الرحمةُ الإلهيَّة مفتاحُ فهمِ القرآن الكريم
(١) الرحمةُ صوتُ الله
استند اللاهوتُ الصراطي في الأديانِ الإبراهيميةِ على شيءٍ مما ورد في كتبها المقدَّسة، مما يشير إلى انحصار النَّجاة في الاعتقاد بها، فقرأها قراءةً حرفية، وفهمها خارجَ زمانها والواقع الذي ظهرت فيه الديانةُ، وتمسك بأبديَّتها بعد أن أهدر السياقَ التاريخي والظروف التي صدرت فيها، وأهمل نصوصًا كثيرة بموازاتها تشدِّد على الرحمة.
وهذا يعني أن الفاتيكان استطاع ولو متأخِّرًا أن يتناغمَ ومنطقَ الحقوقِ والحريات الحديث، لكن ما زالت أنساقُ اللاهوت الصراطي تغذِّي مشاعرَ عددٍ غيرِ قليل من المسيحيين ممن لا يزالون يظنون أن لا خلاص خارجَ حدودِ الكنيسة.
لم يكن اللهُ في تصورِ اللاهوتِ الصِّراطي إلهًا للعالَمين ولا إلهًا للنَّاس أجمعين، وإنما كان اللهُ إلهًا يختصُّ بديانةِ من يعتقد بهذا اللاهوت، وكلما ضاقَت دائرةُ الاعتقادِ ضاقت حدودُ صورة الله تبعًا لها، فصاحبُ الفرقةِ يعتقدُ بأن اللهَ إلهُه فقط دون غيره من الناس، وربما تتشظَّى الفرقةُ الواحدة فتصير عدةَ جماعات، كلٌّ منها يعتقدُ بأنه يحتكرُ صورةَ الله له.
اللاهوتُ الصراطي يغرسُ في كلِّ الأديان شعورًا عند الإنسانِ بأن رحمةَ الله مختصَّةٌ به وبأتباعِ معتقدِه، وأنهم من دون سواهم يفوزون بالنجاةِ والخلاصِ من العذابِ والهلاكِ. ويغذِّي ذلك على الدوام اعتقادُه بأنه يستطيع احتكارَ رحمةِ الله، بوصفها من الممتلكاتِ الخاصةِ التي يستحوذ عليها معتقدُه. يظلُّ صاحبُ المعتقدِ الصراطي يتوهمُ بأنه قادرٌ على حصرِ الرحمةِ الإلهية بأتباعِ ديانته، وتضييقِها لدرجة يستطيع معها أن يستبعدَ كلَّ من هو خارج هذا المعتقد من إشراقات رحمة الله.
(٢) الرحمةُ ليسَت بديلًا عن العدالة
يتفوق الإنسانُ على غيره من الكائنات بالرحمة. الرحمةُ خُلاصةُ المشاعر الحميمية الدافئة وجوهرُها النفيس. أما العقلُ فعلى الرغم من أنه كان وما زالَ من أهم ما يتميزُ به الإنسانُ، غير أن «الروبوت» صار يقوم ببعض الأعمال الدقيقة والمعقَّدة بواسطة عقل إلكتروني. ويعدنا الذكاءُ الصناعي اليومَ بالكثير مما يمكن أن ينجزه هذا العقلُ الإلكتروني غدًا من مهمات؛ فهو يشارك عقل الإنسان وأحيانًا يكون بديلًا عنه في تنظيم وإنجاز أعمال متنوِّعة. «الروبوت» مع امتلاكه لعقلٍ يظل يفتقر للمشاعر الصادقة الدافئة الحميمية. ومعنى ذلك أنَّ الكائنَ البشريَّ يتفوَّقُ على غيره من الكائنات في الأرض بالرحمة، بل لا تتحقَّق إنسانيتُه إلَّا بالرحمةِ.
الرحمةُ حالةٌ، وهي أسمى من العدالة، بل تسمو حتى على الإحسان. ولولاها لنضبت الطاقةُ المتدفِّقةُ التي تغذِّي الشفقةَ، والروحَ الخيريةَ، وحوافزَ العطاء والبرِّ والإنفاق في الحياة. الرحمةُ تغذِّي كلَّ ما يشكِّل منبعًا للعواطف المتدفِّقة الفيَّاضة في حياة الناس، وما يبني علاقاتِهم الاجتماعيةَ ويرسِّخها على ركائز إنسانية عميقة.
الرحمةُ أشملُ وأوسعُ من العدالة. العدالةُ تنشد التوازنَ والمساواةَ والإنصافَ في الحكم، وهي مفهومٌ يبتني على القانونِ والحقوقِ والأخلاقِ. أما الرحمةُ فهي «حالةٌ»، و«الحالةُ» هي ما يتلبَّس بها الإنسانُ ويعيشُها بوصفها حقيقيةً وجوديةً كما يعيشُ الحبَّ والإيمانَ والبهجةَ، الحالةُ تصيرُ مُكوِّنًا لكينونته الوجوديَّة.
العدالةُ ضرورةٌ لحماية حقوقِ الإنسان وحرِّيَّاتِه، وهي شرطٌ لازمٌ لكل عمليةِ بناءٍ مجتمعي سليم، وضمانةٌ للأمنِ والسِّلمِ الأهلي من كلِّ أشكالِ العُنْفِ والتَّعَدِّي على حقِّ الآخرِ في العيْشِ المُشْترَك، وخلقِ فرصٍ متكافئةٍ للأفراد في الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية؛ لذلك لا يمكن أن يقوم مجتمعٌ سليمٌ من دون قوانين تُنظِّم الحياةَ الاقتصادية والسياسيَّة، وتُحَقِّق الأمنَ والعدالةَ الاجتماعية، وأنظمةَ عقوبات عادلة تُنصِف المظلومَ وتردع الظالم، بنحوٍ تتَّسم فيه بالإنصاف والتَّوازن، وتحْمِي مصالحَ الفَرْدِ والجماعة، ويتساوى فيها الأفرادُ في حقوقهم وحرياتهم.
لا يمكن الاستغناءُ عن العدالة بالرحمة، الرحمةُ ليستْ بَدِيلًا عن العدالة في بناء أيَّةِ جماعةٍ بشريَّة، أو في بناءِ أيَّة دولةٍ. الظلمُ مقيمٌ في الأرض، ويفرضُ عيشُ الإنسان وتأمينُ متطلباته الحياتية عليه الكدحَ والتنافسَ والصِّراع، والعدالةُ تمنع من أن ينتهي تأمينُ الإنسان لمصالحه ومتطلباته إلى نزاعات دموية وحروب عدوانية.
إن افتراضَ بناء مجتمع على الرحمة وحدها افتراضٌ غير واقعي؛ لأن مثلَ هذا المجتمع لا يمكن أن يتحققَ ما دام الإنسانُ إنسانًا، لكن تظل الرحمةُ قيمةً إنسانيةً رفيعةً، تسمو بحياة الفردِ والجماعة؛ بوصف الرحمةِ تنفي بعضَ العقوبات عفوًا، أو تخفض من شدَّة بعض العقوبات الأخرى القاسية، وبوصفها هدفًا نبيلًا ينشده الدينُ ليوقظ به ضميرَ الإنسان، ويسمو به إلى أجمل حالة إنسانية يمكن أن تتحلَّى بها شخصيتُه.
الإنسانُ ليس رحيمًا بالطبع، بل إنه ينزعُ بطبيعته للتسلطِ على الغير ليستحوذَ على كل شيء في حياتهم، ولعل في ذلك سرَّ تركيزِ القرآن على الرحمةِ وكثافةِ حضورها فيه، ووضعِها إطارًا مرجعيًّا وبوصلةً دلاليةً تُرشِد لما تؤشِّر إليه مدلولاتُ سورِه وآياتِه. الرحمةُ حالةٌ لا يستوعبها الكائنُ البشريُّ ولا يتَّصفُ بها بيسر، ولا يتمثَّلها بسهولةٍ، بل لا يطيقها أكثرُ الناس؛ لأنها شديدةٌ على النفس، وطالما عجز الكائنُ البشري عن التحقُّقِ بها؛ إذ إن نزعاتِ العدوان التي تترسَّب في أعماقِ هذا الكائنِ تمنعه من امتلاكِها.
الإنسانُ كائنٌ طالما تغلَّب في شخصيتِه الشرُّ على الخير، والتوحشُ على الرحمة. ولولا الأخلاق والدينُ والقانون لم تكن الحياةُ ممكنة. الأديانُ خفَّضت كثيرًا من الطاقة التدميريَّةِ للتوحُّشِ في الأرض، فأضحتْ حياةُ الإنسانِ ممكنةً. لا يتأنْسَنُ الكائنُ البشري إلَّا بالرحمةِ، ومن دونها يتساوَى هذا الكائنُ وأي وحشٍ مفترس.
الجلَّادون الدمويون الذين ظهروا في الأديان في العصور المختلفة، كانوا تعبيرًا عن طبيعة هذا الكائن المتوحِّش أكثرَ مما كانوا يعبِّرون عن رحمة الأديان. وإلَّا فكيف نفسِّر ظهورَ شخصياتٍ روحانية مُلهِمةٍ في الأديان، مثل: الحلاج والنفري ومحيي الدين بن عربي وجلال الدين الرومي، وإيكهارت والأم تريزا، وغيرهم ممن يمثلون أجملَ النماذج الرحيمة الملهمة، وممن تفوَّقوا في تجسيدهم لكيفية تمثل الإنسان لمغزى الأديان وندائِها الروحاني العميق.
كلُّ ذلك لا ينجزه إلَّا فهمٌ بديلٌ للدين، وموقفٌ مختلف لنمطِ الصلةِ بالله، ورؤيةٌ جديدة للعالم، وإرادةٌ جديَّةٌ في تبنِّي العلومِ والمعارفِ والخبراتِ الإنسانيةِ الجديدة، والخلاصُ من الغرام بعلومِ ومعارفِ الموتى التي نسخت أكثرَها العلومُ والمعارفُ الحديثة، لكن المؤسفَ أن أكثرَ ذلك ما زالت تفتقر إليه مجتمعاتُ عالَم الإسلام.
(٣) الرحمةُ مفتاح فهمِ المنطق الداخلي للقرآن
القرآنُ الكريمُ كتابٌ تسري فيه روحٌ واحدةٌ، مضامينُه تتوحَّد في نسيج عضوي متماسك، ويسوده نظامٌ كلي، يتطلبُ فهمُه أن نكتشفَ المنطقَ الذاتي الذي يتحدَّث فيه القرآنُ عن نفسه. في القرآن تتحدَّثُ كلُّ فكرةٍ ومفهومٍ ومقولةٍ للأخرى، وتتبصَّرُ كلُّ آية دلالتَها ووجهتَها في أفق آياته الأخرى بمجموعها. القرآنُ كتابٌ تحيلُ فيه الفروعُ على الأصول، والجزئياتُ على الكليات، والصغرياتُ على الكبريات. نحن بحاجةٍ ماسَّةٍ إلى منهجٍ بديلٍ في فهم القرآن، يحرِّره من أسوارِ الأفق التاريخي التكراري المُغلَق للمفسرين، الذي أفضى لنضوب حضور الروافد الملهِمة للمعنى والأخلاق فيه.
على الرغم من ضجيجِ أصوات الجماعات الدينية، وضوضاءِ صيحات شعاراتهم في كلامهم عن القرآن، وكلامِهم المبسَّط في نسبة كلِّ شيء إليه، وإن كان على الضد من منطقه وما ينشده، لكن قلَّما نعثر على رؤيةٍ تتبصَّر متطلباتِ الحياةِ الروحية وبناءِ الضمير الأخلاقي للمسلم في سياق قرآني. إن هذه الرؤيةَ البديلةَ تفرضها ضرورةُ إعادة اكتشاف الأبعاد المضيئة للحياة الروحية والأخلاقية والجمالية في القرآن، كما يفرضها أيضًا افتقارُ المسلم اليوم لمعنًى عميقٍ لحياته، وضياعه في كهوف التراث التي لا تقوده إلا لمزيدٍ من الضياع.
بناءً على القولِ بأن البسملةَ آيةٌ من كلِّ سورة، وورودِ «الرحمن الرحيم» في كل بسملة، فإن عددَ مرات ذكرِ الرحمةِ ومشتقاتِها في القرآن يفوق ٥٥٠ مرة. كما ورد فيه جذر كلمة «رحم» ٥٦٣ مرة؛ وبذلك يتميز القرآنُ عن كتبِ الأديان بسعةِ مساحةِ حضورِ الرحمة وكثافتها في آياته.
مَنْ يريد أن يستكشف منطقَ الرحمة فعليه أن يعود إلى القرآن الكريم مباشرةً، لئلا يقع في شباك التفسيرات والمرويَّات المتراكمة، وأن يعتمدَ القرآنَ مرجعيةً يستكشف في هَدْيِهَا صورةَ الله، ومنطقَ الحياة الروحية والأخلاقية والجمالية التي ينشدها، والدلالاتِ القيميةَ العابرةَ لواقع الجزيرة العربية في عصر النبي ( ﷺ). آياتُ القرآن النازلة في سياق الدفاع عن الدعوة وحمايتها من أن يتم القضاء عليها وهي فتية، وكل ما يتضمَّنه مما يدعو للعنف، يجب أن نقرأها في سياق متطلَّبات الدعوة الظرفية التي فرضها المحيطُ الاجتماعي والزماني لعصر البعثة.
كلُّ بيئةِ تديُّنٍ تحتكرُ النجاةَ لفرقةٍ واحدةٍ غيرُ صالحةٍ لاستنباتِ الرحمةِ، اللاهوتُ والفقهُ الصِّراطي على الضدِّ من منطقِ الرحمة. لقد أضحى صوتُ مَنْ يدعو لإيقاظِ الرحمةِ وما يئول إليها في بيئاتِ التديُّن هذه نشازًا أحيانًا، وربما يُتَّهم مَنْ يدعو للرحمة بالجبنِ والخوفِ والهوانِ وحتى الخيانة، فيُدان دينيًّا ومجتمعيًّا.
إيمانُ الاستعباد عدوُّ الرحمة، الرحمةُ لا تجدُ الأرضَ الصالحة لاستنباتها ونموِّها إلَّا في مناخات إيمان الحرية. في أية مجتمعات يطغى صوتُ الأيديولوجيا ينهزم إيمانُ الحرية، وتبعًا لذلك تنحسر الرحمةُ. الأيديولوجيا لا يمكنها أن تتصالحَ مع إيمانِ الحرية؛ لأنها لا تنمو وتزدهرُ إلَّا في بيئاتِ تديُّنٍ يتسيَّدُ فيها إيمانُ الاستعباد، في مجتمعاتٍ تتحدَّثُ معتقداتُها لغةَ اللاهوتِ والفقهِ الصراطي.
على الرغم من أن الموقفَ الأخلاقيَّ يفرضُ على الإنسانِ أن يفضحَ منابعَ الكراهيةِ والتعصُّبِ بين البشر في تراثِه، مثلما يفضحها في تراثِ غيرِه، ويعترفَ بأخطاءِ تاريخِه مثلما يفضحُ أخطاءَ تاريخِ غيره، غير أن سطوةَ الأيديولوجيا أشدُّ من الأخلاق؛ لذلك تنهزمُ الأخلاقُ عندما يعلو صوتُ الأيديولوجيا، فيرضخ الأيديولوجي لما يفرضه عليه المعتقدُ من مواقفَ، وإن كانت تلك المواقفُ على الضدِّ من بداهاتِ الأخلاقِ التي يحكمُ بها العقلُ العملي.
هذه واحدةٌ من المشكلاتِ الموروثةِ في مجتمعات عالَم الإسلام، التي تنبغي دراستُها والكشفُ عن العواملِ المولِّدة لها والروافدِ الدينية والثقافيةِ والسياسية والاقتصادية الراقدةِ في أعماقِ شخصية الفرد والمجتمع التي تستقي منها. ولا ينجز ذلك إلَّا الإفادةُ من المناهجِ الحديثة، وتوظيفُها في تفسيرِ وتفكيكِ هذه المشكلة المزمنة، والعملُ على الخلاصِ من آثارها التدميرية في مجتمعاتِنا أمس واليوم. إن الواقعَ المريرَ الذي تغرق فيه هذه المجتمعاتُ يفرض عليها إيقاظَ صوتِ الرحمةِ في القرآن، ووَضْعه في نصابِه الحياتي الذي ينبغي أن يحتلَّه في التربيةِ والتعليمِ والعلاقاتِ الأسريةِ والاجتماعية.
(٤) احتكار النجاة
في فضاءِ انحصار الحقَّانية والنجاة تم رسمُ صورةِ الإله القومي والمذهبي والطائفي. الإلهُ القومي هو إلهٌ لجماعةٍ بشرية تنتمي لإثنيةٍ معيَّنة، والإلهُ المذهبي والطائفي هو إلهٌ لجماعةٍ بشرية أو مذهبٍ أو طائفةٍ خاصة فهو، وفقًا لصورته لدى من يعتقد به، ينشغلُ بها من دون غيرها من الناس، ويهبها كلَّ شيء، ويحرم غيرَها من كلِّ شيء، ويتساهل معها فيقبل منها كلَّ شيء مهما كان يسيرًا، ولا يقبل من غيرها كلَّ شيء حتى لو كان كبيرًا، وذا أثرٍ عظيمٍ في إسعادِ البشرية. إنه إلهٌ متحيِّزٌ لهذه الجماعة دائمًا، لا يعنيه غيرُها من البشر، مهما كانت إبداعاتُهم وآثارُهم في تطوير وسائل العيش وتأمينها، ومهما كانت منجزاتُهم وأعمالُهم في صناعة عالَمٍ أجمل لحياة الإنسان.
إن هاجسَ المتكلِّم هو إثباتُ حقَّانيةِ مقولاتِه الاعتقادية، وانحصارِ الحق فيها، والمحاججةُ لدحضِ الحقِّ والحقَّانيةِ عمَّا سواها. وتشكِّل هذه المقولات بمجموعها منظومةً اعتقاديةً واضحةَ الحدود، على نحوٍ يمكن الاستنادُ فيه إليها بوصفها معيارًا للتعرُّف على كلِّ ما يقعُ داخلها، ونفي كلِّ ما يقعُ خارجها.
ولما كانت المنظومةُ الاعتقاديةُ تتألَّفُ من رؤيةٍ للعالم، وتصوُّرٍ مصوغ بعناية لصورةِ الله، ونمطِ علاقة الإنسان به، وكيفيةِ الارتباط معه، فإنها تصيرُ مرجعيةً تنتظمُ في سياقها مدونةٌ فقهيةٌ ترتسم فيها أشكالُ العبادات والمعاملات والمواقف الحياتية للفرد والجماعة، على نحوٍ تتطابق فيه وجهةُ المدوَّنة الفقهية مع ما تؤشِّر إليه المنظومةُ الاعتقادية. وترى بعضُ المذاهب، خاصَّة السلفية، أن كلَّ ما هو خارج عنها من آراء وفتاوى اجتهادية في العبادات هو مروقٌ وابتداع.
وعادةً ما يُحكَم بالمروق على كلِّ من يتبنَّى مُعتقَدًا خارج الصور النمطية الراسخة لله عند الفرق الكلامية، في حين تكون النجاةُ في الآخرة هي المآل الطبيعي لأتباعِ هذه المنظومة الاعتقادية.
ولما كان منطقُ التفكير في علم الكلام يبتني على المنطق الأرسطي، فهذا يعني أن نظريةَ المعرفة في علم الكلام لا تقول بتعدد وجوه إدراك الحقيقة؛ لذلك لا يرى المتكلمُ إلَّا وجهًا واحدًا للحقيقة الدينيَّة، ينحصر الوصولُ إليه بطريق خاص، هذا الطريق هو ما يرسم إطارَه الفهم المغلق للنصوص الدينية، وما ينتجه من مقولات للمتكلم تبني هيكل معتقدات فرقته، وهي «الفرقة الناجية» دائمًا دون سواها.
إن تأويل النصوص الدينية يبتني على تعدُّد وجوه إدراك الحقيقة وتنوُّع الطرق إليها، ومن دون تأويل النصوص لا يمكن أن يتنوع فهمُها، تبعًا لتنوُّع فهم المتكلمين وأزمنتهم. وكثيرًا ما يقود الفهمُ المغلق إلى تكفير المختلف في المعتقد، عندما يفضي تأويلُه لآيات القرآن إلى فهمها بنحوٍ لا يطابق الفهمَ المغلقَ على معنًى واحد نهائي.
في لاهوتٍ يحتفي بكرامة الإنسان ويحمي حرياتِه وحقوقه، فإن حمايةَ السلم المجتمعي تفرض منعَ التعبير العنيف عن المعتقد، بوصف هذا الضرب من التعبير اعتداءً على حياةِ الفردِ والمجتمعِ، سواء كان ذلك التعبيرُ جسديًّا أو لفظيًّا أو رمزيًّا.
بموازاة تخندق التفكير الكلامي في قوالب المنطق الأرسطي، تحرَّر تفكيرُ التصوف الفلسفي من تلك القوالب الصارمة، فتغلَّب عليها وصار يفكِّر خارجها بحرية لا تسمح بها قواعدُ هذا المنطق ومقولاتُه ومحاججاتُه وأدواتُه. انفردت كتاباتُ محيي الدين بن عربي وأمثاله في أنها فتحت آفاقًا للتأويل، تتخطَّى الفهمَ الحرفي المغلق للنصوص الدينية.
بما أن نظريةَ المعرفة في التصوُّف الفلسفي لا تبتني على المنطق الأرسطي؛ فهي تقبل تنوع معرفة الحقيقة وتعدد الطرق إليها، كما ترى أن تصور الحقيقة الدينية يختلف باختلاف الطرق إليها، ما دام طريقها في علم الكلام واحدًا لا يقبل التعدد؛ فهو ينفي كل طريق غيره. بناءً على ذلك الفهم المختلف للحقيقة الدينية تبلور موقفٌ بديلٌ في التصوف المعرفي لا يحتكرُ الوصولَ إلى الله بطريقٍ خاصٍّ كما يقول المتكلمون، ويقدِّم ذلك الموقف فهمًا يتسع للتنوع والتعددية في الأديان، بوصفها تجلياتٍ مختلفةً للحقيقة الدينية، وصورًا متنوعةً لوجوهها، وأساليبَ متعددة للتعبير عنها، ومصابيح متنوعة تكشف عن النور الأبدي الذي حقيقته واحدة. وعلى أساس مفهوم المعرفة الدينية هذا خلص المتصوفةُ للقول بتنوع طرق الوصول إلى الله، وهذا هو معنى الاعتراف بحق الاختلاف في المعتقد، الذي هو أساس قبول التعددية الدينية والعيش المشترك.
(٥) السلمُ هو الهدفُ المحوري للقرآن
الحربُ تفريغٌ عنيفٌ لغريزة العدوان لدى الإنسان، متى ما عجز الإنسانُ عن التفريغ السلمي لغريزة العدوان تفجَّرت الحربُ في حياته. يذهبُ علمُ النفس الحديث إلى أن الإنسانَ تتنازعه غريزتان؛ الأولى: غريزة البقاء؛ لذلك نراه يعملُ كلَّ شيء من أجل الاحتفاظ بحياته واستمرار البقاء في هذا العالم. والثانية: غريزة العدوان، وعنها تتوالد الكراهيةُ والحربُ وما تفضي إليه من موتٍ للإنسان وتدمير وتخريب للعمران. ما لم يتخلص الإنسانُ من الحرب، ويكُن قادرًا على التحكُّمِ بها، لا يمكنه امتلاكُ وسائل العمران، والتحكُّم بتوظيف طاقاته التي تستنزفها الحربُ في بناء الحضارة.
يتطلَّبُ القضاءُ على الحرب وترسيخُ السلامِ حربًا مضادَّة، إن كان معاشُ المجتمع يقومُ على الغزو، وتتحكم الحربُ في رسم علاقاته، وتعمل على تشكيل نمط اقتصاده، كما هو مجتمع الجزيرة العربية في عصر البعثة. بالرغم من أنَّ السِّلمَ وليس الحرب هو الهدفُ المحوري للقرآن، فإن طبيعةَ الحياة في مجتمع البعثة فرضت أن يتحدَّث القرآنُ بلغة لا تخلو في بعض المواضع من العنف. وقد فوجئتُ بفعلٍ غريبٍ قبل سنوات قام به أحدُ الكتَّاب؛ إذ عمل على حذف كلِّ آيةٍ تشي دلالتُها بما يشيرُ للعنفِ في القرآن الكريم، ووزَّع نسخة محدودة التداول على بعض القراء. ورأيتُ جماعةً من الكتَّاب والخطباء يلتمسون السبلَ المختلفةَ لنفي العنف في لغة القرآن، والتشديدِ على أن لغتَه لا تتضمن سوى السلام والتراحم، وليس فيها أيُّ حضور للعنف. وقد ألجأهم لذلك الموقف الاعتذاري تفجُّرُ العنف الفاشي للجماعات التكفيرية، وتسويغُها جرائمَها بآيات وأحاديث وفتاوى تحيل إلى كتب التفسير والحديث والفقه.
اللغةُ ليست وعاءً أجوف، بل هي مكوِّنٌ لهوية الكائن البشري العقلية والروحية والعاطفية، وعندما ينشد صاحبُ رسالة أن يوقظ روحَ مجتمعٍ وعقلَه وضميرَه، فإنه لا يلتقط كلماتٍ محدَّدةً من لغته، فيما يستبعد معجمَ اللغة الواسعَ كلَّه؛ إذ لا يمكن إبلاغُ الرسالة من دون استثمار الرأسمال اللفظي المتداوَل في اللغة.
العنفُ ظاهرةٌ ليست غريبةً على البشر، وقد كان العنفُ في العالم القديم أشدَّ حضورًا، وكلَّما تطوَّر الوعي تحضَّرتْ حياةُ الإنسان واتسعتْ مساهمةُ الوسائل السلمية في حل نزاعاته، وإن كان العنفُ يتخذ أشكالًا أشدَّ خفاءً وخبثًا مع تطوُّر الوعي البشري. كان العنفُ أحدَ الأمراض المتوطنة في الجزيرة العربية، فأرسل اللهُ لهم رسولًا معه كتابٌ يداوي أمراضَ الروح والقلب والعقل. وفي كلِّ حالات الإدمان المرضي الخطيرة لا يكون الدواءُ إلَّا من جنس الداء، فمدمنو المخدراتِ وغيرِها يبدأ علاجُهم بجرعات مخفَّفة منها بالتدريج، وربما تتواصل سنوات حتى يشفى المدمن.
لا يمكن أن يخاطب النبيُّ الكريم ( ﷺ) الناسَ بلغة خاصة هو يبتكرها، أو ينتقي كلماتٍ من لغتهم ويترك ما هو متداولٌ من ألفاظها وعباراتها؛ لأن مثلَ هذه اللغة المُخترَعة أو المنتقاة تعجز عن التواصل معهم، وربما لا يعثر على متلقٍّ يُصغي إليه؛ لذلك فرضَ معجمُ اللغة وسياقاتُ مجتمع الجزيرة في عصر البعثة على النبي هذا النمطَ من الخطاب؛ إذ لا يمكنه أن يتحدَّثَ مع القوم خارج وَعْيهم والبنية اللاشعورية اللغوية الغاطسة لديهم. وعلى الرغم من أن لغةَ القرآن اهتمَّت بكلِّ ما يحطم أغلالَ العقل، ويحيي الروحَ، ويوقظ الضميرَ الأخلاقي، لكنَّ المجالَ التداولي للعربية ونمطَ ثقافة المجتمع فرضا على لغة القرآن ألَّا تخرج كلِّيًّا عن أساليب الخطاب المعروفة فيه.
العنفُ الذي ظهر في الغزوات وعصر البعثة ينتمي إلى طبيعةِ المجتمع العربي وقتئذٍ، وعجزِ الوسائل السلمية للدعوة في مثل هذا المجتمع عن إنجاز وعودها؛ لذلك اضطرَّ النبي محمد ( ﷺ) للهجرة وبناء قاعدة الإسلام في المدينة.
مفتاحُ دراسة العنف في لغة القرآن هو معرفةُ نمط حياة الأمة التي نزل فيها، وبنيةُ لغتها، وأساليبُ تعبيرها. إن ألفاظَ اللغة ومصطلحاتِ معجمها وأساليبَ بيانها، والحضورَ المتنوِّع للعنف في الحياة العربية، وأثرَه الواضح في رسم أنماط العلاقات المجتمعية في عصر البعثة، كلها كانت قيودًا ضاقَت بسعة الرحمة الإلهية، وعجزَت عن أن تستوعب تجلِّياتِ الرحمة في شخصية ودعوة المبعوث رحمةً للعالمين.
النبيُّ محمد ( ﷺ) أحدُ أعظم دعاة الحرية، ومن أرسَوا أسسَها في التاريخ البشري، عاش في مجتمع يؤسِّس العنفُ حياتَه، ويحوك العنفُ نسيجَ علاقاته الاجتماعية، وتنبثق من العنف تقاليدُه وعاداتُه، والعنفُ مادةُ أحكام الجزاءِ والعقوباتِ لجرائمه وجُنَحِه وجناياتِه، ويرفد العنفُ معيشتَه، ويؤثِّر في نمط اقتصاده، بل يغذِّي العنفُ لغتَه، وتتوالد هذه اللغةُ في فضاءاته، إنها لغةٌ ينتجها ويحتضنها ويكرِّسها العنفُ. في مثل هذا المجتمع لا يمكن لثائرٍ على كلِّ أشكالِ الاستعبادِ وهتكِ الكرامة البشرية، إلَّا أن يستعيرَ شيئًا من عنف لغة المجتمع الذي يخاطبه بدعوته، ويتسلَّحَ بمواقف صارمة؛ لا تخور أمام عنف لغتهم، ولا تنهزم أمام عدوانيتهم، ولا تتراجع أمام توحُّش بعضهم. لغةُ العنف في آيات القرآن تعكس أنطولوجيا لغويةً عنيفةً كانت ماثلةً في الحياة العربية. وأيَّةُ محاولة تُخفي ذلك فإنها تسيء للقرآن، عندما تتنكَّر لما هو واضحٌ صريح فيه.
الحريةُ كغيرها من القيم الإنسانية الكونية؛ لم تولد دفعةً واحدة مكتملة ناجزة نهائية، بل تطلَّبَ وصولُ البشرية إلى الحرية بمعناها المعروف اليوم عبورَ عِدَّة محطات موجعة. كانت ولادةُ الحرية شاقةً، ثم نمَت بالتدريج، وهي تقطع مسارًا طويلًا مريرًا شاقًّا مضمخًا بالدماء. تطلَّبَ استنباتُ الحرية طيَّ مراحل تطوَّرت فيها عبر آلاف السنين، فتراكمَت فيها: المعتقداتُ والمفاهيم والجهود المتواصلة من أجل الحرية، والتي قام بها دعاتها المؤمنون بها في التاريخ.
مفهومُ الحرية تاريخي، فعندما نواكبُ نشأتَه وتطوُّره نراه في كل مرحلة يتكاملُ ويتَّسعُ ويترسَّخُ؛ لذلك كان هذا المفهومُ عند فلاسفة العصر اليوناني أضيقَ منه في العصر الحديث. في كل عصر ترسمُ الأديانُ حدودَ الحرية، مضافةً إلى مختلف الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية التي يعيشها الإنسانُ. ومؤسِّسوها يتفوقون على منطق عصرهم، فيطرحون مفهومًا طموحًا؛ أعمقَ وأوسع وأشمل وأغنى لها، لكن مفهومهم هذا يظلُّ غير نهائي؛ ذلك أن الحريةَ كانت وما زالت في طور صيرورة وتشكُّل، يتناغمُ مع المعطيات المتنوعة للاجتماع البشري والإيقاع المتعدد لأنماط الواقع.
قراءةُ آيات القرآن بحسٍّ تاريخي تقودنا إلى فهمِ العنف في لغته؛ بوصفها ضرورةً ظرفيةً فرضَتها طبائعُ المجتمع الذي نزل فيه، والمعجمُ اللغوي الذي كان يتحدَّثه ذلك المجتمع. أما ما هو أبدي في القرآن وما تهدف إليه رسالتُه، فهو: بناءُ مرتكزات راسخة للسِّلْمِ العالمي الدائم، وحمايةُ الكرامة البشرية، وإرساءُ أسس إنسانية كونية ترفد كلَّ مشترك قيمي بين البشر، وتنميةُ القيم الروحية والأخلاقية والجمالية، وإثراءُ كل ما يلهم المحبةَ والشفقةَ والتراحُمَ في حياة الفرد والجماعة.
يظل الدينُ بمعناه الروحي والأخلاقي والجمالي مشروعًا ينشدُ تكريسَ إنسانية الإنسان، ولا يمكن له تحقيقُ ذلك من دون الإعلاء من الكرامة البشرية، وحمايتها من أيِّ شكل للانتهاك. الدينُ يرى الكرامةَ بوصفها تمثِّل أحدَ مكونات الكينونة الوجودية للإنسان، أي إنَّ الكرامةَ قيمةٌ أنطولوجية عميقة، لا إنسانيَّة للإنسان من دونها.
كلُّ من يعرف نشأةَ الأديان، سواء كانت وحيانيَّةً أو غيرها، يعرف الأثرَ السحري الذي تحدثه كتبُها المقدَّسة في أرواح وقلوب وعقول المؤمنين بها، فلا نجدُ كتابًا أشدَّ حضورًا وتأثيرًا في حياة الناس الروحية والأخلاقية ومشاعرهم من الكتب المقدسة. ليس كلُّ كتب الأديان تمكَّنت من إنتاج حضارات رائدة، الحضورُ الشديد الأثر للقرآن في العالم يكشف عن فرادةِ صوت الله فيه، وقدرتِه الاستثنائية على أسر القلوب والأرواح. كان وسيظل الفعلُ الحضاري للقرآن عظيمًا، وتعكس مكاسبُ الحضارة الإسلامية الصورةَ الناطقةَ للقرآن في التاريخ.
وعند استقراء ٧١ كتابًا في مجموعة ابن تيمية في «المكتبة الشاملة»، وردت ٣١ مرةً فتوى «فَإِنَّهُ يُقْتَلُ.» ومنها مثلًا: «وَإِنْ قَالَ: لَا أُصَلِّي إلَّا بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ لِاشْتِغَالِهِ بِالصِّنَاعَةِ وَالصَّيْدِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يُقْتَلُ» (الفتاوى الكبرى لابن تيمية، بيروت، دار الكتب العلمية، ط١، ١٤٠٨ﻫ/ ١٩٨٧م. ج٢: ١٠). «وَإِنْ قَالَ: لَا أُصَلِّي إلَّا بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ» (ج٢: ٢٤). «وَأَيْضًا فَقَدْ نَصَّ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ إذَا جَاءَ وَقْتُ الصَّلَاةِ وَلَمْ يُصَلِّ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ، وَإِنْ قَالَ: أَنَا أُصَلِّيهَا قَضَاءً. كَمَا يُقْتَلُ إذَا قَالَ: أُصَلِّي بِغَيْرِ وُضُوءٍ، أَوْ إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ، وَكُلُّ فَرْضٍ مِنْ فَرَائِضِ الصَّلَاةِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا إذَا تَرَكَهُ عَمْدًا فَإِنَّهُ يُقْتَلُ بِتَرْكِهِ. كَمَا أَنَّهُ يُقْتَلُ بِتَرْكِ الصَّلَاةِ. فَإِنْ قُلْنَا: يُقْتَلُ بِضِيقِ الثَّانِيَةِ وَالرَّابِعَةِ، فَالْأَمْرُ كَذَلِكَ، وَكَذَلِكَ إذَا قُلْنَا: يُقْتَلُ بِضِيقِ الْأُولَى، وَهُوَ الصَّحِيحُ، أَو الثَّالِثَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ: هَلْ يُقْتَلُ بِتَرْكِ صَلَاةٍ، أَوْ بِثَلَاثٍ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. وَإِذَا قِيلَ بِتَرْكِ صَلَاةٍ، فَهَلْ يُشْتَرَطُ وَقْتُ الَّتِي بَعْدَهَا، أَوْ يَكْفِي ضِيقُ وَقْتِهَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. وَفِيهَا وَجْهٌ ثَالِثٌ: وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ صَلَاتَي الْجَمْعِ وَغَيْرِهَا» (الفتاوى الكبرى لابن تيمية، ج٢: ص٣٨). «مَنْ قَذَفَ أُمَّ النَّبِيِّ ( ﷺ) يُقْتَلُ؛ لِأَنَّهُ قَدَحَ فِي نَسَبِهِ وَكَذَلِكَ مَنْ قَذَفَ نِسَاءَهُ يُقْتَلُ» (ج٣: ١٨٣). «وَأَمَّا قَوْلُ الرَّجُلِ: لَوْ جَاءَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، إذَا ثَبَتَ عَلَيْهِ هَذَا الْكَلَامُ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ عَلَى ذَلِكَ. وَلَوْ تَابَ بَعْدَ رَفْعِهِ إلَى الْإِمَامِ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْقَتْلُ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيِ الْعُلَمَاءِ، لَكِنْ إنْ تَابَ قَبْلَ رَفْعِهِ إلَى الْإِمَامِ سَقَطَ عَنْهُ الْقَتْلُ فِي أَظْهَرِ الْقَوْلَيْنِ وَإِنْ عُزِّرَ بَعْدَ التَّوْبَةِ كَانَ سَائِغًا» (ج٣: ٤٤٢). «الْعُلَمَاء لَهُمْ قَوْلَانِ فِي الزِّنْدِيقِ إذَا أَظْهَرَ التَّوْبَةَ، هَلْ تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ فَلَا يُقْتَلُ؟ أَمْ يُقْتَلُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ صِدْقُهُ؛ فَإِنَّهُ مَا زَالَ يُظْهِرُ ذَلِكَ؟ فَأَفْتَى طَائِفَةٌ بِأَنَّهُ يُسْتَتَابُ فَلَا يُقْتَلُ، وَأَفْتَى الْأَكْثَرُونَ بِأَنَّهُ يُقْتَلُ وَإِنْ أَظْهَرَ التَّوْبَةَ فَإِنْ كَانَ صَادِقًا فِي تَوْبَتِهِ نَفَعَهُ ذَلِكَ عِنْدَ اللهِ وَقُتِلَ فِي الدُّنْيَا؛ وَكَانَ الْحَدُّ تَطْهِيرًا لَهُ، كَمَا لَوْ تَابَ الزَّانِي وَالسَّارِقُ وَنَحْوُهُمَا بَعْدَ أَنْ يُرْفَعُوا إلَى الْإِمَامِ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ: فَإِنَّهُمْ إنْ كَانُوا صَادِقِينَ كَانَ قَتْلُهُمْ كَفَّارَةً لَهُمْ، وَمَنْ كَانَ كَاذِبًا فِي التَّوْبَةِ كَانَ قَتْلُهُ عُقُوبَةً لَهُ» (ج٣: ٤٨١). «وَقَدِ اسْتَقَرَّت السُّنَّةُ بِأَنَّ عُقُوبَةَ الْمُرْتَدِّ أَعْظَمُ مِنْ عُقُوبَةِ الْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ: مِنْهَا: أَنَّ الْمُرْتَدَّ يُقْتَلُ بِكُلِّ حَالٍ، وَلَا يُضْرَبُ عَلَيْهِ جِزْيَةٌ، وَلَا تُعْقَدُ لَهُ ذِمَّةٌ بِخِلَافِ الْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ … وَلِهَذَا كَانَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ أَنَّ الْمُرْتَدَّ يُقْتَلُ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ» (ج٣: ٥٥٠). «وَسَابُّ الرَّسُولِ يُقْتَلُ وَلَوْ أَسْلَمَ وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ» (ج٥: ص٥٤٥).
وبحثتُ في مجموعةِ كتب ابن تيمية في «المكتبة الشاملة» عن حضور «الرحمة الإلهية»، فوجدتها وردت في موردَين. لا يتحدث فيهما ابن تيمية عن «الرحمة بالإنسان». ففي أحدهما يقول: «فجعلت الرحمة الإلهية عالم الشهادة على موازنة عالم الملكوت، فما من شيء من هذا العالم إلا وهو مثال لشيء في ذلك العالم، وربما كان الشيء الواحد مثالًا لأشياء من عالم الملكوت، وربما كان للشيء الواحد من الملكوت أمثلة كثيرة من عالم الشهادة.» وفي المورد الثاني يقول: «وفرق بين أن يقال: على صورة الرحمن، وبين أن يقال: على صورة الله؛ لأن الرحمةَ الإلهية هي التي صوَّرت الحضرة الإلهية بهذه الصورة» (ابن تيمية، بغية المرتاد في الرد على المتفلسفة والقرامطة والباطنية، ج١: ص٢٠٤، ٢٠٩). ابن تيمية أحد العقول العبقرية في التراث، كان علَّامة موسوعيًّا مدهشًا. ذكيًّا في التأسيس المتين للاهوت الصراطي في الإسلام، حيث قام ببناء أصولي يصعب الخلاص منه، إلا بعقل خبير متمرس في التراث والفلسفة والعلوم الإنسانية. اللاهوت الصراطي في الإسلام كان أحد أصلب أعمدته المحورية تراث ابن تيمية، ما لم يفكك تراث اللاهوت الصراطي في الإسلام يلبث ضمير المسلم السلفي في كل المذاهب أسيرًا لذلك اللاهوت.
وننوه إلى ما قلناه غير مرة، من أن تكرار إشارتنا إلى ابن تيمية وفتاواه وآرائه، ليس بمعنى تفرُّده بهذه الفتاوى والآراء، بل لأنه يمثل المرجعية الأكثف حضورًا اليوم في أدبيات الجماعات التكفيرية، واعتمادهم فتاواه وآراءه في سلوكهم الذي يرفض العيش المشترك مع المختلف في الاعتقاد، ويشرع العنف في بعض حالات التعامل معه. كما نبَّهنا أكثر من مرة إلى أن بعض هذه الفتاوى يفتي بها فقهاء من مختلف المذاهب الإسلامية، لكنَّ جهلَ أكثر من يتحدثون عن الإسلام بالمدونة الكلامية والفقهية، أو تجاهلَ من يعلم منهم بذلك، جعلهم يصرُّون على تبرئة تراث فرقتهم ومذهبهم خاصة، ويتهمون غيرهم بالتكفير. وهذا ما ترشد إليه مجموعة كتب «المكتبة الشاملة» أيضًا؛ إذ تكررت فيها الفتوى «يُقْتَلُ» ١٣٤٨ مرة، عند استقراء ٧٣٣١ كتابًا، كذلك تكررت فيها الفتوى «فإن تاب وإلَّا قُتِل.» ١٩٤٤ مرة، عند استقراء ٧٣٣١ كتابًا.