الفصل العاشر

مَنْ يعرف دينًا واحدًا لا يعرف أيَّ دين١

(١) لم تتوحَّد البشريةُ في دين واحد

تنامى منذ عدَّة سنوات عددُ المؤتمرات والندوات والمحاضرات التي تهتمُّ بالتَّسامح والتعايش وقبول الآخَر والحوار بين الأديان، وهي ظاهرةٌ صحِّيَّة في فضاء تتفاقم فيه أزماتُ التديُّن، واحتلالُ الجماعات المتشدِّدة صدارةَ الصورة في الإعلام، غير أننا قلَّما نسمتعُ إلى حديثٍ واقعيٍّ في مثل هذه الملتقيات، فمعظم من يتحدَّثون يكرِّرون عباراتٍ أضحتْ أقربَ للافتاتِ المجاملاتِ في العلاقات العامة، عبارات لا تخلو من تمجيد وثناء. كلُّ العبارات تشترك في القول بأن الأديانَ منزَّهةٌ من كل هذا العنف المتوحش المتفشِّي اليوم، وكلُّ متحدِّث ينزع لتبرئةِ ديانته ومذهبه وتراثه من كل ما يمكن أن يسيء للإنسان المختلِف، على الرغم من أنَّ الممارساتِ المتشدِّدةَ تصدر عن أفراد متدينين ينتمون لجماعات دينية معروفة للكل، وترفدها مدوناتٌ كلاميَّةٌ وفقهيةٌ وتراثيةٌ معروفة. وذلك يعني أنَّه لم تعُد تبرئةُ الدين مفيدةً اليوم، المفيدُ هو قدرتُنا على الاعتراف الصَّريح الذي لا يتجاهل الحضورَ الإعلاميَّ المكثَّفَ لنمطِ تديُّن متشدِّد يستقي منابعَه من دين الآباءِ، وتغذِّيه المؤسَّساتُ ووسائلُ الاتِّصال والماكنةُ الإعلاميةُ التي تنتخب المفاهيمَ المتشدِّدةَ المُغْلَقَةَ، لتوظِّفها في التربية والتعليم والتثقيف والإعلام.

الدينُ أبديٌّ، إنه موجودٌ بوجودِ آدمَ الأوَّلِ وسيبقى حتى آدم الأخير، الدينُ موجودٌ في عصر الحداثة كما كان موجودًا على الدَّوام في كلِّ عصر. يتمكَّنُ الإنسانُ في عصرِ الحداثة من تجديد مناهجِ فهمِه للدِّين، وتجديدِ أدواتِ تفسير نصوصِه، في ضوء متطلَّبات هذا العصر، كما فعل ذلك الإنسانُ في الماضي.

لا يمكننا فرضُ دينٍ واحدٍ على كلِّ البشر؛ إذ لم تتوحَّد البشريةُ على مر التاريخ في دينٍ واحد، ولو حاولتْ ديانةٌ ما أنْ تحتكرَ تمثيلَ اللهِ في الأرض، وتفرض حضورَها، بممارسةِ إبادةٍ لكلِّ مَن يعتقدُ بأيَّة ديانةٍ غيرِها، فإنها لنْ تستطيع. كلُّ وقائع الحروب تُكَذِّب فناءَ الأديان؛ إذ يتعذَّر أن تُفْنِيَ عمليَّاتُ الإبادة مكوِّنًا دينيًّا، وذلك ما نراه ماثلًا في بقاءِ ديانات غير تبشيرية، وتواصلِ حياة دياناتٍ قديمة تعود نشأتُها إلى ما قبل الميلاد، مع أنَّ حجمَها الديموغرافي ظل محدودًا، لكنَّها عانَدَتْ كلَّ عذاباتِها ففرضتْ حضورَها الأبدي، على الرغم مما تعرَّضَتْ له من تعسُّفٍ واضطِهادٍ وقتل مريع في محطَّاتٍ متعدِّدةٍ من مسيرتِها.

لم نجد ديانةً يتنازل عنها كلُّ المعتنقين لها، إثر قناعات بحجج ديانات أخرى على بطلانها. وعلى فرض اقتناع بعض الأشخاص، لكن لا يمكن أن يقتنع كلُّ أتباع الديانة بحجج أتباع ديانة الأخرى تدلل على بطلان ديانتهم، مهما كانت هذه الحجج؛ ذلك أنه لن يصلَ إلى نتيجةٍ منطقيةٍ جدلُ تصوُّرَين مختلفَين للحقيقة، ورؤيتَين مختلفتَين لله. مضافًا إلى أنه لا يمكن إعادةُ بناءِ كلِّ تفاصيل نشأة الدِّياناتِ في ضوء أُفُقٍ تاريخيٍّ متأخِّر كثيرًا عن عصر مؤسِّسها، والتعرُّف على كلِّ ظروف نشأتها وصيرورتها عبر الزمان؛ لأن تاريخَ كلِّ ديانةٍ تعيد تكوينَه باستمرارٍ مخيلةُ الجماعةِ، وتعمل هذه المخيلةُ على تغذيتِه بكلِّ ما تمتلئُ به من أحلامٍ ومطامحَ ونرجسيَّاتٍ؛ لذلك تظلُّ الجماعةُ أسيرةَ الصور الخلَّابة التي رسمتْها ورسَّختْها لمعتقداتِها وماضيها، وما لم تقرأ الجماعةُ تاريخَها خارجَ الأُطُر المغلَقة لمعتقداتها، فإنَّها تلبثُ على الدَّوام تُسْرِفُ في الإعلاء من تميُّز معتقدِها وتصر على تفوُّقها على سواها، بنحوٍ تمسي فيه هذه الحالاتُ من العناصرِ العميقة للاوعي الجمعي، وتشتد سطوتُها عليها إلى الحد الذي تتحكم في اختياراتها ومصائرها.

الأديانُ التي استفاقتْ راجعت الصورَ الخلَّابةَ التي تملأُ مخيلتَها التاريخية، فدرستْها بعناية، وغربلتْها في ضوءِ المناهج الحديثةِ في دراسةِ الأديان، وتأمَّلتْ بدقة سردياتِها وفتَّشتْ عن منابعِ إلهامِها وكيفيةِ تشكُّلها عبر الزمان، وامتلكتْ شجاعةَ الاعتراف بما اكتنف مسيرتَها من انتهاكاتٍ لكرامةِ الغيرِ، وحاولتْ أن تستبعدَ ما تراكم في تراثِها من أحكامٍ تنبذ كلَّ من لا يعتنقُها.

أدركت بعضُ الأديانِ متأخِّرةً ضرورةَ احترام كلِّ إنسان بوصفه إنسانًا، وأنه لا يمكن إدارةُ الاختلاف والتنوُّع في المجتمعات إلَّا عندما تحترم المختلف بما أنه إنسانٌ يشترك مع الكل في إنسانيته، بالمعنى الذي تتأسس عليه كلُّ حقوقِه الطبيعيةِ والمدنيَّة. الاحترامُ سلوكٌ أخلاقي، وهو أسمى من التسامح. التسامحُ يتضمَّن إشارةً بالعلوِّ على المختلف، أنت تسامحه كرمًا منك، وتفضُّلًا، وعطفًا، ورأفة؛ لأنك: الأكثرُ إنسانيةً، والأعلى، والمتفوِّق. يفرضُ الضميرُ الأخلاقي اليقظ احترامَ المختلف بوصفه إنسانًا لا غير، لا بوصفه منتميًا لقومية، أو هوية خاصة، أو دين، أو معتقد. نحترمُ المختلفَ لأن اللهَ كرَّمه مثلما كرَّمنا، كلُّ إنسان يولدُ مكرَّمًا. ما أعنيه بالتسامح هو الشعور بمنح الغفران لإنسان خاطئ في معتقده، إنسان لا يعرفُ الحقيقةَ كما يعرفها مَنْ يمنحُه العفوَ ويغضُّ النظرَ عن خطيئته. التسامحُ بهذا المعنى يبتني على الاعتقاد بوجود طريقٍ واحد لإدراك الحقيقة، وهو غيرُ معنى الاحترام الذي يبتني على تعدد الطرق لإدراك الحقيقة، ويحيل إلى تنوع وجوهها، والاختلاف في وسائل فهمها والتعبير عنها. المفهومُ الشائعُ للتسامح غيرُ المفهوم الذي أقصدُه، نشأةُ وتطور مفهومِ التسامح في سياق غربي غيرُ مفهومه وما يرادفُه في سياق تراثي، وغير ما ورد بما يشي بمدلوله في المعجم العربي.

(٢) معادلةٌ مثلثةٌ لفهم أنماطِ التديُّن

الدينُ كائنٌ حي، ينمو ويتطوَّر ويمرض، وقد يصاب بداءٍ مزمن. فرُبَّ ديانةٍ منفتحة انغلقتْ، ورُب ديانةٍ مغلقة انفتحتْ. مفسِّرو النصوص المقدسة تتحكمُ في فهمِهم للدين وتفسيرِهم لنصوصه؛ رؤيتُهم للعالَم وثقافتُهم ونمطُ نشأتهم وتربيتُهم وتكوينُهم المعرفي وأحكامُهم المسبقة وآفاقُ انتظارهم من الدين. من هنا تأتي الحاجةُ لتتابعِ النبوَّات، وظهورِ المجدِّدين، والضروراتُ الأبدية لإصلاحِ الأديان وتجديدِ فهمها وإعادة تفسير كتبها المقدسة.

دراسةُ أثر كل دين وأنماطِ التديُّن التي تتشكَّلُ في فضائه تتطلَّبُ أن يعتمدَ الدارسُ معادلةً مثلثةً للفهم؛ إذ لا بد أن يعاينَ الدارسُ ذلك الدين بوصفه نصًّا مقدَّسًا أوَّلًا، ويتعرَّفَ ثانيًا على شخصيَّة الإنسانِ المُعْتَقِد بهذا النصِّ فَرْدًا ومُجْتَمَعًا، ويكتشفَ طبيعةَ الواقع الذي يعيش فيه هذا الإنسانُ وكلَّ ما يحفل به عصرُه ثالثًا. هذه العناصرُ الثلاثةُ تشكِّل توليفةً متفاعلةً يؤثِّر كلٌّ منها بالآخر ويتفاعل معه؛ لذلك تختلف أنماطُ التديُّن تبعًا لاختلافِ النَّاس أفرادًا ومجتمعاتٍ، واختلافِ واقعهم وعصرِهم وثقافتهم، وطريقة عيش الإنسان ونمط العمران، واختلافِ كيفية تلقِّي النصوص المقدَّسة. ربما يكون التديُّنُ دافئًا، ليِّنًا، رقِيقًا، رحيمًا، كما لدى القليلِ من الأشخاص الذين يُولدون في واقعٍ يستمعون فيه إلى صوتِ المَحَبَّة والعطف والشفقة والتَّراحم، ويحظون بتربيةٍ وتعليمٍ سليمَين. وربما يكون التديُّنُ شديدًا، قاسيًا، عنيفًا بلا رحمة، كما نجد لدى معظم الأشخاص الذين يتعرَّضون إلى اضطهادٍ وعنفٍ في العائلة والمجتمع والسلطة السياسية، ولا يحظون بتربية وتعليم سليمَين.

تنشأُ الثَّغراتُ في دراسة الأديانِ من إهمال أحد أضلاع المعادلة المُثلثة للفهم؛ لذلك تتطلَّب دراسةُ الأديانِ أنْ يتعاطَى الدَّارسُ مع نصوصِها المقدَّسةِ وتراثِها الديني بمنطقِ الباحث الذي يعتمدُ مناهجَ البحثِ العلميِّ، وينشدُ فهمَ المغزى العميقِ لهذه النصوص، ويهمُّه التعرُّفُ على دلالاتِ التُّراث في فضاءِ السياقات الخاصَّة التي تَشَكَّل فيها، والسعيُ لاكتشاف الآثارِ الروحية والأخلاقية والجمالية التي أنتجَتْها نصوصُ هذه الأديان، وكيفياتِ تمثُّلها في الحياة البشرية. ولا أظنُّ أن هناك جدوًى من دراسةِ الأديان ومقارنتِها وحوارها؛ لو كان الدارسُ مولعًا بالتبشيرِ بمعتقده ولا يريد إلَّا ترويجَه، والحرص على إدخالِ الآخر فيه، بوصف معتقَده هو الحق وكل ما سواه باطل.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

الواقعُ الذي نَعيشه اليوم يفرض علينا الاهتمامَ بدراسة الدين في سياق مكاسب العقل والعلم والمعرفة والخبرة البشرية المتراكمة، ودراسةَ كيفيةِ نشأته وأنماطِ حضورِه وصيرورتِه عبر التاريخ، والانتقالَ في الدِّراسات الدينيَّة من الرؤيةِ التقليديَّة، التي كانت ترى الدينَ ونصوصَه المقدَّسة مرجعيةً نهائيةً في تفسير وفهم كلِّ شيء، إلى رؤيةٍ تُخضِع تعبيراتِ الدين وتجلياتِه في الحياة للفهم والتفسير، بوصفها تَمثُّلاتٍ بشرية، وكل ما هو بشري يقع في مداراتِ عقلِ وعلومِ ومعارفِ وخبراتِ الإنسان. وإن كانت نصوصُ الدين مقدَّسة؛ غير أنَّ تفسيرَها وتأويلَها وفهمَها يتجلَّى فيه الأُفُقُ التاريخيُّ الذي يتموضعُ فيه الإنسان، ولا يمكن أن يكون ذلك الفهمُ عابرًا للإطار المعرفي لذلك الإنسان.

ليسَت هناك ديانةٌ أو نصٌّ دينيٌّ خارجَ طرائق عَيْشِ الإنسان وطبائع العمران؛ فالإنسانُ يخضع لمشروطيَّاتٍ تَفْرِضُ عليه نمطَ حياتِه، وتؤثِّر في سلوكه، وهي: العقل، اللغة، المشاعر، الغرائز، الجسد، التربية، التعليم، الثقافة، الاقتصاد، السلطة، التاريخ، المكان، الزمان. ولا يتجسَّد الدينُ في حياة الإنسان إلَّا تبعًا لهذه المشروطيَّات، أي إنَّ فهمَ الدِّين وتفسيرَ نصوصِه يتنوَّع بتنوُّع أنماطِ حياةِ النَّاس وطرائقِ عيشهم. ‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

الرؤيةُ اللَّاتاريخيةُ للدين ترى الأديانَ قارَّةً ساكنةً، وكأنَّ الأديانَ تؤثِّر في المُجتمعات وتعمل على تغييرها، من دون أنْ تتغيَّر هي أو تتأثَّر. الرؤيةُ التاريخيةُ العلميَّةُ تذهب إلى أنَّ الأديانَ تتأثَّر بطبيعةِ المجتمعاتِ الإنسانيَّةِ المتنوِّعَةِ، تبعًا لتنوُّع الزمانِ والمُحيط والإثنيَّة والجغرافيا والثقافة واللغة والاقتصاد والسلطة، وتشرح كيف أنَّ هناك تأثيرًا وتأثُّرًا متبادَلًا بين الدين والمجتمع، فمثلما يؤثِّر الدينُ في المجتمع، ويسهم في إنتاجِ رؤيتِه للعالَم، ويعمل على صوغ نمطِ حياتِه، يعمل المجتمعُ أيضًا على إنتاجِ صورتِه الخاصَّة للدين، وصياغةِ نمطِ التديُّن الذي يشبهه. مثلًا لو ظهرت البوذيةُ في الجزيرة العربيَّة لأضحتْ مُشابِهَةً للمجتمع العربي، ولو ظهرت الهندوسيةُ في اليونان لأضحت مشابهةً للمجتمع اليوناني، ولو ظهرت المسيحيةُ في الصِّين لأضحت مشابهةً للمجتمع الصيني، وهكذا الحالُ في الأديان الأخرى. كما تؤثِّر المجتمعاتُ في الأديان؛ تؤثر الأديانُ في المجتمعات، ما فعلتْه المسيحيَّةُ بروما لا يقلُّ عن فعلِ روما بالمسيحية. وما فعله الإسلامُ بالأندلس لا يقلُّ عن فعلِ الأندلس بالإسلام.

لا يكفي الحكمُ على أخلاقيَّة وإنسانيَّة الديانة بما تشتمل عليه مدوَّنتُها، أو بشهاداتِ أتباعِها عنها، مهما ادَّعوا من انحصار الأخلاق والإنسانية فيها، إنما يتم ذلك بمقارنتها بالديانات الأخرى، مضافًا إلى اكتشاف مقدارِ تجلِّي القيمِ الإنسانيَّة لهذه الديانة وأخلاقيَّاتها في سلوك معتنقيها أفرادًا وجماعاتٍ في المَاضي والحاضِر.

ليسَ هناك دينٌ يحتكرُ المحبَّةَ والحرياتِ والحقوقَ واحترامَ كرامة الكائن البشري، وليس هناك تاريخُ دينٍ مُنَزَّهٌ عن التعصُّب والعنف وانتهاك كرامة الإنسان. ففي ميراث الأديان السماوية مثلًا لا يصح نسيانُ مظالمِ الفتوحات الإسلامية، مثلما لا يصحُّ نسيانُ مآسي الحروب الصليبية، وجرائمِ الصهيونيَّة في فلسطين.

المعروفُ عن البوذية أنها ديانةٌ غيرُ تبشيرية، وأنها من أكثر الديانات في الأرض سِلمًا، فلم يتحدَّث لنا التاريخُ عن حروبٍ تم خوضُها أو دماءِ أبرياءٍ سُفكت باسمها، كما هو معروف عن دياناتٍ أخرى، لكن مع كل ذلك تناقلتْ وسائلُ الإعلام صورًا ومشاهدَ لأعمالِ عنف مأساويَّة ضد مُسْلِمِي الروهينغا في ميانمار عام ٢٠١٧م، قامت بها مجموعاتٌ بوذيَّة بتحريضِ رهبان بوذيين متطرِّفين.

الموقفُ الأخلاقي يفرض على أتباع كل دين الكشفَ عن أرشيفات الماضي، وإعلانَ كلِّ ما يختبئ فيها، وفضحَ منابع التعصب والكراهية في تراثه مثلما يفضحها لدى غيره، والاعترافَ بأخطائه كما يتحدَّث عن أخطاءِ غيره.

(٣) مقارنةُ الأديان معيارُ الوفاء بوعودها

إن دراسةَ الأديان ومقارنتها هي المعيارُ الحقيقي لاختبار وفاءِ الأديان بوعودها، ومصداقيةِ ادِّعَاءاتِ أتباعها. ولا يتحقَّق ذلك إلَّا بالعوْدَةِ إلى نصوصِها المقدَّسة، ومدوَّناتِها الخاصَّة الشارحة لهذه النصوص، والتعرُّفِ على أنماطِ حضورها في حياة الأفراد والمجتمعات التي تعتنقها، ومدى تأثيرِها الإيجابي في تنمية الحياة الروحية والأخلاقية والجمالية، والتفتيشِ عن أثرها السلبي، وفضحِ ما تعمل على إخفائِه أو تتعمَّد حذفَه من تراثها وتاريخها الخاص. فدراسةُ الأديانِ السماويَّة لا تصحُّ إلَّا بالعودة إلى نصوصِها المقدَّسة، وطبيعةِ آثارها في حياة الفرد والمجتمع الذي يعتنقها، وكيفيَّاتِ حضورِها في التَّاريخ البشري، وما تركتْه من آثارٍ مختلفةٍ في البناءِ والهدم.

إن تطبيقَ المناهجِ العلميَّةِ في دراسة كلِّ الأديان وفِرَقِهَا ومذاهِبِها ضرورةٌ يفرضها التعرُّفُ على كيفيةِ ولادتها وصيرورتها التاريخية، والآثارِ المزمنة لها في الحياة البشرية. الأديان تُولد في عصر مؤسِّسيها، لكنها تظل تتخلَّق وتنمو في صيرورةٍ لا تتصرَّم عبر الزمان والمكان، في سياقاتِ نسيجِ المتطلَّبات المتنوِّعة لحياة الإنسان فردًا وجماعةً، والعلاقاتِ العضويَّة بين السلطة والمعرفة.

ما لم يتسع حقلُ دراسةِ الأديان ومقارنتِها لدى الباحثين في الدِّرَاساتِ الدينيَّة، لا يمكنُ تصويبُ سوءِ الفَهْمِ والأحكام السلبيَّة المُسْبقة، وحذف الكثير من الأخطاءِ المُتَرَاكِمَة في فهم أتباعِ ديانةٍ لمقولاتِ ومعتقداتِ أتباعِ ديانةٍ أُخرى؛ إذ تتوالد من سوءِ الفهمِ والأحكامِ السلبيَّة المسبقة دائمًا أحكامٌ إقصائيَّة حيالَ الآخَر المختلف.

تؤهل دراسةُ الأديان ومقارنتُها الدارسَ لغربلةِ فهمه للدين وتمحيصِ تفسيراتِه لنصوصه المقدَّسة، واكتشافِ الروافدِ العميقة المغذِّية لمنابع المعنى فيه، والقيمِ الأخلاقيَّة الكونيَّة التي تسقي شبكاتِ مقولاتِه ومفاهيمِه المركزيَّة.

تتكفَّل دراسةُ الأديانِ ومقارنتُها ببيان مكانةِ كلِّ دين، والأثرِ والتأثيرِ المتبادلَين بينه وبين الأديان الأخرى المنتميةِ للجغرافيا الرُّوحية ذاتها، واكتشافِ ديناميكيَّة حضورِه في حياة الشعوب المنتمية إليه. كما تُسهم دراسةُ الأديان ومقارنتُها في تحقيق العيش المشترَك، لأنها تؤسِّسُ لقبول المختلِف عقائديًّا وثقافيًّا، وترسي بيئةً ملائمةً لتكريس الحقِّ في الاختلاف، واحترامِ من لا تشبه معتقداتُه معتقداتِنا وثقافتُه ثقافتَنا.

يمكننا من خلال مقارنة كلِّ دين بالأديان الأخرى أن نتعرَّف على ذلك الدِّين من جديد. وبذلك يصحُّ أن نقول: «من يعرف دينًا واحدًا لا يعرف أيَّ دين.» كما قال الشاعر غوته من قبل: «من يعرف لغةً واحدةً لا يعرف أيَّ لغة.»

كذلك تعمل دراسةُ الأديان ومقارنتُها على الحدِّ كثيرًا من حالات الكراهية والتعصُّب والتحجُّر التي تصيب الذين ينغلقون على تراث المذهب الذي ينتمون إليه في ديانتِهم، ولا يقبلون إلَّا فهمًا واحدًا لذلك التُّراث.

لا يولد السلامُ بين الأديان في فضاءِ الاعتقاد، بل يولد السلامُ بين الأديانِ في فضاءِ الإيمان؛ لأنَّ المؤمنين في كل الأديان يستقون إيمانَهم من منبع مشترَك هو الحق، وإن تجلَّى لكلٍّ منهم في صور تتنوَّع بتنوُّعِ دياناتِهم، وبصمةِ بيئاتِهم، غير أنَّهم يعيشون التجاربَ الروحيَّةَ الملهِمةَ للطمأنينة والسكينة والسلام ذاتها. الإيمانُ حقيقةٌ يتجلَّى فيها جوهرُ الأديان، والأرضيةُ المشتركة التي تتوحَّد في فضائها، والشلَّالُ الملهِم للحياة الدينيَّة فيها. لا يتخلَّص الإنسانُ من نزاعات الأديان وحروبها إلَّا في فضاءِ الإيمان. في الإيمان تلتقي الأديانُ وتتعايش وتأتلف، بعد أن تكتشفَ شفرةَ اللغة الروحيَّة الواحدة المشتركة التي يتكلَّمها إيمانُها، وإن كانت في الاعتقاد تتكلَّم لغاتٍ شتى، لا تفقه كلٌّ منها الأخرى.

تتصارعُ الأديانُ وتحتربُ لحمايةِ خرائطِها وتوسيعِها، كما تتصارعُ الدُّوَلُ وتحترب لحمايةِ خرائطِها وتوسيعها. فبين الأديان تباينٌ بين الصور الذهنيَّة المختلفة للمطلق، والمفاهيم والمقولات الاعتقاديَّة، التي ينفي الكثيرُ منها الآخرَ. وكلُّ ديانةٍ مسكونةٌ بتكريس مفاهيمِها ومقولاتِها الاعتقاديَّة على أتباعها، وتعميمها على غيرهم. الاعتقادُ يرسم جغرافيا الأَدْيَان ويضع الحدودَ الصارمةَ لها، والحدودُ بطبيعتها تنفي ما وراءها، ولا تقبل كلَّ ما هو خارج فضائها. وذلك ما يسوِّغ الأفعالَ المتشدِّدة ضد الآخر المختلِف.

من هنا تأتي الحاجةُ لتجديد الفكر الديني، وتشتدُّ الضرورةُ إليه في كل عصر يحتجب فيه اللهُ عن العالم، من أجل تحريرِ فهم الدين وتفسير نصوصه من التعصُّب الأعمى، وبعثِ الإيمان، وحمايةِ الاعتقاد من الاستغلال فيما يدمِّر الحياة.

(٤) مقارنةُ الأديانِ في معاهد التعليم الديني

تشتد الحاجةُ اليوم لدراسةِ الأديان ومقارنتِها في الحوزات ومدارس التعليم الديني وكلياته ومعاهده؛ لأنها المؤسَّساتُ المسئولةُ عن التكوينِ العلمي والتربيةِ الدينية لتلامذتها، وتأهيلِهم لممارسة تدريسِ الدين والكتابةِ فيه، وتبليغِه والدعوةِ إليه، وإدارةِ الشأن الديني. وهي مهماتٌ ذاتُ أثر هائل في بناء الحياة الروحية والأخلاقية في مجتمعاتنا. وكل تعصُّبٍ أعمى في فهمِ الدين، وتفسيرٍ مغلق لنصوصه المقدَّسة من شأنه أن يبدِّد الحياةَ الروحيَّة ويهدر الحياةَ الأخلاقية.

لقد كانت حوزةُ النجف سبَّاقةً في العصر الحديث للتعرُّف على الأديان السماوية؛ إذ كرَّس الشيخُ محمد جواد البلاغي (١٢٨٢–١٣٥٢ﻫ) جهودَه لنقد اليهودية والمسيحية بالعودةِ إلى التوراة والأناجيل، والتنقيبِ عن التحريفات الغريبة عن الروح الوحيانية فيها. وعلى الرغمِ من ريادةِ البلاغي في تدشينِ هذا الحقل البالغ الأهمية في الدراسات الدينية، غير أن المنهجَ الكلامي هيمنَ على كتاباتِه، ففرض عليها أن تتحدَّث لغةَ المتكلِّمين، وتحاكي استدلالاتِهم ومحاججاتِهم على إبطالِ دعوى الخصم؛ لذلك لم تتحرَّر مقارناتُه للأديان السماوية من منهج المتكلمين الدفاعي، فكان يُنقِّب في نصوصِ الديانتَين اليهودية والمسيحية عن المنحولِ والمحرَّفِ واللامعقولِ، ولم يهتم بجوهرِ الأديان الوحياني المشترَك، ورسالتِها الروحية والأخلاقية الكونية. ولم ينشد اكتشافَ الشفرة المشتركة التي يتكلَّمُ فيها الإيمانُ في الأديان، وإن كانت معتقداتُها ينفي بعضُها البعضَ الآخر.

ومع كل ذلك فإن البلاغي كان رائدًا لفتح نافذةٍ على حقل بالغ الأهمية في الدراسات الدينية في الحوزة، ظل مُهْمَلًا مدَّةً طويلة، غير أنَّ المسارَ الذي دشَّنه توقف ولم يتواصل في الفترة اللاحقة إثر عدة عوامل، لعل أبرزَها: الافتقارُ إلى التكوين في لغات النصوص المقدَّسة للأديان الأخرى، المدوَّن فيها ميراثها، وتغلُّبُ دراسة الفقه وأصوله على الدراسة والتدريس في الحوزة؛ فالتلميذ والمدرِّس يستمدان مكانتَهما الدينيةَ من التعمُّق في دراسة الفقه وأصوله وبلوغ درجة الاجتهاد. وفي حوزة قم استطاع صديقُنا السيد أبو الحسن نواب أن يؤسِّس جامعةً للأديان والمذاهب، تتسع لدراسةِ وتدريسِ ومقارنةِ الأديان السماوية وغير السماوية، باعتماد كتبِها المقدَّسة ومدوناتِ أتباعها، بل اهتم النواب بالبحث عن متخصِّصين من رجال هذه الأديان خاصَّة، لتعليم كتبها ومدوناتها، فمثلًا دَعا للتدريس يهوديًّا إيرانيًّا متخصِّصًا في التلمود لتفسيره للتلامذة الذين يدرسون الأديانَ السماوية في جامعته.

وهنا تأتي أهميةُ كتاب وليد البعاج،٢ وهو رجلُ دينٍ ينبغي أن نحتفي بشجاعتِه؛ إذ يحاول أن يمضي وحده في مغامرةٍ قد تُقَلِّص فرصَه مستقبلًا؛ لأن ما يؤثِّر في مصائر الدارسين ويفرض مكانتَهم الدينيةَ في الحوزة هو تكثيفُ دراستهم للفقهِ وأصولِه، وعدمُ تبذير أوقاتهم في أي حقل آخر. ربما ينزعج من مبادرة البعاج بعضُ زملائه من رجال الدين، وهم يرونه يمضي سنوات عدة متفرِّغًا لدراسةِ عزرا، والتعريفِ بأهمية دورِه كمؤسِّس بعد النبي موسى للديانة اليهودية. غير أنَّ وليد كان يدرك أن مثلَ هذه الدراسة لم تعُد اليوم هامشيةً أو ثانويةً، يضيعُ فيها عمرُ التلميذ كما قد يتوهَّمُ بعضُهم، ذلك أنَّ كلَّ من يتخصَّص في دراسةِ الفقه وأصوله عليه أن يتعرَّف على فقه وأصول المذاهب الأخرى داخل ديانته، ويتعرَّف على شرائع الأديان الأخرى، والسماوية منها خاصَّة، وكيف أنَّ اتِّساعَ حقلِ هذه الدراسات في الحوزة وكليات الدراسات الدينية، من شأنه أن يضيء للدارسين المعانيَ الروحية والقيمَ الأخلاقية الكونية المشترَكة بين الأديان، ويكشف أثرَها في رسالة الأديان في العالم، ويفتح قنواتِ التواصل والتفاهم بينها، بالشكل الذي يمكِّنها من العيش معًا في فضاء التنوُّع والاختلاف.

لم ينصرف البعاج في هذا الكتاب لنقد معتقداتِ اليهوديَّة أو الرد على مقولاتها المركزيَّة، كما هو الحالُ في الكثير من كتابات دارسِي الأديان من رجال الدين، بل كان مَسْكُونًا بالتعرُّفِ عليها من كتبها المقدَّسة ومدوناتها، والكشفِ عن الوحياني فيها، بوصف الأديان السماوية تنتمي لعائلة إيمانيَّة واحدة؛ لأنها تؤمن معًا بالله، وتتوحَّد في رسالةٍ كونيَّةٍ مشتركة، وتقوم على قيم أخلاقية وإنسانية كلِّيَّة، وتستقي من منبعٍ إلهيٍّ واحد، وأنَّ وحدتَها تتَّسع لتنوُّعها، وتنوُّعُها لا يتنكَّر لوحدتها.

الجميلُ في هذا الكتاب أنَّ المؤلِّفَ ظل يحاول، في موارد متعدِّدة، التفتيشَ عن محطات اللقاء بين الأديان السماوية، ليكشفَ عن الجسور المشترَكة بينها، ويُذكِّر بالأبعاد الإيمانية والمعاني الروحية والقيم الأخلاقية الكونية لهذه الأديان. لم يهتمَّ المؤلِّفُ بما ينبش ذاكرةَ حروب هذه الأديان والانتهاكات الشنيعة في مسيرتها، وما يختبئ في أرشيفاتها من تعصُّبات وكراهيات وصراعات دينية مريرة. وكأنه في كل ذلك ينشد الكفَّ عن ثنائية أنا/أنت، والانتقال إلى اﻟ«نحن»، على وفق رؤية البابا فرنسيس في ترسيخ معنى «العائلة البشرية»، بوصفها مقصدًا إنسانيًّا أسمى يكشف عن الغاية العظمى لكل الأديان.

يشدِّد الباحثُ على ضرورة الارتقاءِ بالحوار بين الأديان، والانتقالِ به من الكلام المكرَّر إلى اعتماد المناهل الروحية والقيم الأخلاقية المشتركة، والبناءِ عليها بوصفها منطلقاتٍ للبحث في دراسة الأديان والحوار بين أتباعها. وفي ضوء موقفه هذا رفض مواقفَ كل من يستخفُّ بمعتقدات أي دين آخر أو يسفهها، وسوَّغ ذلك بأنَّ التفكيرَ في كل ديانة يمتلك حججَه وأدلتَه وقناعاتِه داخل تلك الديانة، ولا تصح مناقشةُ هذه الحجج والأدلة والقناعات من دون أن ينخرطَ المناقشُ في أفق تفكير الديانة، ويستوعبَ نصوصَها وتراثَها وخبراتها الروحية.

وفي محاولة منه إلى تطبيق منهجه الذي أوضح فيه أن كلَّ الآراء محتملةٌ، على وفق منطق البحث العلمي، تنبَّه الباحث إلى أهمية إعادة المناقشة فيما اشتهر بين مفسِّري القرآن في قضية رفع النبي عيسى للسماء حيًّا، فأشار إلى بعض الآيات التي يمكن أن يُستَدلَّ بها على احتمالِ موتِ عيسى، ثم رفعه للسماء بعد فترة.

أشهدُ للكاتب بأنه بذل جهدًا يستحقُّ الثَّناء، في أن يكون أكثرَ حيادًا وأقلَّ تحيُّزًا، ما أمكنه ذلك، مع ضرورة التنبيه إلى أنه يصعب أن يظلَّ الباحثُ مُحَايِدًا في كل معالجاتِه، فكيف إن كان ذلك الباحثُ رجلَ دين، تشبَّع بمناخاتِ ديانته، ونذر كلَّ حياتِه للدعوة لها وإقناع الآخرين بمعتقداتها وحججها.

كنتُ أودُّ أن يعودَ الباحثُ إلى المناهج الحديثةِ في دراسة الأديانِ وما أنجزَته من نتائج مثيرة، من خلال توظيفها للمكاسب الجديدة في اللغة والألسنيات وعلوم التأويل وتوظيفها في فهم النصوص المقدَّسة، والبحث التاريخي للتعرُّف على ظروف تشكُّل هذه النصوص ورحلتها عبر الزمان، والتمييز بين ما هو شفويٌّ وما هو مدوَّن منها، والدراسة العلمية لكل ما يتَّسع له ميراثُ الأديان، والكشف عما هو أسطوري وما هو تاريخي فيها، من: شخصيات، وحوادث، وأماكن، وغير ذلك. فلم تَعُد المناهجُ المكرَّرة في دراسة الأديان تضيف للباحث نتائجَ حاسمة؛ لأن التراثَ فيها ما زال يتحدَّثُ للتراث.

ولا أريد أنْ أستقرئَ المواردَ المتعدِّدة التي أصاب تفكيرَه فيها شيءٌ من الثغرات والهشاشة والأخطاء في هذا الكتاب، وأكتفي بالإشارة هنا إلى مثال واحد، كان فيه الكاتبُ وفيًّا لمخيِّلته الشيعيَّة الكربلائيَّة أكثرَ من وفائه لمنهج البحث العلمي، عندما قام بمقارنة السَّبي الكربلائي بالسَّبي البابلي لليهود. وهي مقارنةٌ متكلفةٌ، تفشل حقائقُ التنقيباتِ الأثريَّة وأرشيفاتُ الماضي وخرائطُ الجغرافيا التاريخية في التدليل عليها.

١  تقديم لكتاب: عزرا في الديانات الإبراهيمية، تأليف: وليد البعاج، ٢٠١٨م، ومضات للترجمة والنشر.
٢  البعاج، وليد، عزرا في الديانات الإبراهيمية، ٢٠١٨م، ومضات للترجمة والنشر، النجف.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥