نحو حياة أفضل

عنوان كله طمع ومحبة ذات، فيا ليت شعر الذين يطلبون حياة أفضل، فهل هناك حياة أرفه وأفضل من حياة اليوم؟ وكيف تكون يا ترى؟

ما نسينا بعد ركوب الخيل، بل الحمير، يوم كنا نقضي يومًا لنقطع مسافة نتجاوزها اليوم بساعة زمان قاعدين، لا راكبين.

ما نسينا عهد المرسال الذي كان يقضي يومين حتى يأتينا بخبر من المدينة، ولم ننسَ قول طرفة: «ويأتيك بالأخبار من لم تزود.»

لا أتحدث عن الغيبيات؛ لأنه لم يثبت لدي بعد غير ما أدركه بحواسي الخمس، وإن تكن العين والأذن تخدعان أيضًا.

كنت أؤمن أن الجمال في ذات الناظر، فإذا بي، عندما طرأ خلل على إحدى عيني، أري جمالات لم أكن أراها. فالحياة الفضلى هي إذن في أنفسنا، وكما نفكر نكون، فعبثًا نطلب حياة أفضل في خارج أنفسنا. فالحياة المرْضِي عنها نحن نخلقها بأنفسنا لأنفسنا، وقد وصلنا إلى القمة وما زلنا نطلب أفقًا أعلى وأبعد.

قد رأيت، بعد إمعان الروية، أن من يطلب حياة أفضل فليفتش عنها في ذاته. «إن الملكوت فيكم» هكذا قال المعلم، وهو يقول الحق.

وقال حكيم: «كما تفكر تكون.»

الطموح ضروري لرقي الإنسانية، ولكن السعادة في الحياة لا تأتي في الغلو والإيغال.

أجل، إن الحياة تدفعنا إلى الأمام دفعًا، ولكن هذا الدفع لا يؤمن لنا الغبطة المنشودة، فشاعرنا الأكبر قال:

إذا غامرت في شرفٍ مروم
فلا تقنعْ بما دون النجومِ

وها قد كدنا ندرك النجوم، وتحققت لنا حياة أفضل، وما زلنا نطلب الحياة الفضلى، فمن وهب المعرفة يطلب أن يوهب أيضًا المال. ومن أُعطي الحكمة يتمنى لو كان جبارًا عنيدًا، وسلطانًا مولى على رقاب العباد.

قال فورد عن الأحد، يوم الراحة الأسبوعي: «إننا نحتاج إلى بعض الوقت نرتاح فيه عقب قضاء يوم بلا عمل.»

اقرأ كتاب سلامة موسى: «حياتنا بعد الخمسين»؛ لتعلم رأي فورد جبار عالم الصناعة. فهو ينقل لنا عنه أنه قال في الثمانين من عمره: «سوف يكون العالم أفضل مما هو الآن للناس، وهو الآن خير مما كان حين كنت صبيًّا، وسيطرد في الارتقاء والتحسن، ولكن على الناس أن يتعلموا من اختباراتهم، وأن يعيشوا للمستقبل وليس للماضي.»

ونحن نقول: ليست الحياة الفضلى في مال نمرغ أنفسنا في أوحال مانحيه، ولا في ثروة نبيع لأجل كسبها ضمائرنا وعزة نفوسنا في المزاد العلني. فإذا كنا نريد حياة أفضل، فلا نتسابق على الفتات المتساقط عن موائد الجبابرة.

إن الحياة تكون أفضل إذا بعدت عن الكذب والدجل، وعن الذل المخزي. وأرى أن الحياة الفضلى، كما هي في نظر جبابرة الأرض، هي سبب كل الويلات وشقاء الإنسانية.

فأية سعادة لمن يطير ويقطع المسافات بمثل لمح البصر، إذا كانت نفسه تتسرب مع خشاش الأرض؟

إن النفوس لا تسعد إلا بالمال الحلال. ولا يكون المال حلالًا زلالًا إلا إذا عدنا إلى الشعار الإنساني القديم: «بعرق جبينك تأكل خبزك.»

إن عرق الجبين هو ملح الحياة، ومن يأكل طعامه بلا ملح؟

وقبل وبعد، فالحياة الخالية من الجهد والنشاط لهي أغنية على وتيرة واحدة. ومن ذا الذي ترون له مثل هذه الأغنية؟ فالحياة لا تحلو ولا تطيب إلا إذا تنوعت.

وإنني لا أتصور حياتي السعيدة في الفردوس حيث النعيم المقيم إلا وأخشى الضجر.

إن من يطلب عالمًا لا شر فيه، كمن يطلب لحمًا بلا عظم.

وكل باحة نلتمسها نجد متاعبها منها وفيها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤