الفصل الحادي عشر

من عُنْف الأسماء إلى نَفَس الرَّحْمَن١

(١) الرؤية التوحيدية لابن عربي

فرغتُ من مطالعةِ مخطوطةِ كتاب «لماذا نكفِّر؟ ابن عربي من عنف الأسماء إلى نفَس الرحمن» للصديق د. علي الديري، رأيت كتابَه هذا كأعمالِه السابقة يشد القارئ إليه بقوَّة، ويفرض عليه أنْ يمضيَ معه حتى الخِتَام، وألَّا يغادره إلى غيره إلا بعد أن يفرغَ منه.

درستُ كتابَ «فصوص الحكم» في الحوزة، وطالعتُ كلَّ ما وقع بيدي من كتاباتٍ تشرح أفكارَ الشيخ محيي الدين بن عربي واللوحة الميتافيزيقية التي رسمها، وتَعَرَّفْتُ على أحوالِه ومكاشفاتِه وإشراقاتِه الروحية. لكلِّ شارحٍ من الشرَّاح أسلوبُه وطريقةُ فهمه لنصوص الشيخ الأكبر، فمنهم من تماهى معه حد محاكاته بكلِّ شيء، ومنهم من حاول أن يقدِّم تأويلاتِه لما كتب في أُفُقِ رؤيته لله والإنسان والعالَم، ومنهم من تَورَّط في سَكْبِ مقولاتِه في قوالب غُلاة المتصوِّفة، ومنهم من سكبها في قوالب غُلاة الشيعة، ومنهم من وقع أسيرَ الأبعادِ الجماليَّة في عباراتِه، ومنهم من فُتن بالأبعاد الرمزيَّة لإشاراته. وقلَّما طالعتُ كتابًا حاول أن يلخِّص لنا الرؤيةَ التوحيديَّةَ للشيخ محيي الدين بلغةٍ مقتصِدةٍ واضحةٍ تقترب من السَّهل الممتنِع، وتنتظم في سياقِها المفاهيمُ المحوريَّةُ وما يتفرَّع عنها بشكل منطقي. ولا تقود القارئَ إلى منعرجاتِ تفكيرِ محيي الدين أو المناطق المُبهمة فيه وهي ليست قليلة، وتقلِّل من الإحالة على رمزياته وإشاراته، وتبرع في اكتشاف ما بدَّده وشتَّته ابنُ عربي عمدًا ممَّا يؤشِّرُ لكلِّيات عقيدته، كما ينبه هو. يتعمَّد ابنُ عربي الإبهامَ والغموضَ أحيانًا، ويحرص على ألَّا يعطي مفاتيحَ أسرار القلوب لغير أصحاب الذَّوْقِ والشُّهود، والعُشَّاق الذين صار إيمانُهم حُبًّا وحُبُّهم إيمانًا.

في بعض كتبه شاء محيي الدين أن ينبِّه رفاقَه هؤلاء ويكشف لهم عن خارطة: «عقيدة الخلاصة»، وكيف تعمَّد تشتيتَها في مواضع متفرِّقة من كتاب واحد. يصرِّح بذلك في الفتوحات المكية قائلًا: «وأما التصريح بعقيدة الخلاصة فما أفردتُها على التعيين لما فيها من الغموض، ولكن جئتُ بها مبدَّدةً في أبواب هذا الكتاب، مستوفاة مبيَّنة، ولكنَّها كما ذكرنا متفرقة.» هذا الضربُ من الكتابة المقتصِدة يتطلَّب فطنةً كفطنة الديري، وهي لا توهَب إلا لمن لم يتوقَّف عند العقل فقط، بل توغَّل في عوالم الروح أيضًا، فصار قادرًا على تذوُّقِ مكاشفاتِ الشيخ محيي الدين والسِّيَاحةِ في معاني بحره العميق. كتابُ الديري هذا يضعك مباشرةً في قلب عوالم معنى الحياة الروحية للشيخ الأكبر، بلا مُقدِّماتٍ واستطراداتٍ وفائضٍ لفظي ومقتبساتٍ يترهَّل بها الكتابُ، ويضيع فيها القارئُ في متاهات الكلمات.

اللافتُ في كتابة الديري عن المتصوِّفة، وبخاصَّة محيي الدين أنه تلخيصٌ واضح للرؤية التوحيديَّة للشيخ الأكبر؛ لأنه يحاول أن يختصر علينا مسافاتٍ طويلةً نستنزف فيها سنواتٍ ثمينةً من شبابنا في دراسةِ فصوصِ الشيخِ الأكبر ومطالعةِ أعمالِه. أنا أحدُ الذين خسروا مثلَ هذه السنوات، عندما كنتُ تلميذًا مُولعًا بدراسةِ «فصوص الحكم» وفهمِهِ على متخصِّصين في حوزة قم.

سألتُ أحدَ أشهر معلِّمي «فصوص الحكم» في حوزة قم: كم أَمْضَيْتَ في تعليم هذا الكتاب؟

فأجابني: لبثتُ ثلاثَ عشرةَ سنةً في تدريس «فصوص الحكم» لتلامذتي.

هذا كتابٌ لا يتجاوَز متنُه الأصلي مائةً وخمسين صفحة، مجرَّدًا من التعليقات والشروح. على الرَّغم من أنَّ علي الديري لم يكن يومًا ما تلميذًا في الحوزة، ولم أعرف عنه أنه تتلمذ على مثلِ شيوخها المتخصِّصين بابن عربي، لكن في كلِّ مرة يفاجئني بفهمِه الذَّكي لابن عربي، وخبرتِه المتميزة في آثارِ المتصوِّفة وأحوالِهم.

من قبل فوجئتُ بأطروحته للدكتوراه التي أرسل مخطوطتَها وطلب مني قراءتَها، مثلما فاجأني بعمله هذا اليوم، وأظن أنَّ مفاجأتي تحيل إلى ما ترسَّب في وعيي الباطن من حكايات نُلقِّنها في مجالس المذاكرة في الحوزة، توحي لنا بأنَّ ما ندرسه لا يمكن أنْ يفهمَه أحدٌ بلا تلمذةٍ مماثلةٍ لتلمذَتِنَا، بل إني سمعتُ قبل ربع قرن من صديق، كان تلميذًا يدرس «فصوص الحكم» في الحوزة عند أحد المدرسين، حُكمًا سلبيًّا على شرح د. أبو العلا عفيفي للفصوص؛ إذ قال في سياق حديثه عن هذا الشرح: «إن أبا العلا عفيفي لم يفهم الكتاب.» من الطريف أني قبل ذلك بسنوات كنتُ أعرف بالتفصيل سيرةَ أبي العلا عفيفي الفكرية وتكوينَه الأكاديمي الرصين؛ فقد تعلَّمَ على أحد أبرز الخبراء في العالَم بمحيي الدين، وهو أستاذه المعروف رينولد نيكلسون (١٨٦٨–١٩٤٥م)، الذي كتبَ أطروحتَه للدكتوراه تحت إشرافه في جامعة كامبريدج بعنوان: «فلسفة ابن عربي الصوفيَّة» وناقشها سنة ١٩٣٠م. وذلك ما أهَّلَ عفيفي لأن يكون أبًا لجيل لامع من الأكاديميين العرب المتخصصين بالتصوُّف وبابن عربي خاصة. قرأتُ شرحَ الدكتور عفيفي فرأيتُ كيف تمكَّن أن يقدِّم تفسيرًا علميًّا واضحًا لفصوص الحكم، يجعله في متناول كل دارس لديه إلمامٌ بألفباء التصوُّف المعرفي.

لذلك تألَّمتُ من الحكم السلبي لتلميذِ الفصوص صديقي على شرح عفيفي، وإن كان مثلُ هذا الحكم ليس غريبًا عليَّ في بيئةٍ عشتُ فيها أكثرَ من أربعين عامًا تلميذًا وأستاذًا، وأعرفُ نرجسيةَ الفهم التي تتوالد في اللاشعور الجمعي لدينا، نحن الذين نغوص في الكتب القديمة، ونمضي العمرَ في فضاءِ مُتُونِها وهوامِشِها، حتى نَصِلَ إلى حالةٍ لا نكاد نرى فيها أسلوبًا للتعليم متفوِّقًا على أسلوبنا، أو نظن بأن طريقتنا في تعلُّمها متفوِّقةٌ على غيرها، ولا نعتقد بوجود فهمٍ موازٍ لفهمنا لهذه المتون التي ندرسها، فضلًا عن أن يكون متجاوزًا له.

لم يترك لنا الخبراءُ بابن عربي مَدْخَلًا مُيسَّرًا لدراستِه والتعرُّفِ على رؤيته لله والإنسان والعالَم. هذا الكتابُ، على صغر حجمه، يوفِّر على المهتم بابن عربي الكثيرَ من الزمن والجهد اللذَين يتطلَّبهما التعرُّفُ على خلاصةٍ لرؤيته المحوريَّة، من خلال غوصِ المؤلِّف في أعماله العميقة، وملاحقةِ تفسيراتها وما كُتب عنه وعنها.

(٢) لغةٌ أخرى منسيَّةٌ للإسلام

هذا الكتابُ يمكن أن يكون مدخلًا أَوَّليًّا لدراسةِ الرؤية التوحيدية للشيخ محيي الدين واكتشاف معالِمها في آثاره المتنوعة؛ إذ استطاع الديري أن يدلَّنا على خارطةِ هذه الرؤية لدى الشيخ الأكبر، والتي يمكن أن تكون مُلهمة لحياتنا الدينيَّة اليوم؛ ذلك أن الحياة الدينية وما يتشكَّل في سياقها من قِيَمٍ رُوحيَّة وأخلاقيَّة تولد وتتكوَّن في رَحِمِ الكيفيَّة التي تحضر فيها صورةُ الله في الضمير.

الكاتبُ يدركُ المحنةَ التي يعيشها المسلمُ اليوم، وكيف صار العنفُ والقتلُ لغةً يتداولُها كثيرٌ من أبناء الإسلام الذين سقطوا في شراك الرؤية السلفيَّة للتوحيد، وسجنتْ سلوكَهم الفتاوى المشتقَّة من تلك الرؤية، فضاع في ضجيجِ تلك الرؤيةِ صوتُ السَّلام والحقِّ والعَدْلِ والإحسانِ والرحمةِ في القرآن. وكأنَّ الإسلامَ لا يعرف أن يتحدَّث لغةً أخرى غير العنف والقتل والموت. حرص الكاتبُ أن يدلَّنا على الكنز المنسيِّ للغةٍ أخرى للإسلامِ يجهلُها أكثرُ الشباب المسلم. لغة يمكن أن تؤسِّس لتديُّن يعرف أن يتكلَّم لغةَ السلام والحق والعدل والإحسان والتَّراحم، ويعرف أن يتذوَّقَ تجلِّياتِ الجمال الإلهي في الوجود. وما أشدَّ حاجتَنا لهذه اللغة بعد أن تفشَّى في لغتنا الدينية كثيرٌ من الكلمات المسمومة.

وجدتُ هذا الكتابَ يحاولُ أن يعيد قراءةَ نصوص الشيخ محيي الدين في سياق مختلف، كأننا معًا نفكر بطريقة متقاربة. أنا أيضًا منذ ثلاثين عامًا ضقتُ ﺑ «تحجير» اللاهوتِ الصِّراطِي للرَّحمة الإلهيَّة؛ لذلك عملتُ على إعادة قراءة بعض نصوص التصوُّف المعرفي، وفي مقدمتها أعمالُ ابن عربي، من أجل بناء رؤيةٍ للتَّوحيد لا تُكَرِّر رؤيةَ المتكلِّمين. على الرغم من أنَّ بذورَ الفكرة توالدَتْ في ذهني قبل أكثر من ربع قرن، وتطورتْ ونضجتْ قبل سنوات حتى ارتسمتْ في ذهني ملامحُ صورتِها الكاملة، لكنَّ الإعلانَ عنها تأخَّر إلى سنة ٢٠١٧م، عندما نشرتُ صورةً أوَّليةً لها في مقالة، ثم شرحتُها بتفصيلٍ أكثر وتنويعاتٍ أشمل في كتابي هذا الذي صدرتْ طبعتُه الأولى سنة ٢٠١٨م ببيروت. تناولتُ كيف تخفق الرؤيةُ التوحيديةُ للمتكلمين في رسم ملامح الصورة الميتافيزيقية القرآنيَّة لله، وكيف تمكَّن محيي الدين بنُ عربي وبعضُ أعلام التصوُّف المعرفي من بناء رؤيةٍ توحيديةٍ تضيء تلك الملامحَ التي يرسمها القرآنُ لصورةِ الله، ويتطلَّب اكتشافها قراءة تغور في طبقات المعنى المكتنز فيها. وتحدَّثتُ في الفصل الأول عن الرحمة الإلهية بوصفها مفتاحًا دلاليًّا لفهم المنطق الداخلي للقرآن، بوصف الرحمة تهيمنُ على مضمونه وتتحكَّمُ بتوجيه بوصلة دلالاته. وكيف كان الشيخ الأكبر وفيًّا للقرآن في بناء صورةِ الله، وصاغ رؤيتَه التوحيديةَ، في سياق قراءةٍ ميتافيزيقيةٍ لآياته، قراءةٍ تخرج على القراءة الحرفيَّة للآيات، وتبرع في عبورِ القشرةِ اللفظيَّة للكلماتِ التي لم يغادرْها أكثرُ المفسِّرين إلى خزائنِ القرآن وجواهرِه. لا يمتلك مفاتيحَ خزائن القرآن إلَّا من يمتلكُ موهبةً استثنائيَّة وبصيرةً روحية تطلُّ على الغيب كموهبة وبصيرة الشيخِ محيي الدين. وذلك ما ألمح إليه الشيخُ بقوله: «فجميع ما نتكلم فيه في مجالسي وتصانيفي إنما هو من حضرة القرآن وخزائنه.»

قرأتُ كتابَ الديري بشغفٍ، وأمتعتْنِي قراءتُه، ولا أشك في أنِّي تعلَّمتُ منه مثلما تعلَّمتُ قبله من كتاباتٍ مماثلة. الأثرُ الجميلُ الذي أطالعه أعيش معه أحيانًا وكأنِّي أتذوَّق مائدةً شهيَّةً بعد جوع شديد. أعذبُ كتابةٍ أتذوَّقها هي ما تكون مرآةً أرى فيها ملامحَ من صورتي، وأستمع فيها إلى بعض ألحانِ صوتِي، وأقرأ فيها شيئًا من مفاهيمي، وتضيء آفاقَ رؤيتي للعالَم. لقد كنتُ مع هذا الكتاب كأني ومؤلِّفه نعزف معًا لحنَ قيثارة واحدة، لحنًا لا نسمع فيه إلَّا نداءَ الأرواح.

إنَّ المنجزَ الأهمَّ للشيخ محيي الدين بن عربي وكلِّ أعلام التصوف المعرفي تتمثَّل في إنتاج رؤية للتوحيد تُحَدِّدُ للدين وظيفتَه كحاجة وجوديَّة لن تستغني عنها كينونةُ الإنسان بوصفه موجودًا، ولن يكون هذا الكائنُ قادرًا على إشباعها إلَّا عبر الصِّلَة الوجوديَّة بالحق، هذه الصلة التي تظهر بأنماطٍ متنوعة تتنوَّع بتنوُّع الأديان. لم يفكِّر ابنُ عربي أو غيرُه من متصوفة الإسلام في وضع الدَّولة تحت وصايةِ الدين، كما فعلتْ جماعاتُ الإسلام السياسي، أو وضع الدين تحت وصاية الدولة كما فعل فقهاءُ السلطان.

شدَّدَ الشيخُ محيي الدين بن عربي على أنَّ الطاقةَ الروحية للدين تكمنُ في فاعليتِه وأثرِه الكبيرِ بتفجيرِ قدراتٍ كامنةٍ لرُوح الكائنِ البشري، وبعثِ وترسيخِ إرادته، بشكلٍ لا يَتَأَتَّى للعقل وحده فعلُ كل ذلك، ويحقِّق الدينُ ذلك لما يتلفَّع به من وهجٍ ميتافيزيقيٍّ. يعود الفضل إليه في الكشف عن تنويعات الوهج الميتافيزيقي للدين، وبيان الحياة الروحية والقيم الأخلاقية والجمالية في القرآن الكريم، وإنقاذ المعرفة الدينيَّة من تقنينات المتكلِّمين والفقهاء الصَّارمة، وما تنتجه تلك التقنيناتُ من سلطةٍ معرفيَّة وتسلط روحي يبدِّد طاقةَ الدين ويُطفئ جذوتَه الخلَّاقة.

لم ينشغَلْ محيي الدين بنُ عربي ببناء نظريةٍ للثورة انطلاقًا من العقيدة، كما فعل لاهوتُ التَّحرير في الكنيسة، ومَنْ قلَّده واقتفى أثرَه في عالَم الإسلام، من المُولَعِين بتحويلِ الإسلام إلى أيديولوجيا للحروب، وإنما أعادَ الشيخُ الأكبرُ الدينَ إلى مجالِه الرُّوحي والأخلاقي والجمالي، واهتم ببناء رؤيةٍ توحيديَّة لا تستنسخ الرؤيةَ التوحيديةَ للمتكلمين بفرقهم المختلفة. لم تُكرِه هذه الرؤيةُ المختلفَ في المعتقد على اعتناق دينها، ولم تفرضْ عليه نمطَ اعتقادِها. وقدَّمتْ فهمًا عميقًا للتنوُّع في الاعتقاد بوصفه تنوُّعًا لصورِ الله في مختلف الأديان، وانعكاسًا لتجلِّيات أسمائِه وصفاتِه المتنوِّعة في العالَم.

من مدونة علم الكلام والفقه تمكنَتْ جماعاتُ الإسلام السياسي اشتقاقَ فهمٍ للدين يختزلُ كلَّ أهدافه في إنتاجِ دولة دينيَّة، وفقًا لقراءة «كلاميَّة فقهيَّة»، وتفسيرٍ سياسي لنصوصه، لكن لم تسمح مدونةُ التصوُّف المعرفي والرؤيةُ للعالَم التي رسمها ابنُ عربي ومَنْ تَرَسَّم نهجَه بذلك؛ لأنها اهتمَّتْ بالكشف عن الأبعادِ الغيبيَّةِ المتنوعة للدين، وتَمَحْوَرَ بحثُها حول إيقاظ شعلتِه الميتافيزيقيَّة. لم تعثر الأدبياتُ التي أنتجَتْها الجماعاتُ الدينيةُ في بلادِنا على رافدٍ يغذِّي مراميَها في هذه المدونة، فخاصمتْها وتَعَاطَتْ معها بتجاهلٍ وفهمٍ مُبْتَذَل ساذج، وحثَّتْ أتباعَها على الابتعاد عنها، إلَّا أنها عثرتْ في مدوَّنة علم الكلام والفقه على ما تنشده من أحلامِ تأسيسِ دولةٍ «كلامية فقهية»، تنفي المختلفَ في الدين، ولا تسمح بحريةِ الضمير الديني، وتسوِّغ إعلانَ التفوُّق على أصحابِ المعتقداتِ الأُخرى، وتشرِّع للتعاملِ معهم «أحكامَ أهل الذمة» التي هي على الضِّدِّ من حقِّ كلِّ مُواطنٍ في الاعتقاد، وتفرض على مواطنيها من غير المسلمين التزاماتٍ وواجباتٍ تختصُّ بهم، لا تُفرض على غيرهم من المواطنين المسلمين، ورأتْ من حقِّها أن تعلنَ الحربَ على آخرين وتسوِّغ قتلَهم، إن كانوا من غير ذوي الذمة، كما فعلَت داعش وأمثالُها.

أودُّ تذكيرَ علي الديري وكلِّ مَن يهتمُّ بالكشف عن القيم الروحية والأخلاقية والجمالية المُلهِمة في ميراث المتصوِّفة إلى أنِّي نَبَّهْتُ أكثرَ من مرة إلى أن تراثَ التصوُّف سيفٌ ذو حدَّين؛ وذلك يفرض على الباحثِ أن يتنبَّه للثغراتِ المختلفة في كتب المتصوِّفة، والوهنِ الذي يتغلغل في طيَّاتها، وأن يتعاطى بيقظةٍ مع آثارهم؛ فهي اجتهاداتٌ بشريَّةٌ وليستْ نصوصًا مقدَّسة. وليعلم أنَّ شيوخَ التصوُّف بشرٌ تورَّطَ مريدُوهم في تقديسِ آرائهم، وتوثينِ سلوكِهم، وتحويلِ شخصيَّاتهم إلى أصنام. وتمادى المريدُ في سجنِ نفسِه بعبوديةٍ طوعيَّةٍ لشيخه، وتعالتْ تعاليمُ الشيخ في وجدان الأتباع فصارتْ سجنًا لهم، بنحوٍ صار المريدُ يرضخُ لها حدَّ محو شخصيته ونسيان ذاته، وانتهتْ إلى تكبيلِهم وشلِّ حركتهم.

نقرأ في مؤلَّفات التصوُّف المعرفي ما لا نقرؤه في غيرها من تراثنا؛ فهذه المؤلَّفات أنتجتْ رؤًى لم تتقيَّدْ في تراثنا بمنطقِ التفكير العقائدي الانحصاريِّ للمتكلمين، الذي يختزل النجاةَ بمن يؤمن بمقولاتِ فرقته الاعتقادية. بعضُ الرؤى في التصوُّف المعرفي يمكنُ أن تصير منطلقاتٍ لما يتطلَّبه عصرُنا من فهمٍ للدين ينبثق من رسمِ صورةٍ لله يضيئها الحقُّ والخيرُ والعدلُ والإحسانُ والرحمةُ والمحبةُ والجمالُ والسلامُ. ولا أظن أنَّنا، خارج إشراقاتِ صورةِ الله هذه، نستطيع أن ننتج تديُّنًا يداوِي جروحَ أرواحِ شبابِنَا الذين اختنقوا بتديُّن متوَحِّش، ويحمي مجتمعاتِنا من القتل العبثيِّ، وينقذ أوطانَنا من الانهيار.

يصعبُ جدًّا وربما يتعذَّرُ الاعتمادُ على بعض مفاهيم ابن عربي وأمثاله لبناء رؤية توحيديَّة تنفتح على المختلف في المعتقد؛ لأنَّ مقولات الفرق الاعتقادية شديدة الرسوخ في تراثنا وواقعنا اليوم، وتغذِّيها باستمرار شبكاتُ مَصالِح متنوِّعة. مضافًا إلى تسلُّحها بالمواقفِ التكفيريَّة المضادَّة؛ إذ كان الشيخُ محيي الدين بن عربي ضحيةَ العشرات من فتاوى التكفير، وكُتِبت عدَّةُ مؤلفات في تكفيره، فمثلًا ألَّفَ برهانُ الدين البقاعي: «تنبيه الغبي على تكفير ابن عربي»، وأفتى أبو زرعة ولي الدين العراقي في المسألة الحادية والعشرين من فتاواه المكِّية: «لا شك في اشتمال الفصوص المشهورة عنه على الكفر الصريح الذي لا شك فيه، وكذلك فتوحاته المكِّية، فإن صحَّ صدورُ ذلك عنه واستمر إلى وفاته؛ فهو كافر مخلَّد في النار بلا شك.» وتضجُّ مؤلفاتُ خصوم محيي الدين بمختلف الاتهامات له، ولا تتردَّد بتكفيره، على الرغم من أنَّ آثاره وأمثاله تخلو من تكفير أي أحد مهما كان موقفُه مناهضًا له وللعرفاء.

ما ألَّفه هؤلاء المتكلمون والفقهاء من ردود على محيي الدين بن عربي كتبوه بلغة غريبة على لغة النظام المعرفي الذي يكتب فيه، وانطلقوا من رؤية ميتافيزيقية للتوحيد على الضد من رؤيته، ونقدوه بمغالطاتٍ لا تفكِّر بمنطقه الخاص، وناقشوه بطريقةٍ لم تستوعب طريقةَ تفكيره. قرأتُ كتاباتٍ لمتكلمين وفقهاء يجادلون محيي الدين بكلمات لا تشترك مع كلماته إلا باللفظ، ولا تنطق بمعجمه ومصطلحاته الدقيقة. مصطلحات محيي الدين وأمثاله خاصة، لا يصح الدخولُ عليها ومحاكمتُها بلغةٍ تتنكَّر لها، وإنْ كانتْ تشترك معها لفظًا، غير أنَّها غريبة عنها مضمونًا. أحيانًا المصطلحات والكلمات المشتركة في معجم محيي الدين تختزن دلالاتٍ على الضد مما يستعملها المتكلمون وغيرهم في مؤلفاتهم.

١  تقديم لكتاب: «لماذا نكفِّر؟ ابن عربي من عنف الأسماء إلى نَفَس الرحمن». تأليف: د. علي الديري، بيروت، مركز دراسات فلسفة الدين ببغداد، ودار التنوير في بيروت، ٢٠١٨م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥