أحمَد الصَّافي النجَفي

١

في ثاني نيسان لا في أوله حمل إليَّ صاحب البريد كتابًا على غلافه اسم أحمد الصافي النجفي، فراعني أن يكون «التيار»؛ لأنني كنت قرأتُ في السياسة الأسبوعية أن الشاعر قال لواحد — نسيتُ اسمه — إن تياره سيجرف الشعراء أجمعين …

وقفت عند هذا الكتاب وقفةَ النابغة في دار مية بالعلياء فالسند، فعنوانه مكتوب بالقلم الكوفي المشجَّر فكان كقرص مشبَّك، ولولا أن هناك عنوانًا في قلب هذا، لما قرأته وبرد قلبي. شكرت ربي لأنه الأمواج، فالأمواج قد نماشيها أما التيار فمَن يجاريه؟!

ثم حالت شئون هزل أشغالها جد دون مطالعة الديوان، حتى ذكرت أن للصافي مقامًا بين المعاصرين لا يبعد أن يظنه هو كمقام المتنبي بأرض نخلة. وظللت أروح وأجيء حتى خفت أن يموت العام ولا أقول كلمتي فيه، ولا سيما أن الكتب تتكاثر على الرفِّ فأخذته، لم أطوِ أول صفحة منه حتى عرض لي عارض وكانت التجربة. قلتُ لنفسي كأني أحدِّث شخصًا غريبًا عني: بأي وجه تقابل عبارة الصافي الكيسة وثناءه العاطر عليك؟ قاتَلَ الله النقد، إنه يسوِّد الوجه، تذكَّرتُ التقائي باﻟصافي قبالة السراي الصغير في بيروت وتعرُّفي به، وما أغدق من عبارات إعجاب، فما كدت أمسك القلم حتى أفلته، لا أفكر بما أقول في الديوان حتى يتراءى لي شبح الصافي اللذيذ، فأتمثل نظراته التائهة البريئة، فوقفت كالغريب في مفرق الطرق حائرًا.

وبقيت هكذا زمنًا حتى قالت لي نفسي: ما تراه يكون لو ضحيت بإخلاصك للفن والشاعر؟ ثم ما قيمة هذه العاطفة السامية … وهي سكوت ونوم؟ أتباع بفلس لو نادوا عليها في أسواق الأدب؟ ولماذا أهدى إليك الشاعر ديوانه؟ أليس لتقول كلمةً فيه؟

فتنبهت إذ ذاك لعَهْدٍ قطعته، يوم كتبتُ الكلمة الأولى، فقهرت عاطفتي وألقيت قاربي في «أمواجه»، فعسى ألا أغضب الصافي كما أغضبت سواه من رفاق وأصدقاء وخلطاء صبا وشباب.

•••

حقًّا إن ديوان الصافي أمواج فيها من كل شيء، وما أشبهه بليل امرئ القيس!

الصافي بائس حقًّا، وشعره بله المبالغة، ينم عن بؤسه، ولكن البؤس وحده لا يعمل الفنان، أما البائس فيعمل شعرًا إن كان ذا قريحة كالصافي، وبين الشعر والفن مسافة لا يجوزها إلا مَن يؤمنون ولا يشكُّون كالصافي، إن في الشعر فنًّا يثقف بُنَيَّات القرائح ويهذِّبها.

ومشى القلم رويدًا رويدًا، فأخذت أنسى أنني عرفت الصافي، ثم بَعُدت الشقة بيني وبينه فنسيت كل شيء، إلا أن للصافي ديوانًا أهداه إليَّ، وقد خرج هذا الأثر من يده وصار ملكًا للأدب العربي، فعلينا أن نصدق صاحبه القول، كما نصدق النصيحة سواه، ليعالج شعره العتيد فيستقيم له الفن والشاعرية، ولا يحيا شاعرٌ بلا فن.

وسألتُ نفسي: أتعرفين يا هذه، بماذا يجرف الصافي الشعراء أجمعين؟ فعيَّتْ جوابًا، فرحْتُ أتساءل: أبالمواضيع؟ إنها وحدها، لا تعمل شاعرًا، فقد يكتب ناثر أروع منها وأرقص، أبالنظم؟ فهو يعترف أنه لا يصنع شعره بل يرسله كما خلقتني يا رب، فهو في الفن على دين الشاعر القائل:

إِنَّ الْمَلِيحَةَ مَنْ كَانَتْ مَحَاسِنُهَا
مِنْ صَنْعَةِ اللهِ لَا مِنْ صَنْعَةِ الْبَشَرِ

هَبِ الصافي «لامرتين» أَمَا عاب عليه نقَّاد الفرنجة استسلامَه لفطرته؟ وهل يظن الصافي أن الأغراض وحدها تجعل الرجل شاعرًا خطيرًا؟ قد تجعله فيلسوفًا، أمَّا شاعرًا فلا.

فشاعرنا المعري نظَّام في أكثر لزومياته، وإنْ أغرق في حبكها وتقييدها بالقيود والأغلال، أما شاعريته الفذة ففي نثر «رسالته»، ما أشبه منظوم فلسفة «لزومياته»، من بغض إنسان وحب حيوان إلا بألفية ابن مالك، ولولا ما فيها من شعور يكاد يتَّقِد لَبرئت منها الشاعرية. والشك! هل يعمل الشك شاعرًا؟ فكم من أُنَاس شكُّوا حتى قتلوا، كابن القدوس مثلًا، ولم يرفعوا إلى سرر الشعراء الكبار لأنهم شكُّوا وقتلوا ليس غير!

بَيْدَ أن هنالك موضعًا آخَر لشاعرية المعري هو في شخصيته، والصافي من هذه الناحية شاعر أيضًا لو أنه تأنَّى كالشعراء وهذَّب شعره كما هذَّبوا شعرهم، فحب الحيوان لا يعمل شاعرًا، إذا لم يتكلم الشاعر والحيوان معًا بلغة الشعب، إذا لم يجسد الشاعر معانيه الطريفة بألفاظ تأتلف حتى تكاد ترن وتطن، فالشعر موسيقى قبل كل شيء آخَر، وإلا فالنثر خير منه وأبقى، ولو كان ملاك الشاعرية الكبرى عطفًا على الحيوانات لكانت جمعية الرفق أعظم شاعرة عالمية. إن ما كان بدعة في زمن فيلسوف الشعراء وشاعر الفلاسفة صار اليوم مبتذلًا، والشعر لا يحيا إلا بالطرافة.

وبعدُ، فليس للناقد أن يعارِض الشاعر في أغراضه، بل أن ينظر فيها، وقد فعلنا فرأينا أن العناصر التي تتألف منها شخصية الصافي في أمواجه ليست جديدة، فهو لم يكتشف إقليمًا جديدًا ولكنه توسَّع وتبسَّط في وصف أقاليم عرفناها، فأتانا بشعر هليل النسج ولكنه صادق. الصافي شاعر ولكنه لم يحذق فن الشعر بعدُ، فما أحوجه إلى ديباجة متينة مشرقة كالتي للرصافي — لو قلَّت رواسمها «الكليشيهات» — أما إذا كان يطمح إلى شاعرية كالتي للزهاوي فَلْيسترح، لقد وصل، إلا أن هذه الشاعرية العتاهية — نسبةً إلى أبي العتاهية — لا يعمر منها طويلًا إلا القليل مثل قوله:

يَا للشَّبَاب المرح التصَابِي
روائحُ الجنَّةِ في الشبابِ

وهذا قليل بل ندر في شعره الكثير، أما ما كتبه أبو العتاهية على كسر الجرار للفتيان والغلمان فقد هلك، كما تهلك الأعشاب إذا اشتد القيظ، فلا يبقى إلا الزرع يرتقب الحاصدين ليفضض مناجلهم.

إن أكثر الذين حدَّثونا عن الصافي ودلُّونا على شاعريته لم ينظروا إلى فنِّه، بل عبروا لنا عن تأثرهم بأغراضه، فخلعوا على الشاعر جببًا فضفاضة لا يشبهها شيء غير أعطيات ملوكنا في ذلك الزمان، أجريت على الشعراء ألوفًا وكَرَّات، وأعطوهم من الجمل أذنه.

قال رنه دوميك الناقد الفرنسي بمعرض كلامه عن جيل لامتر الناقد الآخَر: «كل حكم فني ليس له مقاييس مستقلة عن شخصيتنا تبطل قيمته متى انسلخ عَنَّا وانفصل، فلا يكون إلا وصفًا للذة شخصية قد لا يشاركنا بها أحد، وقد نرى نحن رأيًا آخَر إذا قرأنا ذلك الأثر الأدبي مرة أخرى؛ وذلك لأننا نحن نتغير، فمقياس الفن يجب أن يكون غير التأثُّرِ والعاطفة، أما إذا كان النقد هو ما نتأثر به نحن لا غير، فتلك هي الفوضى في الأدب.»

•••

ينبئنا الصافي أنه لا يُعنى بشعره، فهل هذا يعفيه؟ فللشعر لغة غير لغة النثر لا بد من امتثال طريقتها لمَن يقوله، وإن نسأل شعراءنا شيئًا فهو الخَلْقُ والإبداع، ليس في الأغراض وفي المعاني فقط، بل في التعابير التي تتغذى من حياتنا الحاضرة، فنحس بها كما فعل شعراء العرب في كل طَوْرٍ. إن التعابير الشائخة الهَرِمة كالأغصان المكرفحة، والقضب في أعمال البستاني كمخافة الله في حكمة الأقدمين؛ ولهذا نطلب من هواة التجديد في أدبنا المعاصر تعابير حية لصورٍ ومعانٍ حية.

ولِمَ لا يكون للشعر لغة خاصة ما زال للسهرات أثواب، وللمراقص لبوس؟ فهل مَن يلومنا إذا أوعزنا إلى أخينا الصافي بأن لا يدخل ديوان العرب ببذلته هذه؟ فأي عذر لحسناء، ونحن لم نستعجلها، حتى تدخل علينا منبوشة الشعر، دسماء الثياب، تفوح من أردانها رائحة المطبخ؟!

فالأدب لا يثبت إلا إذا استقام له أسلوب وتعبير رائعان بعيدان عن التقليد والابتذال، تستقر بهما العاطفة الإنسانية بجانب العقل الرشيد، إذا كان الألماس يُثمَّن ويُسدَّس ويُخرَط ليغوي ويغري، ثم يُنحَت ويُصقل حتى يكوكب؛ فكيف بالشعر؟ هَبِ المعنى ألماسًا؛ فمَن رأى رجلًا تحلى بألماسة فصرَّها في طرف منديله؟ إنه يجعل لها ظرفًا من الذهب الإبريز، ويغالي في زركشته. ثم مَن رأى زهرة بلا كمٍّ؟ هَبِ المعنى عبيرًا فهو لا يطيب لنا محبوسًا في قارورة كما نشتاقه ابتسامة في فم الزهرة.

فلا يتوهَّمَنَّ أحدٌ أننا ندعو إلى جمال التعبير على حد قول الناظم:

ومَا مثله إلَّا كفاقِعِ حمصٍ
خلي مِنَ المَعنى ولَكِن يفرقعُ

فما هذا غرضنا، إننا لا نبتغي إلا معنى طريفًا في قالب ظريف تتحد فيه كل الفنون الجميلة، فالموسيقى والتصوير والمثالة والعمارة كلها من أعمال الشاعر، وإن ظنَّ أنه لا يتكلَّف شيئًا منها، يا له حملًا ثقيلًا يلقيه الفن على ظهره، فكم يجب أن يكون قويًّا!

أجل، يجب أن نحسَّ الموسيقى والتصوير والمثالة والعمارة في قصائد الشعراء، وإلا فهي كلمات مرصوفة لم ينفخ فيها الفن من روحه. الأثر الأدبي تصويرٌ قوامُه الشعورُ وتوافُقُ الألحان وموسيقاها، والشاعر بنَّاء أستاذ يهتم بالتآلف الفني بين بنياته حجرًا حجرًا ومدماكًا مدماكًا، ثم البناء بجملته، ومثَّال حاذق ترقص الحياة تحت ضربات إزميله، وتشرئب كلما رفع مطرقته.

إن مهمة الكتَّاب وخصوصًا الشعراء شاقَّة جدًّا؛ ولهذا لم أتعجب حين قرأت في مجلة «الطليعة» كلمة كاتب إفرنسي هذا ملخصها: نحن الكتَّاب أقل الفنانين عملًا، فالمصور والمثَّال يصرفان نهارهما في معملهما، أما الكاتب فلا يجلس إلى مكتبه إلا هنيهة، بعد أن يحوم حوله ساعات ولا يقع.

تلك حقيقة لا تجحد، فالكتَّاب كسالى والشعراء عجالى، نتوهم — كلما سوَّدْنا ورقة — أننا نسطر وحيًا بلا جبريل، ونخضع لمشيئتنا الإلهية والإنسانية، ألف سطنائيل … ولا يجرؤنا على هذا إلا قلة النقد بالمعنيين.

وعندي أن أدبنا هذا لا يهتدي الصراط المستقيم ما لم نقم عليه وصاية نقد صارمة، فنحن إليها في الأدب أحوج. السياسة عَرَض أمَّا الأدب فجوهر، والأديب الحق المخلص لبشريته يخلق أمة، إن لم يكن الآن فغدًا، ومَن يعترف بكفاءة وجدارة أمة ليس لها أدب صحيح؟ ألم تَرَ الأمم تشهر الحروب اليومَ باسم العلم والثقافة بدلًا من الدين؟

نحن في حاجة إلى أقلام لا تراعي في المنام خليلًا، وأول واجباتها تقدير الموهوبين كالصافي مثلًا، ليبدعوا مبنى ومعنى، وهناك واجب آخَر أقدس وهو الدفاع عن الأدب ضد الدجَّالين المغرورين، فأي سوق بلا مراقب؟ إن سوق الخضرة له شيخ!

وقبل أن نكون فنَّانين وكتَّابًا يجب أن نكون رجالًا — كما قال برونتيير — أما الرجل والشاعر فوجدناهما في صاحب الأمواج، فعسى أن يقذف تياره إلى شط العرب درر الشعر الخالد، ونرى فيه الشاعر والفنان معًا. الشاعر الفنان مَن يقطع المسلك الوعر، ويشقق طريقه في الغابة العذراء، أما مَن يسلك السكك ويماشي القافلة فلا رأي لي فيه، فَلْيُسَمِّ نفسه ما شاء.

«لا يكفي أن نقول شعرًا — والكلام ﻟ «فاغيه» عن لامرتين — يندر الحصول عليه من عمل السجية والقريحة، بل يجب أن نقول شعرًا من عمل الفنان»، لا من وحي الجن كما اعتقد المرحومون أجدادنا وغيرهم من شعراء الشعوب، وبكلمة أوضح يجب أن تقترن القريحة بالفن لتلد الشاعر، ويمكن الصافي أن يكون شيئًا من هذا ولا يكلِّفه إلا أن يعرج على منسج دمشقي ويقف متأملًا.

لا بأس على الشاعر أن يكون كجواد امرئ القيس حين يقيد أوابد موضوعه، أما إذا بلغ العملُ التهذيبَ فَلْيستَعِنْ بالصبر والأناة، بل فَلْيكن أبلد ستة الشاعر جميعًا.

أما جمال الشعر فجمال داخلي، جمال نفسي، يشع من الألفاظ كالخمرة في كأس بلورية، فتتحد الألفاظ بالمعاني اتحادًا كليًّا، فتصير كخمرة الصاحب بن عباد وإنائها، ومن هذا الجمال الذي لا تحيط بوصفه الكم والكيف يأتيه السناء الفائق، كالذي يلوح في «المحيا» الساحر «بارقًا»، لو رآه الأخطل الصغير لما أرسل دمعه فقط … وَلْيَقُلِ الريحاني ما شاء.

٢

قلنا في الفصل السابق إن الصافي توسَّع في أغراض قديمة — ومَن شاء فَلْيُسَمِّ هذا تجديدًا — فضعف تعبيره وتشوَّش عليه التركيب، وقد أدرك هذا قبلنا أحد النقاد الإفرنسيين — أظنه برونتيير — فقال: «إن التجديد يُتعِب الفنَّان ويعجزه.» فكما أن المثَّال لا يستطيع أن يصيِّر الصخرة من الروائع بضربة واحدة، كذلك لا يقدر الشاعر أن يبدع في أسلوب ما لم يتأنَّ كثيرًا. إلى هذا أعزو ضعف التركيب في شعر الصافي؛ فالأسلوب القصصي الذي يتعمده تعوزه تعابير جديدة وأنماط حديثة، وقوالب طريفة، يصوغها من معدن الكلمة، فهو لا يحتاج فقط إلى كلمات يبحث عنها الشاعر ويضعها حيث استرخى شعره فيشتد، بل يحتاج أيضًا إلى ألفاظ سائرة لا يغني عنها غيرها، ولا يتمُّ المعنى إلا بها، واللفظ السهل لا يشتد ولا تأتلف ألحانه إلا إذا كان قائله كالبحتري أو كالأعشى حين قال بلسان السموءل:

فشك غير طويل ثم قال له
اقتل أسيرك إني مانع جاري

فهل رأيتَ لفظةً غريبة أو شديدة، فمن أين جاء الشعرَ هذا الأسر؟ هذا هو سر الأدب الرفيع، ومن هذا المنفذ تتسرَّب الركاكة إلى شعر الصافي كما يلج المكروب جسمًا غير منيع، ويفضح هذا العيب فيه تقارُب أغراضه وتماثلها، فيبدو لك من بعيد كالعنزة البلقاء، ففي تنوُّع الأغراض سترة الشعراء.

اقرأ قصيدة الصافي «الليل والنجوم» التي مهَّد لها الزهاوي فقال لنا: «إنه اكتشف نجمًا جديدًا.» ففي هذه القصيدة ترى ديباجة رصينة، بل عبارات ألفتها وتعوَّدتها، فمن أين هذا؟ إنه أتى من تقليد الصافي للمتقدمين في المعاني والصور، فتوفَّر على تعبيرهم، وأتاك «برواسمهم» التي يجترُّها كل شاعرٍ، فقال لك: بحر الغسق، ونبل الحدق، ورث الحبل وخلق، ونهر المجرة انبثق، وفحمة الليل، وقرن الشمس، وعمود الفجر، وقدح الزند، والفرقدان صاحبان، والأفق درع، وأحمر قان، وأبيض يقق … وهلم جرًّا من هذه البضاعة التي كبَّلت وتكبِّل الفكر العربي.

ليس يضير الصافي قولنا إن أغراضه غير جديدة؛ فأمثاله كثيرون، وحسبه هذا التوسع لولا الذي فيه من رخاوة، فالفكرة لا تنمو في الزاوية التي وُلِدت فيها، بل تتجاوز حدود القرية وتخوم البلدان وتهاجر كالناس، ولكن بلا جواز. فدولة الأدب لا قناصل فيها ولا سفراء للتأشير، وكل فكرة «مرغوب فيها» لا تبعد ولا تنفى، بل تتطور وتتكيف وتثري من هجرتها. وهكذا تتلافح الأدمغة الخصبة وتتوالد، كما رأينا بين ألفرد دافيني وسعيد عقل في بنت يفتاح … فلا يخشَ الصافي أن يصير جدًّا بلا أحفاد، كما قال، فالأفكار تتناسل وتحيا وتبقى، وأخلدها أصلحها.

وإذا قلنا: أن هذا تأثر بذاك، فلا نعني أن هذا الزواج المبارك يعقب — دائمًا — بنين صالحين من أبناء السلامة؛ فالمعري ودانتي وأغوسطينوس — ومَن لفَّ لفَّهم — تأثروا برؤيا يوحنا حين حدثونا عن نعيمهم وجحيمهم، أما أولئك النخاسون الذين يسرقون أولاد الناس بشحمهم ولحمهم ويدمون آذانهم — لا عفا الله عن آذانهم الطويلة — فما هم إلا قرصان بحر وصعاليك ليل.

أما الصافي فلا يقفو أثر أحد، وليس في شفقته على الحيوان تقليد للمعري، كما أن تبرُّمه بنا نحن البشر ليس كتبرم ذاك، وإن تمادى فرأى الحيوان خيرًا منَّا، فقد قال شاعر قبله:

عوَى الذئبُ فاستأنَسْتُ بالذئبِ مُذْ عوَى
وصوَّتَ إنسانٌ فكِدْتُ أطيرُ

تلك ساعات سوداء، أوحت إلى الصافي ما قال، وما أكثر سويداء المريض، اقرأ له من قصيدته «البرغوث العاشق»:

وإنْ أَصِلْ ربوتَهَا
أُصَلِّ في محْرَابِها
ألثمُهَا مِنْ فرْعِها
لِمُنتَهَى كعَابِها

لنعرف أن عنده ما عند البشر، أولئك القرود الذين انحطوا فصاروا ناسًا، كما قال فيهم:

فالقرْدُ يعمَلُ ما تُوحِيهِ فطرَتُه
وَالمرْءُ يعمَلُ ضدَّ العقلِ والسُّنَنِ

وهل يعمل الإنسان يا أخي بغير فطرته؟ وهل السنن غير لجام لها، فمتى صار الرسن شريعة؟ اقرَأْ قصيدة البرغوث تَرَ حُبًّا ساذجًا وغزلًا فطريًّا، لتعلم أن أخانا الصافي غضبان علينا وحدنا نحن الجنس الخشن، الثقيل الدم، وتدرك أيضًا أن شاعرنا تاعس الجد فيختم «برغوثيته» بقوله:

وإِنْ تصدْنِي كَفُّهَا
أَمُتْ فِدَا شبَابِها

حلو هذا الوفاء. سلمت يا أخي، وعدت بخير من رحلتك المضنية، لقد صدق العرب: «السفر قطعة من العذاب.»

والصافي ثائر على كل شيء، وراضٍ عن كل شيء، وأظنه يفتِّش عما يثور عليه تفتيشًا — وفَّقَ الله سعيه — ولهذا يصعب علينا الآن تحديد اتجاهه في أمواجه، أو نقول مَن يشبه، فهو لا يشبه إلا أحمد الصافي النجفي، بل لا يشبه ذاته في قصيدة وأخرى، إني لعلى يقين أن الصافي يحلِّل لنا نفسه في مواضيع عديدة، ولكننا لم نظفر بعدُ بصورة واضحة الدلالة بألوانها وخطوطها، فلا أدري إذا كانت نفسه معقدة بهذا المقدار فلم يُوفَّق إلى تحليلها! فبدلًا من أن يرينا الصافي نفسه أرانا مباذله، وما عنده من آلة، فجاءت وجوه بعض صوره مقرفة. خبَّرنا عن عواطفه خبرًا، ولم يتغنَّ بها كالشعراء، فكالمقرر عندي أنه لم يجد نفسه بعدُ، فهو في لبكة عوَّاد يصلح أوتار عوده المشوشة، أو كالسديم الذي يدور على ذاته ليتم نوره، فعسى أن نرى كوكبًا ساطعًا وشهابًا ثاقبًا.

والصافي في أمواجه كطفل يبكي، فما نحن ندري ولا هو يدري ما يريد، فبينا نراه يحنق على فارة وينصب لها مصيدة، إذا به يطلقها، والعفو عند القدرة جميل. ثم يزعجه ديك فيتمنى له الذبح ويشتهي أن يكون له ابن آوى لولا السياج المحيط به، اسمعها شعرًا:

فلَوْ أستطِيعُ كُنْتُ له ابنَ آوَى
وَلَكِن قدْ أحَاطَ به سِيَاجُ

العهد بالشعراء يحبون الموسيقى والجمال، والديك موسيقار جميل فاتنة ألوانه، وشتان ما بين فارة وديك، ولكن الصافي مولع بالنقائض، أما ما يبدو لي — الآن — من اتجاهه فهو ميله إلا الوصف، وخصوصًا ما يخالف منه العرف، فيستخرج حكمًا وعبرًا كشعراء العرب الذين توهموا — أمس واليوم — إن الحكمة خالة الشاعر، ومَن لم يقل الحكمة فهو عندهم كمَن لم يَزُرْ حلب عند أخينا بشارة في متنبئيته. وهذا ما أقصى شعراء كثيرين عن الفن.

وبعدُ، فَلْيَثُرِ الصافي على كل ما تواضَع على احترامه البشرُ إلا ديباجة الشعر وألفاظه والقواعد النحوية، فإنْ ازدراها ازدرى فنه. لم أرَ له ضريبًا في هذا النحو إلا فرنسيس مراش الحلبي، كلاهما حاول التجديد، وكلاهما لم يؤدِّ أداءً حسنًا، والفرق بينهما أن الصافي لا ينقصه إلا الجلد، أما مراش ففعل ما أطاقه.

أية ضرورة قضت على الصافي أن يقول:

إذا «هِجنَ» الديوكُ «وصِحن» حينًا
فذَا طولَ الظلام له هياجُ

ثم قوله:

وكَمْ «ضعن» مِنِّي فِي خَيَالي لَذَائِذ
فلَمْ تَبْقَ لِي مِنْهَا وَلَا لذَّة الذِّكْرَى

ما لنا وللبحتري، ولكن أنرضى بها غلطًا، كأني به يريد أن يتابع عمر بن أبي ربيعة حيث قال:

«رَأَيْنَ» الغَوانِي الشيبَ لَاحَ بعارِضي
فَأَعْرَضْنَ عنِّي بالخدودِ النواضِرِ
وكُنَّ إذا أبْصَرْنَنِي أَوْ رَأَيْنَنَي
سَعَيْنَ فَرَقَّعنَ الكوَى بِالمَحَاجِرِ

فلو قلنا لعمر مغفورة لك خطاياك لأجل هذه الصورة الجميلة، أنقول ذلك للصافي وهو لم يخبرنا إلا أن الديك يلج في صياحه؟! فما أحسب الصافي قد ارتكب هذه الأخطاء إلا عمدًا؛ لأنه يحب الأخطاء كما سترى، أو أن غرفته تذكره دائمًا بلغة «أكلوني البراغيث»! كفى لغتنا هذا التميع والتمطط في قواعدها وألفاظها، ثم ما أجبره على القول: «فلو بأية حيوان تبدلني»؟ وعلى القول:

أحْشَاهمَا بَالِيَات
كَمَا «بَلَتْ» أحْشَائِي

ما لنا ولهذه الأخطاء الآن؟! أَفَلا أظفر بتعبير جديد في ديوان قرأته من الدفة إلى الدفة؟ فبماذا تفوق امرؤ القيس وعمر حتى قالوا بهما: أول مَن قيد الأوابد، وأول مَن حيَّر الدمع وماء الشباب؟ … إلخ.

إن في الصافي حسنًا ولكنه في شعوره لا في شعره، حسنُ جميلة غير مهندمة، ضاعت معاني جمالها في ثنايا ثوبها المجعد، قلما نلمس في ديوان الصافي أثرًا للشباب بل للرجولية، وقد قلَّتْ ألوانه حتى الندورة، أما رجولته فتتجلى حتى في أشد حالات بؤسه، فما هو ذلك البائس الرخو، بل بائس صلد كالرخام نحت مطرقة النحات وإزميله. أما العزمة العربية في شعره فهي كالبرق الذي وصفه امرؤ القيس، كلمع اليدين في حبي مكلل. والخلاصة أن في الصافي نخوة الفرس العربي الأصيل مهما هزل ودق، أما حنينه إلى الطبيعة وغضبه على المدن فينبع من نشأته الأولى التي طلقها فصار يرى نفسه كمنفيٍّ؛ ولهذا جاء شعره وثيق الاتصال بحياته.

ترى في ديوان الصافي أشباه صور، فهي لا تستوقفك ولا تستهويك؛ لأن صاحبها لم يحذق إبراز خطوطها ذوات المعاني، ولم يُجِدْ تلوينها، وهو لو فعل لأرانا جمالًا. يحاول الصافي إجادة الختام كأبي نواس، وإن لم يحسن جمع نفسه في زوره كأسد المتنبي، ليقفز ختامه قفزًا ويجمز جمزًا، اسمع ما يقول عن التاجر الشامي الذي خالَ الصافيَ أميرًا بدويًّا، وهو مار بدكانه:

ثم ألقى شباك بشرٍ ولطفٍ
فوق وجهي يرجو بها أن يصيدا
هبَّ لمَّا مرَرْتُ بالقربِ منه
قائلًا: ما تريد؟ قلتُ: «نقودًا»

وبوجه عام ينقص شعر الصافي كثير من الدم، فهو بحاجة إلى كمية وافرة من زيت السمك، أما هو فيرى الشاعرية كلها في مخالفة الناس؛ ولهذا يكتفي بوصف الأشياء دون تشخيصها، فتبقى كما هي، أي أشياء. وأذكر أنني قرأت له شعرًا قال فيه أنه يريد أن يقول شعرًا منطق الطير لفظه، فيا حبذا، وعسى أن يكون أعذب الطيور ترتيلًا! ومَن يُؤْتَ هذا فقد أُوتِيَ شيئًا كثيرًا.

نحا الصافي في ذكر قبحه نحْوَ عنترة، ولكن الشاعر الجاهلي كان أبرع جدًّا فاستغل سواده حتى لم يَبْقَ غذاء في ذلك السواد إلا امتصه، فأخرج الصور الرائعة مبنى ومعنى، وأبيات عنترة مشهورة. وأذكر شاعرًا آخَر، أسود أيضًا، هو محمد إمام العبد المصري، قد أخرج صورة رائعة لسواده حين قال يعتذر عن عزوبته:

أنا لَيْلُ وكلُّ حسناءَ شَمْسٌ
فاجْتَمَاعِي بها مِنَ المُسْتَحِيلِ

وقد حلَّل أيضًا عنترة نفسية جواده — ولم يتعلَّم علم فرويد كسلامة موسى الذي طلع علينا مؤخَّرًا بسادية المتنبي — فأجاد بقوله:

فَازْوَرَّ مِنْ وَقعِ الْقَنَا بِلِبَانِهِ
وَشَكَا إِلَيَّ بَعَبْرَةٍ وَتَحَمْحُمِ

كما حلَّل الصافي نفسية بعض القطط والكلاب والفأر، ففي قوله: «فضحونا حتى أمام الكلاب!» ختام رائع، وسخر لاذع، ذكَّرَاني بقصيدة لأسعد رستم الشاعر الظريف، ختمها بما معناه: إن هز أذناب الكلاب أصدق من هز أيدي البشر.

وأرى الصافي يبالغ جدًّا في وصف «غرفة شاعر» وغيرها، يرشدني إلى هذا الحكم تغنِّيه بقبحه، أنا لم أَرَ فيه جمالًا ولكني ما رأيتُ قبحًا كالذي يصف، فلا قبح ولا دمامة ولا عاهة — خلقة كاملة، نعمة زائدة — كما يقول المثل. هذا إذا لم أكن مبتلًى بخداع النظر يوم لقيته، أو جعلت وجهي مقياسًا للجمال الرائع.

ذكَّرتني قصيدته «غرفة شاعر» بقصيدة ابن الأعمى في ذم دارٍ سكنها، والشاعران بالَغَا جدًّا، لو كان في غرفة الصافي قيراط مما وصف لأكلته تلك الحشرات، فالمومياء لا تسلم من تلك الفئران والجرذان. وإذا كان الشاعر ينام حقًّا في «أوضة» كالتي وصف، فقد ظلمناه في تلمُّسنا الفن عنده وتطلُّبه منه، إليك ما يقوله في مفرشه وغطائه:

صَارَا ثَمِينَيْنِ لمَّا
صَارَا مِنَ القُدَمَاءِ
أَحْشَاهُمَا بَالِيَاتٌ
كَمَا «بَلَتْ» أَحْشَائِي
حَتَّى كَأَنِّي شِلْوٌ
أَنَامُ فِي أَشْلَاءِ

وما زالا من جيل نوح فأعجب كيف اجتاز بهما الحدود! وأشك أن في دمشق بلدية.

١٢ / ١٩٣٥

٣

إن شعر الصافي يشتد في القصائد القصيرة الوزن، وتقل فيه: قد، والكل، وكل، والغير، وذا، والبعض، ووجود، وما إليها من الألفاظ التي يحشو بها شعره ليستقيم الوزن، قابل إذا شئت، قصيدة «البرغوث» «وسراجي»، و«الوحدة»، و«البدر في الهالة»، و«إلى العميد»، بغيرها من قصائد الصافي الطويلة الوزن.

ويشتد شعر الصافي أكثر في المواضيع العتيقة، قلبًا وقالبًا، كالليل، والنجوم، وقد أشرنا إليها، والهواجس الثائرة، وبين الفرس والعرب، ووصف الشاي، فيكاد يسلم من حوشي الكلام، وتلك الطفيليات. والصافي لا يتحاشى تسكين المتحرك — قاتل الله مَن جوَّزه للشعراء — فيسكِّن الحيوان، والخشن، والنهم، فيزحف شعره سلحفاة، والشعر يجمل أن يكون فراشة، فإذا صحَّ أن للمحيط تأثيرًا بالشاعر، وهذا لا شك فيه، فخطيئة الصافي في رقبة تلك الغرفة، فالذي يأوي إلى مثلها لا يبالي بتكردس ألفاظه وتدربكها.

ورُبَّ قائلٍ قال: قد فرغ الصافي مما تستجهد فيه، أَمَا قال في مقدمة أمواجه:

وأسكن كوخًا ما به أي زخرف
ولكنه كوخ أقامته لي يدي

قلنا: إذا كانت البلديات تهدم مثل هذه الأكواخ وتحرقها، وتسهر على هندسة الشوارع وتخطيطها، فأحر بنا، نحن، أن نفعل مثل هذا للمدينة الخالدة … وكيف نرضى للصافي بكوخ وهو يقدر على تشييد قصر لو تجلَّد؟ فلو لم يكن الصافي شاعرًا سليقيًّا لما أعرنا ديوانه هذا الاهتمام، فالنفس نفس شاعر، أما التعبير فكذئب البحتري ما فيه إلا العظم والروح والجلد، ومَن يكفل لنا أن الصافي لم يقل هذا اتضاعًا كدي موسه؟ فالشعراء كالنسَّاك في ألسنتهم تواضع عميق.

أما بؤس الصافي فتلمسه في قصيدته «ما اسم هذا اليوم»، لا في «غرفة شاعر»، ولا «في الوحدة»، ولا في «الحنين إلى الطبيعة» حيث يقول:

طبيعة الكون في خلقي لقد غلطت
فلو بأية «حيوان» تبدِّلني
هل جئتُ دهري هذا في أواخره
أم أنني في وجودي سابق زمني

أما أنا فأظن الأمرين: الزمان آخر والصافي سابق، أما الحقيقة فعند صبي المعري الخبيث. ثم ما لي ولهذا الجهد، فحديث الشاعر من باب تجاهل العارف، وتلك شكوى الشعراء من «أُهَيْل» زمانهم، فلا حول ولا قوة …

ويتيم الصافي يذكرني «بأم يتيم» الرصافي ذات الديباجة البحترية. أما كيف انشقت الأرض وبلعت شاعرية الرصافي فهذا ما يحيرني!

تملَّص الرصافي من «قال وقالت وتقول ويقول»، وتعثَّر الصافي ﺑ «يقول وتقول»، وكأنه شعر بثقلهما فأراد أن يتخلص منهما فجاءنا ﺑ «تدعو ودعاه»، فكانت أثقل وأشنع كما ترى:

فيقول أين أبي «فتدعو» غائب
فيقول غاب أما له من مرجع
ولربما وجد الحنان من امرئ
«فدعاه» أنت أبي وكنت مضيِّعي

أما صرخة الصافي في ختام «يتيمه» فموجعة حقًّا؛ لأنها منبعثة من كبد مقروحة ذاقت مرارة اليتم:

ليت الصغار جميعهم لم يعرفوا
آباءهم ورُبُّوا معًا في موضع
كيلا يصيب اليتم بعضًا منهم
فيعيش عيشةَ بائس متسكِّع

وما أوقع الصافي في تلك الورطة إلا تبسُّطه في الغث والسمين، وتفصيله كل حركة كأنه يصف حفلة لجريدة: اقرأ «اليتيم» و«أنا والدجاج» و«الشاعر والفأر» و«الشاعر والقط»، فترى أن الكلام لم يَنْقَدْ له في القصص إلا في «بين شاعر وصاحب فندق» التي أجاد الريحاني حلها في «قلب العراق»، فأخرجها فكهة رشيقة ككل ما يكتبه الريحاني في هذه الأغراض.

فبينا تراه يقول ويبدع:

إنْ رمْتَ في الدهر أن تحيا فكُنْ خشنًا
فمنخل الدهر لا يُبْقِي سوى الخشنِ
يعدو الزمان فمَن لم يعد مستبقًا
أمامه سحقَتْه أرجلُ الزمنِ

إذا به يسف ويرك شعره حين يقول:

ما أرى المجلس إلا حاكيًا
صوته عن مجلس منعكسُ
ضمَّ آلاتٍ بسلك ربطت
فإذا حرك يومًا ينبسُ

أَلَا ترى كيف أخبرك أن المجلس كالحاكي، ثم شرع يفصِّل لك كأنه يشرح للتلامذة درس فيزياء؟! فهو لا يوجز ولا يرمز، ولا يثق بفهم الناس، رآهم لم يقدروه قدره فساء ظنه حتى بفهمهم شعره، فشرح لهم حتى أمَلَّهم، والملدوغ يخاف جرة الحبل.

وفي «خيبة الشعب» يخاطبنا الصافي بلغة «الميجانا والعتابا» فيقول:

تاللهِ ما أعظمها من خيبةٍ
نحن زرَعْنا الزرْعَ والغيرُ حصَدَ

أما الزجال اللبناني فقد قال أبلغ من هذا الشعر:

يا شجرة البالدار ناطورك أسد
وتكسروا الأغصان من كثر الحسد
نحن زرعنا الزرع وأجا الغير حصد
يا حسرتي عبوا القمح بعدالنا

أسمعت الشعر الباكي المؤلم؟ هذا شاعر يبكي ويبكينا معه لأنه صادق، فأين «تالله ما أعظمها من خيبة» التي عصر الصافي يافوخه حتى أخرجها، من قول الزاجل: «يا حسرتي عبوا القمح بعدالنا»؟ … أرأيتَ يا أخي الفصيح، روعةَ الشعر العامي؟ فهذا الهتاف يا حسرتي، وهذه الصورة الباكية: «عبوا القمح بعدالنا»، أي حصدوا زرعه ونقلوا الحنطة في عدله، فتأمل.

وما قولك — يا سيدي الشاعر الكبير — بالصورة الأولى: «شجرة في الدار، وناطور أسد، وأغصان تتكسر من كثرة الحسد»؟ لا تنس أن الحسد يشغل بال القروي جدًّا حتى على عنزته وبقرته و…

ومتى عرفت أن هذا القوال لا يعني بالشجرة غير حبيبته التي انتزعت منه، فلا شك أنك ستشايعني وتزعم زعمي أن هذين البيتين من الشعر الحي، فكل لفظة تبوح بمعناها وتخبر عن لوعة صاحبها، حتى تكاد تشخِّصها لك.

وكأني بالصافي يدرك أن الألفاظ لا تطيعه فيقول لنا:

أهوى المعاني عن ثياب
اللفظ تظهر عاريه
فالشعر تحجب نوره
ألفاظه والقافيه

إذن فَلْيكتب نثرًا فيريحنا من النقد! إن الوزن والقافية للفنان كبؤرة العدسة التي يتجمع فيها النور، أما الصافي فما اكترث لألفاظه ولا بالى بقوافيه، فجاءت نافرة شاخصة، طالعة نازلة، مداميك لا يردعها خيط ولا فادن. وإليك شاهدًا من قصيدته «الشاعر والقط» التي بلغناها الآن:

وكنت مكابدًا خجلًا لطردي
قطيطًا قطُّ لم يذنب ويجني
حياي من القطيط حياء نبل
وليس حياي منهم غير جبن
ففاق حياي منه على حياهم
لذاك ضممته لي ضم خدن
فهل هو شاعر القطط التقى بي
فألف بينه طبع و«بيني»
أيبغي أن ينافسني بشعري
ونظرته عن الأشعار تغني

حقًّا إنها منافسة غريبة قوية! أرأيت مرة أخرى ماذا يفعل «التفصيل» بأخينا الصافي؟ وهل من بأس علينا إذا تساءلنا هنا عما تراه يورث الصافي شاعر القطط حتى يقول له:

وكنتُ أود لو تغدو لي ابنًا
أورِّثه إذا صَحَّ التبنِّي

لقد صح هذا يا أخي في أميركا وأوروبا، فورثت القطط خيرات كثيرة … وما يمنعك من هذا، فالوصية معمول بها عندنا فوصِّ لقطك ما شئتَ … وأنْ تستشرني قلتُ لك: ورِّثه غرفة شاعر، أليس هو شاعر القطط أيضًا؟

أما «الليل والهم» فأعجبتني مبنى ومعنى، ففيها أثر الخيال الذي فتَّشت عنه ولم أجده في شعر الصافي، اسمع وصف همه:

والهم مجنون تراه هادئًا
صبحًا وإنْ جاء الدجى تهيَّجَا

وبعد أن يصف جنون «همه» المطبق، وما كان بينهما من طعن وضرب، وكرٍّ ونزال، حتى استحال الصلح، قال لنا الصافي:

لو كان همي عاقلًا أقنعته
لكنني قابلتُ همًّا أهوجًا

ويلي عليك يا أخي! ما أجمل بيتك! وما أروع همك الأهوج! وآه من «قابلت»! ليتك تأنَّيْتَ وجئتنا بأحسن منها، فلولاها لقلت لك: أنت أشعر العرب يا ابن أخي، وترحَّمْنا كلانا على النابغة.

وظل الصافي يتصارع وهمه حتى مطلع الفجر، وأخيرًا قال لنا:

فرَّ وألقاني صريعًا بعده
وقال ألقاك إذا الليل سَجَا

قد ذكَّرني صراع الصافي وهمه بصراع يعقوب مع الرب كما خبرتنا التوراة، وحمدت الله على أن الصافي لم يفكَّ جنبه كيعقوب إسرائيل الذي أورث البشرية «عرق النسا».

وفي «غناء السواقي» وَمْضَة صوفية، وفي أبيات غيرها يقترح الصافي تسمية الشوارع بالأخلاق بدلًا من الرجال، هَبْ أننا يا أستاذ سمَّيْنَا شارعًا باسم العفة، وكان كشارع المتنبي في بيروت، فماذا تعمل؟

وأخيرًا يرينا الصافي التناقض الذي يتعشقه في صفحتين متقابلتين ١٣٠ و١٣١ فيقول:

أهوى الكلامَ من الشعورِ مجرَّدًا
إنَّ الشعورَ قبورُهُ الألفَاظُ

ثم يقول:

اللفظ قشر وفيه
لبُّ المعاني يقرُّ
كلاهما مستحق
أن يعتني «فيه» فكرُ
فاللب يفنى سريعًا
إن لم يحط فيه قشر

وأخيرًا يصارحنا الصافي بما في نفسه فيقول لنا:

لي في الشعر عالَم مستقِل
أنا فيه فرد بدون خلافِ
لم أشارك غيري لأني كربي
واحد لا نظير لي في القوافي

صدق الله العظيم، الشعراء في كل وادٍ يهيمون، وكأني أرى بشارة الخوري يغضب غضبته المضرية حين يسمع هذين البيتين، فينتصب وينشد:

ومعشرٍ حاوَلُوا هَدْمي ولو ذكروا
لَكانَ أكثرُ ما يبنونَ من أدبي

أما نحن فنترك الصافي وبشارة يتناحران على مَن هو شاعر السماء والأرض، ونمضي في طريقنا عجالى لنرى ما عند الصافي بعدُ، ها قد وصلنا، فهو يحدثنا عن نفسه بصورة أخرى فيقول:

كأني من الأخطاء طيني مركب
فما أصلح الأخطاء إلا بأخطاء

وقد فعل هذا حقًّا في قصيدة «الطفلة السائلة» بقوله ص٥٨:

هل تستطيع العيش من عمل
وسنونها لم تبلغ العشرا

فأصلحها في «التصحيح» وسنينها، وظلت خطأ … ولا اعتبار لما ذكره ابن عقيل فذاك سماعي، وكان على الصافي أيضًا أن يحذف الياء من «كأني».

وفي آخِر ديوان الصافي ثنائيات ورباعيات وخماسيات يجمعها عنوان «أنغام مشوشة»، وهي كذلك، نظم فيها الصافي كل شاردة وواردة شعرًا، وهذه مصيبة! وقد لاحظت هذه القطع فرأيت أن أبياتها الأولى تُسخَّر كلها للبيت الأخير، فتبدو سحنتها كالحة كوجه الأجير عند الصباح.

وفي خاتمة الأمواج يشعرنا الصافي في نظمه:

وجمال الأشعار في أن تبين الر
وح والسر في البيان الفصيح
وكجهم يسعى لتكسير مرآ
ة مداوي الأشعار بالتصحيح
إنما الشعر مثل قذف البراكيـ
ـن ومثل الشكوى من التبريح
أتعيدون قذف طاغي البراكيـ
ـن لترتيبها بشكل مليح

إذن هو في وادٍ ونحن في وادٍ، هُدِينا وإياه. أما ما قرأت له أخيرًا في غير الأمواج، فيثبت لي أن الأيام وممارسة النظم ستعدِّل الصافي من حيث لا يدري.

أمدَّ الله بعمره وأراحه من غرفته وهمه الأهوج، وحسبه من التجديد أنه لم يمدح ولم يرثِ.

وَلْيثق الصافي وغير الصافي، ممَّن انتقدتُ وأنتقد، بإخلاصي لهم، وإنني أتمنى أن يكون العام الجديد أغزر وأجود محصولًا، فيفيض التقريظ ويقل الانتقاد.

٢٨/  ١٢ /١٩٣٥

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤