰلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ، وقوله: وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ، وقوله: سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا إلى غير ذلك من الآيات القرآنية التي ذهبوا في تفسيرها إلى أن الله تعالى جعل لدينه تأويلًا خاصًّا، يختلف عما يقول به جمهور أهل السنة والجماعة الذين أطلق الإسماعيلية عليهم لقب أهل الظاهر أو العامة.

واستدلوا بقول الله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ۖ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ۗ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا الله ۗ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ على أن الأنبياء والأوصياء والأئمة هم الراسخون في العلم، وهم الذين يعلمون تأويله، وذهب علماؤهم إلى أن قوله تعالى: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ نسق على الله؛ وقوله: يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ أخرجوه مخرج الحال بمعنى أنهم ليعلمونه ويقولون آمنا به؛ إذ لو لم يكن الراسخون في العلم يعلمونه لكان مستحيلًا منهم أن يقولوا آمنا به؛ لأن الإيمان معناه التصديق، والتصديق بالشيء لا يثبت إلا بعد إحاطة العلم به، ولا يجوز تصديق المرء بما لم يعلمه. ثم إنه ليس يخلو من أن يكون النبي علم بتأويل ما أتى به أو لم يعلم، فإن كان علم به بطل الوقف بعد لفظ «الله» في الآية السابقة، ووجب دخول النبي في شرط من علمه، وهو أول الراسخين في العلم وأفضلهم، وعنه أخذ مَن أخذ من الراسخين في العلم؛ وإن كان النبي لم يعلم فإرسال الله تعالى إياه بشيء إذا سئل عنه لا يعلمه، خارج عن الحكمة والرسالة.١٠ فالنبي كان يعلم بتأويل القرآن، ومَن يقوم مقام النبي في كل عصر يعلم هذا التأويل أيضًا، وضربوا مثلًا بقصة موسى مع الرجل الصالح التي وردت في القرآن الكريم بأن الله خص الرجل الصالح بأسرارٍ لم يعرف كنهَها نبيٌّ ناطقٌ من الأنبياء، وهو موسى، فقصة موسى هذه دليل عندهم على أن العامة من المسلمين أضعف وأقصر من النهوض بأعباء تأويل القرآن الذي اختص به الوصي والأئمة، وفي ذلك يقول المؤيد في الدين:
وإن أجزنا ظاهر الكلام
في ذاك أسلمناه للخصام
ففي اختلافات القران كثرة
من كل قول مع كل زمرة
يا قومُ سِرُّ الملكوت هذا
يجعل أصنامكم جذاذًا
سرٌّ له صاحب موسى الخِضْرَا
قال معي لن تستطيع صبرًا
وقال موسى سوف ألفى صابرًا
فلم يكن إذ ذاك إلا قاصرًا
تدبروا القصة ماذا يمَّمَا
من قَصِّها إن لم تكونوا نُوَّمًا
لعلكم أن تحسبوها سمرًا
إذن أسأتم النفوس النظرَا
مَن كان ذا عقل وذا عينين
يبلغ حقًّا مجمع البحرين١١
ولهم أدلة عقلية على وجوب التأويل أخذوها أيضًا من القرآن الكريم، كقوله تعالى: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ، وفي قوله: وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنفُسِكُمْ ۚ أَفَلَا تُبْصِرُونَ، فذهبوا إلى أن مَثالة الدين تُؤخَذ من خلقة السموات والأرض، وتركيب الأفلاك، وجميع ما يُتأمَّل مما خلقه الله تعالى، فقد ركزت في المخلوقات كل معاني الدين الذي حمله القرآن الكريم، فآيات القرآن إذن في حاجة إلى مَن يُخرِج كنوز هذه المعاني،١٢ وبناءً على هذه الطريقة التي اتخذوها لأنفسهم للتأويل، وهذه القاعدة التي بها يستدلون بما في هذه الطبيعة والمخلوقات على الدين؛ جعلوا المخلوقات قسمين: قسم ظاهر للعيان، وقسم باطن خفي، وجعلوا الظاهر يدل على الباطن، وسموا الباطن ممثولًا والظاهر مثلًا، ولذلك أستطيع أن أطلق على نظرية التأويل عندهم «نظرية المثل والممثول»،١٣ وقد أخذت هذا الاسم مما كتبه دعاة الفاطميين، فالمؤيد في الدين يقول في مجالسه: «خلق الله أمثالًا وممثولات؛ فجسم الإنسان مثل ونفسه ممثول، والدنيا مثل والآخرة ممثول، وإن هذه الأعلام التي خلقها الله تعالى، وجعل قوام الحياة بها من الشمس والقمر والنجوم، لها ذوات قائمة يحل منها محل المثل، وإن قواها الباطنة التي تؤثِّر في المصنوعات هي ممثول تلك الأمثال.»١٤ وقول صاحب المجالس المستنصرية: «معشر المؤمنين، إن الله تعالى ضرب لكم الأمثال جملًا وتفصيلًا، ولم يستحِ من صغر المثال إذا بيَّنَ به ممثولًا، وجعل ظاهر القرآن على باطنه دليلًا.»١٥ ويقول المؤيد في الدين:
اقْصُدْ حمى ممثوله دون المثل
ذا إبر النحل وهذا كالعسل١٦

وإذن فالقاعدة في التأويل عند الإسماعيلية هي تطبيق نظرية المثل والممثول، فظاهر القرآن مثل وباطنه ممثولات، والظاهر: هو هذه المعاني التي يعرفها العامة، وينطق بها علماء أهل السنة. والباطن: هو هذه المعاني التي يستخلصها الوصي والأئمة من أهل البيت دون سواهم من سائر المسلمين. وعلى الرغم من أن الإسماعيلية أتوا بأدلة من القرآن الكريم على التأويل وعلى نظرية المثل والممثول، فإن هذه النظرية وإن كانت قد صُبِغت بالصبغة الإسلامية، فإنها هي نظرية المثل الأفلاطونية القديمة، أدخلوها في عقيدتهم بعد أن غيَّروا فيها بما يتفق مع تعاليمهم وعقائدهم الإسلامية.

ويُخَيَّل إليَّ أن فكرة التأويل الباطن على هذا النحو الذي نراه عند الإسماعيلية لم تُعرَف لدى المسلمين قبل عصر الترجمة والحركة العلمية التي ظهرت في عصر المأمون العباسي وبعده، وبعد أن تُرجِمت الكتب الفلسفية اليونانية، فالمعروف أن بعض فلاسفة الإسكندرية، وعلى الأخص فيلون وتلاميذه، حاولوا تأويل التوراة تأويلًا باطنيًّا — إنْ صحَّ هذا التعبير — وأن القديس أوغسطين هو أول مَن حاوَلَ تأويل الإنجيل تأويلًا باطنيًّا كذلك، وجاء الإسماعيلية وأخذوا فكرة التأويل مما نُقِل إلى العرب من آثار هؤلاء الفلاسفة، ولكنهم صبغوا تأويلهم بالصبغة الإسلامية كعادتهم دائمًا في كل ما أخذوه عن العلوم والفلسفة الأجنبية، ومع ذلك كله لم يستطع الإسماعيلية ألَّا يتخلوا جملةً عما أخذوه من العلوم والفلسفة الأجنبية، فقد ظهرت في تأويلاتهم آثارُ هذه العلوم والفلسفة كما ظهر تأثُّرهم بالعقائد والأديان القديمة التي غمرت العالم قبل الإسلام وبعده.

ويُخَيَّل إليَّ كذلك أنهم لم يتخذوا هذا التأويل الباطن إلا إمعانًا منهم في زيادة شرف علي بن أبي طالب والأئمة، وخصهم بميزات تبعدهم بعض البُعْد من سائر البشر، فكأنَّ الولاية هي المحور الذي تدور عليه جميع العقائد الفاطمية، فتأويلاتهم وفلسفتهم في الإبداع والخلق وكل عقيدة في النفس والعقل كلها تنتهي إلى نتيجة واحدة هي الوصي والأئمة، ففي التأويل الباطن أن «وجه الله» و«يد الله» و«جنب الله» هم الأئمة، والشمس محمد، والقمر علي والأئمة، والأَهِلَّة هم الأئمة، بل ذهبوا كما ذهب بعض فلاسفة الإسكندرية إلى أن الله أبدع الكلمة «اللوجوس»، فقالوا: إن الكلمة هي «كن» من قوله تعالى: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ، وكلمة «كن» حرفان كاف ونون، ولكنها في التأويل الباطن مثلان للحدود الروحانية المقربة إلى الله، فالكاف رمز للعقل الأول أو «القلم» وهو أقرب الحدود إلى الله، وهو الذي ورد فيه الحديث النبوي الذي رواه البخاري: «أول ما خلق الله القلم، فقال له: أقبلْ فأقبَلَ. فقال له: أدبرْ فأدبَرَ. فقال: بعزتي وجلالي ما خلقت خلقًا هو أعز عليَّ منك، بك أثيب وبك أعاقب … إلخ.» والعقل الأول الذي ذُكِر في ظاهر القرآن بالقلم، ولأنه أقرب الحدود إلى الله تعالى وأسبقهم إلى معرفة الله وتوحيده سُمِّي بالسابق. أما النون فهي رمز للنفس الكلية، وهي التي رمز إليها في القرآن باللوح وسُمِّيت بالتالي، وبناء على نظرية المثل والممثول يجب أن يكون في العالم الأرضي عالم جسماني ظاهر يماثل العالم الروحاني الباطن؛ فالإمام هو مثل السابق، وحجته مثل التالي، وكل خصائص العقل الأول «السابق» جُعِلت للإمام، فمثلًا نرى الإسماعيلية ينزِّهون الله تعالى عن كل الصفات والأسماء، وقالوا: إن أسماء الله الحسنى هي أسماء العقل الأول «السابق»، وإن الله سبحانه يتعالى على أن يتَّصِف بصفة، وإنه ليس أيسًا وليس لبسًا، إنما كل ما جاء في القرآن الكريم من صفات الله فهي صفات العقل الأول «السابق»، وإذن فهذه الصفات يُوصَف بها أيضًا مثل العقل الأول في العالم الجسماني وهو الإمام، وعلى ضوء هذه النظرية نستطيع فهم قول ابن هانئ الأندلسي في مدح المعز لدين الله الفاطمي:

ما شئتَ لا ما شاءتْ الأقدارُ
فاحكمْ فأنتَ الواحدُ القهَّارُ

فقد فهم القدماء من هذا البيت وأمثاله من شعر ابن هانئ أنه يؤلِّه إمامه، وحكموا بأن الأئمة الفاطميين ادَّعُوا الألوهية، بدليل هذا البيت وأمثاله، ولو كان القدماء يعرفون حقيقة العقيدة الفاطمية ما وجدوا في هذا القول تأليهًا ولا غلوًّا في العقيدة، وسنتحدث عن ذلك كله في باب الشعر.

وإذن فالتأويل الباطن عندهم لسبب واحد هو إغداق صفات التمجيد والتفخيم لأئمتهم. على أن الإسماعيلية الذين قالوا بالباطن وضرورته، قالوا أيضًا بالظاهر معه، فلا يُقبَل الظاهر دون الباطن، ولا ينفع الباطن دون الظاهر، «فإن الظاهر والباطن كالروح والجسد إذا اجتمعا انقدحت الفوائد وعُرِفت المقاصد».١٧ ومَن عبَدَ اللهَ تعالى بظاهر دون باطن، أو بباطن دون ظاهر، فهو ممَّن يعبده على حرف،١٨ والظاهر عندهم هو هذه العبادة العملية من طهارة، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت، والجهاد في سبيل الله، فيجب على المؤمن أن يؤدي هذه الفرائض العملية الظاهرة كما ورد في كتاب الله وما سنَّه رسول الله، وفي الوقت نفسه يجب أن يؤمن بعلم الباطن الذي هو العبادة العلمية التي خصَّ بها الوصي والأئمة، فالفاطميون إذن لم يعملوا على طرح الأديان وإبطال العبادة كما وهمَ الكتَّاب والمؤرخون الذين تحدَّثوا عن الفاطميين، بل كانوا كما قال شاعرهم المؤيد في الدين:
فإننا لأهل علم وعمل
لله دنا بهما عز وجل١٩

وشاركوا غيرهم من المسلمين في هذه العبادة الظاهرة، ودعوا إليها دعواتهم إلى عبادتهم الباطنة، وإذا قرأنا كتب الفقه الإسماعيلي مثل كتاب دعائم الإسلام للقاضي النعمان بن محمد، وكتاب المجالس المستنصرية للداعي ثقة الإمام علم الإسلام؛ وجدنا أن الفقه الإسماعيلي لا يكاد يختلف عن فقه أهل السنة وفقه مالك على وجه خاصٍّ، مع أن الإسماعيلية لا يأخذون في أحكامهم الشرعية بالرأي ولا بالقياس، إنما يأخذون بالأحكام التي يشرعها الإمام، ومع ذلك لم يختلفوا عن مذهب أهل السنة إلا في بعض مسائل فرعية، لعل أهمها مسألة ابتداء شهر الصوم، فقد كانت هذه المسألة من أهم المسائل التي أثارت سخط المسلمين على الفاطميين، ذلك أن الفاطميين لا يبدءون صوم رمضان برؤية الهلال على ما يذهب إليه جمهور أهل السنة، فقد وجد الفاطميون أن الهلال إذا غمَّ في بلد من البلاد بسبب سحاب أو غيره، فقد يظهر في بلد آخَر قريب، فلا يصوم أهل البلد الأول على حين يصوم أهل البلد الآخَر، وكثيرًا ما يحدث اضطراب في بدء الصيام في البلد الواحد، فيقع ما يُسمَّى بيوم الشك، وهو ما نشاهده كل عام إلى اليوم؛ ومن ثَمَّ لجأ الفاطميون إلى الفلك والحساب، فعملوا تقويمًا قمريًّا يحسبون بمقتضاه سير القمر، ويقدِّرون منازله حتى يعرفوا أن هلال رمضان قد أهَلَّ حقًّا، فجعلوا الشهور العربية شهرًا تامًّا، والتالي له ناقصًا دائمًا، وبذلك أصبح شعبان ناقصًا دائمًا ورمضان تامًّا دائمًا، ومن هذا التقويم الدقيق عرفوا متى يبدأ رمضان ومتى ينتهي، دون الرجوع إلى رؤية الهلال رؤية نظر، بل جعلوا قول النبي الكريم «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته» أنها رؤية استبصار لا رؤية إبصار. وهذا التقويم الفاطمي جعلهم يصومون قبل جمهور أهل السنة بيوم أو يومين، ويبدءون عيد الفطر قبل جمهور أهل السنة بيوم أو يومين، ومن هنا أساء المؤرخون والعلماء الذين تحدَّثوا عن الفاطميين فهْمَ حقيقة دعوتهم، ورَمَوْهم بالخروج عن الجماعة وعن الإسلام.

ومن الخلافات بين الفاطميين وجمهور أهل السنة، بل بين الشيعة عامة وبين السنيين: مسألة ميراث البنت، فالشيعة يورثون البنت كل ما تركه الأب إذا لم يترك ولدًا ذَكَرًا، ومن الخلافات أيضًا مسألة مسح الرجلين في الوضوء؛ فقد ذهب الشيعة إلى وجوب المسح، على حين قال أهل السنة بوجوب غسل الرجلين، ومن أهم الخلافات التي بين الشيعة الاثني عشرية والإسماعيلية أن الفرقة الأولى تقول بأن إمامهم الثاني عشر حيٌّ يُرزَق منذ اختفى في السرداب، وأنه سيظهر ليملأ الدنيا عدلًا كما مُلِئت جورًا. على حين يذهب الإسماعيلية إلى أن الإمام من البشر، يجري عليه ما يجري على البشر من حياة وموت، فمن السخف أن يقال: إن إمامًا يعيش طول هذه المدة. ومن الخلاف أيضًا قول الاثني عشرية بتحليل زواج المتعة، على حين يحرمه الإسماعيلية.

ولم يذهب الفاطميون بالقول بالرأي كالمعتزلة، ولا بالقياس كأهل السنة، بل رفضوا الأخذ بالرأي والقياس، وقالوا بالرجوع إلى الإمام المعصوم وإلى علوم أهل البيت التي خصهم بها الله تعالى دون غيرهم من سائر البشر، فعلم الباطن الذي خصَّ به الأئمة دعاهم إلى القول بأن إعجاز القرآن من ناحية المعنى أقوى من إعجازه من ناحية اللفظ، فالقرآن معجز بلفظه ومعناه، ولكن إعجازه يظهر بما يحتويه من معانٍ، وفي ذلك يقول المؤيد:

إنْ كان إعجازُ القرآن لفظًا
ولم يَنَلْ معناها منه حظًّا
صادفتم معقوده محلولًا
من أجل أن أنكرتم تأويلًا

وفكرة عصمة الإمام دعتهم كما دعت الشيعة عامةً إلى القول بعصمة الأنبياء، أما ما ورد في القرآن الكريم عن معاصي الأنبياء، فقد ذهبوا في تأويلها إلى أوجه لم يعرفها المفسرون، ولا أدري من أين أَتَوا بها. راعِ ما كتبناه عن تأويل الأنبياء في كتاب «ديوان المؤيد في الدين».

وهكذا ترى الفاطميين لا يكادون يختلفون في عبادتهم العملية الظاهرة عن غيرهم من المسلمين، فهم يحرِّمون ما حرمه الله تعالى، ويتجنَّبون المآثم والمعاصي، ويحللون ما أحله الله تعالى للمسلمين، ولكن التأويل الباطني للإسماعيلية هو الذي جعلهم يوسعون الهوة بينهم وبين غيرهم من المسلمين، فقد أرادوا بتأويلهم الباطني إسباغ الفضائل على الأئمة، فجعلوا يناسبون العقل الأول، وصفات الله وأسماؤه الحسنى المذكورة في القرآن الكريم جعلوها للعقل الأول، وتبعًا لذلك جعلوها للأئمة، أما الله — سبحانه وتعالى — فقد نزَّهوه عن كل صفة، ووحَّدوه التوحيد كله.

نوحِّد اللهَ ولا نشبه
فقد انتفت عنَّا بذاك الشبه٢٠

فالإمام مثل سائر البشر مكوَّن من جسم ونفس، وبعد موته يتحلل كل قسم إلى ما يناسبه، فالجسم الترابي يعود إلى التراب، والنفس الشريفة تعود إلى ما يجانسها ويناسبها، فتصبح نفس الإمام عقلًا من العقول المدبِّرة للعالم، فلا تتناسخ ولا تتلاشى؛ لأن الفاطميين لا يدينون بالتناسخ، وهي المنقصة التي رماهم بها خصومهم، ولا يقولون بالتلاشي، بل ناقشوا أصحاب هذه العقائد وسفَّهوا آراءَهم، كما كفَّروا الغلاة الذين ألهوا عليًّا والأئمة من أبنائه. قال المؤيد في الدين داعي الدعاة:

فكيف شرع الأنبياء ندفع
وما لنا إلا النبي مرجع
بنوره في الدرجات نرتقي
وبالكرام الكاتبين نلتقي
يا رب فالعن جاحدي الشرائع
وارمهم بأفجع الفجائع
والعن إلهي مَن يرى الإباحة
بلعنة فاضحة مجتاحة
والعن إلهي غاليًا وقاليًا
ولا تَذَرْ في الأرض منهم باقيًا
يا رب إنَّا منهم براء
هم واليهود عندنا سواء
فأخزهم وأخزِ مَن رمانا
بريبة ولقه الهوانا٢١

ويقول في الرد على القائلين بالتلاشي والتناسخ:

أيها المدعي التلاشي حمقًا
ذا الذي تدعي عليك وكيل
أترى هذه الصنائع طرًّا
عبثًا، ما لصانع محصول
حركات الأجرام قل لي لماذا؟
ولماذا طلوعها والأفول؟
ألها في مجالها الفعل أم لا؟
فبغير إذن يجوز تجول
إن تقل ذاك فعلها باختيار
أنكرتْ منك ما ادعيت العقول
إن فيما دنا من الماء والنار
على ما علا لنا التمثيل
ولئن قلت: ذاك غير اختيار
قلت: كل مدبر محمول
فإذا كان هكذا ثبت الحامل
الفاعل اللطيف الجليل
فإذا كان فاعل متقن الفعل
وما دونه له مفعول
فالتلاشي لفعله مستحيل
جَلَّ عما به عليه تحيل
والذي قال إنه النسخ والفسخ
وماذا بغير دنيا حلول
فهو عن جوهر النفوس البسيطا
ت ومن حيث بدؤها مسئول
فلئن كان يثبت الأصل منها
فكذا نحوه يكون القفول
ولئن كان نافيًا قيل مهلًا
فلهذي المشاهدات أصول
فثواب يكون بالأكل والشرب
فذاك العذاب والتنكيل٢٢
ومع هذا كله نرى المؤرخين والكتَّاب يرمون الفاطميين بالإباحة المطلقة، والقول بالتناسخ والحلول، إلى غير ذلك من الاتهامات التي أظهر البحث الحديث أن الفاطميين براء منها، على أني لا ألوم هؤلاء الكتَّاب الذين أظهروا العقيدة الفاطمية على أنها مباينة للإسلام وتوحيد الله، بقدر ما ألوم بعض الغلاة من الدعاة الذين غيَّروا المذهب الفاطمي، وخرجوا به عن منهجه الصحيح، حتى اضطر الأئمة إلى إعلان عصيان هؤلاء الدعاة وطردهم من الدعوة، وتحذير الناس من ضلالاتهم. نذكر من هؤلاء الدعاة: علي بن الفضل الذي كان من أسبق الدعاة في أواخر دور الستر الأول في إظهار الدعوة في اليمن، ولكنه ضل طريق رشده، فتبرَّأ منه الإمام وطلب من الداعي الحسين بن حوشب المعروف بمنصور اليمن أن يحاربه ويمحو أتباعه،٢٣ ونذكر أحمد بن الكيال الذي كان داعيًا للإسماعيلية فغيَّر المذهب ودعا لنفسه،٢٤ والقرامطة الذين استباحوا المحرمات، ونادَوا بالإباحة؛ فاضطر عبيد الله المهدي قبل ظهوره بالمغرب إلى عزلهم عن الدعوة، فحاربوه وقتلوا بعض أهل البيت وسلبوا متاعهم، فاضطر المهدي إلى الفرار منهم إلى الرملة فمصر، إلى أن رحل إلى شمال أفريقيا حيث أقام دولته،٢٥ واستمر العداء بين القرامطة والفاطميين ردحًا طويلًا من الزمان، وقامت الحروب بين الفريقين على نحو ما ذُكِر في كتب التاريخ، وكذلك نقول عن فرقة الدرزية التي ظهرت في عهد الحاكم بأمر الله، فأمثال هؤلاء الدعاة كانوا أسلحة ماضية ضد المذهب، حتى قال القاضي النعمان: «ذكر المعز لدين الله رجلًا أصابه بلاء عظيم في نفسه، ووصف ما صارت حاله إليه، وكان هذا الرجل قد ألحد في أولياء الله، وغلا في دينه، وقد كان قلد شيئًا منه وناله بسبب ذلك من سخط الأئمة ما نعوذ بالله منه، فقال المعز لدين الله لما ذكر ما صار حال هذا الرجل إليه: ما ألحد أحد فينا، ولا أراد إدخال النقص على شيء من أمرنا إلا إبتلاه الله في عاجل الدنيا ببلاء يكون نكالًا، ولَعذاب الآخرة أخزى وأشد وأبقى.
ثم ذكر مِن تجاوُز هذا الرجل وتعديه، وما أدخل على الدين من الشبهة على ضعفاء المؤمنين ما يطول ذكره. قال: وتقرَّرَ عند المنصور بالله أنه يقول: عندنا من حكمة الله وعلمه ما نزيل به الجبال، ولنا من أوليائنا في الدين مَن تزول السماوات والأرض، ولا يحول ولا يزول. فأعظم ذلك المنصور بالله من قوله، وأحضر جماعة من الأولياء، فذكر ذلك لهم عنه ولعنه، ثم قال المعز لدين الله: أعظم آيات موسى فلق البحر، فهذا الشقي ادَّعَى فوق ذلك لنفسه، وهو يُنسَب إلينا، ويدَّعِي علمنا ومذهبنا وقولنا. نحن نبرأ إلى الله من دعواه وقوله، وما ينسبه إلى نفسه، أن ينسب إلينا وإلى مَن يتصل بنا. ثم قال: سمعت القائم بأمر الله يقول: إنما أراد الدعاة إلى النار الذين انتسبوا إلينا بما ينحلونا إياه أنا نعلم الغيب وما تخفي الصدور، وأشباه ذلك مما افتروه علينا ونسبوه إلينا أن يجعلوه عدة لنفاقهم … إلخ.٢٦ وقال حميد الدين أحمد بن عبد الله الكرماني: إن أعظم الفِرَق ضلالًا فرقة الغلاة، ضلت وأضلت غيرها، فانسلخت عن جملة أهل الدين والديانة.»٢٧ ويقول المؤيد في الدين: «استعيذوا بالله من قوم يقولون بأفواههم أنهم شيعة، وهم من طلائع الكفر والإلحاد شر طليعة، يستوطئون مركب الإباحة، ويميلون ميل الراحة، ويحتجون بكون الصلاة إشارة إلى حدٍّ من حدود الدين، فإذا عرف سقطت الصلاة، وأن الزكاة إشارة إلى مثله فإذا عرفت بطلت الزكاة، وأن الصوم هو السكوت عن إفشاء سرهم إلى غير أهله، فإذا هم سكتوا لم تبق بهم حاجة إلى الصوم واحتمال كَدِّه، وأن النهي عن شرب الخمر هو عن موالاة بعض الأضداد، فإذا هم كفوا كان شربها حلالًا سهل القياد، ولا يزالون كذلك حتى يحلوا من تكاليف الشريعة كل عقد، ويردوا من مهاوي الردى في تحليل المحرمات شر ورد، وهؤلاء أضر بالدين وبالمؤمنين ممَّن شهر سيفه وشرع رمحه إلى أئمتهم بالبغضاء، ولم يزل مَن مَضَى مِن أمير المؤمنين عليٍّ والأئمةِ من ذريته إلى إمام الزمان براء إلى الله تعالى ممَّن هذه سبيله سرًّا وجهرًا، ينشرون في صحف الخزي على مَن دان دينهم … إلخ.»٢٨ فهؤلاء الدعاة الذين نسبوا أنفسهم إلى الدعوة الإسماعيلية، كانوا سببًا في أن يذهب المؤرخون القدماء ومَن تبعهم من المحدثين إلى فساد عقيدة الفاطميين، ومَن يتعمَّق في دراسة العقيدة الفاطمية كما جاءت في كتب دعاتهم وعلمائهم — وهي الكتب التي لا يقر بها إلا مَن بلغ درجة رفيعة في الدعوة — يجد الفاطميين براء من كثير مما نُسِب إليهم، ولولا هذا التأويل الباطني الذي جعلوه قوام عقيدتهم، لَتساووا مع غيرهم من المسلمين في كل شيء، ولما وجد خصومهم مطعنًا في عقيدتهم.

والذي ألاحظه على عقائد الفاطميين أنها مزيج من مجموعة المذاهب والديانات القديمة التي عُرِفت وانتشرت في الأقطار الإسلامية منذ زمن بعيد، بتأثير امتزاج المسلمين بغيرهم من الشعوب المختلفة، واستطاع الفاطميون أن يُخضِعوا هذه المذاهب والآراء القديمة للآراء الإسلامية، ويصبغوها بالصبغة الإسلامية، فالباحث يستطيع أن يتعقَّب أكثر عقائد الفاطميين، ويردها إلى أصولها القديمة، فمثلًا قال قدماء المصريين بأن روح الملوك تنتقل إلى العالم العلوي، وتصبح من الآلهة، فقال الفاطميون: إن روح الإمام تصبح مَلَكًا من الملائكة وعقلًا من العقول الروحانية المدبِّرة لعالم الكون والفساد، وذهب بعض فلاسفة اليونان إلى أن الإنسان لا يستطيع أن يرى شيئًا إلا بمساعدة ضوء الشمس أو القمر أو الشعل، فقال الفاطميون: إن العقل البشري في تبصُّره لا يستطيع الوصول إلى معرفة شيء وإدراكه إلا بمساعدة خارجية تأتيه من الأئمة، ومن أقوال فلاسفة اليونان أيضًا: إن النفس كانت صفحة بيضاء، فإذا حلت في جسم نُقِش عليها ما اكتسبه الإنسان، إن خيرًا فخير وإن شرًّا فشر، فقال الفاطميون بهذه المقالة. وأخذ الفاطميون عن العبرانيين والبابلية القديمة عقيدةَ الأدوار السبعة، وعن الأفلاطونية الحديثة مذهبَ الإبداع وظهور النفس الكلية عن العقل الكلي، وخلق العالم بوساطة الكلمة؛ مع خلاف أن الأفلاطونية الحديثة جعلت الكلمة هي العقل الكلي، على حين قال الإسماعيلية بأن الكلمة هي السابق والتالي، أي القلم واللوح، وأنها هي كلمة كُنْ من قوله تعالى: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ كما أخذ الإسماعيلية عن الأفلاطونية الحديثة الفيوضات ومراتبها، بأن جعلها الإسماعيلية الحدود الروحانية والجسمانية، وأخذوا عن أفلاطون نظريةَ المثل، وعن الزرادشتية القديمة مذهبَ التخميس، وعن الفيثاغوريين القدماء مذهبَهم في التوحيد وجَعْل الأعداد أصولًا لعقائدهم، بل كان نظام دعوتهم هو النظم الفيثاغورية عينها. وهكذا يستطيع الباحث أن يرد كثيرًا من الآراء والعقائد الفاطمية إلى أصولها الأولى، على الرغم من صبغ هذه الآراء والعقائد بالصبغة الإسلامية، حتى ليتوهم الباحث في كتبهم أن كل عقائدهم إسلامية لم يطرأ عليها أي علم أو رأي دخيل.

وخلاصة القول في العقائد الفاطمية: أن الولاية هي محور هذه العقائد، وأن فلسفتهم كلها تدور حول الإمام وتمجيده أكثر من أي شيء آخَر، وهم يعتقدون بكل ما يعتقد به غيرهم من المسلمين من موت وحياة وبعث ونشر وثواب وعقاب، ويقومون بفرائض الدين، ويحرِّمون ما حرَّمه الله، ولا يقولون بالتعطيل أو الإباحة، ولم يعتنقوا التناسخ أو الحلول أو التلاشي، غير أنهم قالوا بأدوار الأنبياء، فلكل نبيٍّ دوره، ويأتي النبي الذي بعده ينسخ شرع النبي قبله، فلما جاء دور محمد وهو خاتم الأنبياء جمع الله له كل أدوار الأنبياء قبله، فمحمد هو آدم وهو نوح وهو إبراهيم وهو موسى وهو عيسى، وأن ما حدث في أدوار هؤلاء الأنبياء يحدث مثله في دور محمد، وما حدث لأوصياء الأنبياء يحدث لوصي محمد والأئمة بعده، وأوَّلوا ذلك كله تأويلًا يتفق مع عقيدتهم هذه، ونراه واضحًا في أشعار شعرائهم ورسائل كتَّابهم، على النحو الذي نراه في باب الشعر من هذا الكتاب.

١  قال الفاطميون: إن مرتبة الوصاية أسمى من مرتبة الإمامة وأقل من مرتبة النبوة، فعلي بن أبي طالب في مرتبة أقل من مرتبة محمد — عليه السلام — وأرفع من مرتبة أبنائه الأئمة؛ ولذلك لا يعدونه إمامًا من أئمتهم، بل قالوا إنه وصي النبي، أما الشيعة الإمامية فقالوا بأن عليًّا وصي، وهو أول إمام من أئمتهم.
٢  اختلف المؤرخون في هؤلاء الأئمة المستورين، فمنهم مَن قال بأن عبد الله بن محمد هو عبد الله بن ميمون القداح الذي ينسب إليه بعض المؤرخين أصل الخلفاء الفاطميين، ولعل السر الذي لم يُعرَف كنهه إلى الآن هو في هؤلاء الأئمة المستورين، فالحديث عنهم أقرب إلى الخرافات منه إلى الواقع، فالإمام المستور عند الإسماعيلية لا يُعرَف إلا لأقرب الناس إليه، وإمعانًا في الستر يُلقِّبهم بلقبه ويسميهم باسمه ويكنِّيهم بكنيته. ومن هنا التبس أمر نسب الفاطميين على المؤرخين بحيث لم يقطعوا برأي فيه إلى الآن، وكل حديث عن هؤلاء المستورين يحتاج إلى أدلة لإثباته، ومن الصعب الحصول على هذه الأدلة؛ ولذلك تعمَّدنا إغفال الحديث عن نسب الفاطميين إلى أن نستطيع الحصول على نصوص يمكن الاعتماد عليها.
٣  المجالس المؤيدية: ج١، ص٥ (نسخة خطية بمكتبتي الخاصة).
٤  راجع الجزء الأول من مسند أحمد بن حنبل ص٨٤، ١١٨، ١١٩، ١٥٢، ٣٣٠، والجزء الرابع ص٢٨١، ٣٦٨، ٣٧٠، والجزء الخامس ص٣٤٧، ٣٥٠، ٣٥٨، ٣٦١. ففي هذه المواضع نجد هذا الحديث عن النبي عليه السلام، وفي سنن الترمذي «الكتاب السادس والأربعون الباب التاسع عشر» قول النبي لعلي بن أبي طالب: «أنت ولي كل مؤمن بعدي.»
٥  راجِعْ ذلك كله في كتاب بحار الأنوار، وفي المجالس المؤيدية في مواضع متفرقة.
٦  الفترات والقرانات لجعفر بن منصور اليمن (ص١٢ ب)، نسخة خطية بمكتبتي الخاصة.
٧  راجع ما كتبناه عن هذا الموضوع في كتاب «ديوان المؤيد في الدين داعي الدعاة».
٨  المجالس المؤيدية في مواضع متفرقة.
٩  راجع كتاب أساس التأويل للقاضي النعمان، نسخة خطية بمكتبة مدرسة اللغات الشرقية بلندن، وكتاب أسرار النطقاء، وكتاب سرائر النطقاء لجعفر بن منصور اليمن، والمجالس المؤيدية، وكلها نسخ خطية بمكتبتي الخاصة.
١٠  المجالس المؤيدية: في ج٢ ص٥١.
١١  «القصيدة الأولى» من ديوان المؤيد في الدين داعي الدعاة.
١٢  المجالس: ج٢، ص٥٢.
١٣  راجع نظرية المثل والممثول وأثرها في شعر مصر الفاطمية — بحث قُرِئ في مؤتمر المستشرقين الحادي والعشرين في باريس يوم ٢٩ يوليو سنة ١٩٤٨.
١٤  المجالس المؤيدية: المجلس الثامن من المائة الثانية.
١٥  المجالس المستنصرية: ص٩٨-٩٩ (طبع دار الفكر العربي).
١٦  القصيدة الأول من ديوان المؤيد في الدين داعي الدعاة.
١٧  المجالس المستنصرية: ص٣٧.
١٨  المجالس المستنصرية أيضًا: ص٢٩.
١٩  القصيدة الأولى من ديوان المؤيد في الدين داعي الدعاة.
٢٠  من القصيدة الأولى من ديوان المؤيد داعي الدعاة.
٢١  من القصيدة الأولى من ديوان المؤيد داعي الدعاة.
٢٢  القصيدة الخامسة من ديوان المؤيد داعي الدعاة.
٢٣  راجع كتاب افتتاح الدعوة للقاضي النعمان (نسخة خطية بمكتبتي الخاصة)، وكتاب كشف أسرار الباطنية لمحمد بن مالك اليماني: ص٢١ وما بعدها.
٢٤  راجع الشهرستاني.
٢٥  راجِع افتتاح الدعوة، واستتار الإمام، وسيرة جعفر الحاجب.
٢٦  المجالس والمسايرات: ورقة ٨٦م، نسخة خطية بمكتبتي الخاصة.
٢٧  كتاب تنبيه الهادي والمستهدي: نسخة خطية بمكتبتي.
٢٨  المجالس المؤيدية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤