الأفق الذي تضيئه فلسفة الدين
(١) الفلسفةُ والدِّينُ في الغرب الحديث
اقترن اللاهوتُ الطبيعي باسم القديس توما الأكويني (١٢٢٤–١٢٧٤م)، الذي يؤكِّد إمكانيةَ الاستدلال العقلي على المعتقدات اللاهوتية كافة، من دون حاجة للاستعانة بالوحي. واللاهوتُ الطبيعي يقابل اللاهوتَ الوحياني؛ والوحياني هو اللاهوتُ النَّقلي الذي يتَّخذ من الوحي طريقًا للوصول إلى المعتقدات. غير أنَّ اعتماد العقل في إثبات المعتقدات يعود إلى ما هو أقدم من عصر توما الأكويني، فبعض الفلاسفة اليونان استخدموا الأدلَّةَ العقليَّة في البرهنة على وجودِ إلهٍ.
يتجلَّى الروحُ المطلق في ثلاثة أنماط متنوعة هي: الفن والدين والفلسفة. هو يتجلَّى حسِّيًّا في الفن، ورمزيًّا ومجازيًّا في الدين، وفكريًّا مُجردًا في الفلسفة. ويميِّز هيغل بين الرُّوحِ المُطلق بوصفِها كُلًّا، باطنةً ومتطورةً في وعي الإنسانية، وبين إله الألوهية الديني، لكن عدمَ تنبُّه بعضِ الباحثين للفرق بين الله والمطلق الهيغلي، أفضى إلى كثيرٍ من الالتباس وسوء الفهم.
إن فهمَ ماركس وتفسيرَه للدين يختزل الإنسانَ في احتياجاته الماديَّة، من دون أن يستطيع استبطانَ أعماقِ النَّفس البشرية، ومتطلباتِ الروح المزمنة. وهو ما وعاه وعالجه معظمُ الفلاسفة واللاهوتيين ممن سبقوا ماركس أو جاءوا بعده.
كانت مواقفُ فردريك نيتشه (١٨٤٤–١٩٠٠م) من الدين واللاهوت والقيم جذريَّة، وقد تركَت مطالعتُه لمؤلفاتِ آرثر شوبنهور (١٧٨٨–١٨٦٠م) أثرًا واضحًا في مواقفه من الدين واللاهوت والقيم. أَعْلَنَ نيتشه عن «موت الله»، وشنَّ حربًا شرسةً على المسيحية؛ متَّهِمًا إياها بمعاداة الحياة. كذلك رفضَ القيمَ والأخلاق التي تدعو لها، ووسمها بأنها أخلاقٌ للعبيد.
ولم تغادر الفلسفةُ الغربيةُ قضايا الدين واللاهوت والقيم حتى الآن، فمع فلاسفةِ القرن العشرين، والتياراتِ الفلسفيَّة المختلفة التي سادَت في هذا القرن، كالوجودية والوضعيَّة المنطقيَّة والفلسفة التحليليَّة والبنيويَّة والتفكيكيَّة، نعثر على تأويلاتٍ ومواقفَ متنوِّعة لما يتصل بالميتافيزيقا والظواهر الدينية. مضافًا إلى انفتاح العلوم الإنسانيَّة على دراسة الظواهر الدينية، وتحليلها لغويًّا، ونفسيًّا، وأنثروبولوجيًّا، واجتماعيًّا، والكشف عن: منابعها، وتمثُّلاتها، وتعبيراتها المتنوِّعة في الحياة البشرية، والتوسُّع في دراسات مقارنة الأديان، والتعرُّف على: منابعها المشتركة، وجوهرها الواحد، وما تنشده من غايات، ببناء كون قدسي؛ يمثل مأوًى للإنسان، والكشف عن الوشائج العضوية بين المقدَّس والميثيولوجيا في حياة المجتمعات البشرية.
(٢) فلسفةُ الدِّين
السؤالُ الأساسيُّ لفلسفةِ الدِّين سؤالٌ فلسفي، ولا علاقةَ لفلسفة الدين بإيمانِ فيلسوفِ الدين والباحثِ والدارسِ في هذا الحقل أو عدمِ إيمانه، كما هو حال المتكلِّم واللاهوتي في اللاهوت وعلم الكلام. ذلك أنَّ الباحثَ في فلسفة الدين يفترض أن يكون محايدًا؛ يتحرَّى الموضوعية، وما يقود إليه العقلُ والأدلةُ في بحثه؛ فهو لا يعنيه إثبات المعتقداتِ الدينية، مثلما لا يعنيه نفيُها. لا يتوقَّف تفكيرُه عند حدودٍ أو سقف معيَّن لا يتخطَّاه في بحثه، كما يفعل اللاهوتيُّ والمتكلِّم الذي ينطلقُ من مسلَّمات اعتقاديَّة، ولا يكف عن التدليل عليها، من خلال الأدلَّة النقليَّة والعقليَّة.
فلسفةُ الدين واحدةٌ من الفلسفات المضافة، مثل: فلسفة العلم، فلسفة القانون، فلسفة التربية، فلسفة الجمال … وغيرها. فهي لا تختص بدين معيَّن، أو أديان خاصَّة، إنما هي بمثابة فلسفة العلم التي لا تختص بعلم معيَّن، لكن نشأةَ فلسفة الدين في الغرب كانت سببًا لأن تُتداوَل العقائدُ والمقدَّسُ والظواهرُ الدينية في المسيحية واليهودية؛ لذلك اهتمَّت بدراسة مفاهيم: الخلاص، التضحية والقربان، التعميد، التجسيد، التثليث، بموازاة دراسة الظواهر والمعتقدات الدينية المشتركة في غيرهما.
على الرغم من ذلك، تظلُّ الأعمالُ الحديثةُ في فلسفة الدِّين بالغةَ الأهمية؛ لأنَّها تعبِّر عن رؤيةٍ تصدر عن العقلانيةِ الحديثةِ، ورؤياها الحرَّةِ الفسيحةِ، ومغامرتِها الجسورة في المراجعة والنقد، بل شجاعتها في تقويضِ وإبطالِ مفاهيمِها ومواقفِها، وتجاوزِها لحظةَ اكتشاف تهافتِها.
(٣) الاتِّجاهاتُ الأساسية في فلسفة الدين
- (١) اتجاه الوجود — معرفة الله: ويشتمل على أربعةِ مسارات مهمَّة: مسار متأثِّر بأرسطو وتوما الأكويني، مسار متأثِّر بهيغل، آخر متأثِّر بهوسرل، والأخير متأثِّر بهايدغر.
- (٢) اتجاه نقد الدين في الفلسفة التحليلية: ويشتمل أيضًا على مسارَين مهمَّين: المسار الذي يهتم بلغة الدين، هل لها معنًى أم لا؟ والمسار الآخر تَتمَحْوَر قضيتُه الأساسيَّة حول سؤال: هل يخضع كلامُ المتألِّهين للضوابط المنطقية والمعرفية نفسها؛ المعتبرة في علميَّةِ أيِّ كلامٍ آخرَ؟
- (٣) الاتِّجَاهُ المتأثِّر بالعلوم الإنسانيَّة: وهو أيضًا على ثلاثة مسارات مهمة: المسار المتأثِّر بتاريخ الأديان المقارن، والمسار المتأثِّر بالعلوم الاجتماعية، والمسار المتأثِّر بعلم النفس بشكلٍ عامٍّ، وبالتحليل النفسي بشكلٍ خاصٍّ.
- (٤) اتجاه الفنون اللغوية وفعل الكلام الديني: المتأثِّر بفيتغنشتاين المتأخر.
- (٥) اتجاه هرمنيوطيقا لغة الدين: تستند فلسفةُ الدين بوصفِها فلسفةً إلى المنهج العقلي، وعلى الرغم من تعدُّد المناهج في البحث الفلسفي، فإن منهجَ التحليل اللغوي «المنهج التحليلي» هو الأكثر تداوُلًا. ذلك أن «الأثر الذي تركتْه الفلسفةُ الوضعيةُ، ومن بعدها فلسفةُ فيتغنشتاين التحليلية على الفلسفة الأنجلو-أميركية، بعامَّة، انسحب بطبيعةِ الحال، على فلسفة الدين. إن هذا واضح من كونِ جزءٍ كبير من الأدبيَّات المتعلقة بفلسفة الدين تطغى عليها أسئلةٌ تدور حول مشكلةِ المعنى في الدِّين، وطبيعة اللغة الدينية، و«منطق» الخطابِ الديني، وغير ذلك من الأسئلة ذات الطابع السيمانطيقي والميتا-لغوي والمفهومي.»٢٥
مباحث فلسفة الدين
- (١) ماهيَّة الدين: مفهوم الدين، مناشئ وبواعث الدين، أفق انتظار البشر من الدين، أثر الدِّين في حياةِ الفردِ والمجتمعِ، الدين وإنتاج معنًى لما لا معنى له في حياة الإنسان، حدود الدين، وهل هو شامل، أي دنيوي وأخروي، وما حدوده الدنيوية، أو أن حدوده الآخرة خاصة، مجالات الدين، جوهر وصدف الدين، الذاتي والعرضي في الدين، الثابت والمتحوِّل في الدين، تطور الدين.
- (٢) وجود الله: طبيعة وجودِه، براهين وجود الله، صفات الله، أفعال الله، مفاهيم الله والألوهية في الأديان، طبيعة علاقة الإنسان بالله.
- (٣) مشكلة الشرِّ: كيف أن الشرَّ بأشكالِه كلِّها؛ الميتافيزيقي والطبيعي والأخلاقي، والألم الجسدي، والنفسي، والأذى العاطفي، سواء نتج عن الأسبابِ والكوارث الطبيعية، أو عن ظلمِ الإنسان، يطرح بوصفه تحدِّيًا لقدرة الله القادر على كلِّ شيء، ولمحبته، ورحمتِه التي تتَّسع لكلِّ شيء.٢٦
- (٤) الإيمان والعقل والقلب: هل الإيمان منبعُه العقلُ والقلبُ معًا، أو العقلُ فقط، أو القلبُ فقط؟ وهل يتعزَّز الإيمانُ بالعقل، أو أنَّ العقلَ يقوِّض الإيمانَ، كما يشدِّد على ذلك كيركغورد ودعاةُ النزعة الإيمانية؟
- (٥) التجربة الدينية: بيان ماهية التجربةِ الدينية، أنماط التجربة الدينية، إمكانية معرفة صاحب التجربة الدينية بتفسيرها، هل هي عاطفة وشعور بالتبعية للحقيقة الغائيَّة، أو شوق ووجد للحقيقة الغائية، أو هي كشف وإشراق وانخطاف للروح؟ ما الفرق بين تجربة المقدَّس وغيره؟ هل هي تجربة حسِّية وإدراكيَّة؟ هل التجربة الدينية هي حقيقة وجوهر الدين؟
- (٦) الوحي والإيمان: حقيقة الوحي، وهل هو نقل الحقائق الإلهية للبشر، أو هو تجسيد للإله في الإنسان؟ هل الوحي تجربة نبوية خاصة بالأنبياء، أو أنها تتحقَّق لسواهم بالتَّسامي والارتياض الروحي، مثلما يعتقد بعضُ المتصوفة والعرفاء، وإن كان هذا النوعُ المكتسب من النبوة — حسب تسميتهم — هو نبوة إنبائيَّة، وليست نبوةَ إبلاغٍ ودعوة لله؟
- (٧) المعجزات والكرامات والخوارق: طبيعتها، أثرها في الإيمان الديني، شيوعها في الأديان المختلفة، وهل هي استثناء أو خرق للقوانين الطبيعية، أو أنها محكومة بقوانينها الخاصة، المحجوبة عن البشر؟
- (٨) الخلود والبعث والقيامة: مصير الإنسان بعد الموت، مفهوم الموت؛ وهل هو انعدام للشخص البشري، أو أنه انتقال من نشأة إلى نشأة؟ مفاهيم الموت والخلود والبعث المتنوِّعة في الأديان، ومفهوم التناسخ في بعض الأديان وعلاقته بالخلود والبعث، مفهوم القيامة والجزاء الأخروي، والخلاص، والنيرفانا.
- (٩) الدين والعلم: هل ينتميان إلى حقل واحد، أو أنَّ كلًّا منهما ينتمي إلى حقل مستقل؟ هل الدين يتغذَّى ويترسَّخ بالعلم؛ أي على رغم من أنه بموازاة حقل العلم، لكن العلم يدعم الدين، ويضيف له على الدوام — مع تقدمه — براهين وتفسيرات وآفاقًا جديدة؟
- (١٠) المعرفة الدينية: هل المفاهيمُ الدينيَّة ذاتُ معنًى، أو أنها تفوق المعارفَ البشريَّة وتختلف عنها؟ ما العلاقةُ بين المعرفة الدينيَّة والمعارف البشرية؟ هل المعرفةُ الدينيَّة ثابتةٌ أو متغيِّرة؟ هل تتطوَّر المعرفةُ الدينيَّة وتتكامل تبعًا لتطوُّر وتكامُلِ المعارف والعلوم البشرية؟
- (١١) الدين والأخلاق: هل تنشأ الأخلاقُ من الدين، أو ينشأ الدينُ من الأخلاق، أو أن أحدَهما جزءٌ من الآخر، أو لا علاقةَ بينهما، أو أنهما يلتقيان أحيانًا في موارد، فيما يفترقان في موارد أخرى؟
- (١٢) التعدُّدية الدينية: هل الأديان تجلٍّ متنوِّع لحقيقةِ الله الواحدة، بمعنى أن هناك حقيقةً تتعدَّد تجلياتها والسُّبل إليها، تبعًا لتعدُّد وتنوُّع الأديان؛ ومن ثم فالكلُّ مشمولون بالنجاة والخلاص، أو أن هناك ديانةً واحدةً حقَّةً وما سواها باطلة، فمَنْ لا يعتنقها لا أملَ له بالنجاة؟ وهل التعدُّديَّة الدينية هي تعدُّدية على مستوى المعرفة، أو تعدُّدية على مستوى النجاة، أو تعدُّدية على مستوى التعايش؟
- (١٣) لغة الدين: هل لغةُ الدين عُرْفِيَّةٌ، بنحوٍ تكون إفادتُها للمعاني بأساليب اللغة المتداوَلة نفسها في استعمال المجتمعات البشرية للغة، أو أنها لغة رمزية، كما يقول بول تيليش: «إن لغة الإيمان هي لغة الرموز … الإيمان إذا ما فهمناه على أنَّه حالة من الهم الأقصى، فإنه ما من لغة له سوى الرموز» …٢٧ هل لغة الدين لغة تماثليَّة، كما يقول توما الأكويني، بمعنى أنَّ صفة الخير لا يتطابَقُ معناها حين نحملها على الله وعلى البشر؛ ذلك أنَّ نحوَ الخيريَّة مختلفٌ، لكنَّه غير مباين، وإنما هو مشكك. هل لغة الدِّين لا معنى لها، أي خالية من المَعْنَى، أو هي بمثابة ألعابٍ لغويَّة، كما يقول فيتغنشتاين؟
- (١٤) الهرمنيوطيقا: يُعرفُ الإنسانُ بوصفه «كائنًا هِرْمِنيوطيقيًّا، أي هو ذلك الكائن الذي يمكنه، بل يلزمه أن يُترجم الوجود — أي كلُّ ما يقع في أفق تجربته الوجودية — محوِّلًا إياه إلى عالَمه الخاص الداخلي؛ لكي يُدرِكه ويفهمه.»٢٨
الهرمنيوطيقا حين تُستخدم في تأويل النصوص الدينية، تُحَرِّرُ الدينَ من سِجْنِ الماضِي، وتمنحُه طاقةً إضافيَّةً جديدةً للحضور في العصر. لا أحدَ من فلاسفة الدين إلَّا ويعتمد الهرمنيوطيقا في دراسةِ النصوص وتفسيرِ الظواهر الدينية. كلُّهم هرمنيوطيقيون، يشتغلون بتأويل النصوص، ويعيدون صوغَ مفاهيم الدين. حين تغيب الهرمنيوطيقا، يلبث المفسِّرُ غارقًا في التفسيرات التراثية؛ وقتئذٍ يفتقر الدينُ لإنتاج معنًى جديدٍ يمنحه لإنسان زمن جديد.
تتخشَّب اللغةُ عادةً في عصور الانحطاط، ويتفشَّى فيها التكرارُ، وتنضب دلالاتُها إثر الاستعمالِ التُّراثي لها، وتراكُمِ طبقات دلاليَّة تنتمي إلى مراحل مسيرة المجتمع التاريخية المختلفة. وإذا تجمَّدت اللغةُ يتجمَّد الفكر، تجديد الفكر يقترن بتجديد اللغة. الهرمنيوطيقا تفتح أفقًا بديلًا لإنتاجِ المعنى وإثراءِ الدلالة وتجديدِ اللغة؛ بعبورِ الطبقات الدلالية التي راكمها الماضي، واستلهامِ روح ومقصد المعنى المحجوب الذي يَعِدُ به النصُّ الديني إنسانَ الغد.
(٤) ما ترمي إليه فلسفةُ الدين
وينخرط اليوم جماعةٌ من الكتَّاب بالترويج لأشعرية وغزالية وتيمية جديدة، تنشغل بالثناء على مقولاتهم وشرحها بلغةٍ حديثة، وتُسرف في تبجيلهم، وخلعِ الكثير من الألقاب عليهم. لا أعرف لماذا يتواطأ بعضُ الباحثين في الدراسات الإسلامية مع هؤلاء المؤلِّفين، ويوهموننا بأن كتاباتِهم إنما هي ابتكار ﻟ «فلسفة الدين» في الإسلام اليوم. في حين يعرف الخبراءُ بآثارهم أنها ليست سوى محاولاتٍ لتقويض وإجهاض أي مسعًى جديد للتفكير الفلسفي في الدين.
لا يمكننا تجديد الفكر الديني في الإسلام إلَّا بالخلاصِ من الأنساق اللاهوتية المتوارَثة، التي يجري فيها خلطٌ وتلبيسٌ بين اللهِ وتصوُّر البشر لله، بين المقدَّسِ وتصوُّر البشر للمقدَّس، بين الدينِ ومعرفةِ البشر للدين. وبفضحِ العُنف والظلم والتعسُّف والطغيان، الذي ظل على الدوام يستغل صورةَ الله، ويمارس العدوانَ ويسفكُ الدِّماءَ باسمه، فقد أضحتْ مجتمعاتُنا ضحيةَ رؤيةٍ ميتافيزيقيةٍ للعالم تتحدَّث مع الأموات، ينتجها تفكيرٌ على الضد من منطق التفكير العقلاني اليوم، يتغذَّى من تراثٍ غزيرٍ من اللامعقول، ويقعُ في أسرِ علمِ كلامٍ قديمٍ، لم يعد يتبصَّر قلقَها الوجودي ولا يدرك منابعَ ضغائنها.
تعدنا فلسفةُ الدين بالكشف عن النِّظام المعرفي السائد في القرون الأُول للإسلام، والذي أنتج لاهوتَ المعتزلة والأشاعرة والشيعة، وكيف أن هذا النظامَ المعرفي انبثق عن العقلانية والفضاء المعرفي لعصره، وتلك العقلانيةُ لم تعُد معبِّرةً عن نمطِ وجودنا وفهمِنا للحياة والكون اليوم.
تُتيح فلسفةُ الدين لنا قراءةَ تاريخِنا الرُّوحي، ومعرفةَ كيفيةِ إنتاج المعنى فيه، والعلاقة بين السلطة وإنتاج المعنى. وتمنحنا أفقًا تأويليًّا بديلًا؛ يتيح لنا تجاوزَ أفق التأويل التاريخي للدين الذي أنتجه أفقُ انتظار السلف، ورؤيتُهم للعالم، والنظامُ المعرفي الذي يفرض عليهم طريقتَه في فهم الدين وتفسير نصوصه. لكل عصر تأويلُه للدين، والتأويلُ له عمرٌ يتناغم وإيقاعَ العصر الذي أنتجه، ولولا انبثاقُ تأويلٍ آخرَ لا يمكن أن تتسع رسالةُ الدين وتمتد إلى ما هو خارج محيطها وأفقها التاريخي الذي وُلِدَتْ فيه.
لا يكفُّ فيلسوفُ الدين عن البحثِ والتحليل والتفكير الحر، لشرحِ وبيانِ المعتقدات والمناسك والشعائر، والتوغُّلِ عميقًا في اكتشاف ما هو جوهري في الدين، والتعرفِ على طبيعة التجارب الدينية، وتنوُّعها، تبعًا للأديان والمجتمعات والأشخاص، ومقاربةِ المسائل الدينية من منظور فلسفي، والتفكيرِ فيما هو مشترَكٌ في الأديان، وعابرٌ للحدود الاعتقادية والإثنية والتاريخية والجغرافية والرمزية.
فيلسوفُ الدين يتبصَّر بعمقٍ التجربةَ التاريخيةَ للدين، ليكتشف أن معظمَ حروب الأديان تعود إلى التَّوظيف البشري للدين خارج حقله. تعدنا فلسفةُ الدينِ ببيان أنماطِ التمثُّلات البشرية الزمنيَّة المتغيِّرة للدين، وما يلابسها من تشوُّهات وإكراهات وتعصُّبات وعُنف، تتَّصل عضويًّا باستغلالِ الدين واستخدامِه قناعًا لانتهاكِ قيم الكرامة والحرية والعدالة، وأداةً للتسلط والتعسف والاستغلال في حياة المجتمعات.
إن شغفَ الإنسانِ بالتفتيش عن المعنى لا يتوقَّف ما دام حيًّا، وفلسفةُ الدين تتيح لنا التعرُّفَ على المنابع العميقة للمعنى الديني، الذي يرتوي به الظمأُ الأنطولوجيُّ للرُّوح البشرية.
الأول الفلسفة النظرية، أو الحكمة النظرية: هي التي يطلب فيها استكمال القوة النظرية من النفس، بحصول العقل بالفعل.
الثاني الفلسفة العملية، أو الحكمة العملية: هي التي يطلب فيها أولًا استكمال القوة النظرية، بحصول العلم التصوُّري والتصديقي بأمورٍ هي أعمالنا، ليحصل منها ثانيًا استكمالُ القوة العملية بالأخلاق. وبكلمة أخرى: الحكمة المتعلِّقة بالأمور العملية التي علينا أن نعلمها ونعملها تُسمَّى حكمة عملية، أما الحكمة المتعلِّقة بالأمور النظرية التي علينا أن نعلمها وليس علينا أن نعملها فتسمى حكمة نظرية.
ويندرج تحت الحكمة النظرية:
(أ) الإلهيات:
وتسمَّى العلم الإلهي، والعلم الأعلى، والعلم الكلي، والميتافيزيقيا (ما وراء الطبيعة)، والفلسفة الأولى تمييزًا لها عن الرياضيات المسماة الفلسفة الوسطى؛ ذلك أنها تقع في مرتبة متوسطة بين الطبيعيات والإلهيات. وتعدُّ الإلهيات لدى القدماء أشمل وأوسع من غيرها من العلوم، مضافًا إلى أنها برهانية ويقينية أكثر من غيرها.
وتنقسم الإلهيات إلى:
- (١) الأمور العامة: وهي العنوانات والأحكام والصفات التي لا تختصُّ بموجود دون سواه، وإنما تسري في جميع الموجودات، ويتَّصف بها الموجودُ بما هو موجود، ولا يشترط أن يكون الموجودُ المتصف بها له ماهية معينة؛ لأنها تشترك فيها الموجودات، مثل: الحدوث والقدم، والوجوب والإمكان، فكل موجود إما أن يكون حادثًا أو قديمًا، وكل موجود إما أن يكون واجبًا أو ممكنًا. ويُعبَّر عنها ﺑ «الأحكام العامة للوجود»، و«الإلهيات» بالمعنى الأعم.
- (٢) معرفة الله: ويدور البحث فيها حول وجود الباري، وتوحيده، وصفاته، وأفعاله، وما يرتبط بذلك من مسائل. وتسمى «الإلهيات بالمعنى الأخص»، في مقابل «الإلهيات بالمعنى الأعم».
وتسمى العلم الأوسط، والفلسفة الوسطى، لوقوعها في مرتبة متوسطة في سُلَّم المعرفة بين «الإلهيات» و«الطبيعيات».
(ﺟ) الطبيعيات:
وتسمَّى العلم الأدنى، والفلسفة الدنيا؛ لأنها تقع في أدنى المراتب في سُلَّم المعرفة، وفوقها تقع «الرياضيات»، فيما تكون «الإلهيات» العلم الأعلى. وهي تبحث في أحوال الأجسام الطبيعية.
انظر: عبد الجبار الرفاعي، مبادئ الفلسفة الإسلامية، بغداد، مركز دراسات فلسفة الدين، ٢٠٠٧م، ج١: ص١٢–١٦.
Hick, John, H., Philosophy of Religion, 3rd ed. (Englewood Cliffs, New Jersey, Prentice-Hall Inc., 1983), p. 1.