الفصل الخامس

في الغزل

لا أكاد أعرف شاعرًا من شعراء مصر الفاطمية لم ينشد في الغزل، فجميع الشعراء الذين بلغنا شيء من شعرهم كانوا يتغزلون؛ سواء أكان هذا الغزل في المؤنث أم في المذكر، شأنهم في ذلك شأن شعراء العربية في الأقطار الأخرى، فكان شعراء المدح — الذين ألَمُّوا بالعقائد المذهبية في شعرهم — يتبعون سنة الشعراء الأقدمين في الابتداء بالغزل، ولما أراد العماد الأصبهاني أن يروي شيئًا من شعرهم، اكتفي بالمقدمات الغزلية التي افتتحوا بها قصائدهم، وأبى أن يروي شيئًا من مدح الأئمة.

وإذا نظرنا فيما بقي لنا من شعر الغزل في هذا العصر رأينا المصريين كانوا يردِّدون في أشعارهم هذه الصفات العديدة التي ردَّدَها الشعراء من قبلُ في صفات المرأة، وما تمتاز به المعشوقة من فتنة ودلال وسحر، ولكن الشيء الذي يلفت نظرنا في هذه الأشعار الغزلية، أن الصور التي صاغ فيها المصريون هذه الصفات اختلفت باختلاف الحياة المصرية والبيئة المصرية، انظر مثلًا إلى قول أبي الحسن التنيسي الملقَّب برضي الدولة:

راح من خمر الصبا مغتبقًا
ثملًا، أحسن شيء خلقَا
تفعل النشوة في أعطافه
فِعْل عينيه بأرباب التقى
رشأ قد أقسمت ألحاظه
ليريقنَّ دمًا مَن عشقَا
من عذيري من غزال كلما
سئل الرحمة أبدى حنقَا
ورأيت النرجس الغض وقد
أخجل الورد بما قد أحدقَا
ينهب الناهب من زهرته
ويذود اللمس عمَّا بسقَا
كم أناديه وذلي شافعي
وفؤادي يتلظى حرقَا
هكذا يجزى بكم مَن عشقَا
لاعجًا يسري وقلبًا موبقَا١

فالمعاني التي جاء بها الشاعر في هذه المقطوعة، والتي قدَّم بها للمدح، ليست بجديدة في الشعر العربي، إنما الجديد في هذه الأبيات هي هذه الصور المختلفة التي صاغ فيها هذه المعاني القديمة.

وانظر إلى قول الشاعر ابن قتادة المعدل، وقد أتى بمعانٍ لم يطرقها القدماء في غزلهم:

نظري إليك يزيد في نظري
فعلامَ تحجبني عن النظر
يا جملة الحسن التي اقتسمت
منها المحاسن جملة البشر
لهواك بين جوانحي كتب
قد عنونت بالدمع والسهر٢

فهذه المعاني التي ألَمَّ بها الشاعر في هذه الأبيات لم يطرقها — فيما أعرف — شاعر عربي من قبلُ، وإن كان القدماء قد أكثروا من ذكر الدمع والسهر، ولكن الشاعر المصري جعل لهوى المحبوب في نفسه كتبًا عنوانها الدمع والسهر.

ويتغزَّل الشاعر أبو الحسن علي بن الحسن بن معبد القرشي الإسكندري، فيقول في مقدمة إحدى قصائده:

ومهفهف طالت ذوائب فرعه
كالليل فاض على الصباح المسفر
قصر الدلال خطاه فاعتلقت به
لي مهجة عن حبه لم تقتصر
وسنان كحل السحر حشو جفونه
ففتورها عن مهجتي لم يفتر
ملك القلوب بدر سمطى لؤلؤ
عذب اللمى في غنج طرف أحور
وبوجنة رقم الجمال رياضها
ببنفسج من فوق ورد أحمر
كتب العذار على صحيفة خده
هذا بداية حيرة المتحير
وهبت محاسنه الكمال فأصبحت
فتن العقول وروض غير المبصر٣

ويقول مرة أخرى في مقدمة قصيدة أخرى:

وإني لأهوى رشأ ساحرًا
أعار فتور العيون الظبَا
إذا ما تثنى فغصن نقا
وبدر جلا شعره غيهبَا
وزانت محياه خيلانه
كما يتبع الكوكب الكوكبَا
وبي أسمر ناسبته القنا
يروقك خدًّا جلا مذهبَا
سقى روض خديه ماء الشباب
ففتح زهرًا به معجبَا
تقلد من لحظه صارمًا
أسال النفوس وما ذنبَا
ومُلِّك من حسنه دولة
لطاعتها كل قلب صبَا٤

فهذه الصور المختلفة التي رسمها الشاعر في هذه الأبيات ليس بها هذه الصور التي رأيناها في شعر القدماء، ولكنها صور متحضرة، لا يذكر الشاعر جزءًا من أجزاء الجسم إلا ليصور أثره في نفسه، ويقرن بين هذه الصورة التي أتى بها وبين صورة أخرى أخذها الشاعر من الطبيعة التي حوله، والحياة التي يحياها؛ فالشاعر المصري في غزله لا يأتي بأجزاء الجسم ليصفها وصفًا واقعيًّا — إن صح هذا التعبير — إنما كان يتحدَّث دائمًا عن الناحية النفسية أكثر مما يتحدَّث عن الصفات الحسية، وهنا نرى فرقًا كبيرًا بين شعراء العرب القدماء وبين شعراء مصر الفاطمية، فالشاعر العربي كان ماديًّا في وصفه، والشاعر المصري كان عاطفيًّا؛ وإنما جاء هذا الخلاف من تحضُّر مصر الفاطمية، ورقيِّ عاطفة المصريين برقيِّ حياتهم.

ناحية أخرى نراها فيما بقي لنا من شعر الغزل في مصر الفاطمية، تلك أن المصريين بدءوا يتركون الأوزان الطويلة، وينشدون غزلهم في أشعار إما مجزوءة وإما منهوكة، ويميلون إلى استخدام اللغة التي يصطنعها الشعب التي لا يزال أثرها باقيًا في مصر إلى اليوم. انظر إلى قول الشاعر طلائع الآمري:

ملك الشوق مهجتي
حبذا مَن تملكَا
قد رماني بحبه
ونهاني عن البكَا
إنما راحة المحب
إذا أن أوشكَا
ما أرى السلو عنه
وإن جاز مسلكا٥

فهذا الشاعر الدقيق الحس، الرقيق الشعور، وصف حالة المحب المضني، وقد تملكه الشوق فلم يجد راحةً إلا إذا أنَّ واشتكى، بالرغم من أن المحب نهاه عن البكاء، فاتخذ هذا الوزن الخفيف، واصطنع هذه الألفاظ التي تكاد تكون من ألفاظ الشعب، فهذه المقطوعة وغيرها هي التي سنرى مثلًا لها بعد ذلك واضحة في شعر البهاء زهير، ثم انظر إلى قول الشاعر طلائع الآمري أيضًا:

أنعموا لي بالوصال
وارحموا رقة حالي
لا تذيبوا مهجتي بيـ
ـن التجني والدلال
ليس عذري في هواكم
قد بدا لي قد بدا لي
إنما قصدي رضاكم
قد حلا لي قد حلا لي
وإن اخترتم عذابي
لا أبالي لا أبالي٦

أليست هذه المقطوعة أقرب إلى لغة الشعب المصري منها إلى لغة الشعراء الذين عوَّدونا الجزالة في اللفظ مع حسن الديباجة، ولكن الشاعر هنا كان شاعرًا مصريًّا قبل كل شيء، كان يتغزَّل، فاصطنع هذه الألفاظ السهلة والأوزان الخفيفة.

وليس معنى ذلك أن كل شعر الغزل على هذا النحو الذي رأيناه عند طلائع الآمري، فقد كان للمصريين لونان من شعر الغزل: اللون الأول الذي يختار فيه الشاعر ألفاظًا جزلة ووزنًا قويًّا طويلًا، أما اللون الآخَر فهو الذي يترك الشاعر فيه نفسه على سجيتها بلا تصنُّع، فلا ينتقي الألفاظ الجزلة بل ينشد ما يجري به لسانه وما تمليه عاطفته. وقد رأينا طلائع الآمري في المقطوعة الأولى السابقة يميل إلى اللون الثاني من ألوان الغزل، ونراه مرة أخرى ينشد المعنى نفسه، ولكن في صياغة أخرى تختلف تمام الاختلاف عمَّا رأيناه له، فهو يقول:

تريد الهوى صرفًا من الضر والبلوى
لعمرك ما هذي قضية مَن يهوى
إذ لم يكن طرف المحب مسهدًا
وأدمعه تجري، فهذي هي الدعوى
ولا حب إلا أن ترى كلفة الهوى
ألذ من المنِّ المنزَّل والسلوى
وحتى ترى القلب القريح من الهوى
يمانعه الصبر الجميل من السلوى
رعى الله مَن أعطى المحبة حقها
وإن لم يكن فيها من الأمر ما يقوى٧

فالشاعر في هذه المقطوعة يختلف في غزله عمَّا جاء به في مقطوعته الأولى، فالشاعر حاوَلَ اللونين من شعر الغزل؛ على أن أكثر شعر الغزل الذي انتهى إلينا هو من اللون الخفيف الذي يقرب من أسلوب العامة، فالشاعر مروان بن عثمان اللكي تلمح في غزله أثر السهولة التي تتفق مع رقة الغزل وعاطفة الحب، حين يقول مثلًا:

ما بال قلبك يستلين
أبه غرام أم جنون
برح الخفاء بما يجن
فأذهب الشك اليقين
حتى متى بين الجوا
نح والضلوع هوى دفين
وإلى متى قلبي المتيـ
ـم في يد البلوى رهين
يا ماطلي بديون قلـ
ـبي آنَ أن تقضي الديون
شخصت له فيك العيون
وتقسمت فيك الظنون
وسلبت ألباب الورى
بلواحظ فيها فنون
وقوام أغصان الريا
ض وأين تدركك الغصون؟
الحسن في الأغصان فن
وهو في هذا فنون
من أين للأغصان ذا
ك الغنج والسحر المبين؟
أم ذلك الورد الجني
بخده والياسمين؟٨

ثم اقرأ هذه المقطوعة الأخرى من غزل ابن عثمان اللكي التي تظهر فيها عاطفة الشاعر في أسلوب أهل مصر الآن، ولا سيما في البيت الثالث:

تمكن مني السقم حتى كأنني
توهم معنى في خفي سؤال
ولو سامحت عيناه عيني في الكرى
لأشكل من طيف الخيال خيالي
سمحت بروحي وهي عندي عزيزة
وجدت بدمعي وهو عندي غالي
وقد خفت أن تقضي على منيتي
ولم أقض أوطاري بيوم وصال
وهون ما ألقى من الوجد أنه
صدود دلال لا صدود ملال٩

وها هو ذا الشاعر أحمد بن محمد المادرائي يتغزل:

يا حبيب العمر عطفًا فإني
بهواكم على لظى أتقلى
إن وصلتم، وصلتم مستهامًا
عن هواكم وحبكم ما تخلَّى
هو عبد الهوى وليس بباغي
عتقه في هوى ولو مات قتلَا١٠

ويقول الشاعر إبراهيم بن إسماعيل الدمياطي:

يا هذه، رقي على صبٍّ دنف
صيَّره الهجر إلى حد التلف
رقي عليه، وصلي حباله
فإنه عن حبكم لا ينصرف١١

وبالرغم من أن الشاعر أبا محمد هبة الله بن عرام كان من إقليم أسوان، فإن غزله كان متأثرًا بالحياة اللينة التي عُرِفت بها مصر، ولا سيما أنه وفد على القاهرة، ومدح بها الوزير رضوان وغيره من رجال الدولة، فأسهم مع غيره من شعراء مصر في التغزل في الأوزان السهلة الخفيفة والألفاظ والصور الشعبية، فهو الذي يقول:

من معيني على اقتناص غزال
نافر عن حبائلي رواغ
قلبه قسوة كجلمود صخر
خده رقة كزهر الباغ
كلما رمت أن أقبِّل فاه
لدغتني عقارب الأصداغ

وقوله أيضًا:

لدغتني عقارب الصدغ منه
فسلوه من ريقه درياقَا
إنني عاشق له، وهو مذ كا
ن ظلوم لا يرحم العشَّاقَا١٢

وقوله:

يا لائمي في غزال
قلبي رهين يديه
لا تطمعن في سلوى
فلا سبيل إليه
كم لامني فيه قوم
وعنفوني عليه
حتى إذا أبصروه
خروا سجودًا لديه
فاحفظ فؤادك فالمو
ت في ظبا مقلتيه١٣

أضف إلى ذلك أن القدماء لاحظوا أن للمصريين بعض المعاني المبتكرة، من ذلك قول الأخفش في العذار:

وكأن العذار في حمرة الخد
على حسن خدك المنعوت
صولجان من الزمرد معطو
ف على أكرة من الياقوت١٤

ولكن العماد أخذ على الشاعر أنه ذكر «الخد» مرتين في البيت الأول، مع اعترافه بأن المعنى مبتكر لم يسبق الشاعر إليه.

وكذلك قال القدماء: إن قول أبي الغمر الأسناوي في العذار من المعاني المبتكرة:

وغزال خلعت قلبي عليه
فهو بادٍ لأعين النظَّار
قد أرانا بنفسج الشعر بدرًا
طالعًا من منابت الجلنار
وقدت نار خده، فسواد الشـ
ـعر فيه دخان تلك النار١٥

وقول أبي الغمر الأسناوي أيضًا:

وغزال أبدى لنا الله من بسـ
ـتان خديه في الحياة الجنانَا
قد أرانا قدًّا وخدًّا وصدغًا
وعذارًا وناظرًا فتَّانَا
غصنًا يحمل البنفسج والنر
جس والجلنار والريحانَا١٦

وقول ابن حيدرة العقيلي أيضًا، وفيه لحن من غنائه:

وعذول كان من قولي له
لست أستحسن أجفو الحسنَا
قال: لو كنت أنا أنت لما
رضيت نفسي لجسمي بالضنَا
قلت: دعني عنك واصنع ما تشا
ما أنا أنت ولا أنت أنا١٧

فهذه بعض صور من مقطوعات الغناء من شعر مصر الفاطمية كما حدَّثنا عنها القدماء من رواة شعر مصر، وهي مقطوعات غزلية يظهر فيها لون من ألوان ذوق المصريين في المقطوعات الغنائية، والعاطفة التي كانت تثار عند سماع هذه المقطوعات.

ولم يشأ شعراء مصر أن يقفوا في غزلهم على تصوير مختلف مشاعرهم عند رؤية الحبيب، أو أن يتحدثوا عن جماله وصفاته، وما يفعله ذلك كله في نفوسهم، إنما صوَّروا من ناحية أخرى الشوق لرؤية المحبوب إذا بعد عن أنظارهم أو فارَقَهم إلى مكان آخَر، فالحديث عن الفراق أخذ حيزًا كبيرًا من غزل شعراء مصر الفاطمية، وفي حديثهم عن الفراق نرى لوعة المحب الذي أضناه البعاد وخشينا عليه من الهلاك.

وها هو الشاعر علي بن المؤمل بن غسان ينشد:

فتنت بفاتن الحدق
وزاد بهجره أرقي
إذا ناديت من جزع
أخذت القلب في طلق
رويدك سوف تلقاني
بلا قلب ولا رمق١٨

وأنشد ابن معبد الإسكندري:

يا حادي الركب رفقًا بالحبيب فقد
طار الفؤاد وقَلَّ الصبر والجَلَد
لعل حبي يرى ذلي فيرحمني
بنظرة علها تشفي الذي أجد
يا ويح مَن ظعنت أحبابه وغدا
مخلفًا بعدهم أكباده تقد١٩

وقال محمد بن وهب:

ولما تنادَوا بالرحيل رأيتني
أكفكف دمع العين من كل جانب
وأسأل ربي أن تذم ركابهم
عن السير حتى أشتفي بحبائبي
فلم تكُ إلا ساعة سار ركبهم
وسار فؤادي بين تلك الركائب
فلم أَرَ يوم البَيْن أعظم حسرة
وللبين عندي من كبار المصائب٢٠

وأنشد طلائع الآمري:

ما لقلبي من لوعة البين راق
أتراني أحيا ليوم التلاق
عزمة لم تدع لجفني دمعًا
لا ولا في الحشا مكان اشتياق
أطمعوني حتى إذا أسروني
عذبوا مهجتي وشدوا وثاقي
واستلذوا الفراق حتى كأن لم
يعلموا أنه مرير المذاق
في سبيل الهوى نفوس أقامت
بعد وشك النوى على الميثاق٢١

وقال طلائع أيضًا:

ما أودعوك مع الغرام وودعوا
إلا ليتلف قلبك المشتاق
قف فاستلم إثر المطي تعلُّلًا
إن لم يكن لك نحوهن لحاق
وتنحَّ عن دعوى هواك فإنه
إن لم تمت يوم الفراق نفاق٢٢

وإذن فالغزل في شعر مصر الفاطمية صورة أخرى من صور الحياة المصرية والعاطفة المصرية التي سمت فبعدت عن المادية التي عرفناها عند الشعراء الأقدمين؛ وذلك لاختلاف بيئة مصر عن غيرها من الأقطار العربية.

١  الخريدة: ورقة ٩.
٢  الخريدة: ورقة ٢٩.
٣  الخريدة: ورقة ١٣.
٤  المصدر نفسه: ورقة ٢٨.
٥  المصدر نفسه.
٦  الخريدة: ورقة ٢٩.
٧  الخريدة: ورقة ٣٠.
٨  الخريدة: ورقة ١٢٩.
٩  الخريدة: ورقة ٧١.
١٠  الخريدة: ورقة ٢٥.
١١  الخريدة: ورقة ٢٥.
١٢  الخريدة: ورقة ١٨١.
١٣  الخريدة: ورقة ١٨١.
١٤  الخريدة: ورقة ١٣١.
١٥  الخريدة: ورقة ١٣٠.
١٦  المصدر نفسه.
١٧  المغرب: ص٨٠.
١٨  الخريدة: ورقة ٩.
١٩  المصدر نفسه: ورقة ١٣.
٢٠  الخريدة: ورقة ٢٤.
٢١  المصدر نفسه: ورقة ٢٨.
٢٢  المصدر نفسه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤