مقدِّمة الطبعة الثالثة
كلُّ ما تتضمَّنه أفكارُ هذا الكتاب يقوم على فهم الدين بوصفه حاجةً وجوديَّة، وأن الدينَ ليس حاجةً ظرفيةً أو عابرةً أو طارئةً. ويتأسس على تعريف للدين بوصفه حياةً في أُفق المعنى، تفرضُه حاجةُ الإنسان الوجودية لإنتاجِ معنًى روحي وأخلاقي وجمالي لحياتِه الفردية والمجتمعية.
يجدُ القارئ في موضوعاته كيف يخرج الدينُ من حقله، بوصفه حاجةً أنطولوجية، ليهيمن على حقول الحياة الأخرى، التي هي من اختصاص العقل والعلوم والمعارف، فيتحوَّل الدينُ من كونه حلًّا للحاجة الوجودية إلى مشكلةٍ تهدِّد العقلَ، وتحول دون تراكم الخبرة البشرية.
يرى القارئُ أن أكثرَ مشكلاتنا يكمن في تمدُّدِ وتضخُّمِ هذه الحاجة وإهدارِها لغيرها من الحاجات الأخرى، وابتلاعها لكلِّ شيء في حياة الناس في مجتمعاتنا. كثيرٌ من مشكلات عالَم الإسلام تعود إلى الإخفاق في التعرُّف على الحقلِ الحقيقي للدين، وحدودِ مهمته في حياة الإنسان، وما نتج عن ذلك من هيمنةِ الدين على حقول الحياة الأخرى، والإخلالِ بوظيفة العقل والعلم والمعرفة، وإهمالِ قيمة تراكم الخبرة البشرية وأثرها في البناء والتنمية.
في ضوء هذا الفهم، حاولنا أن نكتشف حدودَ المجال الحقيقي الذي يحتلُّه الدين، وحدودَ المجالَين الآخرَين الموازيَين له، وقد شرحنا ذلك من خلال نماذج تطبيقية متنوعة لما يختص به كلٌّ من الدين والعلم، والدين والدولة، والمقدَّس والدنيوي.
يصدرُ هذا الكتاب في مسعًى لإرساءِ لَبناتِ فهمٍ للدين، وبوصلةٍ ترشد لمنطق فهمِ آيات القرآن الكريم، من أجل بناء رؤية «إنسانية إيمانية»، عساها تطلُّ بنا على أفق مضيء، نرى فيه الدينَ بمنظار مختلف، يصير فيه الدينُ دواءً لا داءً، والإيمانُ محرِّرًا لا مستعبِدًا، والتديُّنُ حالةً روحانيةً أخلاقية جماليةً، تتجلَّى فيها أعذبُ صورةٍ لله والإنسان والعالَم.
الدراساتُ الدينيةُ التي تبحث البعدَ الأنطولوجي للدين شحيحةٌ بالعربية، من هنا أظن أن الفهمَ غيرَ المألوف للدين في هذا الكتاب سيزعج قرَّاءً متعجلين يقرءون الدينَ وظواهره في الحياة قراءة سطحية منفعلة، لا تغور في أعماق الإنسان، ولا تدرك شيئًا من عمق وتعقيد عالمه الباطني، فيرون المؤلفَ منحازًا بشدَّة للدين، بتصوُّرهم أنه يفتعل وظيفةً وجوديةً له في حياة الإنسان، خاصةً أولئك القرَّاء الذين يعيشون في مجتمعات يجتاحها فهمٌ مغلقٌ للدين، وتفسيرٌ عنيفٌ لنصوصه؛ يصادرُ عليهم حرياتِهم، ويضيِّع حقوقَهم، وينتهكُ كرامتَهم. ويتضامن مع هذا الفهم قرَّاءٌ متدينون، يجدون المؤلفَ يقدِّم لهم برهانًا إضافيًّا على تعذُّر زوال الدين، ما دام هناك إنسانٌ يعيش على الأرض. وعلى هذا أدعو الفريقَين إلى التمهُّلِ وتأجيلِ إصدار الأحكام، ريثما يفرغ كلٌّ منهم من مطالعة الكتاب، فربما تتبدَّلُ مواقفُ بعضِهم من الكتاب، فلا أظنُّ المتحمِّسين له يمضون كلُّهم متشبثين بحماستهم، ولا أظن المنزعجين منهم يلبثون كلُّهم أسرى انزعاجهم؛ لأن مَن يقرأ كلَّ الفصول بهدوء وتأمُّل، يجد في الفهم الأنطولوجي دعوةً للكفِّ عن النظرة التبسيطية للدين، التي تقفز على طبيعة الإنسان الوجودية فتغفل حاجتَه المزمنةَ للدين، وتتنكَّر لحقائق التاريخ، وتتجاهل كيف يفرضِ الدينُ حضورَه، على الرغم من مناهضةِ فلاسفة ومفكرين كبار له، وقمعِ سلطات لكلِّ أنماط التدين ومواقفِها المتشدِّدة حياله، وعملِها المتواصل على اجتثاثه.
صدرت الطبعةُ الأولى لهذا الكتاب منتصف عام ٢٠١٨م، وقبلَ نهاية ذلك العام نُشِر في طبعة ثانية، ويُنشَرُ اليومَ بطبعةٍ ثالثة مزيدة ومنقحة. ككلِّ أعمالي، عندما أعود إليها بعد سنوات من صدورها، كأني أقوم بتأليفها مجددًا، مرة أشطب، وأخرى أختزل وأكثِّف، وثالثة أشرح وأوضِّح ما يراه القراءُ الكرام ملتبسًا.
بغداد ٢/ ٤/ ٢٠٢٢م