الفصل الثاني

الشعر والأئمة

ذكرنا أن الفاطميين جاءوا بمصر يحملون مذهبًا دينيًّا خاصًّا يختلف عن العقائد التي كان يدين بها المصريون، وأن للمذهب الفاطمي مصطلحات خاصة لا يعرفها غير المنتسبين لفرقتهم، ولا يفهمها غيرهم، فكان لهذه العقائد الفاطمية تأثير قوي في شعر مصر الفاطمية، ذلك أن الشعراء الذين اتصلوا بالأئمة كانوا يمدحون هؤلاء الأئمة بالصفات التي صبغها المذهب على الأئمة، ويتعَمَّد الشاعر أن يستعمل في شعره المصطلحات التي اصطلح عليها علماء المذهب ودعاته، وكلما أمعَنَ الشاعر في استخدام هذه المصطلحات، وإدخال هذه الصفات في شعره، ازدادت قيمة الشاعر عند الأئمة وكبار رجال الدعوة، وكثر عطاؤه وزاد جاريه، فكان الشعراء على هذا النحو دعاة للأئمة والعقائد دون أن يكون لهم في مراتب الدعوة شأن.

وفي الوقت نفسه كان الشعراء سبب اتهام المذهب الفاطمي بالغلو والميل إلى الخروج عن تعاليم الإسلام؛ ذلك أن الشعر أسرع في الانتقال على أفواه الناس من كتب العلماء، فإذا كانت كتب الدعاة لا يقربها إلا أتباع مذهبهم، وأن مجالس حكمتهم لا يحضرها إلا مَن استجاب لهم، فالشعر يختلف عن ذلك كله، فإنه يسير بين الناس ويرويه الرواة، فإذا سمع مستمع إلى تلك الأبيات التي زخرت بعقائد الفاطميين دون أن يكون له إلمام بعقائد المذهب وما فيها من تأويلات باطنية، فهو لا يستطيع أن يدرك معنى ما جاء في هذا الشعر، وما قصد إليه الشاعر في مدائحه، ومن هنا يتهم الشاعر ويتهم المذهب نفسه، وقد رأينا كيف وصف العماد الأصفهاني شعر بعض شعراء الدولة الفاطمية، ونقرأ الآن أقوال النقَّاد والمؤرخين عن ابن هانئ الأندلسي، وما وُصِف به من شدة الغلو في مدح الأئمة حتى رماه بعضهم بالخروج عن الدين جملةً، فلو كان هؤلاء النقَّاد يعرفون التأويل الباطني لأقوال ابن هانئ، أو أنهم حاوَلوا معرفة ما أراده الشاعر وقصد إليه، لرأيناهم يرجعون عن كثير مما اتُّهِم به الشاعر، وذكرنا أن هذا من الأسباب التي أدَّتْ إلى ضياع شعر مصر الفاطمية، ولا سيما هذا اللون من الشعر الذي مُلِئ بالعقائد، والذي قيل في مدح الأئمة، ولكن من حسن الحظ أننا عثرنا على ديوان المؤيد في الدين داعي الدعاة، وديوان الأمير تميم بن المعز، وقصيدة في مدح العزيز، وكانت هذه النصوص في مكتبات رجال البهرة بالهند.

ففي مجموعة أشعار الإسماعيلية قصيدة تكاد تكون فريدة في نوعها في الشعر العربي كله، وهي لشاعر مجهول من شعراء العزيز بالله، وتُنسَب هذه القصيدة أحيانًا إلى المؤيد في الدين،١ وتُنسَب مرة أخرى إلى شاعر يُلقَّب بالإسكندراني،٢ ولكني أرفض نسبة هذه القصيدة إلى المؤيد؛ لأن العزيز بالله أقدم عهدًا من المؤيد في الدين، وأن المؤيد لم يمدح العزيز مطلقًا، إنما مدح الظاهر والمستنصر، وهما الإمامان اللذان عاصرهما المؤيد، ولم يمدح غيرهما من الأئمة، أضِفْ إلى ذلك كله أن هذه القصيدة تختلف عن شعر المؤيد من ناحية فن الشعر عند المؤيد.
أما الإسكندراني الذي تُنسَب إليه هذه القصيدة فلا نعرف عنه شيئًا، ولم تذكره المصادر التي بين أيدينا، وكل ما ورد عنه في المجموعة الخطية هو: هذه قصيدة الإسكندراني — رحمه الله — في مدح الإمام العزيز بالله قدَّسَ الله روحه، وهي الموسومة بذات الدوحة.٣
قلت: إن هذه القصيدة فريدة في بابها في الشعر العربي، ذلك أن الشاعر روى الحديث المنسوب إلى النبي : «أهل بيتي شجرة؛ أصلها ثابت، وفرعها في السماء.» وقول النبي أيضًا: «أنا شجرة، وفاطمة حملها، وعليٌّ لقاحها، والحسن والحسين ثمرتها، ومحبونا أهل البيت ورقها، حقًّا حقًّا أن يكونوا معنا في الجنة.»٤ وأمثال هذين الحديثين. فشاء له خياله أن يمدح إمامه العزيز بالله بقصيدة جعل لها جذعًا وفروعًا على مثال الشجرة، وسمَّى قصيدته ذات الدوحة، وأودعها كثيرًا من المصطلحات والعقائد الفاطمية، والقصيدة هي:
سئمت من البين الذي ليس يصدق
فلست بغير الحق والصدق أنطق
أأمدح رهطًا غير رهط محمد
وفي الجيد عهد للإمام موثق
ولا فضل لي في ذا بَلِ الفضل فضل من
بهم يحرم الله الأنام ويرزق
أئمة دين الله مذ قام دينه
وأنوار هذا الخلق من قبل يخلق
محبتهم فرض على الناس واجب
وعصيانهم كفر إلى النار موبق
هم العروة الوثقى، هم منهج الهدى
هم الغاية القصوى التي ليس تلحق
ولولاهم لم يخلق الله خلقه
ولم يك في الدنيا ضياء ورونق
هم دوحة الدين التي تثمر الهدى
وباليمن والتقوى تظل وتسبق
تجير من الأيام من يستظلها
وتحيي من الموت الجهول وتطلق
سقاها غمام الوحي علمًا فأينعت
بمكنون علم الله فالدين مونق
جرت في تخوم المحكمات عروقها
وفوق الثريا فرعها متعلق
هم الأصل منها والأئمة فرعها
ففي كل عصر نورها يتألق
إلى أن تسامت بالعزيز ولم تكن
بغير أبي المنصور لو كان يلئق
فباهت على الأيام أيامه التي
تكاد لها صم الجنادل تورق
سحائب جود لا يغيب غمامها
وبحر سماح بالندى يتدفق
لئن فقد الناس المعز لدينه
لقد قام بالدين العزيز الموفق
تجددت الدنيا علينا بيمنه
فلا العيش مذموم ولا الدهر أخرق
ولا الجود ممنوع ولا المجد خامل
ولا العرف مقطوع ولا النكر مطلق
تضوع نشر العدل في كل بلدة
ونشر الثناء الطيب للطيب يعبق
ملأت قلوب العارفين محبة
فكل على مقداره يتشوق
فلا صامت إلا بحبك ناطق
ولا مضمر إلا بشكرك ينطق
فضائل مولانا العزيز جليلة
إذا عدَّ فضل فهو بالفضل يسبق
غرست على بيت من الشعر دوحة
لها أغصن في وزنه حين تبسق
فألفت من بيت بيوتًا كثيرة
ولكنها مع ذاك لا تتفرق
فسبع وسبع عن يمين ويسرة
على كل حرف منه بيت مفلق
بمدح أمير المؤمنين لأنها
لعمري به من سائر الخلق أليق
عليه صلاة الله ما لاح كوكب
وما ناح في الأيك الحمام المطوق
فالشاعر هنا قد ألزَمَ نفسه بأن يبني بيتين من الشعر على كلِّ كلمة من كلمات البيت الأخير، وأن يفرِّع عن يمين وشمال هذا البيت الأخير أربعة عشر بيتًا، سبعة أبيات عن يمين، وسبعة عن شمال، حتى تتخذ القصيدة شكل الدوحة، وما رأينا أحدًا من شعراء العربية يتلاعَبُ بمثل هذا التلاعب قبل هذا الشاعر الفاطمي، ومَن يدري لعل التشجير الذي ظهر في الشعر الفارسي في القرن السادس الهجري وما بعده هو تطوُّر هذا التلاعب الذي نراه في هذه القصيدة، فقد أراد الشاعر أن يهدي إلى إمامه مثالًا من الشعر للشجرة التي ذُكِر في القرآن أن أصلها ثابت وفرعها في السماء، وشاء الشاعر إلا أن يهدي لإمامه هذه الدوحة، وجعل أبيات الفروع والأغصان سبعة عن يمين وسبعة عن شمال، تمثيلًا لرأي الفاطميين في الأدوار السبعة إذا انتهى دور سبعة من أئمة الدين تلاه دورٌ آخَر لسبعة آخَرين، وقد يكون ذلك أيضًا لأن المعز كان سابع الأسبوع الثاني من دعوة النبي محمد، وأن العزيز هو أول الأئمة في دور الأسبوع الثالث، وهكذا كان هذا الشاعر في تلاعبه في شكل القصيدة باطنيًّا؛ وهو باطني أيضًا في المعاني التي قصد إليها، ففي مدحه لإمامه أمْلَتْ عليه عقيدتُه الفاطمية هذه المعاني، ففي البيت الثاني يتحدَّث الشاعر عن العهد أو الميثاق الذي يأخذه الإمام على شيعته والمستجيبين لدعوته، وفي البيت الثالث يشير إلى أن الأئمة مثل للعقل الأول، وبما أن الله — سبحانه وتعالى — قال للعقل (وهو القلم أيضًا) «بك أثيب وبك أعاقب»،٥ فهذه الصفات تنطبق أيضًا على مثل العقل وهم الأئمة،٦ فيثيب الله مَن أطاع الأئمة، ويعاقب مَن خالفهم. وفي البيت الرابع يتحدَّث الشاعر عن تنقُّل نور الله منذ بدأ خَلْقه إلى أنْ حلَّ هذا النور في إمام العصر،٧ وفي البيت الخامس ذكر طاعة الأئمة، وأن طاعتهم فرض فرضه الله تعالى في القرآن الكريم بقوله تعالى: أَطِيعُوا الله وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ. وفي البيت الثامن وما بعده يتحدَّث الشاعر عن العلم الباطن الذي خُصَّ به الأئمة دون غيرهم، وأن هذا العلم هو الذي يحيي موتى النفوس، ويجلو غياهب الشك، ثم يتحدَّث الشاعر بعد ذلك عن عقيدة الفاطميين التي شارَكهم فيها غيرهم من المسلمين، وهي العقيدة التي تقول: إن الله لم يخلق هذا الخلق سدى، بل لعبادته وتوحيده، ولكن الفاطميين خالفوا المسلمين في الوسيلة التي تؤدي بهم إلى العبادة والتوحيد، ذلك أن العبادة عندهم لا تُقبَل إلا بموالاة الأئمة من أهل البيت، فكأنَّ العالَمَ لم يُخلَق إلا من أجل الأئمة الذين بهم يصل الإنسان إلى عبادة الله وتوحيد الله، فالشاعر في هذه القصيدة شاعر عقائد قبل كل شيء، عرف عقائده فاتخذ هذه العقائد وسيلةً لمدح الإمام، فالشاعر متأثِّر بهذه العقائد فظهرت في شعره.

وها هو ذا الأمير تميم بن المعز لدين الله، الذي نعرف عنه أنه ابن إمام من الأئمة، وأخ لإمام من أئمتهم، كان شاعرًا من أكبر شعراء عصره، مدح أباه وأخاه الإمام بعدة قصائد حُفِظت في ديوانه، وقد استطعنا الحصول على نسخة خطية من هذا الديوان، فرأينا الشاعر يصف الإمام بالمصطلحات الفاطمية، ويلم في شعره بعقائد أسرته، فهو يقول مرة للعزيز بالله:

جئتَ الخلافة لما أن دعتك كما
وافى لميقاته موسى على قدر
كالأرض جاد عليها الغيث منهملًا
فزانها بضروب الروض والزهر
ما أنت دون ملوك العالمين سوى
روح من القدس في جسم من البشر
نور لطيف تناهى منك جوهره
تناهيًا جاز حد الشمس والقمر
معنى من العلة الأولى التي سبقت
خلق الهيولي وبسط الأرض والمدر
فأنت بالله دون الخلق متصل
وأنت لله فيهم خير مؤتمر
وأنت آيته من نسل مرسله
وأنت خيرته الغراء من مضر
لو شئت لم تَرْضَ بالدنيا وساكنها
مثوى وكنت مليك الأنجم الزهر
ولو تفاطنت الألباب فيك درت
بأنها عنك في عجز وفي حصر٨

ففي هذه الأبيات نرى الشاعر يمدح إمامه بأنه ليس كغيره من الملوك؛ لأن نفس الإمام الشريفة اللطيفة هي روح قدسية حلت في جسم كثيف ترابي، وأن هذه النفس اللطيفة تناسب العقل — الذي سمَّاه هنا بالعلة الأولى على حسب الاصطلاحات الفلسفية والفاطمية أيضًا — وبما أن العقل هو أول ما خلق الله فهو سابق لخلق الهيولي، ولما كان العقل الأول هو أقرب مبدعات الله إليه سبحانه، فكذلك الإمام الذي هو مثل العقل أقرب المخلوقات إلى الله على هذه النسبة، وهو متصل بالله تعالى؛ لأن ممثوله العقل الأول متصل بالله تعالى، وأن الإمام آية الله تعالى من نسل النبي محمد؛ لأن ممثوله العقل هو آية الله الكبرى، وهكذا يستمر الأمير تميم في استغلال هذه الآراء والعقائد الفاطمية في مدح شقيقه الإمام العزيز بالله، بحيث لا نستطيع أن نصل إلى فهم أشعاره في هذا المديح دون التوصُّل إلى ذلك بتطبيق نظرية المثل والممثول. انظر إليه وهو يمدح الإمام:

فيابن الوصي ويابن البتول
ويابن نبي الهدى المصطفى
ويابن المشاعر والمروتين
ويابن الحطيم ويابن الصفا٩

فهو يصف الإمام بمعانٍ باطنية، فمناسك الحج في التأويل الباطن هي محمد ، وبما أن الوصي والأئمة يقومون مقام النبي بعد موته فهم يوصفون بصفاته، ويكرِّر هذا المعنى في أكثر قصائده، كقوله:

وابن الصفا والحجر وابن الهدى
وابن نبي الهدى وابن الكتاب١٠
فبجانب هذه الصفات التي وصف بها الإمام بأنه ابن الصفا وابن الحجر، نراه يصف إمامه بأنه ابن الكتاب، والكتاب هو القرآن، وفي التأويل الباطن أن القرآن والزبور والتوراة والإنجيل هي مثل، والممثول هو الوصي. يقول في ذلك صاحب المجالس المستنصرية: «فالقرآن العظيم هو هذا الكتاب الكريم، وقرينه في التأويل الحكيم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب — عليه أفضل الصلاة والتسليم — لأنه في زمانه قرين القرآن، والقرآن قرينه، وإنما يسمى الكتاب قرآنا لاقترانه بالعترة، يبيِّن ذلك قول رسول الله : «إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي، فإنهما لن يفترقا حتى يَرِدَا عليَّ الحوض.» «فالقرآن قرين كل واحد من الأئمة الطاهرين.»١١

ومرة أخرى يمدح الأمير تميم إمامه بصفات باطنية فيقول:

يا حجة الرحمن عند عباده
وشهابه في كل أمر مشكل
من لم يكن في صومه متقربًا
بك للإله فصومه لم يقبل١٢
فهو هنا يصف إمامه بأنه حجة الله في الأرض، وهو معنى من المعاني الباطنية، وصفة من صفات الأئمة،١٣ ويقول أيضًا: إن الإمام هو النور الذي يبيِّن للناس ما غمض عليهم، ويوضِّح ما أشكل، وفي البيت الثاني يشير إلى عقيدة الفاطميين التي تقول: إن فرائض الدين الإسلامي لا تقبل إلا باتباع المنصوص عليه من أهل البيت، فلا صيام لصائم ما لم يعتقد ولاية الأئمة؛ لأن الولاية — كما قلنا — هي محور عقيدة الفاطميين، ويكرِّر هذا المعنى الأخير في قوله:
وأنك أنت المصطفى الملك الذي
بطاعته من ربنا نتقرب
ولولاك كان الملك في غير أهله
وكان على أفق الشريعة غيهب
عليك صلاة الله ما طلع الضحى
وما حن للأوطان من يتغرب١٤

وهكذا نستطيع أن نستخرج من ديوان الأمير تميم أثر العقائد الفاطمية في شعره، ونستطيع أن نفهم ما قصد إليه الشاعر من معانٍ إذا طبقنا «نظرية المثل والممثول».

ولعل الشاعر المؤيد في الدين هبة الله بن موسى الشيرازي هو أول شاعر في هذا العصر وصل إلينا ديوان شعره، فإذا بشعره كله متأثِّر بالعقيدة الفاطمية؛ فالشاعر جعل كل قصائده التي في هذا الديوان في مدح الأئمة، ولم يتناول موضوعًا آخَر من موضوعات الشعر، وملأ قصائده كلها بالمصطلحات الفاطمية، حتى إني لا أكاد أعرف لهذا الديوان مثيلًا في الأدب الفاطمي، بل في الأدب العربي كله، فنحن نستطيع أن نتخذ هذا الديوان الشعري من كتب العقائد الفاطمية، ولا غرو في ذلك، فالمؤيد لم يكن شاعرًا متكسبًا بشعره مثل غيره من الشعراء، ولم يكن شاعرًا من الشعراء الذين تستهويهم حياة المجون والقصف واللهو، إنما كان عالمًا من علماء الدعوة، بل كانت إليه مرتبة داعي الدعاة، ولقَّبَه إمامه المستنصر بالحجة نزوعًا إلى رفع شأنه، فليس غريبًا أن ينقطع مثل هذا العالم الكبير إلى العلم، وأن يتفرَّغ إلى كل ما يتصل بنشر الدعوة بين الناس، فإذا أنشد شعرًا فيتغلب على هذا الشعر عقل العالم لا عاطفته.

ولذلك ترى هذه الأشعار الكثيرة التي ضمها ديوانه مُلِئت علمًا وتأويلًا، انظر إليه يقول في إحدى منظوماته التي وضعها «لمكاسرة» مخالفي مذهبه:

ما النون يا صاح ترى والكاف
فالخلق در وهما أصداف
إن الذي ظنهما حرفي هجا
مستوجب من ذي الحجا كل هجا
هل كافل بالأرض والسماء
يا عمي حرفان من الهجاء
تفهموا يا قوم ما الحرفان
إن نجاة المرء بالعرفان
ما فاعل العالم كالمفعول
كلا، ولا الحامل كالمحمول
والكاف والنون اللذان انتظما
صنع الإله منهما والتحما
وعنهما يأتلف الوجود
لمَن هو المشاهد الموجود
أنَّى يكونان من الموات
وعنهما منابع الحياة١٥
فقارئ مثل هذه الأبيات من نظم المؤيد يدرك لأول وهلة مقدار تأثُّرها بالمصطلحات الفاطمية التي لا يعرفها إلا مَن تعمَّق في دراسة المذهب الفاطمي، فإن قضية الإبداع، أو الحدود الروحانية والجسمانية عند الفاطميين تكاد أن تكون أدق موضوع عالَجَه جميع الدعاة والكتَّاب، فأفردوا لهذا الموضوع كتبًا خاصة، وفصولًا من كل كتاب من كتب الدعوة، والمؤيد في الدين في هذه الأبيات يشير إلى «الكاف» و«النون» وهما الحرفان اللذان يأتلف منهما لفظ «كن» من قوله تعالى: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ غير أن الفاطميين قالوا: إن «كن» هي الكلمة التي قامت بها السموات والأرض وما فيهما من خلق، وإن «الكاف» و«النون» ليسا بحرفي هجاء كما يتوهم العامة، بل هما ملكان روحانيان جليلا القدر عظيما الشأن، وقد أقسم الله — سبحانه وتعالى — بهما في قوله: ن ۚ وَالْقَلَمِ والله تعالى لا يقسم إلا بأعز مخلوقاته، «فالكاف» رمز من الله «بالقلم»، و«النون» رمز إلى «اللوح المحفوظ»، ويسمى «القلم» عندهم بالسابق، وهو العقل الكلي عند الفلاسفة، وله كل صفات وخصائص ذلك العقل كما تحدَّثَ عنه الفلاسفة، وهو أول ما أبدعه الله — سبحانه وتعالى — من الحدود الروحانية. ومن علماء المذهب مَن قال بأن وجود عالم الإبداع ظهر دفعة واحدة عن المبدع الحق تعالى لا من شيء، أي لا من مادة تقدَّمَتْ عليه، ولا بشيء، أي لا بآلة استعان بها عليه، ولا في شيء أي لا مع غيره يشاكله ويساويه، ولا مثل شيء أي لا مثل معلوم كان له نظير فيه، ولا لشيء أي لا لحاجة في زيادة ولا نقصان في ملكه تعالى ومشيئته، فكان وجود الكل كما رمز به الحكماء ولوح به العلماء عنه تعالى بحرف «الكاف» و«النون» فكان ما كان،١٦ ولكن أغلب العلماء على أن «القلم» كان أسبق في الوجود من اللوح، ولذلك سمي «القلم» بالسابق، و«اللوح» بالتالي، و«اللوح» هو ما يُسمَّى عند الفلاسفة بالنفس، وجعل الفاطميون لهذا الحد جميع الصفات التي وصف بها الفلاسفة النفس الكلية، ومن «القلم» و«اللوح» وبواسطتهما أوجد الله تعالى جميع المخلوقات في السموات والأرض، فهما كافِلَا العالَم،١٧ فحديثهم في الإبداع هو صورة لمراتب الفيوضات في الأفلاطونية الحديثة، وإن كان الفاطميون صبغوها بالصبغة الإسلامية، وبتطبيق نظرية المثل والممثول، يكون النبي مثلًا «للقلم»، والوصي مثلًا «للوح»، وبعد وفاة النبي يصبح الإمام مثلًا للقلم والحجة مثلًا للوح، وللمثل جميع صفات وخصائص الممثول، فكأن الفاطميين لم يبحثوا مسألة الإبداع إلا لإثبات مكانة الأئمة بين الحدود الجسمانية، ومماثلتهم للحدود الروحانية في العالم العلوي، وإسباغ ألوان التقديس على الأئمة بهذه المماثلة، وعن هذه العقيدة اشتقَّ الفاطميون عقائدهم في صفات الإمام، وظهر أثرها في الشعر الفاطمي. من ذلك ما أنشده المؤيد في الدين في مدح إمامه المستنصر:
قد خُلِقتم من طينة وخُلِقنا
نحن منها لكن بدا ترتيب
إن أجسامكم لناشئة الطين
الذي منه شق منَّا القلوب١٨

فهو يمدح إمامه بأن جسم الإمام عقل كله؛ ذلك أن جسم الإمام خُلِق من الطينة التي خُلِقت منها قلوب البشر، أي إن الطينة التي خُلِق منها جسم الإمام هي نفس الطينة التي خُلِق منها عقل البشر، فما هو كثيف عند الإمام هو لطيف عند غيره من عامة الناس، وتأويل ذلك أن عقل الإمام شريف، ويجب أن يكون ما يحل فيه هذا العقل شريفًا أيضًا، ولكن بما أن الإمام من البشر، وجسمه ترابي كغيره من الآدميين، فجسمه خُلِق من تراب، ولكنه التراب الذي خُلِق منه قلب البشر الذي يحله عقول البشر. وفي هذا المعنى يقول المؤيد أيضًا:

نعم قد أفاضها في البرايا
فتخلت عن شكرها أنعام
هم نهايات كل من برأ الله
وغايات خلقه والسلام
فإليهم تنمى النفوس إذ را
حت إلى الأرض تنتمي الأجسام١٩

وقوله أيضًا:

مولى مواليه الأعزُّ
كما معاديه الأذل
ذو نسبة بالمصطفى
والمرتضى يسمو ويعلو
بكثيفه ولطيفه
فأساسه نفس وعقل٢٠

وهذا المعنى كثير جدًّا في شعر المؤيد، نراه في أكثر قصائده التي في الديوان.

هناك عقيدة أخرى ردَّدَها المؤيد في شعره، فهو يقول مثلًا:

سلام على العترة الطاهرة
وأهلًا بأنوارها الزاهرة
سلام بديًّا على آدم
أبي الخلق باديه والحاضرة
سلام على مَن بطوفانه
أديرت على مَن بغى الدائرة
سلام على مَن أتاه السلام
غداة أحفت به النائرة
سلام على قاهر بالعصا
عصاة فراعنة جائرة
سلام على الروح عيسى الذي
بمبعثه شرفت ناصرة
سلام على المصطفى أحمد
ولي الشفاعة في الآخرة
سلام على المرتضى حيدر
وأبنائه الأنجم الزاهرة
سلام عليك فمحصولهم
لديك أيا صاحب القاهرة
بنفسي مستنصرًا بالإله
جنود السماء له ناصرة
شهدت بأنك وجه الإله
وجوه الموالي به ناضرة
وأنك صاحب عين الحياة
وعين خصومهم غائرة
بحار الندى كفه والعلوم
مدى الدهر في قرن زاخرة
لإحياء أرواحنا الباقيات
وإنشاء أجسامنا البائرة٢١

فالشاعر هنا يسلم على جميع الأنبياء، وعلى الوصي علي بن أبي طالب والأئمة من ذريته، ولكنه ذهب إلى أبعد من التسليم فقال: «فمحصولهم لديك أيا صاحب القاهرة»، وصاحب القاهرة في عصره هو الإمام المستنصر بالله، فهل معنى ذلك أنه جعل الأئمة في منزلة الأنبياء؟ تقول عقيدة الفاطميين إن النبي محمدًا جمع أدوار كل الأنبياء والمرسلين الذين جاءوا قبله، أي إنه في دوره مثل آدم في دوره، فهو آدم على هذا النحو، وهو إبراهيم في دوره … وهكذا، فكأنه بذلك جمع أدوار جميع الأنبياء، بل قال الفاطميون إن دور النبي محمد يشبه أدوار الأنبياء السابقين، وما حدث للأنبياء وأوصيائهم وأئمة دورهم يحدث أيضًا لمحمد ووصيه وأئمة دوره، فالأدوار واحدة، ولكنها تتخذ أشكالًا مختلفة، ولما كان الإمام يقوم مقام النبي فهو مجمع الأدوار أيضًا على هذه الصورة، فالمستنصر هو آدم وهو إبراهيم وهو نوح … إلى آخِر الأنبياء، فالنور الذي تنقَّلَ بين الأنبياء حلَّ في إمام الزمان، ليس معنى ذلك أن الأئمة كانوا بمنزلة الأنبياء؛ فقد ذكرنا أن لهم نفس صفات الأنبياء إلا صفة النبوة والرسالة، وهكذا نستطيع أن نفسِّر قصيدة المؤيد السابقة. ومن الطريف أن المؤيد نفسه في قصيدة أخرى قارَنَ بين الإمام وبين بعض الأنبياء، فقال في مقارنة المستنصر بنبي الله عيسى بن مريم:

وصديق مثل العدو مداج
لا أراه إلا عدوًّا مضلًّا
جاءني حائرًا فقال بجهل
ما أرى للمسيح في الناس شكلَا
إن عيسى قد كلَّمَ الله في المهد
صبيًّا وكلَّمَ الناس كهلَا
قلت: هذا مولى الأنام معد
قد حوى الملك والإمامة طفلَا
قال: عيسى أحيا الموات جهارًا
قلت: مهلًا يا ناقص الفهم مهلَا
إن هذا مولى الأنام معد
هو يحيي بالعلم مَن مات جهلَا
قال: عيسى أبرأ العمى، قلت: مولا
ي معد يجلو العمى إن تجلَّى
قال: حسبي أجبتني بجواب
باطني بيَّنت لي فيه عقلَا
ثم ولى عني مقرًّا بفضل
لإمام الهدى ورحت مدلا٢٢

وقِسْ على ذلك مقارناته لباقي الأنبياء، فهو يتحايل على المعاني حتى يأتي منها بما يلائم مقابلة أدوار الأئمة بأدوار الأنبياء، وتكاد قصص الأنبياء التي وردت في القرآن الكريم أن تئوَّل على هذا النحو الذي رأيناه في هذه القصيدة، ويستمر المؤيد في كل قصائده يمدح الإمام بمعانٍ باطنية هي من تأثير العقيدة في نفسه وفي شعره.

ويُخَيَّل إليَّ أن العقائد أثَّرت أيضًا في جميع الشعراء الذين ظهروا في بلاط الأئمة في عهد ضعف الأئمة، وسطوة الوزراء، وفي عهد انتقال مركز الدعوة إلى اليمن، ودخول الأئمة في دور الستر الثاني، وقد ذكرنا أن الحافظ والظافر والفائز والعاضد آخِر ملوك الفاطميين كانوا يحكمون نيابةً عن الإمام المستتر ولم يكونوا أئمة، ولكن شعراء مصر أَبَوا إلا أن يغدقوا صفات الأئمة على هؤلاء النوَّاب، بل من الشعراء مَن لقَّبَ هؤلاء الملوك بالأئمة، فالشاعر الشريف أبو الحسن علي بن محمد الأخفش شاعر الآمِر والحافظ مدح الحافظ بقوله:

صرف جريال يرى تحريمها
مَن يرى الحافظ فردًا صمدَا
بشر في العين إلا أنه
من طريق العقل نور وهدَى
جَلَّ أن تدركه أعيننا
وتعالى أن نراه جسدَا
فهو في التسبيح زلفى راكع
سمع الله به مَن حمدَا
تدرك الأفكار فيه بانيًا
كاد من إجلاله أن يُعبَدَا٢٣
فالشاعر هنا مدح الحافظ بهذه الصفات الباطنية التي هي من صفات الأئمة، ولكن الحافظ كان ينوب عن الإمام المستتر فطبَّقَ الشاعر صفات الإمام على نائبه، فالإمام عن طريق العقل، أي عن طريق علم الباطن، هو نور أي إنه عقل كله، والعقل الأول لا يُدرَك بالأبصار، فهو يتعالى أن يحد بحدود ذلك الجسد، أما قوله: «فهو في التسبيح زلفى راكع» فتأويل الركوع — كما يحدِّثنا القاضي النعمان في كتابه تأويل دعائم الإسلام — هو طاعة الإمام، والإقرار بحدود الدين الروحانيين والجسمانيين، والتسبيح في الركوع تأويله البراءة والتنزيه لله تعالى أن يقاس أو يشبه به أحد من حدوده أو من خلقه،٢٤ وتأويل «سمع الله به من حمدَا» أن كل مَن صار إلى الدعوة وجب عليه حمد الله على ما أصاره من فضله إليه، وأطلعه من أمر أوليائه عليه، فيأمر الداعي بذلك مَن دعاه، ويخبرهم أن الله تعالى يسمع حمدهم، ويطلع على اعتقادهم في ذلك، فإن كانوا قبلوه حق القبول، واغتطبوا به كما يجب، وحمدوا الله على ما هداهم إليه منه فيحمد الله كما أمرهم،٢٥ أما البيت الأخير فالشاعر يشير إلى أن الإنسان إذا فكَّرَ في أمر الإمام، وأن الإمام مثل للعقل الأول، وما يوصف به هذا العقل، فيكاد المفكر من إجلاله للعقل أن يعبده وأن يعبد مثله، وهذا البيت الأخير يشبه قول المؤيد في مدح المستنصر:
لست دون المسيح سماه ربًّا
أهل شرك ولا نسميك ربًّا

وهو مثل قول الشريف بن أنس الدولة في مدح الحافظ، وقد صعد المنبر يوم العيد:

خشوعًا فإن الله هذا مقامه
وهمسًا فهذا وجهه وكلامه
وهذا الذي في كل وقت بروزه
تحياته من ربنا وسلامه٢٦

فهذا المعنى الذي ورد في جميع هذه الأبيات هو من المعاني الباطنية، وكلها تخضع في التفسير لنظرية المثل والممثول أيضًا. فالإمام مثل العقل الأول فهو أشرف من جميع المخلوقات، وإنه هو المقصود بوجه الله ويد الله وجنب الله التي وردت في القرآن الكريم، ثم انظر إلى قول الشاعر:

هذا أمير المؤمنين بمجلس
أبصرت فيه الوحي والتنزيلَا
وإذا تمثل راكبًا في موكب
عاينت تحت ركابه جبريلَا٢٧

«فمجلس الوحي والتنزيل» هو مجلس النبي الذي يقوم الإمام مقامه، أما قوله: «عاينت تحت ركابه جبريل» فتأويل الملائكة في عقيدة الفاطميين هم الدعاة، فكأن الشاعر يقول: إن الإمام إذا سار في موكبه سار تحت ركابه الدعاة الذين يدعون له ولمذهبه.

وكان الوزير الملك الصالح طلائع بن رزيك من الشعراء الذين اتخذوا الشعر وسيلة لنشر عقائد مذهبه، ولتهجين مذاهب أضداده، فمن ذلك قوله:

يا أمة سلكت ضلالًا بيِّنَا
حتى استوى إقرارها وجحودها
ملتم إلى أن المعاصي لم يكن
إلا بتقدير الإله وجودها
لو صَحَّ ذا كان الإله بزعمكم
منع الشريعة أن تقام حدودها
حاشا وكلا أن يكون إلهنا
ينهى عن الفحشاء ثم يريدها٢٨

فهو هنا يشير إلى تلك المسألة التي شغلت أذهان المسلمين، وأثارها المعتزلة ردحًا طويلًا من الزمان، وأثارت مجادلات بين علماء المسلمين، وهي مسألة الجبر والاختيار. فجمهور أهل السنة على أن الإنسان مُجبَر، والمعتزلة تذهب إلى أن الإنسان مخيَّر، ولكن الفاطميين كانوا يذهبون مذهبًا وسطًا، فالإنسان مُجبَر في أمور، ومخيَّر في أمور، فهو وُلِد من غير اختيار بل هو مُجبَر، وتصيبه بعض الأحداث في حياته قضاءً وقدرًا، ويموت بغير اختيار، أما أفعاله فهو مخيَّر فيها.

ولم يكن شعراء مصر الذين مدحوا الأئمة والوزراء هم الذين ألموا في أشعارهم بعقائد الفاطميين وتأثَّروا بها هذا التأثُّر الذي رأينا بعض نماذجه؛ إذ المفروض أن جميع الشعراء الذين اتصلوا ببلاط الفاطميين كانوا يتمذهبون بمذهب الأئمة، ولكننا نرى الشعراء الوافدين على مصر في ذلك العصر كانوا يحاولون أن يتخذوا العقائد الفاطمية وسيلةً للوصول إلى مدح الأئمة، وأن يزيِّنوا شعرهم بهذه العقائد للتقرُّب إلى الأمراء والوزراء والأئمة، وأكثر الشعراء الذين وفدوا على مصر لم يكونوا فاطميي المذهب، ولكنهم اضطروا إلى أن يمدحوا الأئمة بالمعاني الباطنية على نحو ما كان يفعله شعراء مصر. ويحدِّثنا ياقوت أن الحسين بن عبد الله الشاعر المعروف بأبي حصينة المعري، المتوفي سنة ٤٥٧ﻫ، أوفد إلى المستنصر بالله، وأنه مدح المستنصر بقصيدة منها:

ظهر الهدى وتجمل الإسلام
وابن الرسول خليفة وإمام
مستنصر بالله ليس يفوته
طلب ولا يعتاص عنه مرام
حاط العباد وبات يسهر عينه
وعيون سكان البلاد تنام
قصر الإمام أبي تميم كعبة
ويمينه ركن لها ومقام
لولا بنو الزهراء ما عرف التقى
فينا ولا تبع الهدى الأقوام
يا آلَ أحمد ثبتت أقدامكم
وتزلزلت بعداكم الأقدام
لستم وغيركم سواء، أنتم
للدين أرواح وهم أجسام
يا آل طه حبكم وولاؤكم
فرض وإن عذل اللحاة ولاموا٢٩

فالشاعر على الرغم من أنه من معرة النعمان يمدح إمام مصر الفاطمي بهذه الصفات الباطنية التي تجد حظًّا من القبول إذا مُدِح بها الإمام، فقصر الإمام كعبة والركن والمقام في التأويل الباطن مثل على الإمام، ولولا الأئمة ما عرفت حقيقة الدين، والأئمة عقول والناس أجسام، والولاء للأئمة فرض من الله. فهذه كلها من عقائد الفاطميين، واضطر الشاعر أن يزجَّ بها في مدحه للإمام الفاطمي، ولهذا الشاعر قصيدة أخرى في مدح المستنصر أيضًا منها قوله:

أما الإمام فقد وفى بمقالة
صلى الإله على الإمام وآله
لذنا بجانبه فعمَّ بفضله
وببذله وبصفوه وجماله
لا خلق أكرم من معد، شيمة
محمودة في قوله وفعاله
فاقصد أمير المؤمنين فما ترى
بؤسًا وأنت مظلل بظلاله
زاد الإمام على البحور بفضله
وعلى البدور بحسنه وجماله
وعلى سرير الملك من آل الهدى
من لا تمر الفاحشات بباله
النصر والتأييد في أعلامه
ومكارم الأخلاق في سرباله
مستنصر بالله ضاق زمانه
عن شبهه ونظيره ومثاله٣٠

فالشاعر في هذه القصيدة مدح الإمام بالمعاني التي اعتاد الشعراء أن يمدحوا بها الملوك، ولكنه ألَمَّ فيها أيضًا بالمعاني الباطنية التي تميِّز مصر الفاطمية عن غيرها من الدول، وتميِّز شعر مصر الفاطمية عن باقي الشعر العربي؛ فالصلاة على الإمام وآله، وأن الإمام من نسل الرسول، وأن لا شبيه للإمام ولا مثيل، كل هذه من العقائد التي كان يبثها الدعاة بين الناس.

ولعل الشاعر عمارة اليمني أصدق مثال لهؤلاء الشعراء السنيين الوافدين على مصر، والذين ألَمُّوا في شعرهم بالعقائد الفاطمية، ففي أول قصيدة أنشدها في مصر قال في مدح الخليفة الفائز، ووزيره الملك الصالح بن رزيك تلك القصيدة التي مطلعها:

الحمد للعيس بعد العزم والهمم
حمدًا يقوم بما أولت من النعم

وفيها يقول:

لا أجحد الحق، عندي للركاب يد
تمنت اللجم فيها رتبة الخطم
قربن بعد مزار العز من نظري
حتى رأيت إمام العصر من أمم
ورحن من كعبة البطحاء والحرم
وفدًا إلى كعبة المعروف والكرم
فهل درى البيت أني بعد فرقته
ما سرت من حرم إلا إلى حرم
حيث الخلافة مضروب سرادقها
بين النقيضين من عفو ومن نقم
وللإمامة أنوار مقدسة
تجلو البغيضين من ظلم ومن ظلم
وللنبوة آيات تنص لنا
على الخفيين من حكم ومن حكم٣١

ويستمر عمارة في مدح الفائز، ثم ينتقل إلى مدح وزيره الملك الصالح بن رزيك، ولكن الشاعر كان بعيدًا عن مركز الخلافة فلم يستطع أن يعرف شيئًا كثيرًا من عقائد الفاطميين، ولذلك لم يتحدَّث عن المعاني الباطنية إلا بقدر يسير، ولا سيما في البيت الأخير من هذه المقطوعة، على أن الشاعر بعد أن استقرَّ بمصر، واتصل بالبيئة المصرية حوله، وسمع جدل العلماء ومناقشاتهم في مجالس الملك الصالح، وعرف شطرًا من العقائد الفاطمية، تأثَّرَ بهذه العقائد في شعره، وإن كان لم يعتنق دعوتهم، بل ظلَّ على عقيدة الشافعية، فهو يقول في مدح العاضد:

وعليك من شيم النبي وحيدر
للناظرين أدلة وشهود
والوحي ينطق عن لسانك بالذي
من دونه يصدع الجلمود
شخصت إليك نواظر الأمم التي
ملكتهم لك بيعة وعهود
يوم جلت فيه الإمامة عزها
ولها الملائكة الكرام جنود٣٢

في هذه الأبيات يظهر تأثير البيئة الفاطمية في شعر مارة، فالشاعر هنا متأثر بالعقائد، حتى يُخَيَّل إلينا أنه أصحَّ على دينهم وعقيدتهم، فالوحي — وهو في التأويل داعي الدعاة — ينطق عن لسان الإمام بالحجج الدامغة، والبراهين القوية التي لا تقف أمامها حجج أو براهين، والبيعة في عنق جميع الذين عاهَدوا الإمام، والملائكة وهم الدعاة جنود الإمام. ومرة أخرى يمدح العاضد بقوله:

لا يبلغ البلغاء وصف مناقب
أثنى على إحسانها التنزيل
شيم لكم غر أتى بمديحها الـ
ـفرقان والتوراة والإنجيل
سير نسخناها من السور التي
ما شأنها نسج ولا تبديل
قامت خواطرنا بخدمة نظمها
فيكم، وقام بنثرها جبريل
شرف تبيت به قريش كلها
عولًا لكم وعليكم التعويل
إن الرسول أبوكم من دونها
فمن الذي منها أبوه رسول
ولقد ورثت مقام قوم يستوي
منهم شباب في العلا وكهول
وجمعت شمل خلافة لم يختلف
في فضلها المعقول والمنقول
لما برزت إلى المصلى معلنًا
وشعارك التكبير والتهليل
وخطبت فيه المؤمنين خطابة
ذابت عيون عندها وعقول
وسللت عرب فصاحة نبوية
شهدت بأنك للنبي سليل٣٣

فهو هنا يمدح العاضد بأن في سور للقرآن والتوراة والإنجيل آيات في شأن الأئمة، وهذا من أقوال الفاطميين في أئمتهم حتى قال شاعرهم المؤيد في الدين:

لهم معاني الزبر
وفضل آي الزمر٣٤

وقال عمارة أيضًا في هذا المعنى نفسه:

يا خير من نظم المديح لمجده
وتنزلت سور الكتاب بحمده٣٥

وانظر إليه وهو يقول في مدح العاضد أيضًا:

ولاؤك دين في الرقاب ودين
وودك حصن في المعاد حصين
وحبك مفروض على كل مسلم
يقول بحب المصطفى ويدين٣٦

ولعل الأبيات التي أنشدها في رثاء الملك الصالح بن رزيك تدل دلالة واضحة على مدى تأثُّر عمارة بالعقائد، وبتأويل الفاطميين، فهو يقول مثلًا:

لا تعجبن لقدار ناقة صالح
فلكل عصر صالح وقدار
أحللت دار كرامة لا تنقضي
أبدًا وحل بقاتليك بوار٣٧

فناقة صالح التي ذُكِرت في القرآن تئول على حجة صالح، وكذلك كان الوزير ابن رزيك حجة الخليفة الفائز، ويتحدَّث عمارة عن الأدوار، فلكل عصر «صالح» من نبي أو إمام، ولكل عصر «ناقة صالح» أي حجة للإمام، فهذا المعنى لا يأتي به إلا مَن عرف دقائق الدعوة وأسرارها، وكان عمارة يجالِس الدعاة والعلماء فعرف الكثير من أسرارهم، فجرى لسانه به. وفي البيت الثاني يتحدَّث الشاعر أيضًا عن عقيدة الفاطميين في خلود النفس بعد الموت، وعودتها إلى العالم الروحاني، فإن كانت نفسًا شريفة بأن كانت نفس حد من حدود الدين الجسمانية عادت إلى عالم الحدود الروحانية، وتأخذ مرتبتها بين الحدود الروحانية كما كانت مرتبتها بين الحدود الجسمانية.

وفي مديحه للصالح قال:

كاف هو الباب الذي مَن لم يصل
منه فليس له إليك وصول

إشارة إلى أن داعي الدعاة هو باب الأبواب، وهو الذي يشير فيه إلى الحديث النبوي: «أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها.» فالإمام في عصره يماثِل النبي في عصره، وداعي الدعاة هو الباب أيضًا، وقد ذكرنا أن الملك الصالح بن رزيك أنشد يدعو عمارة إلى دخول المذهب، واستعمَلَ الصالح هذا المصطلح أيضًا:

قُلْ للفقيه عمارة يا خير مَن
أضحى يؤلِّف خطبة وخطابَا
اقبل نصيحة من دعاك إلى الهدى
قل «حطة» وادخل إلينا «البابَا»
تلق الأئمة شافعين ولا تجد
إلا لدينا سنة وكتابَا٣٨

وفي قضية أول رمضان، حدث أن غم الهلال، ولم يظهر بين الضباب، فلم يره الناس رؤية بصر، ولكن المصريين صاموا على حسب رؤية الاستبصار والعلم بدورة الفلك، وظهر العاضد ووزيره شاور بين الناس، فقال عمارة في ذلك:

ولما تراءت للهلال بصائر
يغطي الهوى أبصارها بضباب
وقفنا فهنَّأنا الصيام بعاضد
سناه مدى الأيام ليس بخاب٣٩

فرؤية رمضان التي نحتفل بها اليوم هي من فكرة ظهور الإمام الفاطمي معلنًا صوم رمضان.

وبعد القضاء على الدولة الفاطمية وموت العاضد، اتفق أن اجتمع الشاعر يحيى أبو سالم بن الأحدب بن أبي حصينة، والشاعر عمارة اليمني في قصر اللؤلؤة، فأنشد أبو سالم في نجم الدين أيوب:

يا مالك الأرض لا أرضى له طرفًا
منها، وما كان منها لم يكن طرفَا
قد عجَّل الله هذي الدار تسكنها
وقد أعَدَّ لك الجنات والغرفَا
تشرفت بك عمَّن كان يسكنها
فالبس بها العز، ولتلبس بك الشرفَا
كانوا بها صدفًا والدار لؤلؤة
وأنت لؤلؤة صارت لها صدفَا

فأجابه عمارة:

أثمت يا مَن هجا السادات والخلفا
وقلت ما قلته في ثلبهم سخفَا
جعلتهم صدفًا حلوا بلؤلؤة
والعرف ما زال سكنى اللؤلؤ الصدفَا
وإنما هي دار حل جوهرهم
فيها، وشف فأسناها الذي وصفا
فقال لؤلؤة عجبًا ببهجتها
وكونها حوت الأشراف والشرفا
فهم بسكناهم الآيات إذ سكنوا
فيها، ومن قبلها قد أسكنوا الصحفَا
والجوهر الفرد نور ليس يعرفه
من البرية إلا كل من عرفَا
لولا تجسمهم فيه لكان على
ضعف البصائر للأبصار مختطفَا
فالكلب يا كلب أسنى منك مكرمة
لأن فيه حفاظًا دائمًا ووفَا٤٠

فانظر إلى قول عمارة: إن جوهرهم هو الذي حلَّ بهذه الدار، وإن الآيات سكنتها وكانت تسكن الصحف، وحديثه عن الجوهر الفرد الذي هو نور تجسم في الأئمة.

أليس ذلك كله من الأدلة التي نسوقها على تأثُّر عمارة بالعقائد الفاطمية على الرغم من تمسكه بمذهبه السني الشافعي؟

من ذلك كله نستطيع أن ندرك كيف استطاع الفاطميون أن يتخذوا من الشعراء ألسنة لهم في نشر عقائدهم التي أذاعوها بين هؤلاء الشعراء، وكيف استغَلَّ الشعراء علم الباطن، وخاصة ما خلعه علماء المذهب على الأئمة من صفات باطنية، وكيف كان الشعراء يمدحون الأئمة والدعاة بهذه الصفات حتى يتقرَّبوا إليهم، وينالوا من هباتهم وعطاياهم. ويقول القلقشندي: كان الشعراء جماعة كثيرة من أهل ديوان الإنشاء وغيره، وكان منهم أهل سنة لا يغلون في المديح، وشيعة يغلون فيه.٤١ فكأنَّ القلقشندي كان يرى أن جميع الشعراء الذين مدحوا الأئمة قد ألَمُّوا في شعرهم بالعقائد الفاطمية، ولكن بعضهم كان يسرف في ذلك، وبعضهم كان يقتصد.

وها هو ذا الكاتب ولي الدولة أحمد بن علي بن خيران صاحب ديوان الإنشاء في عهد الظاهر والمستنصر، ينشد شعرًا يدل على أنه كان يتشيَّع، ولكنه كان يعارِض الفاطميين في أمور، فهو يقول:

أنا شيعي لآل المصطفى
غير أني لا أرى سبَّ السلف
أقصد الإجماع في الدين ومَن
قصد الإجماع لم يخشَ التلف
لي بنفسي شغل عن كل من
للهوى قرظ قومًا أو قذف٤٢

ومهما يكن من شيء فقد كان تأثير العقائد في الشعر الفاطمي، ولا سيما شعر المدح الذي قيل في الأئمة، واضحًا جليًّا نراه في هذه النماذج من الشعر التي قدمناها، كما كان الشعراء من ألسنة الدعوة الدينية، فقد سار شعرهم في البلاد ورواه الناس، واستغله الدعاة في نشر المذهب، وفي عصرنا الحديث لا تزال بعض قصائد المؤيد في الدين تُردَّد في المساجد، فطائفة البهرة في الهند تردِّد إلى الآن قصيدة المؤيد التي مطلعها:

سلام على العترة الطاهرة
وأهلًا بأنوارها الزاهرة٤٣

عقب صلاة الفجر كل يوم، ويرتلون قول المؤيد:

أبا حسن يا نظير النذير
ولولا وجودك فات النظير٤٤

عقب صلاة التهجُّد كل يوم، وينشدون قصيدته التي مطلعها:

إلهي دعوتك سرًّا وجهرًا
أيا مالك الملك خلقًا وأمرَا٤٥

عقب صلاة النوافل في رمضان، ولا سيما في ذكرى مقتل عليٍّ، ويرددون قول المؤيد أيضًا:

هلال بدا من خلال الدجنة
إمام زمان من النار جنة٤٦

في أول كل شهر عربي. وهكذا يترنم طائفة البهرة بأشعار المؤيد شاعر المستنصر الفاطمي وداعي دعاته، على نحو ما يفعله الصوفية في ترتيل الأوراد.

على أن الشعر الذي يلم بالعقائد هو في أكثره شعر صنعة، والشاعر كان يجهد نفسه في أن يأتي في شعره ببعض العقائد، وأن يلائم بين هذه العقائد والألفاظ التي يختارها لشعره، ثم يوفق بين هذا كله وبين ضرورات الشعر، ذلك كله يدلنا على أن الشاعر كان يصنع شعره، وكان ينفق جهدًا كبيرًا في إنشاد الشعر؛ ولذلك نرى شعر العقائد أقرب إلى النظم منه إلى الشعر الجيد الجزل، ولا غرابة إذا رأينا في القصيدة الواحدة للشاعر الواحد لونين من الشعر؛ فالمقدمة التي كان يجعلها الشاعر لقصيدته لون، والأبيات التي بها العقائد لون آخَر، يظهر في المقدمة فن الشاعر وطبيعته، وتظهر في الأبيات التي بها العقائد صناعة الشاعر وتلاعبه، وقَلَّ أن تجد شاعرًا استطاع أن يوفِّق بين طبيعته وعقله، أو بين فنه وعلمه. ومع ذلك كله فإن هذا اللون من الشعر الذي كثر في العصر الفاطمي، ظهر مرةً أخرى في شيء من القوة في شعر الصوفية، وهو الشعر الذي كاد يكون الشعر الرمزي في الأدب العربي — وسنرى ذلك في حديثنا عن شعر الصوفية في العصور التي تلت عصر الفاطميين — ويكفي أن أقول الآن: إن شعر الصوفية هو تطور شعر العقائد الفاطمية، وكذلك تأويلات الصوفية هي تطور لتأويل الباطن عند الإسماعيلية.

وأكثر الشعر الذي يتأثَّر بالعقائد كان في مدح الأئمة الفاطميين، على أن هناك شعراء مدحوا الأئمة، ولم يقربوا العقائد من قريب أو من بعيد، بل كان شعرهم في المدح صورة أخرى للمدح عند غيرهم من الشعراء، ولغير الفاطميين من الأمراء، فوصف بالجمال والكرم والشجاعة والسؤدد إلى غير ذلك من الصفات التي جعلها الشعراء للممدوحين، فمن ذلك قول الشاعر أبي الرقعمق في العزيز:

حي الخيام فإني
مغرى بأهل الخيام
بالراميات فؤادي
بصائبات السهام
لا عذب الله قلبي
إلا بطول الغرام
سقيًا لدهر تولى
بشرَّتي وغرامي
كأنما ذلك العيـ
ـش كان في الأحلام
لم يبق من ترتجيه
لحادث الأيام
إلا ابن أحمد ذو الطو
ل والأيادي الجسام
كفاه أغدق جودًا
من واكفات الغمام
يلقى العفاة بوجه
مستبشر بسَّام
معظمًا ترتجيه
للنائبات العظام
يرمي الخطوب برأي
أمضى من الصمصام
قرم له عزمات
تفل حد الحسام٤٧

ففي هذه الأبيات لا تجد معنى باطنيًّا في حاجة إلى تأويل، ولا تجد مدحًا في الإمام الفاطمي يختلف عن المدائح التي تقال لغير الفاطميين، فكل الممدوحين عند الشعراء يُوصَفون بالجود والشجاعة وأصالة الرأي إلى غير ذلك من الصفات التي اعتاد الشعراء أن يذكروها، وأن يصفوا بها الرجل اليوم، وغدًا يصفون عدوه بالصفات نفسها.

وفي قصيدة أخرى مدح أبو الرقعمق الإمام العزيز، ولم يذكر شيئًا في حاجة إلى تأويل باطني، فقد قال:

سيد شادت علاه له
في العلا آباؤه النجب
وله بيت يمد له
فوق مجرى الأنجم الطنب
حسبه بالمصطفى شرفًا
وعلي حين ينتسب
رتبة في العز شامخة
قصرت عن مثلها الرتب٤٨

فكل هذه المعاني ليست باطنية، والشاعر قد ثبت نسب الإمام إلى النبي ، وعلي بن أبي طالب، وهذه المعاني تصلح أن يمدح بها كل شريف علوي.

ومن الغريب أن نرى أكثر مدائح الأمير تميم في أخيه الإمام العزيز بالله هي هذه المدائح المكررة المألوفة، فهو يقول مثلًا يهنئه بالعيد:

للعيد في كل عام
يوم يعيد سناه
وأنت في كل يوم
عيد يلوح علاه
ونعمة وسعود
للمعتفين وجاه
يا مَن تصل المعالي
إليه حين تراه
ومَن يبر اليتامى
من كل خلق سواه
لو كان للفضل يومًا
مني لكنت مناه
لأن منك استعار الز
مان حسن حلاه
فأنت شمس ضحاه
وأنت بدر دجاه
كفاك في كل سلم
سحاب صوب نداه
وحسن رأيك في الحر
ب سيفه وقناه
فأنت يمنى يديه
وأنت أمضى ظباه
فاسلم لسعدك يا مَن
يديم نحس عداه٤٩

فالأمير تميم يهنِّئ أخاه بيوم من أيام الأعياد الدينية، ولكنه مع ذلك كله لم يأتِ بمعنى واحد من المعاني الدينية التي كان الشعراء يقصدون إليها في مدح الفاطميين، ولو شاء الأمير تميم أن يأتي بالمعاني الباطنية في شعره لأتى بما يعجز عنه غيره من الشعراء؛ لأنه أقدر على معرفة أسرار العقائد الفاطمية، فهو ابن إمام وأخو إمام، بل كانت الإمامة ستئول إليه بعد أبيه، ومع ذلك كله فالشاعر هنا كان شاعرًا فحسب، أراد أن يمدح الإمام فمدحه بهذه المعاني المألوفة. وفي قصيدة أخرى يقول تميم في مدح العزيز:

رأيت معدًا كالحسين وإنما
تطول على المولود إن أنجب الجد
تعرب فهمًا مثلما ذاب رقة
وظرفًا فما في وصف كنه له حد
به يشتفي السمع الأصم بلفظه
وتشفى برؤيا وجهه الأعين الرمد
كأن ضياء الشمس رداء نوره
وأهدى إليه قلبه الأسد الورد
وليس يبالي أن يروح ويغتدي
من المال صفرًا حين يصبو له المجد
كأنك لا ترضى لنفسك خلة
إذا لم يكن في كل كفٍّ لها رفد
ولست تبالي أن تروح بعيشة
تضيق إذا كانت علاك هي الرغد
ولولا احتمال النفس كل مشقة
إذن لتساوى في العلا الحر والعبد
حجبت سنى شعري زمانًا ولم يزل
لدي مصونًا لا يبين ولا يبدو
ونزهته دهرًا فلما هززتني
هززت حسامًا ليس ينبو له حد
كذا السيف لا تستخبر العين عنفه
إذا لم تفارقه الحمائل والغمد
فسار بمدحي فيك كل مهجر
وغنى به في السهل والوعر من يحدو
وصاغت له علياك حسنًا وزينة
وصيغ لها من حلى ألفاظه برد
وليس لكل الناس يستحسن الثنا
كما ليس في كل الطلى يحسن العقد
وكم لك عندي من يد وصنيعة
أقر بها مني لك اللحم والجلد
فلا يعجب الحساد لي أن وددتني
فحق لمثلي من مثالك ذا الود
رأيتك يفني العذر حقدك كله
فترضى ولا يفني مواهبك القصد
ولا توعد الجاني إذا زل بل له
إذا اعتذر المعروف عندك والوعد
وتجحد ما تولي يداك من الندى
وإن كان عند المجتدى للندى جحد
ولو كفر العافون نعماك لم يكن
لطبعك منك الآن عن كرم رد
وتهتز للمدح اهتزاز مهند
تناوله يوم الوغى بطل نجد
عليك صلاة الله ما لاح بارق
وما حن مشتاق تداوله الفقد٥٠

وهكذا يمضي الأمير تميم في مديحه للإمام، فقَلَّ أن نجد الشاعر يصف أخاه بمصطلحات الفاطميين، حتى يُخَيَّل إليَّ أن الشاعر المؤيد في الدين الذي جاء بعد تميم بزهاء قرن من الزمان، لم يعجبه أن تكون مدائح تميم مثل مدائح غيره من الشعراء، فوضع المؤيد قصيدته التي مطلعها:

هلال بدا من خلال الدجنة
إمام زمان من النار جنة

وجعل هذه القصيدة جوابًا لقصيدة تميم بن المعز التي مطلعها:

أسرب مها عنَّ أم سرب جنة
حكيتهن ولستن هنة

وفي قصيدة المؤيد يعرض بتميم بقوله:

سينعت فضلك مني اللسان
إذا نعت الغير توريد وجنة
وغير مديحك لهو الحديث
ومدحك دين وفضل وفطنة
فخذها جوابًا لنجل المعز
«أسرب مها عن أم سرب جنة»

فكأنَّ المؤيد ذهب إلى أن مديح تميم لا يليق بالإمام؛ لأن الأمير تميمًا مدح إمامه بالطريقة التي كان يمدح بها القدماء في الابتداء بالغزل، ونعت الممدوح بالجمال وورد وجنتيه إلى غير ذلك من الصفات، على حين أن المديح عند المؤيد هو من صميم الدين.

وأنشد علي بن منصور المعروف بابن القارح قصيدةً على وزن منهوكة أبي نواس، يمدح فيها الحاكم بأمر الله، منها قوله:

إن الزمان قد نضر
بالحاكم الملك الأغر
في كفه عضب ذكر
فقد عدا على القصر
من غره على الغرر
يمضي كما يمضي القدر
في سرعة الطرف نظر
أو السحاب المنهمر
بادر إنفاق البدر
بدر إذا لاح بهر٥١

وقال محمد بن القاسم عاصم المعروف بصناجة الدوح في مدح الحاكم، وقد حدثت زلزلة في مصر:

بالحاكم العدل أضحى الدين معتليًا
نجل العلا وسليل السادة الصلحَا
ما زُلزِلت مصر من كيد يراد بها
وإنما رقصت من عدله فرحَا٥٢

فأنت تقرأ هذه القصائد فلا تجد معنى من المعاني الباطنية، ولا تجد أثرًا لصفات العقل الأول التي اعتاد شعراء الفاطميين أن يمدحوا بها أئمتهم.

إذًا نحن أمام لونين من المديح الذي قيل في الأئمة؛ اللون الأول: هو ذلك الشعر الذي مدح فيه الشعراء الأئمة بصفات هي من خصائص الفاطميين، وفي هذا الشعر يظهر أثر الفاطميين. اللون الثاني من المديح: فهو ذلك المديح الذي اعتاد الشعراء أن ينشدوه في الملوك والأمراء، وهذا اللون لا يظهر فيه إلا فن الشاعر فقط، وقَلَّ أن نجد فيه أثرًا للبيئة التي تحيط بالشاعر إلا من ناحية واحدة، وهي الظروف التي أنشد فيها هذا الشعر، ولذلك نرى الشعراء الذين وفدوا على مصر ومدحوا الأئمة الفاطميين ينشدون شعرهم في مصر كما كانوا ينشدونه في أي بلد آخَر من البلاد الإسلامية.

وكان الشعراء ينشدون الأئمة مدائحهم في المواسم والأعياد التي كثرت في العصر الفاطمي، وكثيرًا ما كانت هذه الأيام، وكثيرًا ما كانت المناسبات التي ينشد فيها الشعراء مدائحهم؛ ففي يوم فتح الخليج مثلًا كان صاحب الباب يستأذن على حضور الشعراء للخدمة، فيؤمر بتقديمهم واحدًا بعد واحد، وكان لهم منازل على مقدار أقدارهم، فالواحد يتقدَّم الواحد بخطوة في الإنشاد،٥٣ ومما أُنشِد في هذه المناسبة قول ابن جبر:
فتح الخليج فسال منه الماء
وعلت عليه الراية البيضاء
فصفت موارده لنا فكأنه
كف الإمام فعرفها الإعطاء٥٤

ومن الطريف أن المؤرخين يذكرون أن المصريين بلغوا في ذلك الوقت درجة كبيرة من دقة الحس وتذوُّق الشعر ونقده، فإنهم لما سمعوا هذه الأبيات انتقدوه في قوله: «فسال منه الماء» وقالوا: أي شيء يخرج من البحر غير الماء؟ وأن الشاعر أضاع ما قاله بعد ذلك المطلع.

وفي هذه المناسبة أيضًا أنشد مسعود الدولة، وكان مقدم الشعراء في عصره:

ما زال هذا السد ينظر فتحه
إذن الخليفة بالنوال المرسل
حتى إذا برز الإمام بوجهه
وسطا عليه كل حامل معول
فجرى كأن قد ديف فيه عنبر
يعلوه كافور بطيب المندل
ولكن هذه القصيدة أيضًا لم تعجب السامعين؛ إذ انتقدوا عليه أيضًا قوله في البيت الثاني وقالوا: «أَهَلَكَ وجه الإمام بسطوات المعاول عليه؟!»٥٥

وأنشد الشاعر أبو العباس أحمد في مناسبة فتح الخليج قوله:

لمن اجتماع الخلق في ذا المشهد
للنيل أم لك يابن بنت محمد
أم لاجتماعكما معًا في موطن
وافيتما فيه لأصدق موعد
ليس اجتماع الخلق إلا للذي
حاز الفضيلة منكما في المولد
شكروا لكل منكما لوفائه
بالسعي لكن ميلهم للأجود
ولمَن إذا اعتمد الوفاء ففعله
بالقصد ليس له كمن لم يقصد
هذا يفي ويعود ينقض تارة
وتسد أنت النقص إن لم يزدد
وقواه إن بلغ النهاية قصرت
وإذا بلغت إلى نهاية تبتدي
فالآن قد ضاقت مسالك سعيه
بالسد فهو به بحال مقيد
فإذا أردت صلاحه فافتح له
ليرى جنابًا مخصبًا وثرى ندي
وَأْمُر بفصد العرق منه فما شكا
جسم فصح الجسم إن لم يفصد
واسلم إلى أمثال يومك هكذا
في عيش مغبوط وعز مخلد٥٦

فشعر المناسبات كثير جدًّا في العصر الفاطمي، حتى إن الخليفة الحافظ مل طول الشعر وكثرته، فأمر أن يختصر الشعراء مدائحهم، فلم يعجب ذلك الشعراء، فقال أبو العباس أحمد بن مفرج الشاعر يخاطب الخليفة ويمدحه:

أمرتنا أن نصوغ المدح مختصرًا
لِمَ لا أمرت ندى كفيك يختصر
والله لا بد أن تجري سوابقنا
حتى يبين لها في مدحك الأثر٥٧

فكان الشعر ينشد في مواسمهم وأعيادهم وحفلاتهم التي كانت تقام لأي حادثة صغرت أم كبرت، فإذا تَمَّ عمل شمسية للبيت الحرام مثلًا أنشد الشعراء، من ذلك قول الأمير تميم، وقد تم عمل هذه الشمسية في عهد المعز لدين الله:

إليك مدت رقابها العرب
والملك ماء عليك منسكب
وأنت في دوحة النبوة لا
تألف إلا عداتك الريب
ألست من يرهب الإله ولا
يصده عن حدوده سبب
وكلما قال بدء عزمته
بمذهب لم يخالف العقب
فهكذا يصدع الملوك إذا
صالت، وتنفي الضلالة الشهب
ويزدهي الدين بالمعز لدين الله
والمرهفات واليلب
وكل رحراحة عزائمه دلا
صها، والرماح والقضب
وهذه الدولة التي ذخرت
فلم يسعها الزمان والحقب
يا حبذا دهرك الزلال إذا
أمر دهر، وعصرك الشنب
وحبذا الشمسة التي نصبت
يقصر عنها المديح والخطب
قايست العيد وهي حلته
وأخفت اليوم وهو منتصب
ينهب ياقوتها العيون فما
يكمل الأمر حيث ينتهب
دوائر أحدقت بغرتها
أهلة لا تحفها السحب
كأنما درها وجوهرها
نجوم ليل سماؤها ذهب
نظمتها للهدى ولبته
وإن سخطن الكواعب العرب
في كبد المسجد الحرام بها
شوق، وللبيت نحوها طرب
فلا تمسي بأهله زمن
إلا بما تشتهي وترتقب
عليك صلى الإله ما طلعت
شمس، وما انهل عارض لجب٥٨

فبالرغم من أن المناسبة التي قيلت فيها هذه القصيدة هي مناسبة دينية، وأن الممدوح إمام المذهب، لم يشأ الأمير تميم أن يلم بشيء من العقائد الفاطمية في هذه القصيدة، ولكنه أنشد الشعر للمناسبة فقط، فإذا تصفحنا ديوان الأمير تميم نجد هذا الشاعر أنشد أكثر قصائده في مدح أبيه المعز أو أخيه العزيز لمناسبات مختلفة، فإذا فصد الإمام مدحه الشاعر، وإذا شكا من مرض مدحه، وإذا سافَرَ مدحه، وإذ أهداه شيئًا مدحه، وذلك كله بجانب القصائد التي قيلت بمناسبة الأعياد.

على أن من المصريين مَن كان ينظر إلى الأئمة الفاطميين بعين الريبة، فلم يستجب لدعوتهم وانتسابهم إلى الرسول الكريم، وظلَّ محافظًا على مذهبه معترفًا بخلافة العباسيين، وظهر هذا في الشعر المصري، فقد قيل: إن العزيز بالله وجد بطاقة على المنبر فيها:

إنَّا سمعنا نسبًا منكرًا
يتلى على المنبر في الجامع
إنْ كنتَ فيما تدعي صادقًا
فاذكر أبًا بعد الأب الرابع
وإن ترد تحقيق ما قلته
فانسب لنا نفسك كالطالع
أو فدع الأنساب مستورة
وادخل بنا في النسب الواسع
فإن أنساب بني هاشم
يقصر عنها طمع الطامع٥٩

وقول الآخَر في الحاكم، وقيل بل في العزيز:

بالظلم والجور قد رضينا
وليس بالكفر والحماقة
إن كنت أعطيت علم غيب
فقل لنا كاتب البطاقة

وقد رأينا الشاعر الحسن بن بشر الدمشقي، وقد هجا رجال القصر وعرض بالعزيز بالله، وسنرى كيف كان المصريون يهجون النصارى واليهود ممَّن كان إليهم بعض الدواوين في العصر الفاطمي، فالفاطميون بالرغم من اتخاذهم الدين وسيلة لتوطيد سلطانهم ونفوذهم وادعائهم العصمة للأئمة، فإن بعض الشعراء لم يأبه بذلك، وعرَّض بهذه العقائد وسخر بهؤلاء الأئمة.

الأمير تميم بن المعز

والآن نتحدث عن الأمير تميم الشاعر الذي ذكرناه مرارًا، وسنذكره مرارًا؛ فهو الأمير تميم بن المعز لدين الله الفاطمي، وهو الشاعر الذي يقرن دائمًا بالشاعر ابن المعتز العباسي، لِمَا بينهما من تشابه، فكلا الشاعرين من بيت خلافة، وكلا الشاعرين من شعراء البديع، وكلاهما ممَّنْ أكثر من الوصف والمجون، وكلاهما دافَعَ عن عقيدته وحق ذويه في الخلافة، فهما متشابهان في أمور كثيرة جعلت مؤرخي الأدب العربي يقرنون بينهما دائمًا.

وُلِد الأمير تميم بالمغرب، وفيها نشأ مع إخوته عبد الله ونزار وعقيل، وكان تميم أكبرهم سنًّا، فلم يشك الناس في أن ولاية العهد ستكون له، ولكن المعز لدين الله صرفها عنه إلى أخيه عبد الله، ولعل السبب الذي من أجله صرف تميم عن إمامة الفاطميين، هو ما عُرِف عن تميم من مجون وفجور، فكان يشاع عنه وعن سيرته السيئة ما حدا بأمير صقلية أحمد بن الحسن الكلابي أن يستأذن المعز في أن يقتل أحد أبنائه؛ لأنه كان يساير الأمير تميمًا، ويشاركه في لهوه وفسقه. ويحدثنا صاحب سيرة الأستاذ جوذر أن المعز أرسل إلى أمير صقلية ردَّ خطابه، وفي هذا الخطاب ألم المعز وغضبه لما عُرِف عن تميم من فسق وفجور.٦٠ ولما فُتِحت مصر انتقل الأمير تميم إليها مع أبيه وباقي أسرته، وفي مصر توفي عبد الله (ولي العهد)، فجعل المعز ولاية عهده إلى ابنه الثالث نزار الذي لُقِّب بالعزيز، ولعل هذا هو السر فيما نراه من حزن دفين ظهر في شعر الأمير تميم؛ إذ كان يمدح أخاه الصغير العزيز بالله، ولكنه لم يستطع أن يخفي ما في نفسه من آلام وشعور بحنق وغيظ، كان يحاول إظهار تجلُّده وصبره، ولكن عاطفته في الشعر هي عاطفة القانط الحاقد، فهو يقول مثلًا من قصيدة في مدح العزيز:
تهون عليَّ صغار الأمور
ويصغر عني جميع الورى
أنا ابن المعز سليل العلا
وصنو العزيز إمام الهدى
وما احتجت قطُّ إلى ناصر
ولا رحت يومًا ضعيف القوى
ولم أستشر في ملم يئوب
مشيرًا أرى منه ما لا أرى
ولست بوانٍ إذا ما أمر
زمان، ولا فرح إن حلا٦١

فهذه الأبيات تظهر فيها قوة الفخر بنفسه، وبنسبته للأئمة الفاطميين، وعدم مبالاته بصروف الدهر، ولكن يُستشَف منها دخيلة نفس الشاعر، تلك النفس الناقمة الحاقدة، ويقول يفتخر أيضًا:

ليس من ساد عن ورانة جد
أو لِحَظٍّ من الحظوظ مباح
يستحق الثنا ويستوجب الشكـ
ـر ويحوي مدائح المداح
إنما السيد المعلى المفدى
من علا للعلا صدور الرماح
ورمى ليل كل خطب بهيم
بذكاء أضوا من المصباح
واقتنى العز بالظبا والعوالي
واشترى الحمد بالثنا والسماح
فكذا تنتمي المكارم والمجـ
ـد ويستبعد العدو الملاحي
لا كمن قد جرى برجل سواه
وسما طائرًا بغير جناح
لا ألفت العلا ولا ألفتني
إن توسمت دونها بوشاح
أو ترفهت أو تشاغلت عنها
بأباطيل قينة أو براح
لا ولا أبيض لي سنى المجد إن لم
أستجد غسله بنزف الجراح
وألاقي العداة عنه بعزم
علوي بفل حد الصفاح
وببطش يفري الجماجم والأعـ
ـناق فري المدى لحوم الأضاحي
أنا فرد النهى ورب المعالي
وحسام الكفاح يوم الكفاح
أنا مفتاح قفل كل نوال
يوم يغدو الندى بلا مفتاح
أنا كالجد في الأمور إذا ما
كان عيشي فيهن مثل المزاح
لا كراص من العلا بادعاء
وبعرض مجرح مستباح
فسل المجد عن صباحي وليلي
ومقبلي وغدوتي ورواحي
هل يسر العلا مقالي وفعلي
وارتياحي لكسبها واقتراحي
هاكها كالصهيل في حلبة الفخر
إذا كان غيرها كالنباح٦٢

ويُخَيَّل إليَّ أن بعض الوشاة سعوا بينه وبين أخيه العزيز، مما جعل العزيز يغضب على الشاعر، وجعل الشاعر يتنصل من وشاية الواشين، فأخذ الشاعر يتلمس الأعذار، ويقدم الاعتذار، ويذكِّر الإمام بأنهما شقيقان، وأن على الإمام ألا يستمع إلى أمثال هؤلاء الوشاة. فأكثر قصائد المدح التي في الديوان تتحدث عن هؤلاء الذين يسعون بالفساد بين الملك الصغير وأخيه الأمير الكبير. ومن شعر الديوان نستطيع أن نعرف أن الأمير نُفِي مرة إلى عين شمس، ونُفِي مرة أخرى إلى الرملة بفلسطين، فكان يرسل إلى إخوانه وأصدقائه مقطوعات من الشعر يبثهم فيها شوقه إليهم، ويشكو غربته التي اضطر إليها اضطرارًا. فقد أنشد في عين شمس:

أما كفى الحب شوق موجع وأسى
مبرح يقطع الأحشاء والكبدَا
حتى رمى البين بالتفريق ألفتنا
وحلَّ من وصلنا ما كان قد عقدَا
فآه من لوعة مشبوبة وجوى
في الصدر لم يبق لي صبرًا ولا جلدَا
قالت وعبرتها مخلوطة بدم
تجري وأنفاسها مرفوعة صعدَا
لا تطلب النطق مني بالسلام فما
أبقى فراقك لي روحًا ولا جسدَا
فظلت ملتثما من صحن وجنتها
وردًا، ومرتشفًا من ثغرها بردَا
وطاويًا في الحشا منها رسيس هوى
لا أحسب الدهر يبلى عهده أبدَا

وأنشد وهو في الرملة، وأرسل بها لي بعض أهله في القاهرة:

أنتم في المنام حلمي وأنتم
في انتباهي سؤلي وأنتم مرادي
كل عضو مني إليكم مشوق
زائد شوقه على الأبعاد
لم أفارقكم ولكن جسمي
بان عنكم وحل فيكم فؤادي
فهنيئًا لكم وفائي عليكم
وهنيئًا للعين طول السهاد
كلما حثني اشتياقي إليكم
قلت لبيك أنت نعم المنادي

وكان الأمير تميم في مصر يشارك المصريين لهوهم، ويخرج إلى متنزهاتها، ويعبث في أديرتها، وأنشد في ذلك كله شعرًا — سنتحدث عنه في فصل آخَر من هذا الكتاب — وشعره إن دلَّ على شيء فإنما يدل على رقة شعوره، ورقة العاطفة وصدقها. وتوفي هذا الشاعر سنة ٣٧٤ﻫ.

١  A Guide to Ismaili Literature. P. 49.
٢  نسخة ديوان المؤيد الخطية المرموز إليها (ق)، راجع ديوان المؤيد.
٣  ورقة ٦٦ب.
٤  يروي الشيعة هذه الأحاديث، ونجدها في المجلس الخامس والستين من المائة الثانية من المجالس المؤيدية، وفي كتاب بحار الأنوار، وغيرهما.
٥  ذكرنا أنه ورد في صحيح البخاري قول النبي : «أول ما خلق الله القلم، فقال له: أقبِلْ فأقبل، ثم قال له: أدبِرْ فأدبَرَ، فقال: بعزتي وجلالي ما خلقت خلقًا هو أعز عليَّ منك، بك أثيب وبك أعاقب …»
٦  راجع «نظرية المثل والممثول».
٧  راجع قصيدة الإمام العزيز في الفصل السابق.
٨  ديوان الأمير تميم: ورقة ٥٨أ (نسخة خطية بمكتبتي).
٩  ديوان الأمير تميم: ورقة ٥أ.
١٠  ديوان تميم: ورقة ١٨ب.
١١  كتاب المجالس المستنصرية: ص٢٩.
١٢  ديوان تميم: ورقة ١٣١ب.
١٣  راجع ما كتبناه عن ذلك في كتاب ديوان المؤيد داعي الدعاة.
١٤  ديوان تميم: ورقة ١٧أ.
١٥  القصيدة الثانية من ديوان المؤيد داعي الدعاة.
١٦  كتاب كنز الولد (نسخة خطية بمكتبتي).
١٧  راجع كتاب راحة العقل والمجالس المؤيدية في مواضع متعددة.
١٨  القصيدة الثالثة.
١٩  القصيدة الثانية عشرة.
٢٠  القصيدة السادسة عشرة.
٢١  القصيدة الحادية والأربعون.
٢٢  القصيدة التاسعة والخمسون.
٢٣  الخريدة: ورقة ١٤٢ب.
٢٤  المجلس الرابع من الجزء الخامس من تأويل دعائم الإسلام، نسخة خطية بمكتبتي.
٢٥  المجلس الخامس من الجزء الخامس من تأويل دعائم الإسلام، نسخة خطية بمكتبتي.
٢٦  خطط المقريزي: ج٢، ص٣٣٠.
٢٧  صبح الأعشى: ج٣، ص٤٩٧.
٢٨  خطط المقريزي: ج٤، ص٨٢.
٢٩  ياقوت، معجم الأدباء: ج١٠، ص٩٠ (طبعة رفاعي).
٣٠  ياقوت: ج١٠، ص٩٢.
٣١  النكت: ص٣٢.
٣٢  النكت: ص١٩٨.
٣٣  النكت: ص٣٠٦.
٣٤  القصيدة الخامسة والعشرون من ديوان المؤيد.
٣٥  النكت: ص٢٠١.
٣٦  النكت: ص٣٦٢.
٣٧  النكت: ص٦٩.
٣٨  النكت: ص٤٥.
٣٩  النكت: ص١٦٨.
٤٠  الخطط: ج٢، ص٣٥١.
٤١  صبح الأعشى: ج٣، ص٤٩٧.
٤٢  معجم الأدباء: ج٤، ص١٠ (طبعة رفاعي).
٤٣  القصيدة الحادية والأربعون من ديوان المؤيد.
٤٤  القصيدة الخامسة والأربعون.
٤٥  القصيدة السادسة والعشرون.
٤٦  القصيدة الثانية والعشرون.
٤٧  يتيمة الدهر: ج١، ص٢٤٠.
٤٨  نهاية الأرب: ج٣، ص١٩٤.
٤٩  ديوان تميم «نسخة خطية بمكتبتي».
٥٠  ديوان تميم، السابق ذكره.
٥١  معجم الأدباء: ج١٥، ص٨٥ (طبعة رفاعي).
٥٢  المغرب: ص٨٥، ويقال إن الشاعر أنشدها في كافور.
٥٣  المقريزي: ج٢، ص٣٦٥.
٥٤  المصدر السابق.
٥٥  المقريزي: ج٢.
٥٦  المصدر السابق.
٥٧  الخريدة: ورقة ١٠٩ب، وابن ميسر: ص٨٥.
٥٨  ديوان الأمير تميم: ورقة ١٢٢ (نسخة خطية بمكتبتي).
٥٩  ابن خلكان: ج٣، ص٤، والنجوم الزاهرة: ج٤، ص١١٦.
٦٠  نصُّ ما ورد في سيرة جوذر ص١٧٥ وما بعدها (نسخة خطية بمكتبتي): ولما وصل أحمد بن الحسن من صقلية، وكان واجدًا على ولده طاهر لصحبته مع الأمير تميم، وما شنع من القول عنهما، فأراد قتل ولده طاهر هذا إلا أنه استأمر الأستاذ (أي جوذر) على ذلك وشاوره فيه، فلم يجد الأستاذ بدًّا من أن يرفع ذلك إلى أمير المؤمنين (أي المعز)، فصرف إليه الجواب وهو: «يا جوذر كثَّرَ الله من أوليائنا مثل أحمد، فوالله ما كان يشينه عندنا ويصوره بغير صورته، إلا بعض أتباعه الذين زيَّنوا لهذا الصبي الشقي ولده صحبة مَن كان سبب شقوته، ووالله إن توجعنا كتوجعنا بمَن لنا، لكن ابن أحمد يرجى فيما يستقبل من الزمان، ومدبرنا نحن لا يرجى؛ إذ كان الخطة التي يرفع الله — عز وجل — بها أولادنا هي خطة الطهارة، ومن عدمها كان كلًّا على مولاه، والحمد لله على ما ساء وسر، فأما ما أراد أن يفعله أحمد بولده فامنعه، وتشفع له عنده، وعرفه أن الصواب إصلاح كل فاسد من غير ظاهر شنعة يلحقه عارها، ويبقى ذكرها مع الأيام، فما يخفى عليه أن ذلك يبقى في الأعقاب، فليمسك ويعمل ما يصلح فيما يستقبله، فكونه بين أيدينا يصلح فساد كل فاسد كما يسعى به بينهما، ونحن نداوي عللهم، فمَن أطاعنا لم يشقَ، والله لقد نكس الله رءوس كلِّ مَن كان انتصب للشماتة بهم؛ لما رأوه من فضلنا عليهم وإنفاقه، وكذا نحب أن يكونوا ما بقوا في نمو وزيادة، لا في النقص ورجوع القهقرى، فعرفه ذلك ليعمل به، ولا يحدث في الصبي شيئًا من المكروه إن شاء الله.
٦١  ديوان الأمير تميم، نسخة خطية بمكتبتي.
٦٢  ديوان الأمير تميم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤