الفصل الأول

الرحمةُ الإلهيَّة مفتاحُ فهمِ القرآن الكريم

(١) الرحمةُ صوتُ الله

الرحمةُ صوتُ الله، ومعيارُ إنسانيَّة الدِّين. لا يؤتي الدينُ ثمارَه ما لم يكن تجربةً إيمانية تنبضُ فيها روحُ المؤمن بالرحمة. الرحمةُ بوصلةٌ توجِّه أهدافَ الدين، فكلُّ دين مفرغ من الرحمة يفتقدُ رسالته الإنسانية، ويفتقرُ إلى الطاقة الملهمة لإيقاظ روح وقلب وضمير الكائن البشري. الرحمةُ حالةٌ عامةٌ لا تُخصَّص، تفيضها الروحُ الرحيمةُ على الكل. القراءاتُ الاختزالية لنصوص الكتب المقدسة أنتجتْ لاهوتًا صراطيًّا؛١ يُخصِّص الرحمة بمن يعتقد بها، بمعنى أن هذه القراءات انتهت بكلِّ دينٍ إلى أن يرى نفسَه هو الحق وما سواه باطل، وأنَّ أتباعَه هم المفلحون، فهم وحدهم الذين يستحقُّون الرحمةَ ويظفرون بالخلاصِ ويفوزون بالنجاةِ.

استند اللاهوتُ الصراطي في الأديانِ الإبراهيميةِ على شيءٍ مما ورد في كتبها المقدَّسة، مما يشير إلى انحصار النَّجاة في الاعتقاد بها، فقرأها قراءةً حرفية، وفهمها خارجَ زمانها والواقع الذي ظهرت فيه الديانةُ، وتمسك بأبديَّتها بعد أن أهدر السياقَ التاريخي والظروف التي صدرت فيها، وأهمل نصوصًا كثيرة بموازاتها تشدِّد على الرحمة.

مثالٌ على انحصارِ النجاة وتفوُّقِ المعتقدين بهذا الدين على غيرهم من الناس ما جاءَ في التوراة من أن اليهود: «شعبٌ مقدَّس للرب إلهك. وقد اختارك الربُّ لكي تكون له شعبًا خاصًّا فوق جميع الشعوبِ الذين على وجه الأرض.»٢ «أنا الرب إلهكم الذي ميَّزكم من الشعوب … وتكونون لي قديسين لأني قدوس أنا الرب. وقد ميَّزتُكم من الشعوب لتكونوا لي.»٣
واشتهر عن المسيحية أيضًا أن: «لا خلاصَ خارج الكنيسة»، وإن كانت هذه العبارةُ تغضب الكثيرَ من المسيحيين اليوم، والعبارةُ المتفَقُ عليها عندهم هي: «لا خلاص إلَّا بدم المسيح وحده.» إذ يقول الرسولُ بولس: «بدون سفك دم لا تحدث مغفرة.»٤ وذلك تعبيرٌ صريح عن انحصارِ الخلاص؛ إذ لا مغفرةَ وخلاصَ ونجاة خارجَ الاعتقادِ بالمسيح وصليبه.
على الرغم من أن الرحمةَ وردت في الكتاب المقدَّس في أكثر من موضع، مثل: «امتلأت الأرضُ من رحمةِ الرب.»٥ «وَلِذلِكَ يَنْتَظِرُ الرَّبُّ لِيَتَرَاءَفَ عَلَيْكُمْ. وَلِذلِكَ يَقُومُ لِيَرْحَمَكُمْ؛ لأَنَّ الرَّبَّ إِلهُ حَق. طُوبَى لِجَمِيعِ مُنْتَظِرِيهِ.»٦ «كَمَا يَتَرَأَّفُ الأَبُ عَلَى الْبَنِينَ يَتَرَأَّفُ الرَّبُّ عَلَى خَائِفِيهِ.»٧ «يا رَبِّ اذكُرْ حَنانَكَ ومَراحِمَكَ فإِنَّها قائِمةٌ مُنذُ أَزَلك.»٨ «إِنِّي أُرِيدُ رَحْمَةً لا ذَبِيحَةً.»٩
لقد تجاوزَت الكنيسة الكاثوليكية لاهوتيًّا مقولة «انحصار الخلاص» في مجمع الفاتيكان الثاني ١٩٦٢–١٩٦٥م، عندما منح المجمعُ الخلاصَ لكلِّ المؤمنين، وإن كانوا خارجَ الكنيسة؛ إذ أصدر البابا بولس السادس وثيقة نوسترا إيتاتي.١٠ وتنص هذه الوثيقةُ في مقدِّمتها على أن: «كل الشعوب جماعة واحدة ولها أصل واحد؛ لأن الله هو الذي أسكن الجنس البشري بأسره على وجه الأرض كلِّها، ولهم غاية أخيرة واحدة، وهي الله الذي يشمل الجميع بعنايته.» وفي الفقرة الثانية منها تتحدَّث عن الموقف من مختلف الديانات غير المسيحية، فتشير إلى أن: «الكنيسة الكاثوليكية لا ترذل شيئًا مما هو حق ومقدَّس في هذه الديانات، بل تنظر بعين الاحترام والصراحة إلى تلك الطرق، طرق المسلك والحياة، وإلى تلك القواعد والتعاليم التي غالبًا ما تحمل شعاعًا من تلك الحقيقة التي تنير كل الناس، بالرغم من أنها تختلف في كثيرٍ من النقاط عن تلك التي تتمسَّك بها هي نفسها وتعرضها.» وفي الفقرة الثالثة تتحدَّث عن الموقف من الديانة الإسلامية فتقول: «وتنظر الكنيسة بعين الاعتبار أيضًا إلى المسلمين الذين يعبدون الإله الواحد، الحي القيوم، الرحيم الضابط الكل، خالق السماء والأرض، المكلِّم البشر. ويجتهدون في أن يخضعوا بكلِّيتهم حتى لأوامر الله الخفيَّة، كما يخضع له إبراهيم الذي يسند إليه بطيبة خاطر الإيمان الإسلامي. وأنهم يجلُّون يسوع كنبيٍّ، وإن لم يعترفوا به كإله، ويكرِّمون مريم أمه العذراء، كما أنهم يدعونها أحيانًا بتقوى. علاوة على ذلك أنهم ينتظرون يوم الدين عندما يثيب الله كل البشر القائمين من الموت، ويعتبرون أيضًا الحياة الأخلاقية. ويؤدُّون العبادة لله ولا سيما بالصلاة والزكاة والصوم. وإذا كانت قد نشأت على مرِّ القرون منازعاتٌ وعداواتٌ كثيرة بين المسيحيين والمسلمين، فالمَجمَع المقدَّس يحضُّ الجميع على أن يتناسَوا الماضي، وينصرفوا بالخلاص إلى التفاهم المتبادل، ويصونوا ويعززوا معًا: العدالة الاجتماعية، والخيور الأخلاقية، والسلام، والحرية، لفائدة جميع الناس.»١١

وهذا يعني أن الفاتيكان استطاع ولو متأخِّرًا أن يتناغمَ ومنطقَ الحقوقِ والحريات الحديث، لكن ما زالت أنساقُ اللاهوت الصراطي تغذِّي مشاعرَ عددٍ غيرِ قليل من المسيحيين ممن لا يزالون يظنون أن لا خلاص خارجَ حدودِ الكنيسة.

واشتهر حديثُ الفرقةِ الناجية في الإسلامِ، الذي وردَ في السُّنَن والمَسانِد؛ كسُنن أبي داود والتِّرْمِذي والنَّسائي وغيرهم، ولفظُه: «افْتَرَقَتِ الْيَهُودُ عَلَى إحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّهَا فِي النَّارِ إلَّا وَاحِدَةً، وَافْتَرَقَتِ النَّصَارَى عَلَى اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّهَا فِي النَّارِ إلَّا وَاحِدَةً، وَسَتَفْتَرِقُ هَذِهِ الْأُمَّةُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّهَا فِي النَّارِ إلَّا وَاحِدَةً.»١٢
في ضوءِ هذا الحديث لم تحتكر أكثرُ الفرق النجاةَ لكل المسلمين، بل احتكرتها لها خاصَّة، فصار أتباعُ كلِّ فرقة يعتقدون بأنهم وحدهم الذين يختصُّهم اللهُ بالحقيقة والحق، وهم فقط من يرحمهم ويقبل أعمالَهم ويشملهم بالنجاة. وربما تتفاقم نزعةُ الاستحواذ على الرحمة الإلهية فتتحول إلى حالة تتملَّك مشاعرَ بعض الناس، فيحسب أنه هو فقط ونبيَّه أو وليَّه من يختصُّ بهذه الرحمة. فقد ورد أن: «رسول الله () قام في صلاة وقمنا معه، فقال أعرابي، وهو في الصلاة: اللهم ارحمني ومحمدًا ولا ترحم معنا أحدًا. فلما سلَّم النبي قال للأعرابي: لقد حجرت واسعًا.»١٣ يريد النبي الكريم () تفهيمَ الرجل أن رحمةَ الله واسعةٌ؛ فليس بيدك حصرُها والتحجيرُ عليها.

لم يكن اللهُ في تصورِ اللاهوتِ الصِّراطي إلهًا للعالَمين ولا إلهًا للنَّاس أجمعين، وإنما كان اللهُ إلهًا يختصُّ بديانةِ من يعتقد بهذا اللاهوت، وكلما ضاقَت دائرةُ الاعتقادِ ضاقت حدودُ صورة الله تبعًا لها، فصاحبُ الفرقةِ يعتقدُ بأن اللهَ إلهُه فقط دون غيره من الناس، وربما تتشظَّى الفرقةُ الواحدة فتصير عدةَ جماعات، كلٌّ منها يعتقدُ بأنه يحتكرُ صورةَ الله له.

اللاهوتُ الصراطي يغرسُ في كلِّ الأديان شعورًا عند الإنسانِ بأن رحمةَ الله مختصَّةٌ به وبأتباعِ معتقدِه، وأنهم من دون سواهم يفوزون بالنجاةِ والخلاصِ من العذابِ والهلاكِ. ويغذِّي ذلك على الدوام اعتقادُه بأنه يستطيع احتكارَ رحمةِ الله، بوصفها من الممتلكاتِ الخاصةِ التي يستحوذ عليها معتقدُه. يظلُّ صاحبُ المعتقدِ الصراطي يتوهمُ بأنه قادرٌ على حصرِ الرحمةِ الإلهية بأتباعِ ديانته، وتضييقِها لدرجة يستطيع معها أن يستبعدَ كلَّ من هو خارج هذا المعتقد من إشراقات رحمة الله.

(٢) الرحمةُ ليسَت بديلًا عن العدالة

يتفوق الإنسانُ على غيره من الكائنات بالرحمة. الرحمةُ خُلاصةُ المشاعر الحميمية الدافئة وجوهرُها النفيس. أما العقلُ فعلى الرغم من أنه كان وما زالَ من أهم ما يتميزُ به الإنسانُ، غير أن «الروبوت» صار يقوم ببعض الأعمال الدقيقة والمعقَّدة بواسطة عقل إلكتروني. ويعدنا الذكاءُ الصناعي اليومَ بالكثير مما يمكن أن ينجزه هذا العقلُ الإلكتروني غدًا من مهمات؛ فهو يشارك عقل الإنسان وأحيانًا يكون بديلًا عنه في تنظيم وإنجاز أعمال متنوِّعة. «الروبوت» مع امتلاكه لعقلٍ يظل يفتقر للمشاعر الصادقة الدافئة الحميمية. ومعنى ذلك أنَّ الكائنَ البشريَّ يتفوَّقُ على غيره من الكائنات في الأرض بالرحمة، بل لا تتحقَّق إنسانيتُه إلَّا بالرحمةِ.

الرحمةُ حالةٌ، وهي أسمى من العدالة، بل تسمو حتى على الإحسان. ولولاها لنضبت الطاقةُ المتدفِّقةُ التي تغذِّي الشفقةَ، والروحَ الخيريةَ، وحوافزَ العطاء والبرِّ والإنفاق في الحياة. الرحمةُ تغذِّي كلَّ ما يشكِّل منبعًا للعواطف المتدفِّقة الفيَّاضة في حياة الناس، وما يبني علاقاتِهم الاجتماعيةَ ويرسِّخها على ركائز إنسانية عميقة.

الرحمةُ أشملُ وأوسعُ من العدالة. العدالةُ تنشد التوازنَ والمساواةَ والإنصافَ في الحكم، وهي مفهومٌ يبتني على القانونِ والحقوقِ والأخلاقِ. أما الرحمةُ فهي «حالةٌ»، و«الحالةُ» هي ما يتلبَّس بها الإنسانُ ويعيشُها بوصفها حقيقيةً وجوديةً كما يعيشُ الحبَّ والإيمانَ والبهجةَ، الحالةُ تصيرُ مُكوِّنًا لكينونته الوجوديَّة.

العدالةُ ضرورةٌ لحماية حقوقِ الإنسان وحرِّيَّاتِه، وهي شرطٌ لازمٌ لكل عمليةِ بناءٍ مجتمعي سليم، وضمانةٌ للأمنِ والسِّلمِ الأهلي من كلِّ أشكالِ العُنْفِ والتَّعَدِّي على حقِّ الآخرِ في العيْشِ المُشْترَك، وخلقِ فرصٍ متكافئةٍ للأفراد في الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية؛ لذلك لا يمكن أن يقوم مجتمعٌ سليمٌ من دون قوانين تُنظِّم الحياةَ الاقتصادية والسياسيَّة، وتُحَقِّق الأمنَ والعدالةَ الاجتماعية، وأنظمةَ عقوبات عادلة تُنصِف المظلومَ وتردع الظالم، بنحوٍ تتَّسم فيه بالإنصاف والتَّوازن، وتحْمِي مصالحَ الفَرْدِ والجماعة، ويتساوى فيها الأفرادُ في حقوقهم وحرياتهم.

لا يمكن الاستغناءُ عن العدالة بالرحمة، الرحمةُ ليستْ بَدِيلًا عن العدالة في بناء أيَّةِ جماعةٍ بشريَّة، أو في بناءِ أيَّة دولةٍ. الظلمُ مقيمٌ في الأرض، ويفرضُ عيشُ الإنسان وتأمينُ متطلباته الحياتية عليه الكدحَ والتنافسَ والصِّراع، والعدالةُ تمنع من أن ينتهي تأمينُ الإنسان لمصالحه ومتطلباته إلى نزاعات دموية وحروب عدوانية.

إن افتراضَ بناء مجتمع على الرحمة وحدها افتراضٌ غير واقعي؛ لأن مثلَ هذا المجتمع لا يمكن أن يتحققَ ما دام الإنسانُ إنسانًا، لكن تظل الرحمةُ قيمةً إنسانيةً رفيعةً، تسمو بحياة الفردِ والجماعة؛ بوصف الرحمةِ تنفي بعضَ العقوبات عفوًا، أو تخفض من شدَّة بعض العقوبات الأخرى القاسية، وبوصفها هدفًا نبيلًا ينشده الدينُ ليوقظ به ضميرَ الإنسان، ويسمو به إلى أجمل حالة إنسانية يمكن أن تتحلَّى بها شخصيتُه.

الرحمةُ تنتج ما لا تنتجه العدالةُ، من الرحمةِ يتوالدُ الغفرانُ والعفوُ والعطفُ والرفقُ واللينُ والشفقةُ؛ لذلك يستطيعُ من يمتلك الرحمةَ تحمُّلَ الأقوالِ والأفعال المؤذية الصادرة عن الآخر، كما يستطيعُ العفوَ عنها. الرحيمُ يتحملُ ما لا يتحمله غيرُهُ، ويعفو عمَّا لا يعفو عنه سواهُ من البشر. ما أجمل تفسير الشيخ محيي الدين بن عربي لمنطقِ الرحمةِ في القرآن؛ إذ يكتب في الفصِّ الزكرياوي من كتابه «فصوص الحكم»: «والرحمة على الحقيقةِ نسبةٌ من الراحمِ، وهي الموجبةُ للحكمِ، وهي الراحمةُ، والذي أوجدها في المرحومِ ما أوجدها ليرحمه بها، وإنما أوجدها ليرحم بها من قامَتْ به.»١٤ بمعنى أن الحقَّ سبحانه إذا رحمَ إنسانًا أوجدَ فيه الرحمةَ، أي جعلَ الرحمةَ تقومُ به، بحيث يصبح قادرًا على أن يرحمَ غيرَه من المخلوقات، وبذلك يصبح المرحومُ راحمًا. الحق لا يوجِدُ الرحمةَ في المرحومِ ليرحمه بها، بل ليكسبه الصفةَ الإلهية التي بها يرحمُ غيرَه.١٥
بموازاة الرحمة حضرت كلمةُ «الإحسان»؛ فقد ورد «الإحسان» والكلمات ذات الصلة به بشكل لافت في القرآن؛ إذ جاءت بحدود ٢٠٠ مرة.١٦ الإحسانُ يعني ما إذا عملَ الإنسانُ عملًا يتضمَّن خيرًا للغير. يقول الراغب: «الإحسان على وجهَين؛ أحدهما: الإنعام على الغير، يُقال: أحسنَ إلى فلان. والثاني: إحسان في فعله، وذلك إذا علَّم علمًا حسنًا، أو عمِلَ عملًا حسنًا.»١٧ وحثَّ القرآنُ على الإحسانِ في الأقوال والأفعال؛ الجدال مثلًا ينبغي أن يكون بالتي هي أحسن؛ فهو يقول: وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ.١٨ وعلى الرغم من أن الإحسانَ مفهومٌ أخلاقي ينشد تقديم ما هو أجمل من القول والفعل، وهو يقعُ في مرتبة تفوق العدالة، لكن يمكن تخصيصُه في بعض المواقف دون سواها، فلعل المرء يكون مُحسِنًا في مقام حينًا ولا يكون مُحسنًا في مقام آخر؛ لذلك لا يربو الإحسانُ لمرتبة الرحمة، من حيث هي حالة وجودية لمن يتلبَّس بها، فلا تُخصَّصُ الرحمةُ بمواقف معينة؛ لأن الرحيمَ يكون رحيمًا حيثما كان الموقفُ.

الإنسانُ ليس رحيمًا بالطبع، بل إنه ينزعُ بطبيعته للتسلطِ على الغير ليستحوذَ على كل شيء في حياتهم، ولعل في ذلك سرَّ تركيزِ القرآن على الرحمةِ وكثافةِ حضورها فيه، ووضعِها إطارًا مرجعيًّا وبوصلةً دلاليةً تُرشِد لما تؤشِّر إليه مدلولاتُ سورِه وآياتِه. الرحمةُ حالةٌ لا يستوعبها الكائنُ البشريُّ ولا يتَّصفُ بها بيسر، ولا يتمثَّلها بسهولةٍ، بل لا يطيقها أكثرُ الناس؛ لأنها شديدةٌ على النفس، وطالما عجز الكائنُ البشري عن التحقُّقِ بها؛ إذ إن نزعاتِ العدوان التي تترسَّب في أعماقِ هذا الكائنِ تمنعه من امتلاكِها.

الإنسانُ كائنٌ طالما تغلَّب في شخصيتِه الشرُّ على الخير، والتوحشُ على الرحمة. ولولا الأخلاق والدينُ والقانون لم تكن الحياةُ ممكنة. الأديانُ خفَّضت كثيرًا من الطاقة التدميريَّةِ للتوحُّشِ في الأرض، فأضحتْ حياةُ الإنسانِ ممكنةً. لا يتأنْسَنُ الكائنُ البشري إلَّا بالرحمةِ، ومن دونها يتساوَى هذا الكائنُ وأي وحشٍ مفترس.

الجلَّادون الدمويون الذين ظهروا في الأديان في العصور المختلفة، كانوا تعبيرًا عن طبيعة هذا الكائن المتوحِّش أكثرَ مما كانوا يعبِّرون عن رحمة الأديان. وإلَّا فكيف نفسِّر ظهورَ شخصياتٍ روحانية مُلهِمةٍ في الأديان، مثل: الحلاج والنفري ومحيي الدين بن عربي وجلال الدين الرومي، وإيكهارت والأم تريزا، وغيرهم ممن يمثلون أجملَ النماذج الرحيمة الملهمة، وممن تفوَّقوا في تجسيدهم لكيفية تمثل الإنسان لمغزى الأديان وندائِها الروحاني العميق.

الإنسانُ ليس خيِّرًا بالطبع، إنه مستعدٌّ بالقوة أن يكون خيرًا أو أن يكون شريرًا، ونادرًا ما يتخلَّص إنسانٌ في نشأتِه من آثار العواملِ التي تكوِّن نواةَ السُّلوك العدواني في شخصيته، ولولا ذلك لكان معظمُ الناس رحماء. يتطلَّب خفضُ تأثيرِ هذه العوامل على سلوكِ الإنسان أن ينشأ في بيئةٍ تربويةٍ صحيةٍ، وتنمو شخصيتُه في فضاءِ تربيةٍ أخلاقيةٍ صالحة، وحياةٍ روحيةٍ مُلهِمة، وثقافةٍ حيويةٍ ديناميكية، كي تترسَّخ في شخصيته النزعاتُ الخيرية، وتولد في روحه بذرةُ المحبةِ وتنمو وتتجذَّر باستمرار، بوصفها طاقةً مُلهمةً لأجمل معاني الحياة، ولكلِّ ما يُكرِّس الرحمةَ وما يتوالد عنها من قيمِ العفوِ والغفرانِ والشفقةِ على الخلق، وما يحمي الكائنَ البشري من الاغترابِ الوجودي. يقول ابن سبعين: «ومن نظر إلى الرحمة، وتعلَّق باسم الرحمن، وفكَّرَ في الرحمانيَّة طاب عيشُه، وحسُنَ أُنْسُه وأنيسُه، وسبح في بحرِ الرجاء، وغرق في مدلوله.»١٩

كلُّ ذلك لا ينجزه إلَّا فهمٌ بديلٌ للدين، وموقفٌ مختلف لنمطِ الصلةِ بالله، ورؤيةٌ جديدة للعالم، وإرادةٌ جديَّةٌ في تبنِّي العلومِ والمعارفِ والخبراتِ الإنسانيةِ الجديدة، والخلاصُ من الغرام بعلومِ ومعارفِ الموتى التي نسخت أكثرَها العلومُ والمعارفُ الحديثة، لكن المؤسفَ أن أكثرَ ذلك ما زالت تفتقر إليه مجتمعاتُ عالَم الإسلام.

(٣) الرحمةُ مفتاح فهمِ المنطق الداخلي للقرآن

القرآنُ الكريمُ كتابٌ تسري فيه روحٌ واحدةٌ، مضامينُه تتوحَّد في نسيج عضوي متماسك، ويسوده نظامٌ كلي، يتطلبُ فهمُه أن نكتشفَ المنطقَ الذاتي الذي يتحدَّث فيه القرآنُ عن نفسه. في القرآن تتحدَّثُ كلُّ فكرةٍ ومفهومٍ ومقولةٍ للأخرى، وتتبصَّرُ كلُّ آية دلالتَها ووجهتَها في أفق آياته الأخرى بمجموعها. القرآنُ كتابٌ تحيلُ فيه الفروعُ على الأصول، والجزئياتُ على الكليات، والصغرياتُ على الكبريات. نحن بحاجةٍ ماسَّةٍ إلى منهجٍ بديلٍ في فهم القرآن، يحرِّره من أسوارِ الأفق التاريخي التكراري المُغلَق للمفسرين، الذي أفضى لنضوب حضور الروافد الملهِمة للمعنى والأخلاق فيه.

على الرغم من ضجيجِ أصوات الجماعات الدينية، وضوضاءِ صيحات شعاراتهم في كلامهم عن القرآن، وكلامِهم المبسَّط في نسبة كلِّ شيء إليه، وإن كان على الضد من منطقه وما ينشده، لكن قلَّما نعثر على رؤيةٍ تتبصَّر متطلباتِ الحياةِ الروحية وبناءِ الضمير الأخلاقي للمسلم في سياق قرآني. إن هذه الرؤيةَ البديلةَ تفرضها ضرورةُ إعادة اكتشاف الأبعاد المضيئة للحياة الروحية والأخلاقية والجمالية في القرآن، كما يفرضها أيضًا افتقارُ المسلم اليوم لمعنًى عميقٍ لحياته، وضياعه في كهوف التراث التي لا تقوده إلا لمزيدٍ من الضياع.

رأيتُ الرحمةَ تمثل مفتاحَ فهمِ المنطق الداخلي للقرآن؛ فقد اتخذت الرحمةُ فضاءً واسعًا في القرآنِ الكريم لم تتخذه في الكتابِ المقدَّس وغيرِه من نصوص الأديان؛ إذ وردت بصيغٍ متنوِّعة في القرآن تصرِّح بشمولِها كلَّ شيءٍ وعدمِ خروجِ أي شيءٍ عنها، وهو ما تحدَّثت به آياتٌ متعددةٌ، مثل: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ،٢٠  كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ،٢١فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ،٢٢  رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ،٢٣  وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ،٢٤  قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ،٢٥  قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ،٢٦  وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ،٢٧  فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ،٢٨  وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا٢٩  وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً.٣٠  مَا يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا،٣١  رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا،٣٢  إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ.٣٣  ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ،٣٤  إِنَّ اللهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا،٣٥  قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا،٣٦  فَاللهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ،٣٧  فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ،٣٨  رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ،٣٩  رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا،٤٠  وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ.٤١
الرحمةُ مفهومٌ مفتاحي لفهمِ المنطق الداخلي للقرآن؛ إذ تشكِّل شبكةَ نسيجٍ دلالي تتسعُ لتغطي كلَّ ما ورد فيه. إنها تكثيفٌ دلالي لمعنًى يهيمن على كلِّ معاني السور والآيات في الكتاب، «فليس في أمِّ الكتاب آيةُ غضبٍ بل كلُّها رحمة، وهي الحاكمةُ على كل آية في الكتاب لأنها الأمُّ، فسبقَتْ رحمتُه غضبَه.»٤٢ و«يرى ابنُ عربي — في واحدة من أفضل تفسيراته لطبائع الأشياء — أنَّ الإبداعَ الإلهيَّ يماثل الكلام الإنسانيَّ؛ فكما نخلق الكلماتِ والجملَ من قِوامِ النَّفَس، كذلك يخلق اللهُ العالَمَ عن طريق التَّلفُّظ بالكلماتِ في نَفَسِ الرَّحمن، مِمَّا يعني انبساطَ الوُجود؛ والوجود في حقيقتِه مرادِفُ الرَّحْمة.»٤٣ و«يفرِّق ابنُ عربي بين «رحمة الامتنان»، و«رحمة الوجوب»؛ إذ الأولى عِلَّة الوجود؛ لذا فهي رحمة عالميَّة وتحيط جميع الموجودات، أما الثانية فإنها تنطوي على ظهور أكثر تحديدًا للرحمة؛ يخص هؤلاء الذين استجابوا لرحمة الإيجاد العالميَّة من خلال متابعة الوحي الإلهي. يقول ابن عربي: «فلا يبقى فيمن حوى عليه العرشُ مَن لا تصيبه الرحمةُ الإلهيَّةُ؛ وهو قوله تعالى: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، والعرش وسع كلَّ شيء، والمُسْتَوِي الرحمنُ، فبحقيقته يكون سريانُ الرحمةِ في العالَم».»٤٤
الرحمةُ الإلهية هي المحورُ الذي تدورُ حولَه كلُّ دلالاتِ القرآن، وهي المنطق الكلِّي الذي يسري في آياته، وكلُّ دلالةٍ يتبادرُ منها أنها تنفيها أو تتعارضُ معها تعبِّرُ عن موقفٍ زمني خاص بعصر النزول، فرضته ضرورات ظرفية لمجتمع البعثة. وإلَّا فكيف ينفي الكتابُ منطقَه الكلي، إن كانت الآيةُ والسورةُ فيه مفرغة من رحمة الله. في موقف من مواقفه يقول النِّفَّرِي: «أوقفني في الرحمانيَّة، وقال لي: هي وَصْفِي وحدي.»٤٥ وفي «موقف رحمة الخلق» من «موقف المواقف» يقول النِّفَّري:٤٦ «وأوقفني في رحمة الخلق، وقال لي: صِفتُك صفتُهم، فسترتُ صفَتَك بنور صفتي، فمن رأيتني سترتُ صفتَه بنور صفتي فأكرِمْه، ومن رأيتني لم أستُر صفَته بنور صفتي، فارحمه. وقال لي: أنا صنعتهم فأكرم صنعتي، إذا جاءك عبدك بما يسوءه فارحمه، لما جاءت به صفته من السوء، ثم أَكْرِم صنعتي لأني، ثم أكرم صنعتي لأنها، ولا تغلظ على ما في صنعتي، فإنه هو فيك، فاغلظ عليك إن شئتَ أن تُغْلظ على غيرك.» ويرى ابنُ سبعين أن: «الرحمة تتعلق ببعض المعلومات، والقول عليها مثل القول على الإرادة والقدرة، وغير ذلك مما يخص بعض المعلومات لا كلها، وتمتد إلى غير نهاية، وَتَعُمُّ الكونَ كلَّه، والفكر فيها مادَّة الطيِّبات، وتصوُّرها يحرِّك اللذَّات، وهي مُتَنَزَّه العارفين بالله، وصيغتها أعم من العفو، فإنها تُقال على المذنب وغير المذنب، وتَرِدُ دون عِلَّةٍ وبضد ذلك. إذا نُظِرَ فيها وفي ماهيَّتِها، وفي أثرها، وفي لواحقها الخاصَّة بواحدٍ بدلَ الآخر؛ صُرِفَتْ إلى إرادةِ القديم، وقيل فيها: صفةٌ من صفات ذاتِه، وإذ نُظِرَ فيها مُفْرَدةً، وتُعْتَبَرُ في مُضَافِها المُنْفَعِلِ خاصَّة، وتُحْمَلُ على معنى الإنعامِ، وتُمْسَكُ على التَّأمُّلِ في مُحَرِّكِها الأول؛ تُجْعَلُ من لواحق القدرة، والإرادة، وقيل فيها: صفةُ فَعْلٍ.»٤٧ ويذهبُ ابنُ سبعين إلى أن: «مَنْ نظر إلى الرحمة، وتعلَّق باسم الرحمن، وفكَّرَ في الرحمانيَّة طاب عيشُه، وحسُنَ أُنْسُه وأنيسُه، وسبح في بحرِ الرجاء، وغرق في مدلوله، ويُمْكِنُ منها أن يصيبَه، ولَهُ حَتَّى يقول، أو يقول له: حسنُ ظَنِّهِ كلُّ موجودٍ سوى الله الحق تعالى، تُقال عليه الرحمةُ، وتقوم له، وتفعل فيه، وتلحقه.»٤٨
ينفردُ القرآنُ من بين الكتب المقدَّسة كلِّها في أن سورَه تبدأ ﺑ «بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ»، التي يُعبَّر عنها ﺑ «البسملةِ»، وكما يقول جماعةٌ من المفسِّرين والفقهاء إنها تُحتسَبُ آيةً من كلِّ سورة. وذهب بعضُ المفسرين إلى أن كلَّ بسملةٍ هي آيةٌ مستقلة، لها معنًى موجِّه ومرشد لمضمون ما تقوله السورةُ التي تتصدَّرها، وكأنها بمثابة البوصلة التي ترسم وجهةً محدَّدة للسير. البسملةُ آيةٌ تبوح بلغةِ الرحمة التي يتأطَّر بها المضمونُ الكلِّي لتلك السورة، ومعناها يتنوَّع بتنوُّع مقاصدِ السور وما ترمي إليه مفاهيمُها، وغرضُها لا يخرج عن غرضِ السورة، وما يتحصَّل من غاياتها. إنها حاكمةٌ على كلِّ المفاهيم التي تتحدَّث عنها آياتُ السورة. بعبارة أخرى إن افتتاحَ كلِّ سورة بالبسملة يعني أن الرحمةَ الناطقةَ بها البسملةُ مهيمنةٌ على المدلول العام للسورة، وحاكيةٌ عن أغراضها، إن كان مضمونُ السورة أخلاقيًّا فإنه يكون متقوِّمًا بالرحمة، وهكذا لو كان المضمونُ عقائديًّا أو تشريعيًّا يكون متقوِّمًا بالرحمة أيضًا. تقديمُ نصِّ كلِّ سورة بما تشتمل عليه البسملةُ من رحمةٍ يشي بأن المضامينَ المسوقةَ في آياتِ القرآن كافةً تتحدَّث لغةَ البسملة. على الرغم من تنوُّعِ دلالاتِ الآيات، لكنها تلتقي في مشترَك يوحِّدُ ما ترمي إليه وهو الرحمةُ. الرحمةُ دليلٌ تهتدي به معاني القرآن. الرحمةُ تحدِّد مقاصدَ الآيات وتُرشد إلى مراميها، وتصوغ رسالةَ السورة في سياقٍ قرآني يتناغم بمجموعه في إيقاع روحي وإنساني موحَّد.٤٩
وجدتُ أن كلمةَ «الرحمة» وردَت في ٢٦٨ موضعًا في القرآن الكريم، ووردت «الرحمةُ» والكلمات ذات الصلة بها في القرآن أكثر من ٣٣٠ مرة،٥٠ ما خلا ما ورد من تكرار البسملة في كلِّ سور القرآن إلَّا سورةَ التوبة، لكنها تكرَّرت في مفتتح سورة النمل والآية ٣٠ منها،٥١ فصار مجموعها ١١٤ مرة.

بناءً على القولِ بأن البسملةَ آيةٌ من كلِّ سورة، وورودِ «الرحمن الرحيم» في كل بسملة، فإن عددَ مرات ذكرِ الرحمةِ ومشتقاتِها في القرآن يفوق ٥٥٠ مرة. كما ورد فيه جذر كلمة «رحم» ٥٦٣ مرة؛ وبذلك يتميز القرآنُ عن كتبِ الأديان بسعةِ مساحةِ حضورِ الرحمة وكثافتها في آياته.

يصف القرآنُ الكريم النبيَّ محمدًا بأنه رحمة، ويذكرُ بوضوح أن هذه الرحمةَ عامة، لا تختصُّ بفرقةٍ أو جماعة، وإنما هي شاملةٌ لكل العالمين٥٢  وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ؛٥٣ فهو رحمةٌ مهداة لكلِّ العالمين وليس للمسلمين فقط، أو لفرقةٍ أو مذهبٍ خاصٍّ منهم، كما يظن لاهوتُ الفرقة الناجية. يقول ابن عربي: «فلا يبقى فيمن حوى عليه العرشُ مَن لا تصيبه الرحمةُ الإلهيَّةُ؛ وهو قوله تعالى:وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، والعرش وسع كلَّ شيء، والمُسْتَوِي الرحمنُ، فبحقيقته يكون سريانُ الرحمةِ في العالَم.»٥٤ إن الحضورَ الواسعَ للرحمة في القرآن ظاهرةٌ تستحقُّ دراسةً دلاليةً عميقة، تستند إلى المكاسبِ الجديدةِ في الألسنيات وعلوم الدلالة والمناهج الجديدة في تفسير النصوص الدينية.
ومع كلِّ هذا الحضورِ المهيمنِ للرحمةِ في القرآن، وكونها إطارًا مرجعيًّا، نرى بوضوحٍ أنَّ معانيَ القرآن كلَّها تنشد الرحمة، وهو ما أهمله معظمُ المفسِّرين والفقهاء؛ إذ تغلَّبَت في تاريخِ الإسلام لغةُ العنف على لغةِ الرحمة، وأهدر كثيرون من مفسِّري القرآنِ وفقهاءِ الإسلام كلَّ هذا الرصيدِ الدلالي المكثَّف للرحمة، وصارت فاعليةُ دلالةِ آيةِ السيف،٥٥ مضافًا إلى ما تتَّسع له مصنَّفاتُ الحديث من روايات تُعَضِّدُ مضمونَها، هي الأشدَّ أثرًا والأوسعَ حضورًا في القولِ والفعلِ في الحياة السياسية لمجتمعات عالَم الإسلام.

مَنْ يريد أن يستكشف منطقَ الرحمة فعليه أن يعود إلى القرآن الكريم مباشرةً، لئلا يقع في شباك التفسيرات والمرويَّات المتراكمة، وأن يعتمدَ القرآنَ مرجعيةً يستكشف في هَدْيِهَا صورةَ الله، ومنطقَ الحياة الروحية والأخلاقية والجمالية التي ينشدها، والدلالاتِ القيميةَ العابرةَ لواقع الجزيرة العربية في عصر النبي (). آياتُ القرآن النازلة في سياق الدفاع عن الدعوة وحمايتها من أن يتم القضاء عليها وهي فتية، وكل ما يتضمَّنه مما يدعو للعنف، يجب أن نقرأها في سياق متطلَّبات الدعوة الظرفية التي فرضها المحيطُ الاجتماعي والزماني لعصر البعثة.

كلُّ بيئةِ تديُّنٍ تحتكرُ النجاةَ لفرقةٍ واحدةٍ غيرُ صالحةٍ لاستنباتِ الرحمةِ، اللاهوتُ والفقهُ الصِّراطي على الضدِّ من منطقِ الرحمة. لقد أضحى صوتُ مَنْ يدعو لإيقاظِ الرحمةِ وما يئول إليها في بيئاتِ التديُّن هذه نشازًا أحيانًا، وربما يُتَّهم مَنْ يدعو للرحمة بالجبنِ والخوفِ والهوانِ وحتى الخيانة، فيُدان دينيًّا ومجتمعيًّا.

إيمانُ الاستعباد عدوُّ الرحمة، الرحمةُ لا تجدُ الأرضَ الصالحة لاستنباتها ونموِّها إلَّا في مناخات إيمان الحرية. في أية مجتمعات يطغى صوتُ الأيديولوجيا ينهزم إيمانُ الحرية، وتبعًا لذلك تنحسر الرحمةُ. الأيديولوجيا لا يمكنها أن تتصالحَ مع إيمانِ الحرية؛ لأنها لا تنمو وتزدهرُ إلَّا في بيئاتِ تديُّنٍ يتسيَّدُ فيها إيمانُ الاستعباد، في مجتمعاتٍ تتحدَّثُ معتقداتُها لغةَ اللاهوتِ والفقهِ الصراطي.

على الرغم من أن الموقفَ الأخلاقيَّ يفرضُ على الإنسانِ أن يفضحَ منابعَ الكراهيةِ والتعصُّبِ بين البشر في تراثِه، مثلما يفضحها في تراثِ غيرِه، ويعترفَ بأخطاءِ تاريخِه مثلما يفضحُ أخطاءَ تاريخِ غيره، غير أن سطوةَ الأيديولوجيا أشدُّ من الأخلاق؛ لذلك تنهزمُ الأخلاقُ عندما يعلو صوتُ الأيديولوجيا، فيرضخ الأيديولوجي لما يفرضه عليه المعتقدُ من مواقفَ، وإن كانت تلك المواقفُ على الضدِّ من بداهاتِ الأخلاقِ التي يحكمُ بها العقلُ العملي.‬

هذه واحدةٌ من المشكلاتِ الموروثةِ في مجتمعات عالَم الإسلام، التي تنبغي دراستُها والكشفُ عن العواملِ المولِّدة لها والروافدِ الدينية والثقافيةِ والسياسية والاقتصادية الراقدةِ في أعماقِ شخصية الفرد والمجتمع التي تستقي منها. ولا ينجز ذلك إلَّا الإفادةُ من المناهجِ الحديثة، وتوظيفُها في تفسيرِ وتفكيكِ هذه المشكلة المزمنة، والعملُ على الخلاصِ من آثارها التدميرية في مجتمعاتِنا أمس واليوم. إن الواقعَ المريرَ الذي تغرق فيه هذه المجتمعاتُ يفرض عليها إيقاظَ صوتِ الرحمةِ في القرآن، ووَضْعه في نصابِه الحياتي الذي ينبغي أن يحتلَّه في التربيةِ والتعليمِ والعلاقاتِ الأسريةِ والاجتماعية.

(٤) احتكار النجاة

وردَ حديثُ الفرقةِ الناجية في الإسلامِ في السُّنَنِ وَالْمَسانِد؛ كَسُنَنِ أبي داود والتِّرْمذي والنَّسائي وغيرهم، ولفظُه: «افْتَرَقَتِ الْيَهُودُ عَلَى إحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّهَا فِي النَّارِ إلَّا وَاحِدَةً، وَافْتَرَقَتِ النَّصَارَى عَلَى اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّهَا فِي النَّارِ إلَّا وَاحِدَةً، وَسَتَفْتَرِقُ هَذِهِ الْأُمَّةُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّهَا فِي النَّارِ إلَّا وَاحِدَةً.»٥٦ واستلهمه أكثر المتكلمين في تشييد أسسِ انحصارِ الحقَّانيةِ والنجاةِ بمعتقداتهم، وكلٌّ يسعى لاحتكار ذلك للفرقةِ الناطق باسمها.

في فضاءِ انحصار الحقَّانية والنجاة تم رسمُ صورةِ الإله القومي والمذهبي والطائفي. الإلهُ القومي هو إلهٌ لجماعةٍ بشرية تنتمي لإثنيةٍ معيَّنة، والإلهُ المذهبي والطائفي هو إلهٌ لجماعةٍ بشرية أو مذهبٍ أو طائفةٍ خاصة فهو، وفقًا لصورته لدى من يعتقد به، ينشغلُ بها من دون غيرها من الناس، ويهبها كلَّ شيء، ويحرم غيرَها من كلِّ شيء، ويتساهل معها فيقبل منها كلَّ شيء مهما كان يسيرًا، ولا يقبل من غيرها كلَّ شيء حتى لو كان كبيرًا، وذا أثرٍ عظيمٍ في إسعادِ البشرية. إنه إلهٌ متحيِّزٌ لهذه الجماعة دائمًا، لا يعنيه غيرُها من البشر، مهما كانت إبداعاتُهم وآثارُهم في تطوير وسائل العيش وتأمينها، ومهما كانت منجزاتُهم وأعمالُهم في صناعة عالَمٍ أجمل لحياة الإنسان.

إن هاجسَ المتكلِّم هو إثباتُ حقَّانيةِ مقولاتِه الاعتقادية، وانحصارِ الحق فيها، والمحاججةُ لدحضِ الحقِّ والحقَّانيةِ عمَّا سواها. وتشكِّل هذه المقولات بمجموعها منظومةً اعتقاديةً واضحةَ الحدود، على نحوٍ يمكن الاستنادُ فيه إليها بوصفها معيارًا للتعرُّف على كلِّ ما يقعُ داخلها، ونفي كلِّ ما يقعُ خارجها.

ولما كانت المنظومةُ الاعتقاديةُ تتألَّفُ من رؤيةٍ للعالم، وتصوُّرٍ مصوغ بعناية لصورةِ الله، ونمطِ علاقة الإنسان به، وكيفيةِ الارتباط معه، فإنها تصيرُ مرجعيةً تنتظمُ في سياقها مدونةٌ فقهيةٌ ترتسم فيها أشكالُ العبادات والمعاملات والمواقف الحياتية للفرد والجماعة، على نحوٍ تتطابق فيه وجهةُ المدوَّنة الفقهية مع ما تؤشِّر إليه المنظومةُ الاعتقادية. وترى بعضُ المذاهب، خاصَّة السلفية، أن كلَّ ما هو خارج عنها من آراء وفتاوى اجتهادية في العبادات هو مروقٌ وابتداع.

وعادةً ما يُحكَم بالمروق على كلِّ من يتبنَّى مُعتقَدًا خارج الصور النمطية الراسخة لله عند الفرق الكلامية، في حين تكون النجاةُ في الآخرة هي المآل الطبيعي لأتباعِ هذه المنظومة الاعتقادية.

ولما كان منطقُ التفكير في علم الكلام يبتني على المنطق الأرسطي، فهذا يعني أن نظريةَ المعرفة في علم الكلام لا تقول بتعدد وجوه إدراك الحقيقة؛ لذلك لا يرى المتكلمُ إلَّا وجهًا واحدًا للحقيقة الدينيَّة، ينحصر الوصولُ إليه بطريق خاص، هذا الطريق هو ما يرسم إطارَه الفهم المغلق للنصوص الدينية، وما ينتجه من مقولات للمتكلم تبني هيكل معتقدات فرقته، وهي «الفرقة الناجية» دائمًا دون سواها.

إن تأويل النصوص الدينية يبتني على تعدُّد وجوه إدراك الحقيقة وتنوُّع الطرق إليها، ومن دون تأويل النصوص لا يمكن أن يتنوع فهمُها، تبعًا لتنوُّع فهم المتكلمين وأزمنتهم. وكثيرًا ما يقود الفهمُ المغلق إلى تكفير المختلف في المعتقد، عندما يفضي تأويلُه لآيات القرآن إلى فهمها بنحوٍ لا يطابق الفهمَ المغلقَ على معنًى واحد نهائي.

أحيانًا يقود تنوُّعُ العبارات وتعدُّدُ فهمها ليس للتكفير فقط، بل والحكم بالقتل أيضًا، وهو ما حذَّر منه واستهجنه بعضُ الأعلام بشدَّة، حتى اصطلح على مَن تنتهي مصائرُهم إلى أن يكونوا ضحيةً لذلك ﺑ «قتلى العبارات»؛ إذ يقول: «لا يلعبنَّ بك اختلافُ العبارات، فإنه إذا بُعثر ما في القبور، وأُحضر البشرُ في عرض الله تعالى يوم القيامة، لعلَّ من كل ألفٍ تسعمائة وتسعًا وتسعين يبعثون من أجداثهم، وهم: قتلى العبارات، ذبائح سيوف الإشارات، وعليهم دماؤها وجروحها، غفلوا المعاني فضيَّعوا المباني.»٥٧
لقد أسرفَ متكلمو الفرقِ في الإسلام بتكفيرِ من لا يعتقدُ معتقدَهم، ولم تتخلصْ أيةُ فرقةٍ من تورُّط بعضِ متكلميها في تكفير المختلف، وإن كان ينتمي للفرقةِ ذاتها، إن اجتهدَ فتخطى الحدودَ المرسومةَ للاعتقاد. حتى المعتزلة، الذين اشتهروا بأنهم ممثِّلو العقلانية في الإسلام، تورَّطَ بعضُ متكلميهم بالتكفير. يقول أبو حيان التوحيدي: «إن الجبائيَّين المعتزليَّين، أبا علي٥٨ — أستاذ الأشعري — وابنه أبا هاشم،٥٩ لم يكن أحدُهما يتورع عن قذف الآخر بالكفر. كما أن أختَ أبي هاشم، لم تكن، هي الأخرى، تتورَّعُ عن إلصاق نفس التهمة بأخيها وأبيها معًا.»٦٠
حاول المتكلِّمون التوكُّؤَ على المدوَّنة الحديثية في خلع المشروعية النصِّية على مقولاتهم لتبرير موقفهم الاعتقادي؛ إذ تداولوا مروياتٍ نبويةً تتحدَّث عن الفرقة الناجية والفرق الهالكة، وشاع في آثارهم حديثُ الفرقة الناجية الذي أوردناه فيما سبق.٦١ واعتاد مؤلفو الفرق أن يبدءوا كتبَهم بحديث افتراق الأمة، بهدف تبريرِ حقَّانية الفرقة التي ينتمون إليها، وبطلان ما سواها من الفرق الأخرى. وهو حديثٌ موضوع؛ يؤكِّد أن الفرقةَ الناجيةَ دائمًا واحدةٌ، أي إن هناك فرقةً معينة هي من تحتكر النجاةَ لنفسها، والهلاك لما سواها. الخلاصُ دائمًا نصيبُ فرقةٍ واحدةٍ لا تتعدَّد، والعذابُ نصيبُ عشراتِ الفرق الأخرى غيرها، مهما كانت اعتقاداتُها واجتهاداتُها.
وبمرور الزمن تفشَّى لاهوتٌ صراطي في التفكيرِ الكلامي، لا يقبل في دائرةِ الإيمانِ والنجاةِ إلَّا الفرقةَ الناجية، في حين يُخرج كلَّ فرقةٍ أخرى غيرها من دائرةِ الإيمان، ولا يمنحها حقَّ النجاةِ مهما كانت اعتقاداتُها واجتهاداتُها.٦٢ وبذلك سقط حقُّ كلِّ إنسان في أن يعتقدَ بما يراه حقًّا، وتم تعطيلُ دلالةِ آية: لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ،٦٣ وغيرها من آيات قرآنية، لصالحِ انحصارِ الحقَّانيةِ والنجاةِ بفرقة واحدة. ولم يعبَأ المتكلِّمون بحقِّ الناس وحريتِهم في الاعتقاد، بالرغم من أن الاعتقادَ لا يمكن التحكُّمُ به من الخارج؛ لأنه أمرٌ باطني خارج وسائل المنع والردع والإكراه وحتى التعذيب. ما يمكنُ التحكُّمُ به هو التعبيرُ عن المعتقد.
كما أُهملت دلالةُ آيات عديدة تتحدث عن الحرية في الاعتقاد، ومنها: وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ،٦٤ وكُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ،٦٥ ولِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً، ويَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ،٦٦ ووَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ،٦٧  وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ.٦٨

في لاهوتٍ يحتفي بكرامة الإنسان ويحمي حرياتِه وحقوقه، فإن حمايةَ السلم المجتمعي تفرض منعَ التعبير العنيف عن المعتقد، بوصف هذا الضرب من التعبير اعتداءً على حياةِ الفردِ والمجتمعِ، سواء كان ذلك التعبيرُ جسديًّا أو لفظيًّا أو رمزيًّا.

بموازاة تخندق التفكير الكلامي في قوالب المنطق الأرسطي، تحرَّر تفكيرُ التصوف الفلسفي من تلك القوالب الصارمة، فتغلَّب عليها وصار يفكِّر خارجها بحرية لا تسمح بها قواعدُ هذا المنطق ومقولاتُه ومحاججاتُه وأدواتُه. انفردت كتاباتُ محيي الدين بن عربي وأمثاله في أنها فتحت آفاقًا للتأويل، تتخطَّى الفهمَ الحرفي المغلق للنصوص الدينية.

بما أن نظريةَ المعرفة في التصوُّف الفلسفي لا تبتني على المنطق الأرسطي؛ فهي تقبل تنوع معرفة الحقيقة وتعدد الطرق إليها، كما ترى أن تصور الحقيقة الدينية يختلف باختلاف الطرق إليها، ما دام طريقها في علم الكلام واحدًا لا يقبل التعدد؛ فهو ينفي كل طريق غيره. بناءً على ذلك الفهم المختلف للحقيقة الدينية تبلور موقفٌ بديلٌ في التصوف المعرفي لا يحتكرُ الوصولَ إلى الله بطريقٍ خاصٍّ كما يقول المتكلمون، ويقدِّم ذلك الموقف فهمًا يتسع للتنوع والتعددية في الأديان، بوصفها تجلياتٍ مختلفةً للحقيقة الدينية، وصورًا متنوعةً لوجوهها، وأساليبَ متعددة للتعبير عنها، ومصابيح متنوعة تكشف عن النور الأبدي الذي حقيقته واحدة. وعلى أساس مفهوم المعرفة الدينية هذا خلص المتصوفةُ للقول بتنوع طرق الوصول إلى الله، وهذا هو معنى الاعتراف بحق الاختلاف في المعتقد، الذي هو أساس قبول التعددية الدينية والعيش المشترك.

لم يحتكر التصوُّفُ الفلسفي النجاةَ ولم يختصَّ الخلاص في رأي أعلامه بديانة أو فرقة أو مذهب أو طائفة أو جماعة؛ لأن احتكار النجاة ضربٌ من احتكارِ فهم النصوص المقدسة. يرى محيي الدين بن عربي أن الاختلافَ في تفسير مدلول كلام الله يعني فهم الكل لمراد الله وإن اختلفوا، وكأنه يشيرُ إلى أن الكلَّ يرون ذلك النور، على الرغمِ من اختلافِ المنظارِ الذي ينظرون فيه إلى ذلك النور، وهو ما يشي به قوله: «كلامُ اللهِ إذا نزلَ بلسانِ قومٍ، فاختلفَ أهلُ ذلك اللسان بالفهمِ عن اللهِ ما أراده بتلك الكلمة أو الكلمات مع اختلاف مدلولاتها؛ فكلُّ واحدٍ منهم وإن اختلفوا فقد فهمَ عن اللهِ ما أراده، فإنه عالِمٌ بجميع الوجوه تعالى، وما من وجهٍ إلا وهو مقصودٌ لله تعالى بالنسبة إلى هذا الشخص المعين، ما لم يخرج من اللسان فإن خرجَ فلا فهمَ ولا علمَ.»٦٩
وهذا ما نجده بوضوح في آثار أعلام التصوُّف الفلسفي، فلا نقرأ في مدونته مواقفَ وكلماتٍ تنصُّ على تكفير المختلف في العقيدة أو فتاوى تسوِّغ قتله، حتى إن ابنَ عربي يستهجن عمليةَ التكفير ويصنِّفها بأنها ردٌّ على كتاب الله، وضربٌ من التحجير على رحمته، فيقول: «إن ذلك ردٌّ على كتاب الله وتحجير على رحمة الله أن تنال بعض عباد الله.»٧٠ ويقول: «إن الرحمةَ هي السلطانةُ الماضيةُ الحكم على الدوام.»٧١
إن الاختلافَ في تصورات الإنسان عن الله ينتهي لا محالة إلى تعدُّد الأديان وتنوُّع الطرق إليه. إن صورةَ الله هي أولُ ممارسةٍ تأويليةٍ اجترحها البشر؛ إذ نحتَ أولُ البشر على صورتهم صورةً لله، ثم استمرَّ بنو آدم يصوِّرون اللهَ على وفق صورِهم المتنوِّعة، المنتزَعةِ من عوالمهم المختلفة. بنو آدم لا صورةَ نهائية يصلون إليها؛ لذا فإن اللهَ لا صورةَ نهائية له. على الرغم من أن الإنسانَ كائنٌ متناهٍ غير أن تأويلَه لا يتوقَّف ولا ينتهي. يظل الإنسانُ في مسعًى أبديٍّ للعثور على صورة أخيرة لله، وهو لا يدري أن كنهَ الله وحقيقته لا يعرفها إلَّا الله، يقول ابنُ عربي: «لا يعرف الله إلَّا الله.»٧٢

(٥) السلمُ هو الهدفُ المحوري للقرآن

الحربُ تفريغٌ عنيفٌ لغريزة العدوان لدى الإنسان، متى ما عجز الإنسانُ عن التفريغ السلمي لغريزة العدوان تفجَّرت الحربُ في حياته. يذهبُ علمُ النفس الحديث إلى أن الإنسانَ تتنازعه غريزتان؛ الأولى: غريزة البقاء؛ لذلك نراه يعملُ كلَّ شيء من أجل الاحتفاظ بحياته واستمرار البقاء في هذا العالم. والثانية: غريزة العدوان، وعنها تتوالد الكراهيةُ والحربُ وما تفضي إليه من موتٍ للإنسان وتدمير وتخريب للعمران. ما لم يتخلص الإنسانُ من الحرب، ويكُن قادرًا على التحكُّمِ بها، لا يمكنه امتلاكُ وسائل العمران، والتحكُّم بتوظيف طاقاته التي تستنزفها الحربُ في بناء الحضارة.

يتطلَّبُ القضاءُ على الحرب وترسيخُ السلامِ حربًا مضادَّة، إن كان معاشُ المجتمع يقومُ على الغزو، وتتحكم الحربُ في رسم علاقاته، وتعمل على تشكيل نمط اقتصاده، كما هو مجتمع الجزيرة العربية في عصر البعثة. بالرغم من أنَّ السِّلمَ وليس الحرب هو الهدفُ المحوري للقرآن، فإن طبيعةَ الحياة في مجتمع البعثة فرضت أن يتحدَّث القرآنُ بلغة لا تخلو في بعض المواضع من العنف. وقد فوجئتُ بفعلٍ غريبٍ قبل سنوات قام به أحدُ الكتَّاب؛ إذ عمل على حذف كلِّ آيةٍ تشي دلالتُها بما يشيرُ للعنفِ في القرآن الكريم، ووزَّع نسخة محدودة التداول على بعض القراء. ورأيتُ جماعةً من الكتَّاب والخطباء يلتمسون السبلَ المختلفةَ لنفي العنف في لغة القرآن، والتشديدِ على أن لغتَه لا تتضمن سوى السلام والتراحم، وليس فيها أيُّ حضور للعنف. وقد ألجأهم لذلك الموقف الاعتذاري تفجُّرُ العنف الفاشي للجماعات التكفيرية، وتسويغُها جرائمَها بآيات وأحاديث وفتاوى تحيل إلى كتب التفسير والحديث والفقه.

إن كلَّ من يقرأ القرآنَ يجد العنفَ ماثلًا بتعبيراتٍ مختلفة في بعضِ آياته، فمثلًا وردت كلمةُ «قتال» والكلماتُ ذات الصلة بها في القرآن بحدود ١٧٠ مرة.٧٣ ويعود نفيُ وجود أي شكلٍ للعنف في لغة القرآن إلى تجاهلِ سياقات النزول في محيط الجزيرة العربية، الذي يتشكَّل من عناصرَ دينيةٍ وثقافيةٍ واجتماعيةٍ وجغرافيةٍ تختصُّ به. وكل من يعرف محيطَ الجزيرة الذي احتضن نزولَ القرآن لا يمكنه إنكارُ بصمة بيئة عصر البعثة فيه. ويمكن القول: إن القرآنَ مرآةٌ تعكس الملامحَ الواضحة للحياة العربية في الجزيرة عصر البعثة. ومن هذه الملامح أنها حياةٌ معروفةٌ بخشونتها القاسية وتعبيراتها العنيفة، وهو ما تجلَّى في شيءٍ من أساليب اللغة العربية وانطبع في شيءٍ من ألفاظها. لا يمكن أن يخاطب القرآنُ أو أيُّ كتاب مقدَّس مجتمعًا من دون أن يمتلك لغتَه، أو يتحدَّث معه بما هو خارج مقدرة عقله على الإدراك والفهم. رُوي عن النبي () أنه قال: «أُمرنا معاشر الأنبياء أن نكلِّم الناس على قدر عقولهم.»٧٤

اللغةُ ليست وعاءً أجوف، بل هي مكوِّنٌ لهوية الكائن البشري العقلية والروحية والعاطفية، وعندما ينشد صاحبُ رسالة أن يوقظ روحَ مجتمعٍ وعقلَه وضميرَه، فإنه لا يلتقط كلماتٍ محدَّدةً من لغته، فيما يستبعد معجمَ اللغة الواسعَ كلَّه؛ إذ لا يمكن إبلاغُ الرسالة من دون استثمار الرأسمال اللفظي المتداوَل في اللغة.

العنفُ ظاهرةٌ ليست غريبةً على البشر، وقد كان العنفُ في العالم القديم أشدَّ حضورًا، وكلَّما تطوَّر الوعي تحضَّرتْ حياةُ الإنسان واتسعتْ مساهمةُ الوسائل السلمية في حل نزاعاته، وإن كان العنفُ يتخذ أشكالًا أشدَّ خفاءً وخبثًا مع تطوُّر الوعي البشري. كان العنفُ أحدَ الأمراض المتوطنة في الجزيرة العربية، فأرسل اللهُ لهم رسولًا معه كتابٌ يداوي أمراضَ الروح والقلب والعقل. وفي كلِّ حالات الإدمان المرضي الخطيرة لا يكون الدواءُ إلَّا من جنس الداء، فمدمنو المخدراتِ وغيرِها يبدأ علاجُهم بجرعات مخفَّفة منها بالتدريج، وربما تتواصل سنوات حتى يشفى المدمن.

لا يمكن أن يخاطب النبيُّ الكريم () الناسَ بلغة خاصة هو يبتكرها، أو ينتقي كلماتٍ من لغتهم ويترك ما هو متداولٌ من ألفاظها وعباراتها؛ لأن مثلَ هذه اللغة المُخترَعة أو المنتقاة تعجز عن التواصل معهم، وربما لا يعثر على متلقٍّ يُصغي إليه؛ لذلك فرضَ معجمُ اللغة وسياقاتُ مجتمع الجزيرة في عصر البعثة على النبي هذا النمطَ من الخطاب؛ إذ لا يمكنه أن يتحدَّثَ مع القوم خارج وَعْيهم والبنية اللاشعورية اللغوية الغاطسة لديهم. وعلى الرغم من أن لغةَ القرآن اهتمَّت بكلِّ ما يحطم أغلالَ العقل، ويحيي الروحَ، ويوقظ الضميرَ الأخلاقي، لكنَّ المجالَ التداولي للعربية ونمطَ ثقافة المجتمع فرضا على لغة القرآن ألَّا تخرج كلِّيًّا عن أساليب الخطاب المعروفة فيه.

العنفُ الذي ظهر في الغزوات وعصر البعثة ينتمي إلى طبيعةِ المجتمع العربي وقتئذٍ، وعجزِ الوسائل السلمية للدعوة في مثل هذا المجتمع عن إنجاز وعودها؛ لذلك اضطرَّ النبي محمد () للهجرة وبناء قاعدة الإسلام في المدينة.

مفتاحُ دراسة العنف في لغة القرآن هو معرفةُ نمط حياة الأمة التي نزل فيها، وبنيةُ لغتها، وأساليبُ تعبيرها. إن ألفاظَ اللغة ومصطلحاتِ معجمها وأساليبَ بيانها، والحضورَ المتنوِّع للعنف في الحياة العربية، وأثرَه الواضح في رسم أنماط العلاقات المجتمعية في عصر البعثة، كلها كانت قيودًا ضاقَت بسعة الرحمة الإلهية، وعجزَت عن أن تستوعب تجلِّياتِ الرحمة في شخصية ودعوة المبعوث رحمةً للعالمين.

النبيُّ محمد () أحدُ أعظم دعاة الحرية، ومن أرسَوا أسسَها في التاريخ البشري، عاش في مجتمع يؤسِّس العنفُ حياتَه، ويحوك العنفُ نسيجَ علاقاته الاجتماعية، وتنبثق من العنف تقاليدُه وعاداتُه، والعنفُ مادةُ أحكام الجزاءِ والعقوباتِ لجرائمه وجُنَحِه وجناياتِه، ويرفد العنفُ معيشتَه، ويؤثِّر في نمط اقتصاده، بل يغذِّي العنفُ لغتَه، وتتوالد هذه اللغةُ في فضاءاته، إنها لغةٌ ينتجها ويحتضنها ويكرِّسها العنفُ. في مثل هذا المجتمع لا يمكن لثائرٍ على كلِّ أشكالِ الاستعبادِ وهتكِ الكرامة البشرية، إلَّا أن يستعيرَ شيئًا من عنف لغة المجتمع الذي يخاطبه بدعوته، ويتسلَّحَ بمواقف صارمة؛ لا تخور أمام عنف لغتهم، ولا تنهزم أمام عدوانيتهم، ولا تتراجع أمام توحُّش بعضهم. لغةُ العنف في آيات القرآن تعكس أنطولوجيا لغويةً عنيفةً كانت ماثلةً في الحياة العربية. وأيَّةُ محاولة تُخفي ذلك فإنها تسيء للقرآن، عندما تتنكَّر لما هو واضحٌ صريح فيه.

الحريةُ كغيرها من القيم الإنسانية الكونية؛ لم تولد دفعةً واحدة مكتملة ناجزة نهائية، بل تطلَّبَ وصولُ البشرية إلى الحرية بمعناها المعروف اليوم عبورَ عِدَّة محطات موجعة. كانت ولادةُ الحرية شاقةً، ثم نمَت بالتدريج، وهي تقطع مسارًا طويلًا مريرًا شاقًّا مضمخًا بالدماء. تطلَّبَ استنباتُ الحرية طيَّ مراحل تطوَّرت فيها عبر آلاف السنين، فتراكمَت فيها: المعتقداتُ والمفاهيم والجهود المتواصلة من أجل الحرية، والتي قام بها دعاتها المؤمنون بها في التاريخ.

مفهومُ الحرية تاريخي، فعندما نواكبُ نشأتَه وتطوُّره نراه في كل مرحلة يتكاملُ ويتَّسعُ ويترسَّخُ؛ لذلك كان هذا المفهومُ عند فلاسفة العصر اليوناني أضيقَ منه في العصر الحديث. في كل عصر ترسمُ الأديانُ حدودَ الحرية، مضافةً إلى مختلف الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية التي يعيشها الإنسانُ. ومؤسِّسوها يتفوقون على منطق عصرهم، فيطرحون مفهومًا طموحًا؛ أعمقَ وأوسع وأشمل وأغنى لها، لكن مفهومهم هذا يظلُّ غير نهائي؛ ذلك أن الحريةَ كانت وما زالت في طور صيرورة وتشكُّل، يتناغمُ مع المعطيات المتنوعة للاجتماع البشري والإيقاع المتعدد لأنماط الواقع.

ويظل السِّلْمُ وليس الحرب هو الهدف المركزي الذي يرمي إليه القرآنُ. القاعدةُ التي أسَّسها القرآنُ هي السِّلْم كما تتحدَّث عنه كثيرٌ من الآيات، ومنها هذه الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً.٧٥ إذ ورد «السِّلْمُ» والكلمات ذات الصلة به في القرآن بحدود ١٤٠ مرة.٧٦ وجاءت كلمةُ الحرب ومشتقاتُها في القرآن ٦ مرات. وشرَّع القرآنُ الحربَ في ذلك العصر لتثبيتِ أقدامه، ولرفعِ الاضطهاد وردعِ العدوان، ولكي يؤسِّس للسِّلْمِ الدائم. وإلَّا فكيف بكتابٍ يقوم منطقُه الداخلي على الرحمة ولا ينشد إلَّا التراحمَ أن يضادَّ منطقَه وينقضَ رسالتَه؟!
في ضوء الفهم الذي قرَّرناه فيما سبق من أن الرحمةَ الإلهية هي مفتاحُ فهمِ المنطق الداخلي للقرآن، تكون الرحمةُ في القرآن أصلًا كليًّا يتسعُ لكلِّ الأزمنة ويستوعبُ كلَّ الحالات، ويكونُ كلُّ ما يعارضها مختصًّا بزمان وحالة معينة.٧٧

قراءةُ آيات القرآن بحسٍّ تاريخي تقودنا إلى فهمِ العنف في لغته؛ بوصفها ضرورةً ظرفيةً فرضَتها طبائعُ المجتمع الذي نزل فيه، والمعجمُ اللغوي الذي كان يتحدَّثه ذلك المجتمع. أما ما هو أبدي في القرآن وما تهدف إليه رسالتُه، فهو: بناءُ مرتكزات راسخة للسِّلْمِ العالمي الدائم، وحمايةُ الكرامة البشرية، وإرساءُ أسس إنسانية كونية ترفد كلَّ مشترك قيمي بين البشر، وتنميةُ القيم الروحية والأخلاقية والجمالية، وإثراءُ كل ما يلهم المحبةَ والشفقةَ والتراحُمَ في حياة الفرد والجماعة.

يظل الدينُ بمعناه الروحي والأخلاقي والجمالي مشروعًا ينشدُ تكريسَ إنسانية الإنسان، ولا يمكن له تحقيقُ ذلك من دون الإعلاء من الكرامة البشرية، وحمايتها من أيِّ شكل للانتهاك. الدينُ يرى الكرامةَ بوصفها تمثِّل أحدَ مكونات الكينونة الوجودية للإنسان، أي إنَّ الكرامةَ قيمةٌ أنطولوجية عميقة، لا إنسانيَّة للإنسان من دونها.

على الرغم من حضورِ لغة عصر القرآن والثقافةِ المحلية للمجتمع الذي نزل فيه في بعض آياته، فإن ذلك لم يحجب رسالةَ القرآن الكلية عن البشرية، ولم يعطِّل ما هو أبديٌّ في هذا الكتاب من المفاهيمِ المحورية العقائدية والروحية والأخلاقية، الناطقةِ باسم الإنسان في كل زمان ومكان؛ فقد كانت هذه المفاهيمُ وما زالت وستبقى ملهمةً لحياة المسلم على الدوام، وإن كان تَمَثُّلُها في حياة الإنسان متنوِّعًا مختلفًا، على وفق طبيعة المجتمعات وثقافاتها وتمدُّنها ودرجة تطورها الحضاري، وكذلك يتنوَّع تمثُّلُها بتنوُّع الأفرادِ وطبيعةِ نشأتهم وتربيتهم وأحوالهم وثقافاتهم.٧٨

كلُّ من يعرف نشأةَ الأديان، سواء كانت وحيانيَّةً أو غيرها، يعرف الأثرَ السحري الذي تحدثه كتبُها المقدَّسة في أرواح وقلوب وعقول المؤمنين بها، فلا نجدُ كتابًا أشدَّ حضورًا وتأثيرًا في حياة الناس الروحية والأخلاقية ومشاعرهم من الكتب المقدسة. ليس كلُّ كتب الأديان تمكَّنت من إنتاج حضارات رائدة، الحضورُ الشديد الأثر للقرآن في العالم يكشف عن فرادةِ صوت الله فيه، وقدرتِه الاستثنائية على أسر القلوب والأرواح. كان وسيظل الفعلُ الحضاري للقرآن عظيمًا، وتعكس مكاسبُ الحضارة الإسلامية الصورةَ الناطقةَ للقرآن في التاريخ.

١  اللاهوتُ الصراطي أعني به الفهم الذي يبتني على انحصار الطريق إلى الله والخلاص والنجاة بمعتقد مغلق، وأي فهم يخرج على الحدود التي رسمها هذا اللاهوت للمعتقد يعني الهلاك؛ لأنه خروجٌ عن الحق، وحينئذٍ لا خلاص ولا نجاة.
٢  سفر التثنية، ١٤: ٢.
٣  سفر اللاويين، ٢٠: ٢٤، ٢٦.
٤  عب، ٩: ٢٢.
٥  المزامير، ٣٣: ٦.
٦  أشعياء، ٣٠: ١٨.
٧  المزامير، ١٠٣: ١٣.
٨  المزامير، ٢٥: ٦.
٩  إنجيل متى، ٩: ١٣.
١٠  نوسترا إيتاتي أو «زماننا هذا» ‏ Nostra Aetate صدرت هذه الوثيقة في ٢٨ أكتوبر ١٩٦٥م. وهي وثيقة لإرساء العلاقة بين الكنيسة والأديان غير المسيحية عن مجمع الفاتيكان الثاني. وتدعو إلى الانفتاح على اليهودية والإسلام والهندوسية والبوذية والديانات الأخرى.
١١  راجع: الترجمة العربية ﻟ «الوثائق المجمعية» للمجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني. نقلها إلى العربية: يوسف بشارة وعبده خليفة وفرنسيس البيسري. طبعة ثانية منقحة، ١٩٨٤م، ص٨٦١–٨٦٤.
١٢  يقول ابن تيمية في الفتاوى: «الحديث صحيح مشهور في السُّنَن والمَسانِد؛ كسُنن أبي داود والترمذي والنسائي وغيرهم.»
١٣  قوله: «لقد حجرت واسعًا.» يريد رحمة الله … أي ضيَّقت وزنًا ومعنًى، ورحمة الله واسعة … واتفقت الروايات على أن حجرت بالراء، لكن نقل ابن التين أنها في رواية أبي ذر بالزاي. والقائل «يريد رحمة الله»، أنكر النبي على الأعرابي لكونه بخل برحمة الله على خلقه. راجع: فتح الباري شرح صحيح البخاري، ٥٦٦٤، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، دار الريان للتراث، ١٩٨٦م.
١٤  شرح القيصري على الفصوص، ص٢٣٧.
١٥  الرفاعي، عبد الجبار، الدين والظمأ الأنطولوجي، بيروت: مركز دراسات فلسفة الدين ودار التنوير، ط٢، ٢٠١٦، ص١٧٠.
١٦  ورد «الإحسان» والكلمات ذات الصلة به في القرآن بهذه الصيغ: الحسنات، الحسنة، الحُسنى، الحُسنيَينِ، المُحْسنين، إحسانًا، أَحْسنَ، أَحْسنَهُ، أَحْسَنُوا، أَحْسنتُمْ، بِالحسنات، بالحسنة، بالحُسنى، بإحسانٍ، بأحسن، بأحسنها، تُحسِنوا، حَسَنًا، حَسَنٍ، حسناتٍ، حسنةً، حَسُنَت، حُسْنُهنَّ، حِسانٌ، فَأَحْسَنَ، لَحُسْنَ، لَلحُسنَى، لِلمُحْسِناتِ، لِلمُحْسنِينَ، مُحسِنٌ، مُحسِنِين، مُحسِنونَ، والإحسان، وأَحسنَ، وأَحسِنُوا، وحسُن، وحسُنَت، يُحسِنُون.
١٧  الطيبي، شرف الدين الحسين بن محمد. شرح الطيبي على مشكاة المصابيح المسمى: الكاشف عن حقائق السنن، بيروت، دار الكتب العلمية، ج١: ص٩٣.
١٨  العنكبوت: ٤٦.
١٩  رسائل ابن سبعين، الرسالة الرضوانية، تحقيق وتخريج وتعليق: أحمد فريد المزيدي، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، ٢٠٠٧م، ص٣٩٨.
٢٠  الأعراف: ١٥٦.
٢١  الأنعام: ١٢.
٢٢  الأنعام: ٥٤.
٢٣  النبأ: ٣٧.
٢٤  الكهف: ٥٨.
٢٥  الزمر: ٥٣.
٢٦  الحجر: ٥٦.
٢٧  الأنبياء: ١٠٧.
٢٨  آل عمران: ١٥٩.
٢٩  الإسراء: ٢٨.
٣٠  هود: ١٧.
٣١  فاطر: ٢.
٣٢  غافر: ٧.
٣٣  البقرة: ١٤٣.
٣٤  البقرة: ١٧٨.
٣٥  النساء: ١٦.
٣٦  يونس: ٥٨.
٣٧  يوسف: ٦٤.
٣٨  إبراهيم: ٣٦.
٣٩  المؤمنون: ١٠٩.
٤٠  الكهف: ١٠.
٤١  آل عمران: ١٠٧.
٤٢  محيي الدين بن عربي، الفتوحات المكية، باب ٣٩٠.
٤٣  مدخل إلى ابن عربي — موسوعة ستانفورد للفلسفة، تأليف: ويليام تشيتيك William C. Chittick، ترجمة عبد العاطي طلبة، مجلة حكمة، ٢٠١٩م.
٤٤  ابن عربي، فصوص الحكم، علق عليه: أبو العلا عفيفي، إيران، انتشارات الزهرا، ص٢٢٠-٢٢١.
٤٥  النصوص الكاملة للنفري، كتاب المواقف، دراسة وتقديم: جمال المرزوقي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، الطبعة الثانية، ٢٠١٩م، ص٢٤٩.
٤٦  النفري، محمد بن عبد الجبار بن الحسن، النصوص الكاملة «كتاب موقف المواقف — موقف رحمة الخلق»، دراسة وتقديم: جمال المرزوقي، ص٤٣٣، ط٢، ٢٠١٩م، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة.
٤٧  رسائل ابن سبعين، الرسالة الرضوانية، تحقيق وتخريج وتعليق: أحمد فريد المزيدي، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، ٢٠٠٧م، ص٣٩٧-٣٩٨.
٤٨  رسائل ابن سبعين، الرسالة الرضوانية، تحقيق وتخريج وتعليق: أحمد فريد المزيدي، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، ٢٠٠٧م، ص٣٩٨.
٤٩  الرفاعي، عبد الجبار، إنقاذ النزعة الإنسانية في الدين، بيروت، مركز دراسات فلسفة الدين ودار التنوير، ٢٠١٣م، ص٢٥٧.
٥٠  وردت «الرَّحْمة» والكلماتُ ذات الصلة بها في القرآن بهذه الصيغ: ارْحَمْهُمَا، الْأَرْحَامُ، الرَّاحِمِينَ، الرَّحِيمُ، الرَّحْمَنَ، أَرْحَامَكُمْ، أَرْحَامُ، أَرْحَامِهِنَّ، أَرْحَمُ، بِالْمَرْحَمَةِ، بِالرَّحْمَنِ، بِرَحْمَةٍ، بِرَحْمَتِكَ، بِرَحْمَتِنَا، بِرَحْمَتِهِ، تُرْحَمُونَ، رَحِمَ، رَحِمَنَا، رَحِمَهُ، رَحِمْتَهُ، رَحِمْنَاهُمْ، رَحِيمًا، رَحِيمٌ، الرَّحْمَةَ، رَحْمَةً، رَحْمَتِكَ، رَحْمَتِنَا، رُحَمَاءُ، رُحْمًا، رَحْمَتِي، سَيَرْحَمُهُمُ، لَرَحْمَةً، لِلرَّحْمَنِ، وَارْحَمْ، وَارْحَمْنَا، وَالْأَرْحَامَ، وَبِرَحْمَتِهِ، وَتَرْحَمْنَا، وَتَرْحَمْنِي، وَرَحْمَةً، وَرَحْمَتُ، وَرَحْمَتُهُ، وَرَحْمَتِي، وَيَرْحَمُ، يَرْحَمَكُمْ، يَرْحَمْنَا.
٥١  إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (النمل: ٣٠).
٥٢  المصدر السابق، ص٢٥٨.
٥٣  الأنبياء: ١٠٧.
٥٤  ابن عربي، فصوص الحكم، علَّق عليه: أبو العلا عفيفي، إيران، انتشارات الزهرا، ١٩٤٦م، ص٢٢٠-٢٢١.
٥٥  آية السيف هي الآية الخامسة من سورة التوبة: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وعلى الرغم من أن كلمة السيف لم ترد في القرآن، لكنَّ المفسِّرين سموا الآية بهذا الاسم. والغريب أن معظم المفسِّرين ادعى أنها ناسخة للكثير من الآيات التي تدعو للسلم والعفو والصفح والغفران والرحمة، والكف عن قتال المشركين.
٥٦  يقول ابن تيمية في الفتاوى: «الحديث صحيح مشهور في السُّنن والمَساند؛ كسُنن أبي داود والترمذي والنسائي وغيرهم.»
٥٧  شمس الدين الشهرزوري، تواريخ الحكماء والفلاسفة، تحقيق وتعليق: أحمد عبد الرحيم السايح، القاهرة، الدار المصرية اللبنانية، ١٩٩١م، ج٢: ص٢٠٩.
٥٨  أبو علي الجُبَّائي، محمد بن عبد الوهاب، والجُبَّائي نسبة إلى جُبَّى التي وُلد فيها، وهي من مدن خوزستان (٢٣٥–٣٠٣ﻫ).
٥٩  أبو هاشم الجُبَّائي، عبد السلام بن أبي عليٍّ محمَّد بن عبد الوهاب الجُبَّائي (٢٧٥–٣٢١ﻫ).
٦٠  أبو حيان التوحيدي، البصائر والذخائر، تحقيق: وداد القاضي، بيروت، دار صادر، ج٧: ص٢٤٩.
٦١  يرى بعضُ الباحثين أن حديثَ افتراقِ الأمة من الأحاديثِ الموضوعةِ في فترة متأخرة عن عصر النبي. انظر: عمر بن حمادي، «حول حديث افتراق الأمة إلى بضع وسبعين فرقة.» الكراسات التونسية، ع١١٥-١١٦، ١٩٨١م.
٦٢  وحسب «المكتبة الشاملة»، المنشورة على الإنترنت، تكرَّرت ١٨٤ مرة، الفتوى: «فإن تاب وإلَّا قُتِل»، عند استقراء ٧١ كتابًا في مجموعة ابن تيمية. ووردت في موارد متنوعة، فمثلًا يفتي ابن تيمية في هذه المسألة: «الرجل البالغ إذا امتنع من صلاة واحدة من الصلوات الخمس، أو ترك بعض فرائضها المتفق عليها، فإنه يُستتاب فإن تاب وإلَّا قُتل» (ابن تيمية، مجموع الفتاوى، ج٣: ص٤٢٩). كما يفتي في هذه المسألة: «فإذا بلغ الصبي سبع سنين فإنه يؤمر بالصلاة، حتى يبلغ عشرًا، فإذا بلغ العشر فيؤمر بالصلاة، فإن رفض الصلاة أو تركها ضُرِبَ ضربَ تأديب لا ضرب تعذيب، فلا يجرح ولا يكسر العظم، فإذا بلغ وامتنع عن الصلاة فإنه يُستتاب من قِبَل ولاة الأمور فإن تاب وإلا قتل» (الراجحي، شرح الوصية الكبرى لابن تيمية، ج١٣: ص٨). كذلك يفتي: «فإن تركها تهاونًا استُتيب ثلاثًا فإن تاب وإلا قُتل، أما ترك الصلاة في الجملة فإنه يوجب القتل من غير خلاف» (شرح العمدة لابن تيمية، ج١: ص٦٠). ويفتي أيضًا: «ومن كان تاركًا للصلاة مع قدرته على الصلاة فإنَّه يُستتاب، فإن تاب وإلا قُتِل» (عزيز شمس، جامع المسائل لابن تيمية، ج١: ص٧٩). ويفتي أيضًا: «من تركَ الصلاةَ غَيْرَ مُقِرٍّ بوجوبها عليه — وهو من أهل الوجوب — فإنه كافر باتِّفاق الأئمَّة وإن كان مُقرًّا بالشهادتَين، وهذا يُستَتاب، فإن تابَ وإلَّا قُتِل كافرًا مرتدًّا باتِّفاق الأئمة. وإن كان ممن لا يَعرِفُ الوجوبَ لحِدْثَانِ عهدِه بالإسلام أو إنشائِه بمكانِ جهلٍ فإنه يُعرَّفُ الوجوب، فإن أقرَّ به وإلا قُتِل كافرًا» (عزيز شمس، جامع المسائل لابن تيمية، ج٤: ص١١٨). ويفتي أيضًا: «والوقوفُ بعرفات لا يكون قط مشروعًا إلا في الحج باتفاق المسلمين، في وقتٍ معين على وجهٍ معين، فمن قال: أَقِفُ ولستُ بحاجٍّ فقد خرجَ عن شريعة المسلمين، بل إن اعتقد ذلك دينًا لله مستحبًّا فإنَّه يُستتابُ، فإن تابَ وإلا قُتِلَ» (عزيز شمس، جامع المسائل لابن تيمية، ج١: ص٢١٠). ويفتي أيضًا: «وأما سائر جوانب البيت ومقام إبراهيم وسائر ما في الأرض من المساجد وحيطانها، ومقابر الأنبياء والصالحين، كحجرة نبينا ومغارة إبراهيم ومقام نبينا الذي كان يصلي فيه، فلا تستلم ولا تقبل باتفاق الأئمة. والطواف بذلك من أعظم البدع المحرمة، ومن اتخذه دينًا يُستتاب فإن تاب وإلا قُتل» (مختصر منسك شيخ الإسلام ابن تيمية، ج١: ص١٩). ويفتي أيضًا: «ومن قال: إن مريم تَجُرُّ ذيلَها على الزرع فينمو، فإنه يُستتاب، فإن تاب وإلَّا قُتِل» (عزيز شمس، جامع المسائل لابن تيمية، ج٣: ص٣٧٤). وفي جواب سؤال: «في مسلم تارك الصلاة ويُصلي يومَ الجمعة، فهل يَجِبُ عليه اللعنةُ؟» يفتي أيضًا: «هذا يَستوجبُ العقوبةَ باتفاق المسلمين، والواجبُ عند جمهور العلماء كمالك والشافعي وأحمد أن يُستَتابَ، فإن تاب وإلا قُتِل» (عزيز شمس، جامع المسائل لابن تيمية، ج٤: ص١٣٩). وورد الكثيرُ من أمثال هذه الفتوى في آثاره.
وعند استقراء ٧١ كتابًا في مجموعة ابن تيمية في «المكتبة الشاملة»، وردت ٣١ مرةً فتوى «فَإِنَّهُ يُقْتَلُ.» ومنها مثلًا: «وَإِنْ قَالَ: لَا أُصَلِّي إلَّا بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ لِاشْتِغَالِهِ بِالصِّنَاعَةِ وَالصَّيْدِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يُقْتَلُ» (الفتاوى الكبرى لابن تيمية، بيروت، دار الكتب العلمية، ط١، ١٤٠٨ﻫ/ ١٩٨٧م. ج٢: ١٠). «وَإِنْ قَالَ: لَا أُصَلِّي إلَّا بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ» (ج٢: ٢٤). «وَأَيْضًا فَقَدْ نَصَّ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ إذَا جَاءَ وَقْتُ الصَّلَاةِ وَلَمْ يُصَلِّ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ، وَإِنْ قَالَ: أَنَا أُصَلِّيهَا قَضَاءً. كَمَا يُقْتَلُ إذَا قَالَ: أُصَلِّي بِغَيْرِ وُضُوءٍ، أَوْ إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ، وَكُلُّ فَرْضٍ مِنْ فَرَائِضِ الصَّلَاةِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا إذَا تَرَكَهُ عَمْدًا فَإِنَّهُ يُقْتَلُ بِتَرْكِهِ. كَمَا أَنَّهُ يُقْتَلُ بِتَرْكِ الصَّلَاةِ. فَإِنْ قُلْنَا: يُقْتَلُ بِضِيقِ الثَّانِيَةِ وَالرَّابِعَةِ، فَالْأَمْرُ كَذَلِكَ، وَكَذَلِكَ إذَا قُلْنَا: يُقْتَلُ بِضِيقِ الْأُولَى، وَهُوَ الصَّحِيحُ، أَو الثَّالِثَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ: هَلْ يُقْتَلُ بِتَرْكِ صَلَاةٍ، أَوْ بِثَلَاثٍ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. وَإِذَا قِيلَ بِتَرْكِ صَلَاةٍ، فَهَلْ يُشْتَرَطُ وَقْتُ الَّتِي بَعْدَهَا، أَوْ يَكْفِي ضِيقُ وَقْتِهَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. وَفِيهَا وَجْهٌ ثَالِثٌ: وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ صَلَاتَي الْجَمْعِ وَغَيْرِهَا» (الفتاوى الكبرى لابن تيمية، ج٢: ص٣٨). «مَنْ قَذَفَ أُمَّ النَّبِيِّ () يُقْتَلُ؛ لِأَنَّهُ قَدَحَ فِي نَسَبِهِ وَكَذَلِكَ مَنْ قَذَفَ نِسَاءَهُ يُقْتَلُ» (ج٣: ١٨٣). «وَأَمَّا قَوْلُ الرَّجُلِ: لَوْ جَاءَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، إذَا ثَبَتَ عَلَيْهِ هَذَا الْكَلَامُ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ عَلَى ذَلِكَ. وَلَوْ تَابَ بَعْدَ رَفْعِهِ إلَى الْإِمَامِ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْقَتْلُ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيِ الْعُلَمَاءِ، لَكِنْ إنْ تَابَ قَبْلَ رَفْعِهِ إلَى الْإِمَامِ سَقَطَ عَنْهُ الْقَتْلُ فِي أَظْهَرِ الْقَوْلَيْنِ وَإِنْ عُزِّرَ بَعْدَ التَّوْبَةِ كَانَ سَائِغًا» (ج٣: ٤٤٢). «الْعُلَمَاء لَهُمْ قَوْلَانِ فِي الزِّنْدِيقِ إذَا أَظْهَرَ التَّوْبَةَ، هَلْ تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ فَلَا يُقْتَلُ؟ أَمْ يُقْتَلُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ صِدْقُهُ؛ فَإِنَّهُ مَا زَالَ يُظْهِرُ ذَلِكَ؟ فَأَفْتَى طَائِفَةٌ بِأَنَّهُ يُسْتَتَابُ فَلَا يُقْتَلُ، وَأَفْتَى الْأَكْثَرُونَ بِأَنَّهُ يُقْتَلُ وَإِنْ أَظْهَرَ التَّوْبَةَ فَإِنْ كَانَ صَادِقًا فِي تَوْبَتِهِ نَفَعَهُ ذَلِكَ عِنْدَ اللهِ وَقُتِلَ فِي الدُّنْيَا؛ وَكَانَ الْحَدُّ تَطْهِيرًا لَهُ، كَمَا لَوْ تَابَ الزَّانِي وَالسَّارِقُ وَنَحْوُهُمَا بَعْدَ أَنْ يُرْفَعُوا إلَى الْإِمَامِ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ: فَإِنَّهُمْ إنْ كَانُوا صَادِقِينَ كَانَ قَتْلُهُمْ كَفَّارَةً لَهُمْ، وَمَنْ كَانَ كَاذِبًا فِي التَّوْبَةِ كَانَ قَتْلُهُ عُقُوبَةً لَهُ» (ج٣: ٤٨١). «وَقَدِ اسْتَقَرَّت السُّنَّةُ بِأَنَّ عُقُوبَةَ الْمُرْتَدِّ أَعْظَمُ مِنْ عُقُوبَةِ الْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ: مِنْهَا: أَنَّ الْمُرْتَدَّ يُقْتَلُ بِكُلِّ حَالٍ، وَلَا يُضْرَبُ عَلَيْهِ جِزْيَةٌ، وَلَا تُعْقَدُ لَهُ ذِمَّةٌ بِخِلَافِ الْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ … وَلِهَذَا كَانَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ أَنَّ الْمُرْتَدَّ يُقْتَلُ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ» (ج٣: ٥٥٠). «وَسَابُّ الرَّسُولِ يُقْتَلُ وَلَوْ أَسْلَمَ وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ» (ج٥: ص٥٤٥).
وبحثتُ في مجموعةِ كتب ابن تيمية في «المكتبة الشاملة» عن حضور «الرحمة الإلهية»، فوجدتها وردت في موردَين. لا يتحدث فيهما ابن تيمية عن «الرحمة بالإنسان». ففي أحدهما يقول: «فجعلت الرحمة الإلهية عالم الشهادة على موازنة عالم الملكوت، فما من شيء من هذا العالم إلا وهو مثال لشيء في ذلك العالم، وربما كان الشيء الواحد مثالًا لأشياء من عالم الملكوت، وربما كان للشيء الواحد من الملكوت أمثلة كثيرة من عالم الشهادة.» وفي المورد الثاني يقول: «وفرق بين أن يقال: على صورة الرحمن، وبين أن يقال: على صورة الله؛ لأن الرحمةَ الإلهية هي التي صوَّرت الحضرة الإلهية بهذه الصورة» (ابن تيمية، بغية المرتاد في الرد على المتفلسفة والقرامطة والباطنية، ج١: ص٢٠٤، ٢٠٩). ابن تيمية أحد العقول العبقرية في التراث، كان علَّامة موسوعيًّا مدهشًا. ذكيًّا في التأسيس المتين للاهوت الصراطي في الإسلام، حيث قام ببناء أصولي يصعب الخلاص منه، إلا بعقل خبير متمرس في التراث والفلسفة والعلوم الإنسانية. اللاهوت الصراطي في الإسلام كان أحد أصلب أعمدته المحورية تراث ابن تيمية، ما لم يفكك تراث اللاهوت الصراطي في الإسلام يلبث ضمير المسلم السلفي في كل المذاهب أسيرًا لذلك اللاهوت.
وننوه إلى ما قلناه غير مرة، من أن تكرار إشارتنا إلى ابن تيمية وفتاواه وآرائه، ليس بمعنى تفرُّده بهذه الفتاوى والآراء، بل لأنه يمثل المرجعية الأكثف حضورًا اليوم في أدبيات الجماعات التكفيرية، واعتمادهم فتاواه وآراءه في سلوكهم الذي يرفض العيش المشترك مع المختلف في الاعتقاد، ويشرع العنف في بعض حالات التعامل معه. كما نبَّهنا أكثر من مرة إلى أن بعض هذه الفتاوى يفتي بها فقهاء من مختلف المذاهب الإسلامية، لكنَّ جهلَ أكثر من يتحدثون عن الإسلام بالمدونة الكلامية والفقهية، أو تجاهلَ من يعلم منهم بذلك، جعلهم يصرُّون على تبرئة تراث فرقتهم ومذهبهم خاصة، ويتهمون غيرهم بالتكفير. وهذا ما ترشد إليه مجموعة كتب «المكتبة الشاملة» أيضًا؛ إذ تكررت فيها الفتوى «يُقْتَلُ» ١٣٤٨ مرة، عند استقراء ٧٣٣١ كتابًا، كذلك تكررت فيها الفتوى «فإن تاب وإلَّا قُتِل.» ١٩٤٤ مرة، عند استقراء ٧٣٣١ كتابًا.
٦٣  البقرة: ٢٥٦.
٦٤  الكهف: ٢٩.
٦٥  المدثر: ٣٨.
٦٦  المائدة: ٤٨، ١٠٥.
٦٧  يونس: ٤١.
٦٨  يونس: ٩٩.
٦٩  ابن عربي، الفتوحات المكية، باب ٤١٦، ج ٧، ص٣٦، بيروت، دار الكتب العلمية، ١٩٩٩م.
٧٠  ابن عربي، الفتوحات المكية، باب ٥٠، ج٢: ص١٠٠.
٧١  ابن عربي، الفتوحات المكية، طبعة ١٩١١م، المجلد الرابع، ص٢٤٨.
٧٢  ابن عربي، الفتوحات المكية، باب ٥٠، ج٢: ص٩٦.
٧٣  ورد «القتال والكلمات ذات الصلة به في القرآن بهذه الصيغ: اقْتَتَلَ، اقْتَتَلُوا، اقْتُلُوا، اقْتُلُوهُ، الْقَتْلَى، الْقَتْلُ، الْقِتَالَ، أَتَقْتُلُونَ، أَقَتَلْتَ، أَقْتُلْ، تَقْتُلَنِي، تَقْتُلُوا، تَقْتُلُونَ، تَقْتُلُوهُ، تَقْتُلُوهُمْ، تَقْتِيلًا، تُقَاتِلُ، تُقَاتِلُوا، تُقَاتِلُونَ، تُقَاتِلُونَهُمْ، تُقَاتِلُوهُمْ، سَنُقَتِّلُ، فَاقْتُلُوا، فَاقْتُلُوهُمْ، فَقَاتِلَا، فَقَاتِلُوا، فَقَاتِلْ، فَقَتَلَهُ، فَقُتِلَ، فَلَقَاتَلُوكُمْ، فَلْيُقَاتِلْ، فَيَقْتُلُونَ، فَيُقْتَلْ، قَاتَلَ، قَاتَلَكُمُ، قَاتَلَهُمُ، قَاتَلُوا، قَاتَلُوكُمْ، قَاتِلُوهُمْ، قَتَلَ، قَتَلَهُ، قَتَلَهُمْ، قَتَلُوا، قَتَلُوهُ، قَتَلْتَ، قَتَلْتُمُوهُمْ، قَتَلْتُمْ، قَتَلْنَا، قُوتِلُوا، قُوتِلْتُمْ.»
٧٤  الحديث مروي في صحيح البخاري وصحيح مسلم وغيرِهما، لكنه ورد بصيغ مختلفة الألفاظ.
٧٥  البقرة: ٢٠٨.
٧٦  ورد «السِّلْمُ» والكلمات ذات الصلة به في القرآن بهذه الصيغ: أَأَسْلَمْتُمْ، الْإِسْلَامَ، الْمُسْلِمُونَ، الْمُسْلِمِينَ، السَّلَامَ، السَّلَمَ، إِسْلَامَكُم، إِسْلَامِهِمْ، أَسْلَمَ، أَسْلَمَا، أَسْلَمُوا، أَسْلَمْتُ، أَسْلَمْنَا، بِسَلَامٍ، تَسْلِيمًا، تُسْلِمُونَ، سَالِمُونَ، سَلَامًا، سَلَامٌ، سَلَمًا، سَلِيمٍ، سَلَّمَ، سَلَّمْتُم، فَسَلَامٌ، فَسَلِّمُوا، لِلْإِسْلَامِ، لِلْمُسْلِمِينَ، لِلسَّلْمِ، لِنُسْلِمَ، مُسَلَّمَةٌ، مُسْتَسْلِمُونَ، مُسْلِمًا، مُسْلِمَاتٍ، مُسْلِمَيْنِ، مُسْلِمُونَ، وَالْمُسْلِمَاتِ، وَالسَّلَامُ، وَأَسْلَمْتُ، وَأَسْلِمُوا، وَتَسْلِيمًا، وَتُسَلِّمُوا، وَسَلَامًا، وَسَلَامٌ، وَسَلِّمُوا، وَيُسَلِّمُوا، يُسْلِمُونَ، يُسْلِمْ.
٧٧  من أجل وضع الأفكار الواردة هنا في السياق الذي تنتظم في إطاره، نحيل إلى رؤيتنا وما خلصنا إليها من أن «الرحمةَ مفتاحُ فهمِ المنطق الداخلي للقرآن.» تأتي هذه الرؤية في ضوء مفهومنا للدين وحدود المجال الذي يتحقق فيه في حياة الإنسان، ومديات كلٍّ من الديني والدنيوي، والتي شرحناها بأبعادها المختلفة وتنويعاتها المتعددة في مؤلَّفاتنا الأربعة: (١) الدين والنزعة الإنسانية. (٢) الدين والظمأ الأنطولوجي. (٣) الدين والاغتراب الميتافيزيقي. (٤) الدين والكرامة الإنسانية.
٧٨  تحدثنا عن أبدية المعاني الروحية والقيم الأخلاقية في القرآن بتفصيل أكثر في فصل: «الكرامة جوهر إنسانية الدين»، من كتابنا الدين والكرامة الإنسانية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥