الشجر تتهم البشر

ما أثقلك يا ظلام! وما أقساك يا ليل! فقد زدت الغابة وحشةً، وأخفيت تحت جناحيك وحوشها المفترسة، وناديت الضواري: خلا لك الجو …

الغابة في الليل كالمدينة في النهار، في الاثنين ذئاب تخشى أنيابها وبراثنها، ولكن لكواسر المدينة أنيابًا من حديد وأظافر من نار، وهي أجرأ وأفتك وأحدُّ نابًا من وحوش الغابة.

دخلت الغابة تحت لواء الظلام فهمس الضمير في أذني: «امش في النور ما دام لك النور.»

نعم سمعت صوتك أيها الضمير، ولكن أتجهل أن من أحشاء الغيوم السوداء تنبثق الكهرباء الساطعة؟

ما هذا الصراخ والعويل؟ ما هذا البكاء الجارح؟ أرى أشباح الموت تلوح في الفضاء، وزفرات المنية قد ملأت الغابة.

ليست الأشجار ببشر ليزاحم بعضها بعضًا وتقتل وتتبادل الغارات. إذن فما الذي أقلق خاطر الليل، وأزعج بال الهدوء والسكينة؟

لا بد من أن تكون لابن الإنسان يدٌ في هذه الضوضاء وفضل على نشأتها، فلنتقدم وننظر. أما قال الشاعر في ذلك الزمان:

عوى الذئبُ فاستأنست بالذئبِ إذ عوى
وصوَّت إنسانٌ فكدتُ أطير؟

وكان الخوف ينمو كلما اخترقت قلب الغابة، فتثقل علي وطأة الرعب، والصوت يزداد قوة ويحمله الهواء على منكبيه طائرًا به في أقطار الغابة الموحشة.

ذعرت الضواري وتركت الطيور وكناتها، وفر الذئب هاربًا خوفًا من ريحة الإنس. أما أنا فتقدمت مستقبلًا ما يكون بصدري، فقد علمتني الحوادث ألا أدير ظهري لطاعن فأمكنه من مقاتلي.

وكان الصوت ينبعث من كهف ضفرت له يد الطبيعة إكليلًا من العليق والعوسج، واهتديت إلى بابه فدخلته قائلًا: إن التاريخ يعيد نفسه، وهذا نظير جريح أريحا، فما ضرني لو كنت ذلك السامري؟ وما وقعت عيني على ذلك المتوجع حتى سمعته ينادي: «ويلهم قتلوني.»

تفرست بالصارخ، فإذا هو فتاة غضة الشباب، جميلة، غطى شعرها الأسود الطويل وجهها البديع الناصع البياض. ناديتها فأعرضت عني مغطية وجهها بيديها الناعمتين، وصاحت: «إلى هذه البرية لا تزالون تقتفون أثري؟ دعوني أعيش في هذه الغابة كالنُّساك، فقد سئمت أعمالكم يا بني البشر. لقد جرتم علي، وسحقتم قلبي، وحطمتم مجدي! اضطهدتموني واحتملت كل ما لحق بي من ظلمكم، أيها القساة، فدعوني الآن أستريح في هذه البرية بنفس راضية، إلى أن يقضي الله أمرًا كان مفعولًا.» ثم أعولت فملأ صراخها الفضاء، فتفطر قلبي لوعة عليها.

وسألتها: من أنت أيتها الفتاة؟ وأية جناية ارتكبت فأبعدت إلى هذه الغابة حيث لا يؤنسك غير نعيق البوم والغراب، وفحيح الأفاعي وخوار الضباع؟ أأنت تموتين وتودعين الوجود؟ ومن يرضى عن موت غادة مثلك؟ فقومي تنقلي بين الأزاهر، فإنك لا تزالين زهرة ناضرة لم تنفتح العين على أجمل منها، وحدثيني عما نزل بك من مصائب الدهر فلعل لدائك عندي دواء.

فأجابت: قضي الأمر ولم يعد لي من الحياة نصيب، فأنصاري قد ماتوا، وأنى توجهت لا أرى إلا وجوهًا كالحة، وجباهًا مقطبة، وحناجر مفتحة كالقبور، وسم الأفاعي تحت الشفاه. ينظرون إليَّ نظرة القضاة إلى لص مجرم، ولا يريدون غير رجمي؛ ولهذا تركت معترك المدن حيث تتطاحن البشر، وجئت إلى هذه الغابة أنشد السلامة والاطمئنان. هجرت الهيئة الاجتماعية وطويت عنها كشحًا.

فقلت لها: ضاق صدري، ولم يبقَ في قوس الصبر منزع. فهل أنت ساردة لي تاريخ حياتك؟ يظهر أنك غريبة الأطوار وأسرارك عميقة!

فأجابت بطرف مكسور: أنا هي العذراء التي افتخر بها الإنسان القديم، وتغزل بها كبار النفوس، وتعشقها الفلاسفة والمطلعون على أسرار البشرية. أنا هي المحور الذي تدور عليه رحى الحياة، والشمس التي تلقي أنوارها على المجتمع الإنساني فتنعش ما ذبل من رياضه، وتبدد ظلمات لياليه الحالكة. أنا هي الروح لجسم المدنية الحاضرة، وما نفع الجسم إذا فارقته الروح؟

أنا هي نعيم هذه الحياة، فمن لجأ إليَّ أمن الويل والنوازل، ومن أعرض عني عاش معذبًا في جهنم الضمير، فالويل للذين جاروا عليَّ وتركوني، فعاقبة حياتهم وخيمة، وأيامهم سوداء مظلمة. أنا هي عروس الشعراء، بل عروس كل ذي نفس تشعر، فكم من رجل أراد الصعود إلى سماء المجد، ولكن كرهه لي أدى إلى هبوطه من أعلى إلى أسفل. وكم من فتى أحب أن يسود بدوني فلم يوفق.

فصحت بها: يا أختاه! دعي قول أنا وأنا، فما قلته تغني عنه كلمة، فقوليها بالله عليك.

فنظرت إلي شزرًا وقالت: أنا هي «الأمانة» والويل للبشر إذا فقدوني. فالقائد إن لم يكن حائزًا على جانب عظيم من الأمانة يخون دولته ويقوِّض دعائم مجدها. والخادم إذا لم يكن صادقًا مخلصًا، يدسُّ لسيده السم فيميته شر ميتة، والصديق إذا لم يكن أمينًا، كان ويلًا يوقع من اصطفاه في شراك البلايا، والتاجر إذا لم يكن صادقًا أمينًا يبيع ذمته وينهب أموال البشر ولا يبالي إلا بجمع الثروة، سواء أعن طريق الشهامة جاءت أو عن طريق اللؤم والدناءة. وقصارى الكلام أن كل ذي شأن في الهيئة الاجتماعية إذا لم يكن صادقًا فهو مكروه وممقوت من البشر.

فأجبتها: خففي عنك، ولينعم بالك، فإن أنصارك كثيرون. كثيرون هم الأمناء الصادقون والذين يرون الخيانة جبنًا وعارًا. فعندنا التاجر والخادم والمخدوم والصديق يحمون ذمارك ويفدونك بدمائهم، فقد ورثوا هذه الخلة الكريمة عن أجدادهم الذين اشتهروا بها ورفعوا لواءها.

أما هي فأجابتني: لقد عم الطمع والرياء، وأصيبت الناس بداء حب الثراء، وانتشرت المداجاة حتى سموها سياسة عصرية، وهذا الذي رغَّب إليَّ الاعتزال.

فقلت: وكيف تعتزلين هنا، فالأشجار وحدها تقضي عليك؟

فحدقت إلي شجرة كهلة وقالت: فتح عينك، نحن شجر لا بشر. انظر ترَ أننا لا نقتتل على شيء، كل واحدة منا تقف حيث هي فلا نتنازع لا على الماء ولا على الهواء، ولا على النور. إن صفوفنا لا تتحرك ولا تعلن حربًا، فهذه الغابة تعيش أشجارها بسلام، تتعانق أغصانها ولا منافسة بينها على شيء، فعند السماء والأرض خير كثير. أصغِ، أصغِ، ما لك مبهوتًا؟!

– كلي آذان، يا سيدتي، فقولي ما عندك.

فقالت الشجرة: هل سمعت صوتًا غير حفيف الأوراق؟ اعلم وخبِّر جماعتك الناس أن شريعتنا شريعة السلام والاطمئنان. وإذا كان عندنا جور وبغي، فهو يأتينا من القرى والمدن. إن الذنب هو ذنب الدم، أما الماء الذي يجري في عروقنا فلا يحملنا على الجريمة. إن ذوي الدم وذواته هم الذين يزعجون الغابة، وإذ قلتم ذامين قادحين: «شريعة الغاب»، فالذنب ذنبكم أنتم وذنب الحيوانات، وكأنكم أدركتم ذلك فقلتم عن أنفسكم: «فلان دمه حار، وفلان دمه بارد، وفلان دموي؛ أي سفاح.»

قال أحد مجانينكم: «من خلق علق»، وكلمته هذه تصدق فينا؛ لأننا لا نسعى، نعطي ولا نأخذ، ويُغار علينا ولا نغير على أحد. تأتوننا بفئوسكم ومناجلكم، فنقابل شركم بالخير، ونعطيكم كل ما نملك حتى أنفسنا.

جُبلتم على الشر والأذى؛ ولذلك تقولون: «الدم لا يصير ماء.» لا أقول لك: اخرج من غابتنا؛ لأننا خُلقنا لا نرد أحدًا. أما أنتم فقد يقتل بعضكم بعضًا من أجل عود من عيداننا.

أما هذه الفتاة، فقد جاءت إلى حمانا، ونحن نضمها إلى صدورنا، وإذا اعتدى عليها أحد فلا يكون إلا من ذوي الدم. فاذهب من حيث جئت، ودع عندنا هذه اللاجئة وشأنها. لقد جاءت إلينا، ونحن لها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤