مقدمة الطبعة الأولى
تأتي أفكارُ كتاب «الدين والاغتراب الميتافيزيقي» في سياقِ ما جاء في كتابي الذي سبقه: «الدين والظمأ الأنطولوجي»، وما ينشده من ضرورةِ دراسة الدِّين في مجالِه الأنطولوجي الخاصِّ؛ إذ تحيلُ موضوعاتُ هذا الكتاب إلى رؤيةٍ تتبنَّى فهمًا للدين لا يكرِّر كثيرًا ما هو متداوَل في الكتابات المختلفة عن الدين؛ فهي لا تقول بأن: الدينَ وهمٌ، أو الدينَ مخدِّرٌ، أو الدينَ تراثٌ مندثر، أو الدينَ مرحلةٌ من مراحل تطور الوعي البشري، بل تُعلِن بوضوح أن الدينَ حاجةٌ وجوديةٌ لكينونة الإنسان بوصفه إنسانًا، وأن الإنسانَ لا يصنع حاجتَه للدين، بل يصنعُ أنماطَ تديُّنه وتعبيراتِه وتمثُّلاتِه المتنوعةَ والمختلفةَ للدين، على وفق اختلاف أحوال البشر وبيئاتهم وثقافاتهم. لا تختفي هذه الحاجةُ العميقةُ مع تطور الوعي البشري، وما ينجزه الإنسانُ من مكاسب كبيرة في العلوم والمعارف والتكنولوجيا، وحتى لو غاب أكثرُ أشكال تعبيراتها في المجتمعات الحديثة فإنها لا تغيب كلِّيًّا، بل تعلن عن حضورها أحيانًا على شكل ظواهر لا عقلانية وممارسات غرائبية، تنبعث بصورة لا واعية في معتقدات بعض الناس وسلوكهم، ويمكننا أن نعثر على محاولات تعويضٍ عن الدين بخرافات يعتنقها أفرادٌ في مجتمع متحضر.
يحاول هذا الكتابُ أن يعيدَ تصنيفَ حاجاتِ الإنسان، ويرسمَ خارطةً لمراتبها، ويتعرَّفَ على طرائق استيفائها، بالشكل الذي يكشف لنا عن أن الحاجةَ الوجوديةَ للدين تقع في مرتبةٍ خاصةٍ لا يمكن الاستغناءُ عنها، أو تعويضُها بغيرها، أو إشباعُها بتوفير حاجة بديلة. فكلُّ إنسان يولدُ في الأرض تولدُ معه سلسلةُ حاجاتٍ فسيولوجية، مثل الحاجة للهواء، والماء، والغذاء، والنوم، واللباس، والسكن … وغيرها. وبموازاتها يولدُ معه صنفٌ ثانٍ من حاجاتٍ ليست مادية، مثل الحاجة إلى الأمن، والمعنى، والانتماء، والاعتراف، والكرامة، والحب، والجمال، والصلة بالناس، وتقدير الذات … وغيرها. وبموازاتهما أيضًا يولد مع الإنسان صنفٌ ثالث من الحاجة، هي حاجتُه للدين التي يفرضها وجودُه من حيث هو كائنٌ مختلف، يتميَّز عن غيره من الكائنات في الأرض بهذه الحاجة. الحيواناتُ تشترك مع الإنسان في عددٍ من حاجات الصِّنفَين الأوَّل والثاني، لكن الكينونةَ الوجوديةَ للإنسان هي التي تنفرد بالصنف الثالث وهي الحاجة إلى الدين.
الحاجةُ الوجوديةُ تعني أنَّ الإنسانَ هو الكائنُ الوحيدُ الذي لا يكتفي بوجوده الخاص؛ لذلك يظلُّ يعمل كلَّ حياته على تكثيف وتوسيع هذا الوجود كيفيًّا وكميًّا، أو رأسيًّا وأفقيًّا؛ لأن ذاتَه في حاجة تظلُّ تلازمه كلَّ حياته، وتتمثَّل في «فقره الوجودي»؛ لذلك يطلب وجودُهُ الاستغناءَ والخلاصَ من هذا الفقر، ولا يقف توقُه لإغناء وجوده عند حدٍّ، بل يطلب أن يتفوَّق على الكائنات كيفيًّا، كما يسعى أيضًا للامتداد بوجوده كميًّا؛ لذلك لا تغيب في حياته مطامحُ الاستحواذ على كلِّ شيء مادي أو غير مادي، ولا يكفُّ سعيُه لامتلاك كلِّ ما يمكن أن تطالَه قدراتُه.
الدينُ منبع إشباع هذه الحاجة الوجودية، وعندما يفشل الكائنُ البشري في استيفاء هذه الحاجة يتعرَّض للظمأ الوجودي «الأنطولوجي». من هذه الحاجة الأبديَّة يتوالدُ الظمأُ الوجودي المزمن، المضمَرُ تارةً، والمعلَنُ تارةً أخرى، والذي يحاول الإنسانُ إرواءَه بوسائل عدة. عندما يفشل في إرواءِ هذا الظمأ يعيشُ غربةً وجوديَّة، أي يسقط في اغترابٍ عن الوُجودِ المطلق المكتفي بذاته، واغترابُه هذا ينتج غربتَه عن وجوده الشخصي، وهذا النوع من الاغتراب اصطلحنا عليه ﺑ «الاغتراب الميتافيزيقي»، الذي هو اغترابٌ يتفجَّر أحيانًا بأقسى أنواع القلق الوجودي. هذا ضربٌ من الاغتراب يختلف عن أنواع أخرى تحدَّث عنها فلاسفةٌ وعلماءُ اجتماع. وقد شرحنا هذا الضربَ من الاغتراب في أكثر من مورد في هذا الكتاب، وأوضحنا كيف تؤسِّس الرؤيةُ التوحيديةُ لصلةٍ وجودية عضوية بالوجود الغنيِّ بذاته عن كلِّ شيءٍ سواه.
خارطةُ حاجاتِ الإنسانِ في هذا الكتاب ليسَت ثنائيةً، بل تشكِّل مثلثًا ذا ثلاثة أضلاع، هذه الأضلاع ليست متطابقةً ولا متساوية، ويقود عدمُ الوعي بها، أو عدمُ تأمين أيِّ ضلع منها بالشكل المناسب لكيفيَّة تلك الحاجة، إلى حالةِ اختلالٍ في حُضور الإنسان في العالَم، ومتاعب في طريقة عيشِه. كلُّ صنفٍ في هذا التصنيف الثلاثيِّ للحاجات يستطيع الإنسانُ استيفاءَه بما يشاكله من وسائل؛ فالحاجاتُ الماديَّة يشبِعُها ماديًّا، والمعنويةُ يشبعها معنويًّا، والوجوديةُ يشبعها وجوديًّا، لكن ذلك لا يعني أن كلَّ حاجة من هذه الحاجات مستقلةٌ عن الأخرى استقلالًا تامًّا، بل إن هذه الأصناف الثلاثة للحاجات مترابطةٌ ومتداخلةٌ ومتفاعلةٌ ومتكاملةٌ فيما بينها، فكلٌّ منها يؤثِّر في الآخر ويتأثَّر به. لا يتحقَّق للإنسان ما تتطلَّبه حياتُهُ من أمان وسلام وسكينة باطنيَّة ما لم يشبعْها كلَّها بشكل متوازن. إشباعُ أيٍّ منها لا يكون بديلًا عن غيره، فلو وفَّر الإنسانُ كلَّ حاجاته الماديَّة فإن ذلك لا يغنيه عن الصنفَين الآخرَين، وهكذا لو أشبع صنفَين منهما فإنه لا يستغني عن الثالث. تأمينُ مثلث الحاجات هذا هو ما يوفِّر للإنسان حياةً تنخفض فيها وتيرةُ الألم، ويتخلَّص فيها من هشاشته ووحشةِ وجودِه وقلقِه، وتصيرُ حياتُهُ أشدَّ مناعةً في مقاومة كلِّ أشكال التحدِّيات، وإرادتُه أصلب، ووجودُه أكثرَ قدرةً في التغلب على مشكلات الحياة التي تتوالد باستمرار. كما أن تجاوُزَ واحدةٍ من الحاجات لحدودِها وزحفَها على حقل الحاجتَين الأخريَين يُحدِثُ خللًا يربكُ حضورَ الإنسان في العالَم، ويُعكِّر طريقةَ عيشه.
في المجتمعات التي ينام فيها العقلُ ويتفشَّى الجهلُ تتضخَّمُ في مخيِّلة الإنسان الحاجةُ الوجودية، ويجري تعويضُ كلِّ الحاجات فيها، بنحوٍ تُختَزَل فيه كلُّ الحاجاتِ بالحاجة الوجودية، ويتوهمُ الناسُ أنَّ كلَّ حاجةٍ في حياتهم لا ضرورةَ لها، وليس لها من أهميةٍ إلَّا بحدود ما تُمكِّن الكائنَ البشريَّ من تأمينِ الحاجةِ الوجوديَّة من خلال الدِّين؛ بسبب هذا التوهُّم تُهدَر حاجاتٌ أساسية أخرى، يفضي إهدارُها إلى إصابةِ الوعي بالشَّلل، وتوقُّف تطور العلوم والمعارف، وتعطيلِ بناء الحياة وتنميتها، فإن نسيانَ الإنسان حاجاتِه المادية وغيرَ المادية الحقيقية يُفضي إلى تبديدِ طاقاتٍ أساسيَّة في حياته، وضمورِ قُدراته الإنتاجية، وخمول مواهب الخلق والإبداع لديه.
هناك حاجةٌ وجودية «أنطولوجية»، بموازاة تلك الحاجات، تتمثَّل في حاجة الإنسان إلى الدين، وهي ليست حاجةً بيولوجيةً أو ذهنيةً أو سيكولوجية. مفهومُ الوجود المستعمل في «الحاجة الوجودية» هو الوجود بالمعنى الفلسفي، أي ما ينطبق على وجود الإنسانِ بوصفه الأنطولوجي الذي يشترك مع كلِّ موجود في الوجود، بما هو أعمُّ من الوجود بالمعنى المادِّي المحسوس وغيره. الحاجة الأنطولوجية ليست ثانويةً أو هامشيَّةً أو تقع في آخر سُلَّم الحاجات، أي لا تندرج تحت تصنيف «تدرُّج الحاجات». الحاجة الأنطولوجية قائمة مع كلِّ مستويات ومراتب الحاجات الأخرى، تتزامن مع مختلف مراتب الحاجات، ولا تتراجع حتى يتم إشباعها، حيثما كان الإنسان تكون حاجتُه الوجودية للدين.
يتجلَّى الأثرُ المباشرُ للدِّين في حياة الإنسان، في تكامل شخصية الفرد بتأمين حاجته الوجودية، كما يظهر أثرُه غير المباشر في حياة الفرد والجماعة؛ لأن تأمينَ الحاجةِ الوجودية للإنسان يكفل بناءَ حياته الروحية والأخلاقية والجمالية، ويخفض قلقَه الوجودي، ويجعله أكثرَ قدرةً على تأمين وسائل مناسبة لإشباعٍ متوازنٍ للحاجات من الصنفَين الأولَين.
على وفق هذه الرؤية يتأسَّس موقفُنا في وضعِ كلِّ حاجةٍ في نصابها، واكتشافِ خارطة ترسم المجالَ الخاصَّ لكلٍّ من الديني والدنيوي، والعلم والدين، والدين والخرافة، والدين والدولة، وامتلاكِ بوصلة تضيء لنا حدودَ كلٍّ منها. ولا يمكننا ذلك من دون اعتماد العقل وتوظيف العلوم والمعارف والخبرة البشرية؛ فالحاجاتُ من الصنفَين الأولَين يكفل العلمُ والمعرفةُ والخبرةُ البشريةُ الكشفَ عنها بدقة، وابتكارَ أفضل أساليب تأمينها، أما الحاجةُ الوجوديةُ من الصنف الثالث فلا يمكن أن يبتكرَ العقلُ والعلمُ والمعرفةُ ما يشبع هذه الحاجةَ بشيء ليس من جنس الدين، أو يبتكرَ بديلًا عن الدين لا يتوكَّأ على مُسلَّمة مضمَرةٍ تحيل إلى كون الدين حاجةً وجودية. العلمُ والمعرفةُ وتراكمُ الخبرة تمكِّننا من فهم الدين بشكل أجلى، وتمنحنا أدواتٍ تتيح لنا تفسيرَه بشكل يجعله يستجيب لما نحن عليه، ويتناغم إيقاعُه مع إيقاع واقعنا.
بغداد ١٥/ ٥/ ٢٠١٨م