أنقدٌ أم حسد؟

الويل للناقد في أمة لم يألف أدباؤها إلا قرابين المدح ونذور الثناء، يطرحها المؤمنون على أقدام تلك الآلهة ثم حَسْبهم الرضا والشفاعة.

والذي لفَّه ضباب الندِّ والبخور بإزار حجبه عن الأبصار حتى تنكَّرَتْ سحنته وأصبح شبحًا مقدَّسًا، يؤذيه النقد ويذيبه التحليل. وكيف لا؟! أَمَا صار عند نفسه كتابوت العهد، مَن لمسه صُعِق؟

ومَن لم يبرح هياكل التقريظ الموصدة النوافذ يضره القعود بالمروحة، ومَن لم يتعوَّد النظر إلى شمس الحقيقة يتململ إذا فجأه نورها، ويرمد إذا ثار في وجهه الرَّهَج، فماذا نفعل لأصحابنا ليألفوا تقلبات الأنواء واكفهرار الأجواء؟

إن عاصفة امرئ القيس أنزلتِ العُصمَ من «القنان» واقتلعت نخل تَيماء، وهدمت الأُطُم إلا المشيد بجندل … وهكذا النقد فبصره يرتد كليلًا دون جبل السموأل، ولكن أدباءنا المعروفين كذلك «المدلَّل» القائل فيه شاعره المأفون:

خطراتُ النسيمِ تجرحُ خدَّيْهِ
ولَمْس الحريرِ يُدمِي بنانَهُ

فلله آدم! كم ولد أسباطه من أشكال ومن ألوان؟ ولله شاعرنا العربي! كيف هام في محبوب إذا لمسه تضرج بدمه ولوَّثه به، أو ليس هذا الحبيب، كما صوَّره لنا شاعره — والشُّعراءُ فى كل واد يهيمون — كتلك الديدان التي تنفزر إنْ لمستها؟

لقد تجاوز أدباء العرب تخوم البشرية، فصاروا طوباويين، فلِمَ لا تحفُّ رءوسهم بهالات من نور كصُوَر القدِّيسين؟ إن أهلة الكهرباء سهلٌ اصطناعُها، ولكن كيف نحتال لمجرى كهربائي يتصل بهم فلا يفارقهم في الحل والترحال؟

إذا كتب أحدهم مقالًا لم يَرُقْ لكَ، فالويل لكَ إذا جهرت بعقيدتك، فديوان تفتيشهم يؤدِّبك، وإذا أسمعوك قصيدة ولم تكبِّر — كما أشار مولاي محمد علي منذ سنوات — عند كل بيت، فأنت حسود، وإذا لم تصفِّق لكل شطر فأنت لئيم خبيث، أما إذا نقدت فأنت كافر بالعباقرة، تتهاون بنوابغ الأمة.

يجب أن تقول في الشعراء الكبار — وما أكثرهم عندنا، أتمَّ اللهُ نعمة الشهرة عليهم — ما قاله بيار لويس في فكتور هيغو:

عندما تقرأ فكتور هيغو يجب أن تقول: هذا سامٍ، هذا فريد، هذا عجيب! وإذا كنتُ لم أفهم فأنا حمار. يجب أن نقول في فكتور هيغو مقال النصارى في يسوع: هذا «إنسان، هذا إله.» وأخيرًا ثلَّث لويس الأقانيم وقال: «الأب والأبن وفيكتور هيغو.»

مثل هذا القول يُرضِي شعراءنا، مفاخر العرب وسادة العجم، بيضات الزمان، ومفارد الأوان، أما كتَّابنا، فعليك — لكي ترضي كبارهم — أن تقول فيهم ما قاله فيكتور هيغو في رنان: «إن الله خلقه بمرسوم خاص.»

هكذا قُلْ إن كنتَ تؤثر رضاهم على سخطهم، وإذا التقيت بأحدهم على إثر قصيدة أو فصل أذاعته إحدى الصحف أو المجلات، فمض شفتيك كالعنز، واستلهم بديهتك، والويل لكَ إنْ تخُنْك البلاغة! هات أضخم الألقاب والنعوت، ولا عذر لك إذا قلتَ: لم أقرأها، عليك أن تقرأها، وإلا فأنت جاهل لا تتذوق الأدب الرفيع. ثم هَبْ أنك لم تقرأها فلا تكسر خاطره، وقُلْ فيها ما يتوقع أن يُقال، أو ما تعوَّد أن يسمع، وترحَّمْ بينك وبين نفسك على الحريري القائل:

وَالصِّدْقُ إِنْ أَلْقَاكَ تَحْتَ الْعَطَبِ
لَا خَيْرَ فِيهِ فَاعْتَصِمْ بِالْكَذِبِ

أما إذا تلهجمت ولم تقرظ فأنت حمار يا صاحبي! كما قال بيار لويس عن قارئ فيكتور هيغو.

الحسد ترس تناقلته أيدي أدباء العرب منذ عرفوا النقد، فكم اتَّقَى به المتنبي صدمات منتقديه، سواء أمتحاملين كانوا أم منصفين!

أما قال المتنبي منذ ألف سنة:

أَزِلْ حَسَدَ الْحُسَّادِ عَنِّي بِكَبْتِهِمْ
فَأَنْتَ الَّذِي صَيَّرْتَهُمْ لِي حُسَّدًا

ثم قال أبو فراس:

مَشِيتُ إِلَيْهَا فَوْقَ أَعْنَاقِ حُسَّدِي

وكذلك قال شوقي أمس، وكذا يُقَال اليوم، فقُلْ معي إذن: أعوذ بالله من الحسد، فالحسود لا يسود …

لقد عفَّت هذه الدعوى معالم الحقيقة، فأغامت سماء الأذهان وتنكرت المحجة، وكاد يتجمجم كل ناقد مخافة هذا الظن، ولكن الإخلاص للفن يدرأ الشبهات، وكم نتمنى على الله أن يكون فينا مَن يحسد لنرفع رءوسنا بين أمم الأرض.

فحتَّامَ تلوك ألسنتنا هذه الكلمة؟! وإلَامَ يقبع وراءها أدباؤنا كالصائد في داموسه، وفيهم مَن لم تخطر له ببال يوم كان ينقد ولا يُنتقَد؟

لقد قال طه حسين يوم نقد شوقي: «إن شوقي شبع مدحًا ولم يشبع نقدًا.» ثم أشبعه، فما باله يتبرَّم ويضيق صدره بالنقاد؟ آمين مفروضة على قرائه وليس لهم أن يفكِّروا أو يمحِّصوا؟ وبعدُ، فما دعاه لذكر الحسد في معرض كلامه عن بارتو وبوانكاره؟ الفتوى عند سلامة موسى صاحب كتاب «العقل الباطن».

تطالع مقال الأديب اليوم — وخصوصًا المأجور منهم — فتأسف على دقائق هدرتها، فإذا قرأتَ مثلًا مقالة طه «التأديب» أي درس الأدب، تقرأ صفحتين من جريدة الإخاء الوطني العراقية ولا تظفر إلا بغمزات ولمزات. ما هكذا كان يكتب طه، لقد كنَّا نظفر بشيء متى قرأناه، فهو إما اكتفى وشبع شهرةً فطرح «منجله» واستراح، واستهزأ بقرائه كما قال عنه حسين هيكل، وإما أنه يكتب لأجل الجعال، كما يُشتَمُّ من الكلام المنقول عنه في المقال عينه، ورحمات الله على الفن! ما دخلت السياسة شيئًا إلا أفسدته. صدق الكلام المأثور!

لقد قرأنا لبعض شعراء العرب في مصر، والعراق، وسورية، والمهجر، قصائدَ طوَّبتها الصحف ونعتت شعراءها بالكبار، ومعظم هذه القصائد لا يتعدَّى مبتذل القول ويدور على كل لسان.

شعر «مناسبات»: تهنئة ورثاء ومديح، وبكاء على المجد الضائع، والثروة المفقودة. ويضحكنا شعر بعضهم الذي لم يَفُقْ تعبيره كلام العامة، فكأنه أخبار محلية في جريدة. فهل الشعر ما استقام وزنه ورصفت قوافيه كمداميك البنَّائين؟ لقد بتنا إذا عرفنا «المناسبة» عرفنا ما سيقال فيها، ومتى عرفنا الشخص عرفنا القافية، كما سمعنا في لوكاندة قاصوف بعرس صلاح المنذر قصيدةً على الحاء؛ لقد أتعب شاعريةَ شعرائنا اسمُ تلك العروس اللطيف «ليندا»، فما ذكره منهم إلا أمراء الكلام.

وبعدُ، أفليس ما ننعاه على المتقدمين هو هو الذي ننظمه اليوم، ونسميه شعرًا؟ ويا ليت لنا بلاغة أولئك! فأكثر كلامنا حركات سيمائية تسحر عيون الناس، بل هذيان محموم يُضحِكه ذِكْرُه متى فارقه العارض.

أَمَا آنَ أن يتعدى النظم هذه المناسبات، ويتجاوز شعرنا «يا ليل» المغني، و«يا عين» المطرب؟

فما تقول في قصيدة يُمدَح بها أو يُرثَى ملكٌ، أو يُهنَّأ عريس، أو تنظم لحفلة، فلا تفهم منها إلا أنها تصلح لكل ملك، ولكل حفلة، ولكل مَن سيتأهل منذ نوح حتى المسيح الدجال!

أليست قصيدة كهذه في نظرك كما هي في نظري، مثل «شروال» أهالي قرية … الذي كان يلبسه كلُّ مَن يتغرَّب عن القرية — وأبعد غربة كانت إلى جبيل — حتى صار شعار الضيعة. أليست كتلك الخلعة التي كان يُلبسها المشايخُ في ذلك الزمان كلَّ عريسٍ مشمولٍ بالرضا، ثم تعود إلى «الدار» لتعاد — بعدئذٍ — إلى كل عريس؟

الشعر الحقيقي هو ما لا تستطيع أن تفصله عن صاحبه، ولو حللته في مختبر باستور. وما يُخرِجه ويذيعه الأديب على الملأ يصبح مِلْك الجمهور، يحق لكل مفكِّر أن يقول كلمته فيه، ولا حسد ولا حقد ولا غيرة هناك، فإن أصاب الناقد أفاد، وإن أخطأ هَزِئ به الناس، فلماذا كل هذه الضوضاء؟ وهل يكترث النقَّاد — في الغرب — لغير الشعر البارع والنثر الممتع؟ هناك ينماز الأديب بكثرة منتقديه، فتَرْك النقد عندهم منقصة وسبَّة. وهذا شوقي ماذا تنقَّصَه النقدُ؟ لقد استحثه فاحتث، وجلي على شيخوخته.

أَنَظَلُّ في القرن العشرين كما كنَّا في القرن السابع؟ قال الأخطل: «جرير يغرف من بحر، والفرزدق ينحت من صخر.» فجرَّ هذا الرأي الأدبي إلى هجاء كان جنايةً على الأدب والأخلاق.

وكذا حدث في القاهرة؛ فقد حمل أبو شادي حملةً شعواء على العقاد، فسبَّه هذا بما يندى له جبين الأدب، وكذا حدث بين شبلي وبشارة في حفلة تأبين المرحوم وديع عقل، وإنْ كان تلميحًا لا تصريحًا.

وأرى اليوم طلائع مثل هذه في حديث بشارة مع صاحب العروبة، الحوماني، ثم في ردِّ أبي شبكة على بشارة، كما أذكر حملةً نقدية كادت تكون خصبة لو لم تنتهِ بالحيد عن خطط النقد، وتُعقَد الهدنة على ضفاف البردوني، فلو لم يهتم منها بشارة ما أخرج قصيدته الرائعة «عمر ونعم»، وما قال له بدوي الجبل كما نشر في «برقه»: «ما هذا يا رجل؟ المتنبي من خدَّامك … إلخ.»

وأذكر — وما أكثر ما أذكر — حملة لغوية، منذ سبع وعشرين سنة، على الملاط أوقد نارها بشارة، وكان من فرسانها إبراهيم منذر ويوسف مراد الخوري ومَن لا أسميهم، وكانت الساحة جريدة «لبنان» للأسود، فاتهمهم الملَّاط بالحسد، ثم سكنت الزوبعة بعد أن قالوا ما قالوه.

والآن أمامي مجلة العروبة «عدد ١٤»، قرأتُ فيه مقالةً لمدافِعٍ عن بشارة أسمى نفسه «قزم …» ختمها ببيتين من نظم بشارة في أبي شبكة، وهما:

أَبَا شُبَيْكَةَ وَالْأَيْامُ مهْزَلَةٌ
مَاذَا أَحَقًّا حَذَقْتَ الشِّعْرَ أمْ لَعِبًا؟
لَوْ كُنْتَ فِي الْوَحْشِ لَا أَرْضَاكَ لِي ظَفَرًا
أَوْ كُنْتَ فِي الطَّيْرِ لَا أَرْضَاكَ لِي ذَنَبًا!

حقًّا إنها لبدعة جديدة في الرد على النقاد بهذا العصر! فما هذا يا أبا عبد الله؟ لقد كدت أصيح بملء فمي: «أكذب نفسي عنك في كل ما أرى …» لولا خشيتي وخوفي قانون «إقلاق الراحة». بَيْدَ أنني ثُبْتُ إلى نفسي وقلت: لعل الأخ بشارة يريد أن يقول الشعر في كل الأغراض كسميِّه الأخطل، فلا حول ولا …

•••

هكذا سار ويسير النقد عندنا … تُختَم المأساة بأكل اللحوم ونبش القبور! فمَن لنا بزياد جديد وبتراء جديدة الحدود. أما هواة النقد فنقول لهم ما قاله أمس المندوب السامي للصحفيين:

«انتقدوا الأعمال لا الأشخاص.» ونزيد: «كونوا مُنصِفين.»

فهل من نقاد مخلصين للفن لا يحابون كاتبًا ولا يمالئون شاعرًا، فلا يكيلون الثناء لشهير، ولا يتعامون عن جيد جاء من نكرة؟ ليت الصحف والمجلات تقلع عن هذه الألقاب التي تغرُّ الأدباء وتخدع القراء، وليتها تذكر أسماءهم كما يُذكَر في أوروبا اسم فاليري وكبلنغ وتاغور وولز وشو وجيد ومَن إليهم من كبار كتَّاب العالم، ثم لا يعرض لمحصولهم الأدبي إلا في مختبرات التحليل. فَلْتتركَنَّ الصحف هذه الطلاسم التي ترقي بها قرَّاءها، وتنفج الأدباء حتى يصبحوا كالقطن المنفوش.

حقًّا إن محصولنا الأدبي في تأخُّر مستمر، ونحن على أبواب مجاعة روحية، فأدباؤنا اكتفوا بشهرة جوفاء تذهب بذهابهم كصدى ينقطع بانقطاع الصوت، إنهم كتلك الزهرة «شب الليل» التي تعيش في الظل ليلةً واحدة. فإلى النور أيها الإخوان، إلى الأدب الخالد، ولا يغرَّنَّكم ما يقال اليوم، فالغد حَكَم جبَّار لا يعرف رحمة ولا محاباة.

وبعدُ، فأقول والأسف ملء الفؤاد، أننا إذا قرأنا شيئًا قيِّمًا فهو عيال على كتاب الغرب وشعرائه، إنْ لم يكن نصًّا فمعنى، فعلى رفوفي كُتُب أعظمتُها جدَّ الإعظام حتى كتبتُ إلى أحد مؤلفيها، وأنا لا أعرفه، أثني على جهوده وعمق تفكيره. وكم كانت خيبتي مُرةً بعد سنتين؛ إذ عرفت أن معظم الكتاب «مأخوذ»!

والبلية أنك إذا أرشدت الناس إلى هذا الأخذ الشريف، وقلتَ كلمةً في أحد هؤلاء «الطوباويين» تغامزوا جميعًا عليك وقالوا: «حسدًا.» وهكذا ينجو المتلبسون بالجريمة.

وجماع الكلام أن الناقد النزيه كالصيقل الماهر، يبدو جوهر السيف تحت أنمله شيئًا فشيئًا، أو كالمرشد الأمين يجذبك إلى متحف مليء بعرائس الفنون، ويدلك عليها واحدةً واحدةً، ويشرح لك معاني جمالها، وما كان النقد قطُّ — منذ كان — إلا معوانًا على رقي الفنون. وفنان لا يسمع غير التقريظ لا يُبدِع، والماء إن لم تصفقه الرياح ركد وأَسِنَ.

١١ / ١٩٣٤

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤