ومن لا يكرم نفسه لا يكرَم

كان في ضيعة من لبنان رجل مستور، تعشق مسايرة «المشايخ» حتى الوله، واستطيَب مذاكرتهم التي تثير الضحك، على ما فيها من العبر. فأخذ يتعشى قبل الغروب ليأتي بيوتهم ملس الظلام، ثم لا يعود منها حتى يتدهور الليل.

وكثيرًا ما كان المشايخ يزأرونه ولا يحس، ويقابلونه بفجاجة ولا يشعر. يستحلي حديثهم، ولو تماجنوا به وتنادروا عليه، وما كان يهتم في حضرتهم إلا بأن يقول كلمة جرت العادة في قولهم عندنا للشاربين: هنيئًا يا سيدي، أو هنيئًا لمن شرب، أو صحة وعافية، بحسب مراتب الناس.

وأخيرًا تعوَّد المشايخ رؤية هذا الضيف، فألفوه، وتغير نظرهم فيه حتى صار في عين نفسه كأنه واحد منهم. طيَّف بالشراب عليهم جملة، ذات ليلة، فأدى صاحبنا مهمة: هنيئًا يا سيدي، لكل واحد منهم. ثم جاءت نوبته فشرب وأجال نظره فيهم فإذا هم في شغل عنه، فرأى أن يتنحنح ففعل، ثم أحَّ، ثم سعل … وما من يلتفت!

فانشق صدره من الغيظ حتى عدا طوره وقال لهم: محسوبكم شرب يا مشايخ!

فأجابه أحضرهم نكتة وألذعهم نادرة: «كل عمره يشرب.»

فكركروا جميعًا في الضحك، ولم يفز صاحبنا منهم بكلمة: «صحة» حتى بعد استجدائها …

هذا موقفنا من مصر العزيزة، أيها الأستاذ الصاوي، فلا تطلب لنا تكريمًا منها، بل ترحم معي، يرحمك الله، على زهير بن أبي سلمى.

جاءنا أديبكم «المازني» فتنادى أدباؤنا واحتفوا به، فكرموه حتى شبع، ومدحوه حتى استعفى.

وزاركم أديبنا «كرد علي» وقد علمت كيف مرحبوه، واحتفوا به.

•••

حسن أن تسمي بيروت أحد شوارعها باسم شوقي، فإجلال النوابغ اليوم فرض كالصلاة بالأمس. وشوقي استهوته بيروت وسحره لبنان، كما فتن من قبل شعراء العبرانيين المعروفين بالأنبياء، وفيهم أكابر وأصاغر كشعرائنا اليوم. ولم يفت المتنبي أن يذكر لبنان فقال:

وجبال لبنان وكيف بقطعها
وهو الشتاء وصيفهن شتاء؟

وإن أقل المتنبي في وصف لبنان فلا بدع، فهو شاعر عشق شماريخ الآمال لا براعيم الجبال، وقد كان جرحه طريئًا والمسالك شابكة، وشبح ابن خالويه يتمثل له في كل دوٍّ. كما أصاب امرؤ القيس في رحلته السياسية فلم يقل الشعر في وصف القسطنطينية، فأنكره بذلك طه حسين، وركب كتفي التاريخ مستدلًّا بفقد هذا الوصف على عدم وجوده … ونسي أنه مقتول أبوه وهو يحاول ملكًا أو يموت، وأنه غاب وما آب.

ودارت الأيام فعاض التاريخ لبنان بشعر شوقي، صنو المتنبي، ومحا نهوض مصر هجو أبي الطيب. فالأمة التي هال شاعر الحكمة الثائرة خضوعها لعبد، لم يرعها «الأسد» ولا فت في عضدها زئيره. فلو نشر للف بيده تلك الصفحات التي سودها بالنيل من الأمة المصرية المجيدة لأجل ذلك المخصي. قاتل الله أسود وأبيض جنيا على مصر ولبنان فحرماهما أناشيد الشاعر الخالدة.

وهل مصر ولبنان إلا شقيقان أنامتهما السياسة منذ القدم في مهد واحد، ودانا بعقيدة واحدة منذ فجر التاريخ؟

فهذا بحرنا كان مسرحًا للأمتين يربطنا بأواصر مدنية ودينية، فكم حملت إلينا أمواجه «سلة البردي» تنبئنا بقيامه المعبود المشترك «أدونيس». وهل من رابطة أحلى وأمتن من العيد؟

أجل هذا «بحرنا» لا بحر الروم والرومان، ولا بحر الأسبان كما أسماه أييانيز في قصته: «ماري نوستروم» أي «بحرنا». فنحن أولًا أتخمنا شواطئه وموانئه بضائع، وملأنا ظهره سفينًا، كما قال ابن عمنا عمرو بن كلثوم، وحملناه أثقالنا إلى أمم الأرض من متاع ورسالة. فحول حوضنا هذا تجمعت أمم الأرض، وعلى متنه تناطحت، وسبحان وارث الأرض وما عليها.

وهذا تاريخ إبراهيم باشا، ألا يذكرنا — إن تنفع الذكرى — بهوًى جمعنا حول العلم؟

فالبنادق الإبراهيمية لا تزال في بيوتنا، وطربوش محمد علي على رءوس شيوخنا، وكلمة مصريات على لساننا، وهي آصرة تربطنا. والشاعر شوقي مولود، كما قال عن نفسه، بباب بيت نصرناه بسيوفنا وقلوبنا، وكما دارت الدائرة على أميرنا مات الشاعر كالفراء …

إذن فليست تسمية أحد شوارع بيروت باسم شاعر جيله — ولو أغضبنا العقاد — بأمر عظيم، فما فينا إلا منا، وكلنا تربطنا اللغة التي كان لها لبنان كالحجاج لأهل الشام. ومن استحق شكر لبنان في حياته — وشكر لبنان للأحياء فلتة — ألا نزيده منه في مماته، ونحن دولة اشتهرت بتكريم الناس مكفنين، كما كرمت جبران. ولا أدري أكانت أرغمت المكرزل على ذلك أمس …

إذن لا يكبر الصاوي مروءة لبنان، ولا يلوم مصر إذا أبطأت عليه، فلبنان كما قال نابغته جبران، كل قبيلة فيه أمة، فلسفته شعوذة، وسياسته ثعلبة، ينصرف عن الدين إلى المذهب، ولا يرفع صوته إلا وراء النعش.

أجل إن لبنان بلد متصوف يدين بآية: «من سخرك ميلًا امش معه ميلين، ومن خاصمك ليأخذ ثوبك فأعطه رداءك.»

إن لبنان — رحم الله شاعر بلعنبر — لا تغره هذه الأمجاد الباطلة، فلا تطلب له، يا أستاذ، شيئًا منها. ولو لم يكن أمرع للزهاد والنساك لما جعله المتصوفون مقر «أقطابهم» يقيمون فيه مع أحنوخ وإيلياء إلى يوم يبعثون … وهذه صوامعه على قلله لسان ناطق.

إننا نشكر للصاوي عاطفته الطيبة، وإن رأيناه اشتط في تذكيره قومه بتكريم من لا يكرم نفسه ولا يحترم نوابغه. فهذا جبران أديبنا العالمي، أما انطفأ خبره عندنا، وذهب ذكره مع الدوي؟ فلولا كيسه ما عاد إلى بلاده مكرمًا لينام في دير مار سركيس، على كتف نهر قاديشا الذي ترعرع على ضفتيه، ومزج ترنيمه بخريزه، ونام نومة الأبد على هينمة سروه وأرزه وشربينه.

فلأي ذكراه اجتمعنا بعد يومه، وأي علومه نصبنا، وأي شارع أسمينا، ثم لا نفتأ نردد: «ملء عين الزمن سيفنا والقلم!»

وهذا فرح أنطون، ماذا لقي من هذا الوطن، وأخجلة التاريخ من أبي المدرسة الحديثة الحرة، فمن بشر برنان وتولستوي وروسو ونيتشه وروسكين وغيرهم قبله. ماذا فعلنا له غير الإغارة على آثاره بعد أن اتخذ سويداء قلبه مدادًا لتحبيرها؟

وهذا المنفلوطي، رحمه الله رحمة واسعة، صديق فرح، قد قرظ بولس وفرجيني القصة التي ترجمها فرح، بقصيدة، يوم كان المنفلوطي يقول الشعر، ثم شن الغارة على بيت صاحبه — وأظن ميتًا — فسبا بنته وكساها ثوبًا عربيًّا من طرازه، فأفسد خطوطها ورسومها، فصارت لا عربية ولا فرنجية.

وجبران عندنا، أيها الأستاذ، كولي الدين عندكم، كلاهما لم يذكرهما المنهاج. وهذا «المفصَّل» الذي وضعته لجنة من أساتيذكم، أذكر ولي الدين؟ مع أن مؤلفيه قدموا بين يدي مفصلهم أنهم «لم يقتصروا في الكتاب على ما دل عليه المنهج، بل لقد زادوا عليه ما رأوا فيه نفعًا، وترجموا لرجال رأوا في الترجمة لهم أجزالًا في الفائدة.»

أما من فائدة ترجى من أدب ولي الدين وجبران وفرح؟

إننا لا نطمع منكم، يا أستاذ، بأسماء شوارع ونصب تماثيل بل: اذكرونا مثل ذكرانا لكم …

لقد أقر منهاجنا ولي الدين، فليتكم تذكرون جبران ليصبح قول الإنجيل: لا يكرم نبي في وطنه. ولكن كيف أتمنى عليكم ذلك وأدباؤكم لم يقولوا كلمة فيه بعد موته؟

لشد ما عتبت على خليل مطران يوم قرأت مقاله: «رواد النهضة الحديثة» في هلال حزيران! فوا عجبًا له! أينسى ولي الدين وجبران وفرح أنطون، ويذكر أسماء لم نسمع بها؟ فمن الحيف أن ينساهم خليل الذي لا ينسى أحدًا، ويجود على كل مخلوق بثناء، ولو بشيء كشعر بشار في: «ربابة ربة البيت»

قلت يا شاعر الأقطار الجليل: إن في من ذكرت «الشموس والأقمار والكواكب الصغيرة الأقدار.» أليس هؤلاء شيئًا من هذا؟ كنت ذكرتهم وبرأت ذمتك، فمن تراه يذكرهم عندك؟ أعبد العزيز البشري، مفخرة العرب، كما سمعناك تلقبه ليلة شوقي؟

ما أسخاك يا خليل بالألقاب!

انظر، فهذا مفخرة العرب الشيخ عبد العزيز ينوب عن الرحمن الرحيم في مفصله، حين يترجم لرجال النهضة الحديثة، «فيرحم» منهم من يشاء، ويحرم من «رحمة الله الواسعة» الخشاب والعطار، وزيدان مؤرخ التمدن الإسلامي، وصروف معلم ناموس النشوء، والبستاني، واليازجي، حتى أحمد فارس الشدياق الذي جهزه أمير المؤمنين ودفنه في وطنه.

هذا «المفصل» أمامك يا خليل، عسى أن تكون أنت من المرحومين بعد العمر كله، فبص وقل معي: قاتل الله نعرات الشرق، فهي كليل ابن الفارض، وحملها معي دم شهداء الأدب كما حمل المسيح جيله دم الأنبياء وكان منهم.

ثم ما لي أطلب إلى مصر ولبنان أنصاف هؤلاء النوابغ، فولي الدين يكن بغني عن «المجمل والمفصل» وفرح يحيا بآثاره الخالدة يوم يؤرخ الأدب تأريخًا نزيهًا لا عوج فيه. لا أنسى فصل العقاد في فرح، فقد أنصفه ووفاه حقه. أما جبران صاحب «النبي» و«الأجنحة المتكسرة» فهو خالد بمصطفاه وسلماه، لا بما خطوا فوق مضجعه: «هنا يرقد نبينا جبران» فالأنبياء قد ختموا.

فما أمر خيبتك يا جبران! لقد طوفت في الآفاق ثم عدت ونمت حيث نام «خليل الكافر» و«يوحنا المجنون»: في الدير. فنم يا صاحب «ابن الإنسان» مستريحًا. نم مكفنًا بضباب البخور، وثق أنك لن تعود إلينا فنخجل منك؛ لأن امرأة أخرى لن تلدك (النبي ص١١٩).

إنك نائم في لبناننا لا في «لبنانك» والذين أبغضتهم في حياتك هم، وحدهم، ينتصبون حول تابوتك في ذلك الكهف، كل عام، يتضرعون إلى ابن الإنسان — بالسريانية — صارخين، قائلين ما معناه: ونيح عبدك يا ابن الله … إلخ.

أما أخوك فرح ويكن، فما علَّمت، لم ينعما حتى بضريح؛ لأنهما عاشا تحت سماء لا تمطر صواعقها إلا نوابغها، اللهم الذين لم يلبسوا أطمارها.

فسلام على نوابغ العرب من زهور لبنان وصخوره، ورحمات الله، عد الحصى والتراب، على ولي الدين والأدب!

أسمعت يا شيخ عبد العزيز؟

لقد صدق أشعيا القائل: خجل لبنان وذوي.

٢٩ / ١١ / ١٩٣٤

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤