خواطر حول الموسيقى الشعبية

كان من الشائع، وقتًا ما، أن تُقسَّم الموسيقى فئتين: فئة للعامة وفئة للخاصة. وموسيقى العامة هي تلك الألحان الخفيفة، الراقصة في الغالب، التي تستطيع الجماهير الغفيرة من الناس تذوُّقها وترديدها دون عناء، وتجد في ذلك لذة تخفِّف عنها عناء العمل اليومي الشاق. إنها موسيقى جسم مكدود وذهن متعَب، لا تقتضي من السامع جهدًا، بل هي على العكس من ذلك قد تكون له معينًا على بذل المزيد من الجهد. أما موسيقى الخاصة فإن النفس لا تدرك ما فيها من انسجام وتوافق إلا بعد أن تكون قد تدرَّبت على بذل نوعٍ من الجهد الذهني يتيح لها أن تتتبَّع الخيوط المختلفة للحن، والمسارات غير المتوقَّعة للإيقاع، وتجمع ذلك كله في وحدة متآلفة؛ فهي إذن موسيقى تعتمد أول ما تعتمد على قدْر من التركيز الذهني لا يتوفِّر إلا لقلة من البشر، تسمح لهم ظروف حياتهم بأن ينعموا بهذا الترف، تمامًا كما كان التفكير الفلسفي وقتًا ما ترفًا لا يملك الاستمتاع به إلا القليلون.

كان ذلك تقسيمًا شائعًا في وقتٍ من الأوقات، وكان من الطبيعي أن يرتبط هذا التقسيم بنوع من التمييز الطبقي، قد يكون أحيانًا قائمًا على أساس اجتماعي واقتصادي، ولكنه في الأغلب قائم على أساس ثقافي؛ فالعامة والخاصة يناظرون الطبقات الفقيرة والطبقات الغنية أو الأرستقراطية في بعض المجتمعات، ولكنهم في معظم الأحيان يناظرون — في مجال الموسيقى — الجهلاء والمثقفين، أو السطحيين والمتعمقين، وبعبارة أخرى فإن اهتمامات محدودي الثقافة من الناس لا تتعدَّى المستويات السطحية الظاهرة للفن الموسيقي، على حين أن المثقفين الحقيقيين يغوصون في أعماق هذا الفن ليستخلصوا منه دُررًا لا تتكشف إلا للواصلين.

على أن عصرنا الحديث، في ميله الشديد إلى تعقيد كل ما هو بسيط، قد أدخل تغيرات شاملة على هذا التقسيم المبسَّط، كان من شأنها أن أصبحت الصورة معقدة غاية التعقيد؛ فقد دارت الأيام، وإذا بنا نجد أولئك الذين اعتدنا أن نسميهم بالخاصة أو المثقفين أو أرستقراطي الفكر، يهتمون كل الاهتمام بألوان الموسيقى التي يرددها العامة، ويجعلونها موضوعًا للدراسة والتحليل، بل إن منهم مَن أصبح يرى فيها خلاصًا من الأزمة الفنية التي انتهت إليها موسيقى الخاصة ذاتها، ووسيلة بعث حياة جديدة ودماء حارة فتية في جسدها الذي دبَّ فيه الاعتلال والوهن. وبعد دورة الأيام هذه أصبحنا نجد كبار المشتغلين بالموسيقى — نظريًّا وعمليًّا — يُبدون اهتمامًا زائدًا بإيقاع دقات الطبول عند قبيلةٍ مجهولة في قلب غابات أفريقيا، أو بلحن بدائي متوارث من مئات السنين، يردِّده سكان جزيرة نائية في المحيط الهادي، ويحسون بفرحةِ مَن عثر على كنز ثمين حين يسمعون أغنية ساذجة يردِّدها الفلاحون الفقراء في مجاهل الهند. وأصبح المثقف الذي كان يحتقر الموسيقى الراقصة بكل أنواعها، يستمع بشغف شديد إلى أنغام «الجاز»، ويكوِّن النوادي التي تضم عشاق هذا اللون، بل ويَعُدُّ الاستماع إليه — ويا للعجب! — علامة من علامات اتساع الأفق ورحابة الذهن والترفُّع عن روح الحذلقة والكِبر والغرور.

إنها إذن دورة كاملة قام بها تفكير الإنسان منذ اللحظة التي كان يقسِّم فيها الموسيقى، ببساطة، إلى فئة للخاصة وفئة للعامة، حتى اللحظة التي أصبح فيها الخاصة يحرصون على إثبات خصوصيتهم بإبداء أكبر قدْر من الاهتمام والعناية بموسيقى العامة. ولا جدال في أن من أوضح مظاهر هذا التغيير الجذري في نظرة المثقف الحديث إلى الفن الموسيقي، تلك النهضة الشاملة التي أصابت الموسيقى الشعبية، والتي حوَّلت هذا اللون من فنٍّ سوقي لا يعبأ به إلا عامة الناس، إلى فنٍّ رفيع يشغل أكبر قدْر من اهتمام المثقفين والمتذوقين والدارسين، ويرى فيه الكثيرون أساسًا لكل تطوُّر مثمر في مستقبل الموسيقى.

•••

هذا التغيُّر الأساسي الذي أدَّى إلى رد اعتبار الموسيقى الشعبية يمكن إرجاعه إلى جذور حضارية متعددة، أسهمت كلها في هدم النظرة الأرستقراطية إلى الفن الموسيقي، وفي ربط هذا الفن على نحوٍ أوثق بالحياة الفعلية للناس، بعد أن ظلَّ طويلًا وسيلة تستخدمها الطبقات الاجتماعية المترفة في الترويج عن نفسها، ولا يوجد لها خارج نطاق هذه الطبقات مجال.

أول هذه الجذور الحضارية هي فكرة القومية. ومن الواجب منذ البداية أن نوضِّح أن الموسيقى القومية لا يتعيَّن بالضرورة أن تكون موسيقى شعبية، وأن الفنان الذي يكتب موسيقاه بدافع القومية لا يستمد وحيه من الألحان الشعبية حتمًا؛ فقضية القومية في الموسيقى ليست هي ذاتها قضية الشعبية، ومع ذلك فإن مؤرخي الموسيقى لاحظوا ارتباطًا وثيقًا بين ظهور الطابع الشعبي في الموسيقى، أو على الأصح التنبيه إلى هذا الطابع والاهتمام به، وبين انتشار فكرة القومية؛ ففي العالَم الغربي كان القرن التاسع عشر عهد ازدهار القوميات، وكان في الوقت ذاته عهد الاهتمام بالموسيقى الشعبية والرجوع إلى الألحان الأصيلة النابعة من وجدان الشعب، واتخاذها أساسًا تُبنى عليه أعمال موسيقية شامخة. ولقد كان الارتباط بين الظاهرتين طبيعيًّا؛ إذ إن الاهتمام بالقومية، على المستوى السياسي والاجتماعي والحضاري، لا بُدَّ أن يصحبه اهتمام بروح الأمة كما يتجلَّى في ألحانها المنبثقة عنها تلقائيًّا. كما أن السعي إلى تحقيق الأهداف القومية لا بُدَّ أن يستعين — ضمن وسائله المتعددة — بالقوة الروحية التي تثيرها في أفراد الأمة تلك الألحان التي ظلَّت تجمع بينهم، وتدعم وحدتهم المعنوية أجيالًا طويلة. وربما ذهب بعض المفكرين إلى أن الروح القومية ترجع إلى عهدٍ أقدم من القرن التاسع عشر بكثير؛ إذ إنها — في أوروبا الغربية مثلًا — ترتد إلى ذلك العصر الذي انتشرت فيه لغاتٌ قومية مستقلة عن اللغة اللاتينية (التي كانت شاملة من قبل)؛ أعني العصر الذي كُتبت فيه مؤلَّفات أدبية تعبِّر عن روح كل شعب على حدة. وهؤلاء يرون أن العناصر الشعبية في الموسيقى كانت موجودة — ربما بصورة غير واضحة كل الوضوح — منذ عهد النهضة الأوروبية في القرن السادس عشر؛ أي طوال الفترة التي كان يشيع الاعتقاد بأنها فترة «عالمية» تتخطَّى حدود البلدان الخاصة ولا تخاطب شعبًا دون غيره. وقد يكون لهذا الرأي نصيب من الصحة، ولكن الأمر المؤكَّد هو أن التنبُّه إلى هذه العناصر الشعبية في الموسيقى، وفهْم دلالتها، واستغلالها استغلالًا واعيًا، كل ذلك لم يحدث على نطاق واسع إلا في نفس الفترة التي أخذت فيها القوميات الأوروبية تسعى إلى الاستقلال، وتبحث عن أصولها الروحية الكامنة وتلتمس الطريق إلى فهْم شخصيتها المستقلة المميزة.

ومن الجذور الأخرى التي نبع منها الاهتمام بالموسيقى الشعبية، الاتجاه الحديث إلى تحقيق الديمقراطية، واتساع قاعدة الجمهور الذي يخاطبه الفنان. ولا جدال في أن هذا الاتجاه يرجع إلى عهدٍ أسبق بكثير من القرن التاسع عشر؛ إذ إنه يرتبط في الواقع بانتهاء عهد الإقطاع السائد في العصور الوسطى، وببداية ظهور الطبقات البورجوازية والتجارية الحديثة. غير أن القرن التاسع عشر هو الذي شهد لأول مرة ازدهارًا سريعًا للروح الديمقراطية، وهو الذي أخذت فيه الجماهير العريضة من الناس تبدي اهتمامًا كبيرًا بالفن الذي كان تذوُّقه من قبلُ مقتصرًا على فئات محدودة تحتل أعلى درجات السُّلم الاجتماعي. ولقد كان طبيعيًّا، في هذا الوقت الذي أخذت فيه الدعوة إلى الديمقراطية والمساواة والعدالة الاجتماعية تنتشر انتشارًا سريعًا، والذي أحسَّت فيه الطبقات المنسية لأول مرة بكيانها، وطالبت لنفسها بالمكانة التي تستحقها داخل المجتمع، كان طبيعيًّا أن يتجه اهتمام المؤلفين الموسيقيين إلى تلك المنابع اللحنية التي يشترك فيها أكبر عدد ممكن من أفراد المجتمع، والتي هي أقرب ما تكون إلى روح الشعب الأصيلة، وهي الأقدر على التعبير عن أحاسيس الطبقات الشعبية التي لم تَعُد تعيش على هامش المجتمع؛ فالموسيقى الشعبية هي، بمعنًى معيَّن، تعبيرٌ عن اصطباغ الفن الموسيقي بالصبغة الديمقراطية، واتجاهه إلى مخاطبة نفس الجماهير العريضة التي كانت الدعوة إلى الديمقراطية تسعى إلى تحريرها اجتماعيًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا.

على أن هناك حركةً أخرى كان لها نصيب غير قليل في توجيه الاهتمام إلى الأصول الشعبية للموسيقى، هي الحركة الرومانتيكية، التي ازدهرت بدورها في القرن التاسع عشر، وما زالت لها آثار باقية في نظرة الإنسان إلى الفن حتى اليوم؛ ذلك لأن هذه الحركة هي التي مجَّدت — لأول مرة — التراث الشعبي في الأدب والتصوير والموسيقى، وهي التي نبَّهت الأذهان إلى تلك القوة الغامضة الخفية التي تكمُن في أعماق الروح الشعبية، وتُتيح لهذه الروح أن تعبِّر عن نفسها تعبيرًا أصيلًا صادقًا مخلصًا في أعمالٍ فنية لا يمكن أن تُوصف بأنها نتاج لفرد معيَّن، بل هي نتاج لشعب أو مجتمع كامل، أو هي على الأصح نتاج القوة الخلَّاقة الكامنة في هذا الشعب. وليس من العسير أن يدرك المرء مدى وثوق الارتباط بين مقوِّمات النزعة الرومانتيكية وبين هذا الاهتمام بالفن الشعبي؛ إذ إن ما تتَّسم به تلك النزعة من اتجاه صوفي غامض، يغلِّب المشاعر والانفعالات، ويميل إلى الجانب الخفي للأشياء، مرتبط أوثق الارتباط بفكرة القدرة الخلاقة ﻟ «روح الشعب» التي تعبِّر أصدقَ تعبيرٍ عن أعمق «أحاسيسه»، وبهذا الأصل «المجهول» الذي يُقال إن كل فن شعبي ينبثق منه.

وأخيرًا، فهناك سببٌ يمكن أن يُعزى إليه — في القرن العشرين بوجه خاص — الاتجاه إلى إحياء التراث الشعبي في الموسيقى، هو البحث المحموم في هذا القرن عن الجديد بأي ثمن، وفي أية صورة. ولقد اتخذ البحث عن الجديد، في حالة الموسيقى أشكالًا شتَّى، كان من بينها إحياء الألحان الشعبية واتخاذها أساسًا لاتجاهٍ كامل من اتجاهات الفن الموسيقي؛ أي إن البحث عن الجديد قد اتخذ في هذه الحالة — كما في حالاتٍ أخرى كثيرة — طابع الرجوع إلى القديم مع إضفاء صورة جديدة عليه. ولقد رأى البعض في سعي موسيقى القرن العشرين إلى الجديد علامةً من علامات الإفلاس الفني، ومظهرًا من مظاهر نضوب مَعِين ذلك الوحي الذي أنتج في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر من الروائع ما عجز القرن العشرون عن إنجاز قدْر ضئيل منه. ومن هنا كان التجاؤه إلى التجريب الصوتي والتوسُّع في إدخال الآلات الجديدة واستحداث السلالم المعقَّدة، لا لشيء إلا لكي يداري العجز الأساسي الذي يتسم به. ورأى البعض الآخر أن هذا الاتجاه إنما هو تعبير صريح عن صفةٍ كانت ملازمة للفن الموسيقي في أزهى عهوده، وأعني بها استلهام روح الأمة التي ينتمي إليها الفنان، فلم يزد القرن العشرون في هذا الصدد عن أنه كشف بصراحة ووعي عن مصدر للوحي الفني كان الموسيقيون من قبلُ ينهلون منه دائمًا دون وعي منهم في أغلب الأحيان. وسواء أكان هذا الرأي أم ذاك هو الصحيح، فالأمر المؤكَّد هو أن القرن العشرين يمثِّل قمة الاتجاه إلى الاعتراف بالموسيقى الشعبية بوصفها مصدرًا أساسيًّا للفن الموسيقي، ووسيلة عظيمة القيمة لبعث روح جديدة في هذا الفن.

•••

ولست أهدف من هذا البحث إلى إصدار حكمٍ على الاتجاه إلى الاستعانة بالتراث الشعبي في الموسيقى؛ إذ إن أمثال هذه الأحكام تقوم في معظم الأحيان على أساسٍ يفتقر إلى الموضوعية، وتتَّجه إلى فرض التفضيلات الذاتية لصاحبها على أذهان الآخرين وأذواقهم. ولكني أودُّ أن ألقي بعض الضوء على الفكرة التي يرتكز عليها هذا الاتجاه الموسيقي في صورته العامة، وعلى الطريقة التي يُطبَّق بها في بلادنا بوجه خاص.

وأول ما ينبغي أن أشير إليه وأؤكده للقارئ، هو أن حديثي هنا لا ينصب على الموسيقى الشعبية ذاتها، بل على محاولة الاستعانة بها في بناء موسيقى ذات طابع عالمي، أو في بعث نهضة موسيقية في بلد متخلف. والأمران مختلفان اختلافًا واضحًا؛ إذ إن الموقف الذي يمكن أن يتخذه المرء من الموسيقى الشعبية، كما هي في ذاتها، لا يعدو أن يكون موقف العالِم الذي يسجِّل ويحلِّل، أو السامع الذي يتذوق ويقدِّر. أما في حالة المحاولات التي أود أن أتناولها بالبحث، فمن الممكن أن يتحدث المرء عن مدى مشروعية المحاولة ذاتها، ومدى اتساقها مع نفسها، ومقدار الدور الذي يسهم به الأصل الشعبي في الهدف الذي يضعه أصحاب هذه المحاولات لأنفسهم — وكلها موضوعات لا يجوز للباحث التعرُّض لها حين يكون بصدد الكلام عن الموسيقى الشعبية في صورتها الخالصة.

إن من الواضح، بادئ ذي بدء، أن الانتقال بفكرة «الشعب» أو «الشعبية» من المجال القومي أو الديمقراطي — أي من معناها السياسي والاجتماعي — إلى المجال الفني، والموسيقي بوجه خاص، ينبغي أن يُختبر بدقَّة، ويُعالج بحذر شديد؛ ذلك لأن هناك احتمالًا قويًّا في أن يكون إيمان الكثيرين ﺑ «الشعب» و«الشعبية»، على المستوى السياسي والاجتماعي، قد دفعهم إلى الإيمان بهذه الفكرة ذاتها على المستوى الفني دون تمييز بين المجالين؛ فعندما نقول عن اتجاه معيَّن إنه شعبي، بالمعنى السياسي، يكون لهذه الصفة في الأذهان التقدُّمية وقعٌ مرغوب فيه إلى أقصى حدٍّ. ومن الطبيعي، تبعًا لذلك، أن يكون لها مثل هذا الوقْع حين تُستخدم صفةً لعمل فني. وبرغم ما قلناه من قبل، من أننا لا نهدف إلى إصدار حكم إيجابي أو سلبي على الموسيقى الشعبية في ذاتها، فمن الواجب أن ننبِّه إلى أن الخلط بين الارتباطات النفسية والذهنية للألفاظ، فيما بين المجالين السياسي والفني، هو في ذاته أمر غير مشروع، ومن الممكن أن يؤدي إلى أخطاء جسيمة، وحتى لو كان المرء ممن يبدون أشد الإعجاب بالاتجاهات الشعبية في الموسيقى، فإن هذا الإعجاب، لو كان مصدره هو التقدمية السياسية التي تجعل المرء متعلقًا بكلِّ ما هو «شعبي»، لكان بهذا المعنى أمرًا غير مشروع من الناحية الفنية. ولست أعني بذلك أنه يوجد — أو ينبغي أن يوجد — انفصال قاطع بين مجالي السياسة والفن، بل إن ما أعنيه هو أن الأحكام التي يصدرها المرء في أحد المجالين لا ينبغي أن تكون لها بالضرورة نفس الدلالة في المجال الآخر، وأن الارتباطات النفسية المستمدَّة من عالَم السياسة لا يصح أن تكون أساسًا للحكم في عالَم الفن؛ فإذا كان الشعب هو — من الناحية السياسية — مصدر كل القيم التي يعتز بها المفكر التقدمي، فإن هذا لا يعني — منطقيًّا — أنه في الوقت ذاته مصدر كل قيمة في الأعمال الفنية بدورها. وإذا كان الاتجاه الشعبي مرغوبًا فيه في المجال السياسي، فليس من الضروري أن يكون هذا الاتجاه مرغوبًا فيه في المجال الفني أو الموسيقي بدوره.

ولست أعني بذلك أن من الضروري أن يحكم المرء على الاتجاه الشعبي في الموسيقى حكمًا سلبيًّا، بل إن في وسع المرء أن يُصدِر من الأحكام الإيجابية على هذا الاتجاه ما يشاء. وكلُّ ما في الأمر أن هذه الأحكام ينبغي أن تكون مبنيةً على أسباب جمالية، ويجب ألا تكون مجرد امتداد أو انعكاس للأحكام التي يصدرها على الاتجاهات الشعبية في مجال السياسة أو المجتمع. وفي مقابل ذلك، فمن الواجب ألا يخلط المرء بين نقد الاتجاه الشعبي في الفن وبين الرجعية السياسية أو الاجتماعية؛ إذ لا يوجد أي ارتباط ضروري بين هذين الأمرين.

وهكذا يمكن القول إن عبادة الشعب، على المستوى السياسي والاجتماعي — وهي سمةٌ من أخص سمات المثقَّف في القرنين الأخيرين — قد انعكست بلا تمييز في المجال الفني فأصبحت بدورها عبادةً لكل اتجاه شعبي في الموسيقى، حتى أصبح من الصعب أن يتخذ المرء موقفًا نقديًّا موضوعيًّا إزاء هذه الاتجاهات، خشية أن يُتهم بالترفُّع عن «الشعب»؛ أي بالأرستقراطية والرجعية بالمعنى السياسي. وأصبحت الآمال التي يعلِّقها الفكر التقدُّمي على انتصار القوى الشعبية في مجال السياسة، منعكسةً على ميدان الفن في صورة آمال ممثَّلة تجعل الفنان موقنًا بأن إحياء الفن في عصرنا الحاضر لن يكون إلا بالرجوع إلى تراثه الشعبي. ومرة أخرى أقول إنني لست ضد هذه الفكرة الأخيرة من حيث المبدأ، وكلُّ ما في الأمر أنني ضد الخلط بينها وبين الفكرة السياسية الموازية، والاعتقاد الباطل بأن هذه الأخيرة ترتبط بالأولى ارتباطًا وثيقًا.

والحق أننا لو بحثنا في الأمر من الناحية المنطقية البحتة لتبين لنا أن صفة «الشعبية» لا ينبغي بالضرورة أن تكون مرادفة للامتياز والتفوُّق؛ ففي ميدان العلم النظري، لم يستطع العقل الإنساني أن يتقدَّم إلا بعد أن تغلَّب على الاعتقاد «الشعبي» بأن الشمس تدور حول الأرض، وبأن عناصر الطبيعة هي نفس العناصر الأربعة التي تظهر لحواسنا المجردة … إلخ. وفي ميدان الطب، لم يستطع الباحثون أن ينقذوا البشرية من كثير من آلامها إلا بعد أن تخلَّصوا من الفكرة «الشعبية» القائلة إن الحياة تتولَّد تلقائيًّا، وإن أسباب الأمراض أرواح شريرة تتقمَّص الناس، وإن اليد التي تبدو نظيفة لا يمكن أن تكون محتوية على عناصر تجلب المرض (جراثيم) … إلخ. وفي ميدان الفن والأدب ذاته، لا يجد المرء غضاضة في أن يحكم على رواية بوليسية «شعبية» بأنها أدب رخيص، برغم أنها تُقرأ على نطاقٍ أوسع بكثير من أروع نواتج الأدب العالمي؛ أي إن هناك بالفعل حالات كثيرة لا تكون فيها صفة «الشعبية» تعبيرًا عن فضيلة أو ميزة كامنة. وهذا ما ينبغي أن نضعه نصب أعيننا ونحن بصدد تحليل أهمية الاتجاهات الشعبية في الموسيقى.

•••

ولنحاول الآن أن نفهم ما يحدث حين يقوم فنان موسيقي كبير ببناء أعمال فنية كاملة على أساس من التراث الشعبي؛ لكي ندرك الدور الحقيقي الذي يقوم به هذا التراث في أعماله. إن الأمر المؤكَّد في نظري هو أن الفنان الكبير يستطيع أن يخلق إنتاجًا فنيًّا رائعًا بأبسط المواد التي تُتاح له. وفي هذه الحالة تكون روعة إنتاجه راجعةً إلى مقْدِرته الخاصة، لا إلى طبيعة المادة التي يستخدمها. وبعبارة أخرى، فاللحن الشعبي البسيط الذي يتخذه فنان مثل بارتوك أو إنيسكو أساسًا لعمل فني كبير، ليس هو الذي يضفي قيمةً على عمله، بل إن دور هذا اللحن لا يزيد عن دور قطعة الحجر في يد المثَّال، أو كلمات اللغة في يد الشاعر. وكما أن هذا الحجر نفسه يمكن أن يظل مهملًا في الطريق، يمر به المارة فلا يجدون فيه إلا عقبة يتمنون لو أُزيلت من طريقهم، وكما أن كلمات اللغة ذاتها يمكن أن تكون موضوعًا لثرثرة تافهة أو هلوسة مجنونة، فكذلك لا يكتسب اللحن الشعبي قيمته إلا من براعة الفنان الذي يصوغه، على حين أنه، لو نُظر إليه في ذاته، لما كان إلا مادة قابلة للتشكُّل فحسب.

إن اللحن الشعبي، في أيدي هؤلاء الموسيقيين العباقرة، إنما هو «مناسبة» فحسب. ومن المعروف أن الجُمل اللحنية الأصيلة، في الأعمال الموسيقية الكبيرة، ليست هي أهم عنصر في هذه الأعمال، بل إن مدى قدرة الفنان على تنميتها وتطويرها وتعديلها هي التي تتحكَّم في تحديد مستوى عمله الموسيقي. والمؤلِّف الموسيقي الذي يتقن عملية التطوير والتعديل وتطويع اللحن المتاح له، يستطيع أن يمارس عمله هذا على أية مادة موسيقية، بل إن من الموسيقيين مَن يقومون بهذا العمل بطريقة «استعراضية»؛ لكي يثبتوا مقدرتهم على أن يصنعوا من أبسط المواد أعمالًا ضخمة شامخة. وليس من الصواب أن نصف اللحن الشعبي في هذه الحالة بأنه «بذرة» صغيرة ينشأ منها نبات كامل؛ إذ إن البذرة تتميَّز، على أية حال، بأن لها القدرة على النمو التلقائي إذا توافرت بعض الشروط الضرورية لنموها بالطبع. أما في حالة اللحن البسيط الذي يرتكز عليه عمل موسيقي كبير، فإن النمو لا يمكن أن يكون تلقائيًّا، ولا يصدر عن قوة كامنة في اللحن ذاته، أو عن استعداد فيه للتطور في اتجاه معين، بل إن كل شيء يتوقَّف على تدخُّل الفنان وطريقة صياغته للمادة البسيطة المتاحة له.

هذا الحكم ينطبق، بصورة عامة، على الموسيقى العالمية التي ترتكز على ألحان شعبية، ولكنَّ للمسألة أوجهًا أخرى ذات طابع أكثر خصوصية، إلى جانب هذا الوجه العام؛ فمن المعروف أن الشعوب تتفاوت في درجة خصوبتها الفنية، أو في درجة حساسيتها لفنونٍ معينة، وهذه حقيقة أخرى ينبغي أن نتنبَّه إليها ونحن في معرض تحليل أهمية الألحان الشعبية من حيث هي مصدر من مصادر الفن الموسيقي؛ ذلك لأن عبادة «الشعب»، على المستوى السياسي والاجتماعي، قد ترتَّب عليها خطأ آخر في الميدان الفني، هو الاعتقاد بأن كل النواتج الفنية الشعبية قيِّمة لمجرد كونها نابعة عن الشعب. ولم يحاول أصحاب هذا الرأي أن ينزعوا عن فكرة «الشعب» تلك الهالة الصوفية الرومانتيكية التي يحيطونها بها، أو أن يكوِّنوا لأنفسهم صورة عينية واقعية عن «الشعب» المعيَّن الذي يتحدثون عنه، والذي قد يكون شعبًا فقيرًا، مقهورًا، حزينًا، لم يستطع أن يكوِّن لنفسه تراثًا موسيقيًّا عميقًا لانشغاله الدائم بالبحث عن لقمة العيش أو بالتخلُّص من بطش حاكم مستبد. والأمر المؤكَّد أن تجارِب الشعوب تتفاوت في هذا الصدد تفاوتًا شديدًا، وأن هناك شعوبًا لديها بالفعل تراث خصب يمكن أن يكون أساسًا قويًّا لبناء موسيقي متين. على حين أن هناك شعوبًا لا تملك إلا تجارِب موسيقية هزيلة، أو بدائية ساذجة، لا تصلح دعامةً ترتكز عليها نهضة موسيقية حقيقية.

وليس من حقي أن أُصدِر حكمًا على نوع الموسيقى الشعبية السائدة في بلادنا، وأقرِّر إن كانت تمثِّل بالفعل تراثًا خصبًا أم تراثًا بدائيًّا هزيلًا. ولكني أودُّ فقط أن أشير إلى أن تسعة أعشار الإعجاب الذي يبديه المتحمسون لهذا التراث عندنا لا يرجع إلى أسباب فنية أو جمالية؛ قد يكون ذلك إعجابًا متأثرًا بنزعات قومية، أو ديمقراطية شعبية، أو بنزوع لا شعوري إلى التواضع والتنازل والتقارب مع «القاعدة» الشعبية، وقد يكون إعجابًا مبنيًّا على اعتبارات «أدبية» بحتة، ولكنه في معظم الحالات ليس إعجابًا ناتجًا عن إدراكٍ للقيمة الجمالية الكامنة في هذه الموسيقى.

وأكاد أقول إن عددًا غير قليل من مثقفينا، ممن يحيون بالفعل حياة متميزة تميزًا كاملًا — في مستواها المادي والمعنوي — عن حياة الطبقات الشعبية، يدافعون بحماسة عن الشعبية في الموسيقى، لا لشيء إلا من أجل محاولة إزالة الفوارق بينهم وبين «الشعب» في ميدانٍ لا تكلفهم فيه هذه «الإزالة» شيئًا. وقد تكون هذه المحاولة، في أحسن حالاتها، تعبيرًا لا شعوريًّا عن نوعٍ من تأنيب الضمير. أما في أسوأ حالاتها فهي مظهر واعٍ من مظاهر نفاق السعداء المنعمين حين يتقربون زيفًا إلى التعساء المطحونين. ولكنها في كلتا الحالتين تُناقِض نفسها تناقضًا شديدًا؛ إذ تنسب إلى «الشعب» مزايا لا يتَّصف بها، وتوهمه بأن لديه كمالًا هو أبعد ما يكون عنه، وبذلك تساعد — من الوجهة العملية — على بقاء الشعب في حالة السذاجة والسطحية التي يزعمون أنهم يريدون انتشاله منها.

ولكن، هل هذه السذاجة والسطحية طبيعة كاملة في «الشعب» أم أنها شيء مفروض عليه؟ يكفي أن يستمع المرء — مثلًا — إلى جماعةٍ من البنائين وهم يستعينون بلحنٍ بسيط على أداء عملهم الشاق الرتيب ليجد الجواب البليغ عن هذا السؤال. إن خشونة اللحن وبدائيته ليست إلا المقابل الطبيعي لخشونة حياة هذا الإنسان وقسوتها. وليس مما يتمشَّى مع طبائع الأشياء أن نتوقَّع لحنًا جميلًا، رقيقًا، من إنسانٍ يفتك به المرض ويظلم حياته الجهل. وكل تراث ينتقل إلى شخص كهذا لا بُدَّ أن يكون تراثًا من البؤس والحسرة والإحساس الحاد بالاضطهاد، ينعكس على ألحانه، إذا كان لديه من الوقت أو من المزاج ما يجعله ينشئ لحنًا، أو إذا جاز لنا أن نسمي زفرات الألم من خلال ثقوب قطعة البوص («الناي الحزين»، على حد تعبير كُتَّابنا الرومانتيكيين) ألحانًا. فكيف نتوقَّع من تلك الألحان ما نتوقعه من موسيقى شعوبٍ تتغنَّى بجمال الطبيعة والحياة وتفيض بها البهجة فتنشد أنغامًا مرحة متوثبة؟ هل يحق لأحد أن يلوم إنسانًا لا يتذكَّره أحد على مر آلاف السنين، إذا كانت الألحان التي يتغنَّى بها صورة طبق الأصل لصحته المعتلة، ومعدته الجائعة، وملابسه المهلهلة، وبؤسه الذي لا أمل فيه؟

برغم ذلك كله فإن الأصوات ترتفع، في بلادنا، منادية بالعودة إلى تراثنا الشعبي في الموسيقى، على أساس أن في ذلك التراث حلًّا لكلِّ ما نواجهه من مشكلات فنية، وكلِّ ما نعانيه، في ميدان الموسيقى، من تردُّد وانفصام.

وقبل أن أختبر هذه الدعوة، علميًّا ومنطقيًّا، أودُّ في البداية أن أقدِّم تحليلًا بسيطًا للفظ «العودة» إلى التراث الشعبي، حين يُستخدم في بيئة ثقافية كبيئتنا. إن الدول المتقدمة في سُلَّم الحضارة «تعود» إلى تراثها الشعبي لأنها ابتعدت عنه، ووصلت في موسيقاها إلى أبعد حدود التعقيد شكلًا ومضمونًا وأداء. وحين يصل المرء إلى قرب نهاية الطريق، فمن الطبيعي أن يشعر بالحنين إلى البداية البسيطة، ويرى في براءتها نجاة وخلاصًا لروحه التي استبدَّ بها التعقيد المفرط؛ فالدعوة إلى الموسيقى «الشعبية» مفهومة تمامًا في بيئةٍ امتدت تجارِبها الموسيقية «البوليفونية» (المتعددة الأصوات) إلى أكثر من ثمانية قرون، وتنقَّلت فيها هذه التجارِب بين مختلف ألوان الموسيقى الأوركسترالية والمنفردة والغنائية حتى وصلت، في مظاهرها الأخيرة، إلى استخدام الآلات الإلكترونية في التأليف والموسيقى. عندئذٍ تكون العودة إلى الألحان الشعبية مظهرًا من مظاهر حركة «العودة إلى الطبيعة»، التي تتردَّد في كل حضارة بلغت حدًّا مفرطًا من التصنيع والتعقيد.

أما نحن، فهل انقطعت الصلات بين موسيقانا الحالية وأصولها الشعبية إلى الحد الذي يبرِّر «العودة إلى الجذور» في الموسيقى؟ إن مَن يتأمل الموسيقى التي تشيع حاليًا في بلادنا بشيء من العمق لا يصعب عليه أن يهتدي، من وراء القناع الظاهري الذي لا تحسن الاختفاء وراءه، إلى قدْر هائل من العناصر الشعبية. صحيح أن هناك محاولات ﻟ «التفرنج» تتمثَّل في الالتجاء إلى بعض إيقاعات الرقص الغربية، وفي استخدام آلات غربية، من آنٍ لآخر، بطريقة لا تخلو من النزوع «الاستعراضي» المكشوف، وصحيح أن «النحت» الشرقي الصغير قد تحوَّل إلى «أوركسترا» كبير هو في حقيقة الأمر «تخت» مكبر الصوت؛ لأنه لا يفيد شيئًا من قدرات الأوركسترا على التلوين أو على التعدُّد والتآلف الصوتي، ومع ذلك فإن الألحان تظل في صميمها قريبة كل القرب من الطابع الشعبي. والأهم من ذلك أن الجمهور ذاته لا يستجيب كثيرًا لتلك «التجديدات» وما زال وجدانه متعلقًا بطريقة الغناء الشعبية. وأبلغ دليل على ذلك حماسته الهائلة للغناء على طريقة المواويل، أو الليالي، عندما يتخلل أية قطعة من النوع الذي يصطبغ ظاهريًّا بطابع «التفرنج».

وإذن، فالاعتقاد بأن «العودة» إلى الطابع الشعبي للموسيقى هي التي تكفل لموسيقانا الحالية نهضة رفيعة هو، من حيث المبدأ، محاكاة ساذجة لدعواتٍ ظهرت في بلادٍ ابتعدت موسيقاها عن الأصول الشعبية ابتعاد السماء عن الأرض. وحين تظهر مثل هذه الدعوة في بلادٍ لا تزال «أرقى» أنواع الموسيقى المحلية فيها تحمل، بين طياتها، كثيرًا جدًّا من مظاهر الطريقة الشعبية في التلحين والعزف والغناء، فإنها تصبح شيئًا يدعو إلى السخرية، لسبب بسيط هو أن ما نريد «العودة» إليه كان ولا يزال، موجودًا معنا على الدوام!

ولكن، لندع جانبًا هذا النقد الذي يتعلَّق بمبدأ الرجوع إلى التراث الشعبي في بلدٍ لم تتجاوز موسيقاه المرحلة الشعبية بعدُ، ولنحاول أن نختبر، بطريقة علمية، تلك التجارِب التي تُمارس في بلادنا لإحياء الفن الموسيقي الشعبي — مفترضين جدلًا أن مثل هذا الإحياء أمرٌ له جدواه.

ولو تأمَّلنا التجارِب التي تُمارس في بلادنا لإحياء الفن الموسيقي الشعبي، لوجدناها ذات طابع مزدوج؛ فمنها تجارِب تهدف إلى إقامة بناء موسيقي ذي طابع عالمي، على أساسٍ من التراث الشعبي، ومنها تجارِب ترمي إلى إحياء هذا التراث في ذاته، ولكلٍّ من هذين النوعين خصائص ينبغي أن نتحدث عنها على حدة.

أما محاولات اتخاذ تراث الألحان الشعبية أساسًا لبناء موسيقى عالمية الطابع، فأخشى أن أقول إنها محاولات تنطوي على شيء من التناقض؛ ذلك لأن الألحان الشعبية الشرقية التي يُشيَّد عليها البناء الموسيقي العالمي هي بطبيعتها غير قادرة على التطور والنمو والتنويع إلا بطريقة مصطنعة. إنها ألحان وُضعت في ظل نظام نغمي مبني على وحدات لحنية مستقلة قائمة بذاتها؛ أعني نظامًا لا يعرف بطبيعته تلك القوالب التي تسمح بتنويع اللحن وتكثيفه والإضافة المتراكمة إليه. وهناك، فضلًا عن ذلك، تلك المشكلة المعروفة الخاصة بنوع السلالم الموسيقية، وقابلية «ربع الصوت»، الذي ترتكز عليه السلالم العربية، للتطوير في القوالب العالمية المعروفة. والمهم في الأمر أن اللحن الشرقي يبدو، في هذه الحالة، أشبه ببذرة غير قابلة للنمو؛ لأنها مغروسة في أرضٍ غريبة، أو أن المحاولة بأسرها قد تبدو أشبه بمحاولات استنبات فاكهة الصيف في الشتاء. وقد لا يكون ذلك راجعًا إلى قصورٍ في اللحن الشرقي الأصلي ذاته، ولكن المهم في الأمر هو أن المرء لا يستطيع الاقتناع بذلك الجهد المتكلَّف الذي يُبذل من أجل بناء موسيقى عالمية على أساسٍ من الألحان الشعبية المحلية. وحتى لو رأى البعض أن الاتجاهات الموسيقية الغربية المعاصرة تسمح بمثل هذا التقارب — إذ تعطي المؤلِّف حرية واسعة النطاق في التصرُّف في السلالم الموسيقية والإيقاعات والقوالب، أو في إلغائها أصلًا — فإن المحاولة (التي رأينا بالفعل نماذج لها في بلادنا في الآونة الأخيرة) لن تعود لها في هذه الحالة صلة بالموسيقى الشعبية من قريب أو بعيد. إنها تصبح في هذه الحالة منتمية إلى مجال الموسيقى العالمية في أحدث تطوراتها، ويستحيل التعرُّف على موسيقانا الشعبية وإدراك ملامحها والإحساس بمذاقها الخاص من خلال العمل في صورته النهائية. إنها — بالاختصار — تطوير للموسيقى العالمية في اتجاهٍ تُستخدم فيه مادة جديدة غير مألوفة ولكنها ليست على الإطلاق تطويرًا للموسيقى الشعبية ذاتها في اتجاه عالمي.

وأما النوع الآخر من المحاولات، وهو النوع الذي يرمي إلى إحياء تراث الموسيقى الشعبية، فيشوبه نقص كبير هو أنه يكتفي بالجانب التسجيلي فقط، ولا يكاد مع ذلك يشعر بوجود هذا النقص فيه؛ ذلك لأن الاهتمام الأكبر ينصب فيه على ترديد نفس الألحان المنتمية إلى التراث الشعبي دون أية محاولة لتطوير اللحن أو تهذيبه أو صقل طريقة أدائه. وليس في ذلك أي مأخذ على مَن يقومون بهذه المحاولات ما داموا واعين بحدود عملهم، بل إن تسجيل التراث الشعبي أمر مرغوب فيه، تحرص عليه كل البلاد الناهضة في عالمنا المعاصر، وهو مظهر من أقوى مظاهر الوعي الثقافي لدى أية أمة تسعى إلى تحقيق التقدُّم في المجال الفني. ولكن المشكلة هي أن هذا التسجيل والتدوين يُقدَّم إلينا في كثير من الأحيان، بل أكاد أقول في معظم الأحيان، كما لو كان هو ذاته عملًا فنيًّا رفيعًا بأحدث معاني الكلمة. وإني لأذكر برنامجًا تليفزيونيًّا ناجحًا اشترك في إحدى فقراته واحد من ألمع مثقفينا مع واحد من أخلص المشتغلين بجمع التراث الموسيقي الشعبي، قدَّموا فيه مغنية ريفية اشتهرت بغنائها في مواسم دينية خاصة، وكانت طريقة التقديم، وما اقترن بها من تمجيد وتفخيم وتعظيم، توحي بأن حدثًا فنيًّا خارقًا على وشك الوقوع، ولكن الغناء نفسه، حين بدأ، كان مخيبًا للأمل إلى أبعد حد؛ فالصوت خشن فيه البداوة الريفية غير المصقولة، والآلات بدائية ساذجة، والأنغام متكررة لا ابتكار فيها … كل هذه صفات يمكن أن تكون مستحبة إلى أقصى حدٍّ إذا كنا بصدد تسجيل التراث الشعبي لأغراضٍ علمية أو ثقافية؛ لأنها بالفعل جزء من البيئة التي يظهر في ظلها هذا التراث، ولأنها تعبير صادق ومخلص عن طبيعة الجانب الأكبر — الريفي — من شعبنا. أما حين يُقدَّم هذا الغناء على أنه حدث فني له في ذاته قيمته الرفيعة، ولا علاقة له بالتدوين العلمي، فهنا تبدو المفارقة واضحة ومؤسفة.

هكذا يبدو مصير الموسيقى الشعبية في بلادنا، في الآونة الراهنة، معلَّقًا بين اتجاهين: أحدهما يهدف إلى تطويرها، ولكنه يمسخها خلال هذا التطوير إلى حدٍّ يستحيل معه التعرُّف عليها، وآخر يكتفي بتسجيلها كما هي ويعرضها علينا كما لو كانت فيها هي وحدها الكفاية، وكما لو كانت تمثِّل قيمة فنية ترضي ذوق المستمع المعاصر وحسه الفني. والاتجاهان — كما نرى — متناقضان، وأخشى لو أنني اتخذت منهما ذلك الموقف الوسط المعروف أن يُقال إنني ألجأ إلى ما يلجأ إليه الكثيرون تهرُّبًا من مسئولية الالتزام بجانبٍ معيَّن أو بحلٍّ محدَّد المعالم. ولكني لا أجد مع ذلك مفرًّا من أن أقول إن الإنقاذ والإحياء الحقيقي للتراث الموسيقي الشعبي يكمن في موقعٍ ما بين هذين الطرفين، وأن النجاح الحاسم في هذا المجال لن يتم إلا حين ندرك عن وعي أن تدوينَ الموسيقى الشعبية والاحتفاظ بها شيء، وإعطاءها دورًا فعليًّا في حياتنا الفنية الراهنة شيء آخر، وأن هذا الدور لن يُتاح لها إلا إذا ظهر مَن يستطيع تطويرها على النحو الذي يجعل لها دلالة عالمية من جهة، ويحتفظ لها بمعالمها الأصلية من جهة أخرى.

ومع ذلك، فحتى لو تحقَّق هذا الهدف — وهو في رأيي لا يحتاج إلى أقل من معجزة فنية — فسيظل السؤال الذي أثرته في بداية هذا المقال قائمًا، وأعني به: هل سيكون اللحن الشعبي البسيط هو المصدر الفعلي لإلهام ذلك العبقري القادر على تحقيق هذه الغاية، أم أنه مجرد مادة استخدمها وكان يستطيع أن يستخدم غيرها؟ وهل يرجع جمال العمل النهائي إلى ذلك الأصل البسيط الذي بدأ منه، أم أن القدرة على تشييد بناء متكامل، وإيجاد النِّسب والعلاقات المنسجمة بين أجزائه، وتنسيق مختلف عناصره، هي التي يرتد إليها كلُّ ما في هذا العمل من جمال؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤