التصوُّف المعرفي وعلم الكلام رؤيتان للتوحيد
(١) التصوُّفُ المعرفي وسؤالُ المعنى
سؤالُ المعنى من أقدمِ الأسئلة، ما زال يتكررُ، وتتنوَّعُ إجاباتُه بتنوُّع المجتمعاتِ والأديانِ والثقافاتِ. ما هو مشترَكٌ بينها هو البحثُ عن كلِّ معنًى يستجيبُ للمتطلَّبات الأساسية لحياة الإنسان، الجسديَّةِ والسيكولوجيَّةِ والأنطولوجيَّةِ، ويزوِّدُ الإنسانَ بطاقةٍ إيجابية، تكفلُ له خلقَ حالةِ توازُن بين مختلفِ احتياجاته. المعنى الذي أعنيه هنا هو كلُّ معنًى يجيب عن سؤال الوجود والمصير، فيخفض وتيرة القلق الوجودي الذي يفترس حياة الإنسان إلى أدنى حد، ويحميه من وَحشة الوجود، ويمنحه مزيدًا من طمأنينة القلب وسكينة الروح.
الافتقارُ لمعنى الحياةِ من أَعْمَقِ أزماتِ عالَمنا اليوم، أكثرُ الناس يبحثون عن معنًى فيما يفتقر للمعنى الذي يفتقر إليه وجودُهم، أو يبحثون عن معنًى فيما هو على الضدِّ من المعنى الذي يفتقرُ إليه وجودُهم، فيسقطون في متاهات اللامعنى، ويغرقون في التِّيه، وهو أقسى تعبيرات حالة الضياع الوجودي الذي يتخبَّطُ فيه كثيرٌ من البشر.
للمعنى منابعُ متنوِّعة، الفنُّ من منابعِ المعنى الأساسية. حاجةُ الإنسانِ إلى الفن وتذوُّقِ الجمال عميقةٌ وأبديَّة. مناهضةُ الجماعات السلفية للفنون وانحسارها من العوامل الأساسيَّة لحضورِ التطرُّف والتديُّن المتشدِّد في مجتمعاتنا. المصدرُ الميتافيزيقي من أغنى منابع المَعنى، بوصفه يستجيب للحاجة الأنطولوجيَّة الوجوديَّة، وهي من أشدِّ حاجاتِ المعنى الذي يبحث عنه الإنسان.
نشأ التصوُّف بوصفه محاولةً لاسترداد الدين لوظيفته بوصفه نظامًا لإنتاج معنًى روحي وأخلاقي وجمالي للحياة، وليسترد الدينُ المعنى الذي تحتاجه حياةُ الإنسان، غير أن ذلك المعنى ضاع من أكثر المتصوِّفة. في بدايته كان التصوُّف بصيرةً مُلهِمةً، لكن انطفأ ضوءها لاحقًا، عندما ضيَّع المتصوِّفةُ دينَ المعنى في زوايا العزلة والهروب من المجتمع، والخضوع وانقياد المريد الأعمى لشيخ الطريقة.
التصوُّفُ المعرفي في تراثنا مَنْجَمٌ ثمين للمعنى الميتافيزيقي والروحي والأخلاقي والجمالي، غير أنَّ اكتشاف ما تزخر به طبقاتُ هذا المنجم يتطلَّب وجود مُكْتَشِفٍ بارع يغوص في تلك الطبقات، فيصطاد الجواهرَ الغاطسة في ركام مَنْجَم فحم، مدون بلغة ضبابية أحيانًا، ولا يخلو من فائض أقوال وعبارات وشروح مملَّة في بعض المؤلفات، مشوبة أحيانًا بالحثِّ للانصراف والتفرغ لتطبيق توصيات شيخ الطريقة، التي تروِّض الإنسان على تصوُّف الاستعباد.
أشير هنا إلى أني أفضِّل استعمالَ مصطلح العرفان والعرفاء، بدلًا من التصوف والمتصوفة؛ لأنَّ إسقاطات المتكلِّمين والفقهاء وأحكامهم السلبيَّة على مصطلَحَي التصوُّف والمتصوفة قَلَبَ دلالتَهما وجعلهما يفتقران لكل معنًى جميل. ويصطلح بعضُ الدَّارسين على التصوُّف المعرفي «التصوُّف الفلسفي»، والشيعةُ المتأخِّرون يسمُّونه «العرفان النظري»، تمييزًا له عن «العرفان العملي» الذي هو التصوُّف السلوكي. يدرس التصوفُ المعرفي طبيعةَ الحياة الروحية، ويحلِّل أشواقَ الروح وحالاتِها المتنوعة، ويعمل على التعرُّف على خبراتِها وتساميها في السَّفر إلى الله، وبيانِ أنماط حالاتِها وكيفياتِها وحقيقتها، ويحاول الاستدلالَ عليها.
ظهرت النواةُ الجنينية للتصوُّف المعرفي مبكرًا في نصوص أبي يزيد البسطامي «ت٢٦١ﻫ»، والحسين بن منصور الحَلَّاج المصلوب سنة «٣٠٩ﻫ»، ومحمد بن عبد الجبار النفري «ت٣٥٤ﻫ»، وفي شيء من آثار متصوفة بغداد. وأسهم في بناء أسسه حكماءُ وعرفاء أمثال شيخ الإشراق شهاب الدين السهروردي المقتول سنة «٥٨٦ﻫ»، وعبد الحق بن سبعين «ت٦٦٩ﻫ»، وصدرُ الدين القونوي «ت٦٧٢ﻫ»، وجلالُ الدين الرومي «٦٧٢ﻫ»، وعبد الكريم الجيلي «ت٨٠٥ﻫ»، وعبد الرحمن الجامي «ت٨٩٨ﻫ» … وغيرهم، كلُّهم طبعوا بصمتَهم في إنتاج تراث معرفي وروحي وأخلاقي ثمين، على تنوع تعبيراتهم بتنوع اجتهاداتهم، خارج نظام الاعتقاد المغلق الذي صاغه المتكلمون لبناء المقولات الاعتقادية لفرقهم، كما تعدَّدت رؤية أولئك الحكماء والعرفاء للوجود بتعدُّد خبراتهم الدينية، وتجاربهم الروحية وتكوينهم المعرفي. كلٌّ منهم رسمَ لوحتَه الميتافيزيقية لله وعوالم الغيب، وفي ضوئها رسمَ معالم طريق أسفاره إلى الله.
تكاملت وتعمقت معالمُ الأركان النظرية للتصوُّف المعرفي في آثار محيي الدين بن عربي «ت٦٣٨ه»، واتضحت بعد أن رسمَ لوحةً ميتافيزيقية يُمهِّد فيها لخارطة طريق توصل وجودَ الإنسان بالله، طريق يسافرُ فيه الإنسانُ إلى الله من دون أن يتلوثَّ بالكراهية والدماء، طريق يحتفلُ بتحويل الإيمانِ حُبًّا والحُبِّ إيمانًا، طريق يحمي الإنسانَ من العنف والشرِّ المقيم في الأرض.
لا أريد أن أُبشِّر بذلك، ولستُ داعيةً للانخراط في عرفان محيي الدين وأمثاله؛ لأني أعرفُ أن كلَّ تصوُّف يعكسُ تجربةَ المتصوف ونمطَ ارتياضه الروحي، وأن التصوُّفَ مرآةٌ للأفق التاريخي الذي كان يعيشُ فيه المتصوف. ما أنشده يتمثل في أن هذا التراثَ يمكنُ أن يجري توظيفُ شيء من عناصره الحيَّة؛ لإعادة بناءِ رؤيةٍ ميتافيزيقية للتوحيد، تحمي حياةَ أهل الأرض وعيشَهم المشترك من رؤية علم الكلام القديم للتوحيد، التي تحتكرُ الخلاصَ والنجاةَ في الدنيا والآخرة بمن يعتقد بها خاصة، وتحرِّر المسلم من آثار ما ينتجه هذا الاحتكارُ من فشلٍ لجهود العيش المشترك، في وطن واحد بين المختلفين في المعتقد.
التصوُّفُ السُّني يفتقر لوعي يقظ وشجاعة تحرِّره من أسوار مدوَّنة المتكلِّمين؛ لذلك تحوَّل هذا التصوُّفُ من كونه توقًا لحرية الإنسان واستعادةً لذاته المهدورة، ومسعًى لخلاصِ روحه وإنقاذِها من اختناقات الروح بمقولات المتكلِّمين، وتحريرِ ضميره من حرفيَّة بعض أحكام مدوَّنة الفقه المفارقة للأخلاق، فانقلب إلى كلِّ ما هو على الضدِّ من حرية الروح والضمير، وأضحى المتصوِّفُ مستَلبًا خانعًا ذليلًا عاجزًا، غائبًا عن ذاته، قبل غيابه عن الحياة والعالَم الذي يعيش فيه، بل صار يتلاعب بمشاعره أحيانًا بعضُ المشعوذين المحتالين ممن يزعمون أنهم ورثةٌ للشخصيات المُلهِمةِ للروح، والموحيةِ لأجمل المعاني في الحياة.
التصوُّفُ السلوكي «الطُّرُقي» لا يثري أفقَ وعي الحقيقة، ولا يمنحُ الإنسانَ القدرةَ على تذوُّقها، ويعملُ أحيانًا على إجهاضِ العقلِ وتبلُّد الذوق. بدراسة ومعايشة نصوص العرفاء كمحيي الدين بن عربي والحلاج والبسطامي والنفري وجلال الدين الرومي، يتَّسعُ أفقُ الإنسان لوعي الحقيقةِ الدينية، ويمتلكُ خبرةً في تذوُّقها. المؤسفُ أنَّ مآلاتِ التصوُّف المعرفي أمستْ أيضًا على الضد من بداياته، بعد أن فشل الأتباعُ في التقاط مغزاه الدقيق، وما يهدف إليه من بناء صلةٍ حيويَّة للإنسان بالله، تحميه من اغترابه الوجودي، فغرق هذا اللونُ من التصوُّف في متاهاتِ الغلوِّ في الأقطابِ والأولياءِ وتوثينِهم.
(٢) الرؤيةُ التوحيديةُ للتصوُّف المعرفي
هذه الرؤيةُ التوحيديةُ تؤسِّس لصِلَةٍ حيَّةٍ للإنسان بالله، ينبع منها فهمٌ روحاني أخلاقي للدِّين، وقراءةٌ للقرآن في سياقٍ يُعْلِي من مَكَانَةِ الإنسان، ويحمي كرامتَه، ويجعله يرى الناسَ بمرآة الحق وليس بمرآة الخلق. وكما تصير صلةُ الإنسان بالله في أفق هذه الرؤية عضويَّة، كذلك تصير صلةُ الإنسانِ بالإنسان عضويَّةً، بوصف الإنسان هو المرآة المُفصِّلة لأسماء الله، والتي تظهر فيها صفاتُه التي يتجلَّى فيها لخلقه. ولما كان الإنسانُ بهذه المكانة، فيكون كلُّ شيء لأجل الإنسان بما في ذلك الدين؛ لأن الدينَ لا ينشد إلَّا التَّساميَ بالإنسان وإسعادَه.
(٣) الرحمةُ بوصفها أساسًا لأنسنةِ الإنسان
في ضوءِ الرؤية التوحيديَّة التي تذهبُ إلى أنَّ اللهَ يتجلَّى للكل، كلٌّ منهم يراهُ على شاكلتهِ، وبما يتَّسع إليه وعاءُ وجودهِ، تنبثقُ منظومةٌ بديلةٌ لمعايير المعنى الروحي والأخلاقي والجمالي في حياة الإنسان، تتعاطى معه بوصفه إنسانًا، بغضِّ النظر عن الجغرافيا الاعتقادية والدينية التي ينتمي إليها. في سياق هذه المعايير تسهم الرحمةُ في تحديد الموقف من الآخَر المختلِف، ويكون لها أثرٌ ملحوظٌ في كيفيةِ التعامل معه وبناءِ نمط العلاقة به.
ذلك بإيجاز شديد المدلولُ الاجتماعي الإنساني للاهوت التصوُّف المعرفي؛ لأن هذا الفهمَ في كل الأديان على الضدِّ من الاستبداد؛ فقد أدرك الاستبدادُ مفاعيلَ هذا النمط من الفهم الإنساني للدِّين، وتأثيرَه في تهشيم مرتكزات تسلُّطه وسطوته على حياة الناس؛ لذلك أصرَّ على نبذه ومطاردته.
(٤) التعدُّدية والتنوُّع
كان عالَمُ الإسلام، وما زال، محكومًا برؤيةٍ توحيديَّة كلاميَّة، تُملي على مَن يتبنَّاها شعورًا بأنَّ معتقدَه هو الحقُّ وكلَّ ما سواه باطل، وأنه لا يظفر بالنجاة إلَّا بالتشبُّث بهذه الرؤية، وأنَّ من حقِّ المؤمن بهذا المعتقد احتكارَ تمثيل الله في الأرض. وهي رؤيةٌ سلبيَّة إقصائيَّة، غيرُ منفتحة على الفِرَق والمذاهب والأديان، في سياقها تشكَّلت المدونةُ الفقهية، وانبثق منها معظمُ ما يتحكَّم في سلوكِ المسلم من قيم ومعايير في العلاقات الاجتماعية والشئون المعيشية، تجاهلتِ التنوُّعَ في الحياة البشرية، ولم تعبأ بالحق في الاختلاف؛ لذلك لم تجد التعدُّديةُ الفضاءَ الملائم لولادتها في تربتها، بعد أن حصرت الحقيقةَ والحقَّ والنجاةَ في الفرقة الناجية.
لاهوتُ التصوُّف المعرفي لا يدعو المؤمنَ به للاعتقاد بأنه الوكيلُ الوحيدُ لله، والناطقُ الحصري باسمه في الحياة، وأنه هو فقط مَن له الحقُّ بامتلاك الحقيقة دون سواه، وإنما يمنحه رؤيةً فسيحةً تسمح له بقبول تعدُّدية المعتقَد واحترام الآخَر المختلف، بوصف الآخَر مظهرًا وجوديًّا لاسم من الأسماء الإلهية المتنوِّعة، فتكون التعدُّديةُ في الأرض انعكاسًا لتعدُّدية الأسماء في العالم الربوبي.
الرؤيةُ التوحيدية التي تبنَّاها التصوُّفُ المعرفي رؤيةٌ إيجابية، منفتحةٌ على الفِرَق والمذاهب والأديان، لكنها ظلَّتْ مُحاصَرةً في حدود نخبة ضيِّقة على الدوام، ولم تسمح لها السلطاتُ السياسية والدينية بالعبور من الهامش إلى المركز في حياة المسلم. الرؤية التوحيدية للتصوُّف المعرفي تختلف كليًّا عن تصوُّف مشتقٍّ من الرؤية التوحيدية لعلم الكلام. الرؤية التوحيدية لعلم الكلام مغلقة لا تقبل التعددية، مَنْ يقول بعقيدة الفرقة الناجية لا يقبل التعددية. هناك محاولات يقوم بها البعض لجمع رؤية المتكلمين والتصوف المعرفي، وهي محاولات يشوبها تلفيق وخلط رؤًى متنافرة، للاختلاف العميق في الرؤية التوحيدية في علم الكلام القديم عن رؤية التصوف المعرفي.
(٥) سعة فضاء النجاة
(٦) الرؤيةُ التوحيديَّةُ في علم الكلام
العقلُ الكلامي يُنتِجُ معنًى للدين على شاكلته؛ لذلك يعجزُ هذا العقلُ عن إنتاج معنًى روحي وأخلاقي وجمالي للدين، كما نقرأ ذلك في بعض آثار العرفاء. رؤيةُ المتكلِّم للوجود تختلفُ عن رؤية العارف للوجود، لكلٍّ منهما لغتُه في التواصل مع الوجود والحضور فيه والتعبير عنه. قلبُ العارف يسافرُ في عوالم الميتافيزيقيا، ويغترفُ من إشراقات الأنوار الإلهية، ويتحدث عنها بلغة لا تبوح بها إلا أسرار القلوب، وإن كانت هذه اللغة لا تبدو منطقيةً على وفق منطق تفكير المتكلم.
معادلةُ إنتاج معنًى لوجود الإنسان وحياته ملتبسة مشوشة لدى المتكلم، ينشأ الالتباسُ والتشوش من اختلال التوازن بين متطلبات العقل والروح والقلب. تحقيق التوازن صعب جدًّا، أحيانًا يكاد يكون متعذرًا، في مجتمع قلما يحضر فيه التفكير العقلاني النقدي. متطلبات الروح كثيرًا ما أطاحت بتفكير العقل وحججه، وطالما كانت أشواق القلب على الضد مما يهتدي إليه العقل. ينهار التوازن حين يغرق الإنسان في متطلبات الروح ويُعطِّل العقل، وقد ينتهي ذلك إلى الغرق في اللامعقول والخرافة، وهو مصير سقط فيها كثيرٌ من المتصوِّفة. حين ينسى الإنسانُ متطلباتِ الروح والقلب ينتهي إلى اغتراب وشعور مرير بوحشة الوجود.
العقلُ هو المرجعيةُ في إصدار أيِّ حكم على أية قضية في الدين والدنيا. الأديانُ والمقدسات تتضخَّم في المتخيل باستمرار، لا يضع هذا التضخُّمَ في حدوده إلا العقلُ. يظلُّ العقلُ هو المرجعية الوحيدة في اكتشاف المتخيل وبيان حدوده وآثاره.
علاقةُ الإيمان بالاعتقاد علاقةٌ عضويةٌ تفاعليةٌ تبادلية، بمعنى أن الإيمانَ يولد في فضاء الاعتقاد، ويكون من جنسه، فلو كان الاعتقادُ حرًّا ينتجُ عنه بالضرورة إيمانٌ حر، ويوفر هذا الإيمان مناخاتٍ يكتسب فيها الاعتقادُ مزيدًا من الانفتاح والحرية. وكما ينشأ الإيمان الحر في فضاء الاعتقاد الحر، تتطوَّر معتقداتُ الحريات والحقوق في فضاء إيمان الحرية، في حين تترسخ في فضاء إيمان الاستعباد معتقداتُ العبودية.
لا تتحدَّث الرؤيةُ التوحيدية الكلامية عن صلةٍ وجوديةٍ للإنسان بالله، بل هي رؤيةٌ تسرف في التَّجريد، وصياغةِ صورة لا يكاد الإنسانُ يتلمَّس فيها شيئًا مما تتذوَّقه روحُه، ويشهده قلبُه، ويضيء حواسَّه الباطنية، تخلق هذه الصورة هوةً لا متناهية بين الله والإنسان، يضيعُ فيها الإنسانُ فيغترب في منفًى، لا يتحقَّق له فيه أيُّ شكلٍ من أشكال الصلة الوجودية الحيَّة بالله، وربما ينتهي ذلك إلى سقوطه في متاهات العدمية. تذهب هذه الرؤيةُ إلى أنَّ مهمة الإنسان في الأرض تنحصر في أن يوظِّف حياتَه كلَّها وكلَّ شيء لخدمة الدين، أما عوائدُ ذلك فيستوفيها غدًا في الحياة الآخرة، بدلًا من أن يصير الدينُ ملهِمًا لطمأنينة وسكينة وسعادة الإنسان في الحياة الدنيا.
كلَّما تمادَت الرؤيةُ التوحيديَّة في التجريدِ الذهني، وخلقِ هُوَّةٍ لا متناهيةٍ بين اللهِ والإنسان، مهَّدت لتمادي الإنسان في العنف؛ لأنَّ مثلَ هذه الرؤية تنتهي إلى مجموعةٍ من المقولاتِ المُحَنَّطة العاجزة عن إيقاظ الروح. والعاجزة عن أن تكون محركةً للإنسان في سفره الإلهي، وتصيِّر العقيدةَ ميكانيكيةً تقطع الصلةَ الوجوديةَ بين الله والإنسان، وتُمْعِنُ في تغييبِه عن ربِّه، ونبذِه في محلٍّ مُوحِشٍ يتعذَّر عليه أن يلتقي اللهَ فيه.
وكما تقطع هذه الرؤيةُ الصلةَ الوجوديةَ بين الله والإنسان، تعجز عن بناء صلةٍ للإنسان بالإنسان؛ إذ يعمل المنفى عن الله الذي يسقط الإنسانُ فيه على اغترابِه وهشاشةِ صلته بالإنسان، وذلك ما يُمهِّد لعنف الأديان. لعل ذلك ما كان عاملًا خفيًّا للتشديد على العنف الديني، وتسويغِ أشكاله المختلفة. التَّمادي في بناءِ علاقةٍ سلبيَّةٍ بين اللهِ والإنسان، يرسم صورةً للهِ مفارقةً للإنسان وغريبةً عنه تمامًا، ويعمل على اجتثاثِ أيَّة صلة حيَّة للبشر به، وتلاشي أيَّة وشيجة وجوديَّة للخلق بالحق. إنها رؤيةٌ تُفسِّر التوحيدَ تفسيرًا حرفيًّا مبسَّطًا؛ إذ تضع اللهَ في مقام قصيٍّ، وتهبط بالإنسان إلى أحقرِ مقام، لا يتحقَّق فيه للإنسان أيُّ لقاءٍ بالله، أو حضورٍ بحضرته، فيعيش الإنسانُ حياةَ تشرُّدٍ مريرة.
المؤمنُ الحقيقيُّ عابدٌ بوجودِه وروحِه وقلبِه. عابدٌ لله، مطيعٌ بحرية، مطيعٌ له طاعةَ المُحِب، الذي ليس بينه وبين مَحْبُوبه مسافةٌ وإكراهٌ وإجبار. تتحوَّل العبادةُ على هذا النحو إلى انجذاب حميمي، وحُب متجلٍّ في الجوارحِ كلِّها، ووجوده كلِّه. حُبٌّ يترجمه وجودُ الإنسانِ في كلِّ تجلِّيَاتِه، ابتداءً من اليومي، واستمرارًا وصعودًا مع المفارِق والعابِر، بأن يتصل الحسُّ والشعورُ والتعقُّلُ بالحُبُورِ والدَّهشةِ اللامتناهية، ولذَّةِ الانكشاف والاكتشاف المستمرَّة. المحبَّةُ صلةٌ بالحياة لا تكفُّ عن الولادة كلَّ آن. الطريقُ إليها لا يمر إلَّا عبر الولادةِ كل يومٍ من أرحام الظلمات والجهل والإكراه والخوف. يمكن أن يولد الإنسانُ كلَّ يوم بالحُب كما وُلد أول مرَّة بالحُب.
(٧) الاغتراب الميتافيزيقي
تفرضُ رؤيةُ الكائنِ البشري للعالَم الذي يعيش فيه كيفيةَ صلته بالعالَم، ويتشكَّل نمطُ وجودِهِ في ضوئها، وتمثِّلُ هذه الرؤيةُ إطارًا مرجعيًّا موجِّهًا لتفكيرِهِ ومواقفِهِ وسلوكِهِ في الحياة. صنع علمُ الكلام رؤيةَ معظم المسلمين للعالَم، بعد أنْ تسيَّدت الرؤيةُ التوحيديَّةُ للمتكلِّمين مُبَكِّرًا الحياةَ الدينيةَ في عالم الإسلام، واستولَت بالتدريج على شعورِ المسلم ولاشعورِه، وصاغتْ أشكالَ علاقته بذاته والآخر، وتشكَّلَ في سياقها منطقُ الفكر الديني في الإسلام، وظهرتْ بصمتُها في تدوينِ علومِ الدين ومعارفِهِ المختلفة. وانتهت إلى ضربٍ من الاغترابِ الوجودي للمتديِّن عن عالَمِهِ الذي يعيشُ فيه.
في لاهوتِ المتكلِّمين يغتربُ الإنسانُ وجوديًّا عن الله؛ لأن ذلك اللاهوتَ يبرعُ في نحتِ صورةٍ لله تحاكِي علاقةَ السيِّد بالعبد المكرَّسةَ في مجتمعات الأمس. الله في هذا اللاهوتِ تَسلُّطيٌّ كالملوك المستبدِّين، نمطُ علاقته بالإنسان كأنها علاقةُ مالكٍ برقيقه؛ فهو يمتلك الناسَ كما يمتلك الأسيادُ الرقيقَ، يمتلك أقدارَهم، ويمتلك التصرُّفَ بكل شيء في حياتهم. وُلدت عقيدةُ الجبر في أُفُقِ هذه الرؤية مبكِّرًا، وأصبحتْ منبعًا لشرعنة الأشكال المتنوِّعة للاستبداد في تاريخ الإسلام. وحاولَ بعضُ الفقهاء تبريرَ استبدادِ الحاكم في أدبيَّات الأحكامِ السلطانية، وتفويضِه بحقِّ الاستحواذِ على السلطةِ واحتكارِها، وبحقِّ ممارسةِ كل ما من شأنه تدبيرُ الشأن العام وبسطُ الأمن ما دام عادلًا. ولا أدري كيف يمكن أنْ يجتمعَ الضدان (الاستبداد – العدالة) في أفعالِ وأوامر شخصٍ واحد، على نحوٍ يكون عادلًا في استبدادِهِ، ومستبدًّا في عدالتِهِ. وهو ما تفنَّن بعضُ المتكلِّمين في تسويغِه عندما نحتوا صورةً لله تُحَاكِي شخصيةَ المستبدِّ الظالم في أوامرِهِ، لكنَّه العادلُ مع خلقِهِ في تلك الأوامر.
إن الصورةَ التي صاغَها المتكلِّمون لله في كتاباتهم لا يتجلَّى فيها شيءٌ من رحمته، بل تظهر قاسيةً شديدةً؛ إذ عمل المتكلِّمُ على رسم صورةِ الخالق بوصفه مُعاقِبًا لخلقه عقابًا مريرًا، ومعذِّبًا لهم عذابًا مريعًا، ومتسلِّطًا عليهم، يراقب كلَّ زلَّةٍ أو خروجٍ عمَّا فرضته تلك الصورةُ من أوامر ونواهٍ تتَّسع لكل صغيرةٍ وكبيرةٍ في حياتهم. وتغلَّبت صورةُ الإلهِ المرعبِ وتغلغلت في آثار المتكلِّمين، حتى طمسَت ما يشي بمَحَبَّةِ اللهِ لخلقِه، ورحمتِه، وعفوِهِ وتوبتِهِ ومغفرتِهِ لهم. من هنا نشأ جدلٌ واسعٌ بين المتكلِّمين حولَ مصير فاعل الكبيرةِ، حتى قال بعضُهم بخلوده في النارِ.
لم تشأْ تلك الصورةُ قبولَ التنوُّع والاختلاف الطبيعي بين البشر، ولم تقبل صورةُ الله التي نحتوها إلَّا النموذجَ الواحدَ الذي صاغه علمُ الكلام، وهو نموذج يجب أنْ يتماثلَ فيه كلُّ النَّاس الذين يعيشون في الأرض أمس واليوم وغدًا. وكان من نتائج تسيُّد صورة الله هذه، بناءُ علاقة عدائيَّة بين الله والإنسان؛ لأن رسمَ صورةٍ مخيفةٍ لله تقود الإنسانَ للنفور منه، الإنسانُ بطبيعتِه ينفر من كل ما هو مخيف، ولا ينجذب إلَّا لما كان مَحْبُوبًا جميلًا.
قادتْ تلك الصورةُ المكفهرَّةُ الإنسانَ للهروب من الله؛ بسبب ما أثارَته من قلق، وذعر، وكآبة، وربما اشمئزاز؛ فإنه لا يمكن أن يحبَّ الإنسانُ عدوَّه، أو يظل محايدًا حياله، بل عادةً ما يلجأ لمقاومته، فإنْ لم يستطع يلجأ للاحتماء، بالاختباءِ والغيابِ عنه تمامًا. وعندما يحتجب الإنسانُ عن الله يحتجب اللهُ عنه.
عندئذٍ ينتهي الحالُ بالإنسان للسقوطِ في الاغترابِ الوجودي، أو «الاغتراب الميتافيزيقي» كما نصطلحُ عليه، الذي هو ضربٌ من الاغتراب يختلف عن اغتراب الوعي والاغتراب الاقتصادي والاجتماعي والنفسي والسياسي. عندما يحبس الإنسانُ وجودَه بالوجود المادي، ويغتربُ عن الوجود الميتافيزيقي؛ ينتج عن ذلك ضياع الكينونة الوجودية للإنسان، وتشرُّدها عن الأصل الوجودي لكلِّ موجود في عالَم الإمكان.
يفتقرُ الإنسانُ في وجوده المتناهي المحدود إلى اتِّصالٍ بوجودٍ غني لا نهائي لا محدود، وعندما لا يتحقَّق له مثلُ هذا الاتِّصال الوجودي يسقطُ في الاغترابِ الميتافيزيقي. الاغترابُ الميتافيزيقي يعني أنَّ وجودَ الذَّات البشرية وكمالَها لا يتحقَّقان ما دامَت مغتربةً في منفًى عن أصلها الذي هو الوجود الإلهي.
الاغترابُ الميتافيزيقي ضربٌ من الاغتراب لا يرادف تفسيرَ جورج ويلهم فردريك هيغل (١٧٧٠–١٨٣١م) الذي يرى أنَّ الاغترابَ ينشأ من وعي الإنسان بالهوَّة الشاسعة بين وجوده والحقيقة النهائية «الروح المطلقة» أو العالم المثالي، فالإنسانُ يكون مغتربًا عندما لا يجد ذاتَه في العالم المثالي.
ولا يرادف الاغترابُ الميتافيزيقيُّ تفسيرَ لودفيغ فويرباخ (١٨٠٤–١٨٧٢م) الذي يرى أن خيالَ الإنسان هو من اخترع فكرةَ الإله وأسقط عليها كلَّ كمالاته، فأصبح الإنسانُ مُستلَبًا، عندما صيَّر الإلهَ كلَّ شيء في حين سلب من ذاته كلَّ شيء.
ولا يرادف الاغترابُ الميتافيزيقيُّ تفسيرَ كارل ماركس (١٨١٨–١٨٨٣م) الذي جعل سببَ الاغتراب استغلالَ الرأسمالي للعامل، واستلابَ قيمة عمله، الذي يفضي إلى: اغترابِ العامل عن ناتج عمله، واغترابِه عن عملية الإنتاج؛ ومن ثَم اغترابِه عن وجوده النوعي كإنسان، واغترابِ العمال بعضِهم عن بعضِهم الآخر.
كما لا يرادف الاغترابُ الميتافيزيقيُّ تفسيرَ سيغموند فرويد (١٨٥٦–١٩٣٩م)، الذي رأى أن الاغترابَ ناتجٌ عن وجودِ الحضارة واستلابِها لغرائز الإنسان، إثر ما يحدث من تعارُض بين متطلَّبات بناء الحضارة وما تفرضه الدوافعُ الغريزية للإنسان من متطلَّبات مضادَّة.
أعني ﺑ «الاغتراب الميتافيزيقي» أنَّ الإنسانَ هو الكائنُ الوحيدُ في هذا العالم الذي لا يَكتفي بوجودِ ذاته، فيشعر على الدَّوام بافتقاره إلى ما يثري وجودَه؛ لذلك لا يكفُّ عن الاتصال بمنبع مطلق للوجود، يتكرَّس به وجودُه الشخصي، ويظل يعمل كل حياته على توسعة وجودِه وإغنائه، من خلال السعي للعثور على ذلك المنبع اللامحدود للوجود، فإنْ عجز عن الاتصال بالمطلق عاش حالةَ ضياعٍ واغترابٍ وجودي.
ولمَّا كان كلُّ شخصٍ يحتاجُ لما يتخطَّى وجودَ ذاتِه المحدود، فإنْ لم يصل إلى المُطلق يحاول أن يعوِّض حاجتَه بما يعتقد به من مطلق، بقطع النَّظر عن نوع ما يعتقد به، سواء أكان أيديولوجيًّا، أو ميثولوجيًّا، أو فكرةً، أو أمةً، أو إثنيةً، أو بطلًا، أو وطنًا، أو ملحمةً، أو سرديَّةً، أو غيرها، وكلها تنتمي إلى المتخيَّل الذي ينسجه كلُّ مجتمع لنفسه. كلُّ مجتمع يحتاج أنْ يرسم صورةً متخيلة لهُويَّته، تصير مرآة يرى ذاتَه فيها مركزَ العالَم، ويرى إنتاجه المادي وغير المادي أغنى وأثمن إنتاج أنجزه مجتمع يعيش على الأرض، كأنَّ كلَّ المجتمعات خارج حدودِه كانتْ صدًى لما قدَّمه هذا المجتمعُ للبشريَّة. هذه الصورة المتخيَّلة لهُويته يتحقَّق فيها حضورُها، وشكلٌ من أشكال حضورِ كلِّ فرد ينتمي إليها، وشعوره بالاتصال بوجودٍ مطلق يكتفي به دون غيرِه.
عندما يستفيق الإنسانُ متأخِّرًا يجد ذاتَه مقذوفةً في متاهة، كأنه يهرول وراء سراب؛ لإدراكه بأن كلَّ ذلك لا يشعره بأنَّ وجودَه الفرديَّ يتكرَّس بمزيدٍ من الوجود. بمعنى أنَّ لدى كلِّ فرد حاجةً إضافيَّةً في ذاته لوجود واسع غني بلا حدود، حاجةً عابرةً لوجوده الشخصي الفقير الضيِّق المحدود، وهذا الوجودُ لا يفيضه سوى الاتصال الحيوي بالوجود المطلق. إذ يتَّسع وجودُ الإنسان بمدى قدرتِه على تحقيق ضربٍ من الاتِّصال الوجودي بذلك الوجود اللامحدود.
وجودُنا الفقيرُ يبحثُ عن وجودٍ يتَّسِعُ له ويتحرَّرُ به من كلِّ حدود وقيود الوجود الضيِّق. الزمانُ والمكانُ واللغةُ قيودٌ وحدودٌ تُفقِر الوجودَ، وتغرقه في اللامعنى أحيانًا؛ لذلك يبحث الإنسانُ عن لغةٍ بديلةٍ للغتِه؛ تتَّسع لاستيعابِ ما يتوالد في مخيِّلته وأحلامه وأوهامه وقلقه وآلامِه، فينتقل للرمزِ الذي يتسعُ لما لا تتسعُ له أيةُ لغةٍ. الرمزُ يتكفَّل بتزويدِ الإنسانِ بمعانٍ تختنقُ بها اللغةُ، الرمزُ لغةُ الأديانِ والفنون؛ لذلك كانت الأديانُ والفنونُ من أثرى منابعِ المعنى في حياة الإنسان.
كلُّ وجودٍ يقترنُ بالمادة فقيرٌ؛ لأنَّ الوجودَ الماديَّ للكائنِ البشري يفرضُ عليه أن يقترنَ بزمانٍ ومكانٍ ولغةٍ، أي يفرضُ عليه الافتقارَ والاحتياجَ إلى غيره. الزمانُ والمكانُ واللغةُ قيودٌ تقيِّدُ الوجودَ وحدودٌ تحدُّه، وكلُّ قيدٍ وحدٍّ نهايةٌ، والنهايةُ افتقارٌ، وكلُّ افتقارٍ ضربٌ من الظَّلامِ؛ لذلك لا يمتلكُ الوجودُ المحدودُ كينونتَه إلا عندما يتحرَّرُ من حدودِ الزَّمانِ والمكانِ واللغةِ. الزمانُ الذي هو غطاءٌ من الظلامِ يحتجبُ به الوجودُ، فيغترب عن ذاته. الصلةُ الوجوديَّةُ بالوجود المطلق وهو الله، هي ما يحرِّرُ الوجودَ المحدود من اغترابه، أي من فقرهِ الناتج عن قيوده وحدوده، التي عندما يتخلَّصُ منها يمتلكُ كينونتَه، فيكتمل وجودُه، وتُمحى غربتُه عن ذاته. لا يمتلكُ الوجودُ المحدودُ ذاتَه إلا بصلته الوجودية بالوجود المكتفي بذاته.
إن القرآنَ كتابٌ ميتافيزيقي بامتياز، كلُّ ما جاء فيه ينشدُ بناءَ صلةٍ وجودية بالله، وتكريس الحياة الروحية والأخلاقية والجماليَّة. نلحظ حضورَ الله يتفوَّق كثيرًا على كلِّ حضورٍ في هذا الكتاب، هذا الحضورُ لله لا نراه بهذه الكثافة في أي كتابٍ مقدَّسٍ آخر غيرِ القرآن؛ فقد ورد ذكرُ اسمِ «الله» ١٥٦٧ مرةً في آياته، ولو أضفنا لذلك عددَ أسماءِ الله وصفاتِه المتنوِّعةِ في القرآن لتَجَاوَزَ هذا العددَ بكثير، فمثلًا تكرَّر ذكرُ كلمة «رب» فقط ١٢٤ مرة.
الدينُ هو ما يخلِّص الإنسانَ من الاغتراب الميتافيزيقي من خلال الاتِّصال الوجودي بالمطلق، الذي هو الله في الأديان الإبراهيمية، والإله أو الروح الكلِّي في أديان أخرى. والمطلقُ يمثِّل أغزرَ منبعٍ يستقي منه الكائنُ البشري مزيدًا من الوجود، وهذا الوجودُ هو الذي يحدِّد كيفيةَ حضور الذَّات البشريَّة في العالَم؛ لأن الإنسانَ يتحقَّقُ فيه بمرتبةٍ أكمل من الوجود.
الاغترابُ الميتافيزيقي حالةٌ أنطولوجيَّة، تُستلَب فيها كينونةُ الكائنِ البشري، ولا يتخلَّص منها الإنسانُ إلَّا ببناءِ صلةٍ ديناميكيَّةٍ يقظةٍ بالمطلق، تتحقَّق فيها أُلفةُ الإنسان مع الوجود، بعد أنْ تحدث عمليةُ توطينٍ له، بنحو يتحوَّل الوجودُ فيه إلى مَسكَنٍ يقيم فيه، وحيث يسكن الإنسانُ الوجودَ يجدُ ذاتَه، وعندما يجدُ ذاتَه يشعر بالأمان في المأوى الذي يأوي إليه. ويتبدَّل نمطُ علاقتِه بإلهِهِ، فيتحوَّل من عَدَاءٍ إلى حُبٍّ، بل قد يتسامى الحُب إلى مرتبةٍ يكون فيها الحَبِيبُ هو الأنا.
على الرغم من الآثار الموجعة لاغتراب الوعي والاغتراب الاقتصادي والاجتماعي والنفسي والسياسي، لكنَّ الخلاصَ من أنواع الاغترابِ هذه لا يعني الخلاصَ من الاغتراب الميتافيزيقي؛ لأن الاغترابَ الميتافيزيقي اغترابٌ لكينونة الإنسان عن وجودها، وهذه الحالةُ من الاغتراب تنتج القلقَ الوجودي؛ إذ بعد أن تنقطعَ صلتُه الوجودية بإلهه، يفتقدُ ذاتَه، وعندما يفتقد الإنسانُ ذاتَه يمسي عرضةً لكلِّ أشكال التبعثر والتشظِّي، وربما يتردَّى في حالةٍ من الغثيان الذي يعبثُ بروحِهِ ويمزِّقُ سلامَه وسكينتَه الجوانيَّةَ.
الصلة الوجودية بالله لم أقرأْها في مدوَّنة علم الكلام، الذي أنتجَ غُرْبةَ المسلِم عن ذاتِه وعالَمه. نشأ اغترابُ الإنسان الوجودي عن إسقاطِ المتكلِّمين لصورة الإنسان على الله. تورَّط المتكلِّمون بقياس الغائب على الشاهد في دراسة توحيدِ الله وصفاتِه وأفعالهِ، كان نموذجُهم المحسوس علاقةَ السيد بالعبد، فصاغوا في إطارها نمطَ علاقةِ الله بالإنسان. ووُلدت الرؤيةُ التوحيديَّة الكلاميَّة في أفق هذا الفهم، وكُتبت المدونةُ الفقهية في سياق هذه الرؤية، وتبعًا لذلك أنتجت فقهًا يُشرعِنُ بعض أشكال العنف، بل تغلغلَت رؤيةُ المتكلِّمين في معارفِ الدِّين المختلفة، وظهر أثرُها في كثيرٍ مما استلهمه المسلمون من النصوص الدينية.
الرؤيةُ التوحيديةُ للتصوُّف المعرفي عالجَت الاغترابَ عن الله ببناء صلةٍ وجوديَّة بين الله والإنسان؛ إذ يسافرُ الإنسانُ في ضوء هذه الرؤية إلى الله حتى يصلَ إليه، ويحضر في حضرتِه. ويقترب اللهُ من الإنسان، حتى يصيرَ الإنسانُ مرآةَ الله وأظهرَ تجلِّيَاتِه، كما يشرح ذلك مفهومُ الإنسانِ الكامل، وأسفارُ الإنسانِ في عوالمِ الأسماء والصِّفات الإلهية، وكيف يصعد الإنسانُ سُلَّم التَّكامُل في تلك العوالم، ويتسامَى ليتَّصل وجوديًّا بالحقِّ. في إطارِ هذه الرؤية تتلاشَى المسافاتُ بين الإنسان ومقامِ الربوبيَّة، ويتخلَّص الإنسانُ من اغترابه الوجودي عن الله، ويكف الدينُ عن أن يكونَ منبعًا للعنف.
عندما نتحدَّث عن التصوُّفِ المعرفي، وكيفيةِ رسمه لوحةً ميتافيزيقية مختلفة تمامًا عن لوحة المتكلمين، لوحة يتصل فيها الإنسانُ بالله، فيتحرَّر من اغترابِه الوجودي، وتبعًا لذلك يتحرَّرُ المتديِّنُ من أحدِ بواعث الحاجةِ للعُنف، فإن البحثَ يتناول الموضوعَ من زاويةٍ تنشد الكشفَ عن أثر هذا النوع من الاغتراب، بوصفه يسهم في تشكيل البنيةِ العميقةِ لظهور العنف. ولسنا هنا بصدد الحديث عن الأسباب الأنثروبولوجية والاجتماعيَّة والنفسية والسياسية والاقتصادية المختلفة للعنف، والتي لا يمكن استبعادُها ونفي الأثر المباشر والكبير لها في ظهور الأنواع المتنوِّعة للعنف، وتطوُّر أساليب ممارسته.
(٨) لا تخلو آثارُ العرفاء وابن عربي من تناقض
أودُّ تذكيرَ كلِّ من يهتمُّ بالكشف عن القيم الروحية والأخلاقية والجمالية المُلهِمة في ميراث المتصوِّفة؛ إلى أني نبهتُ أكثرَ من مرة إلى أن تراثَ التصوُّف سيفٌ ذو حدَّين، وذلك يفرض على الباحثِ أن يتنبَّه للثغراتِ المختلفة في كتب المتصوِّفة، والوهنِ الذي يتغلغل في طياتها، وأن يتعاطى بيقظة مع آثارهم؛ فهي اجتهاداتٌ بشريةٌ وليست نصوصًا مقدَّسة.
تشتدُّ الحاجةُ اليومَ لاستئنافِ النظر في تراث التصوُّف المعرفي، والتوغُّلِ في طبقاته المتراكمة وغربلتِها وتمحيصِها، واصطيادِ ما هو ضروري منها للعيش المشترك في إطار التنوع والاختلاف، كالقولِ بالنجاة لكلِّ مَنْ كان اعتقادُه راسخًا بصورة الله في ضميره، والقولِ بالتعدُّدية وتنوُّع الطرق إلى الله، وتوظيفِ شيءٍ من مفاهيمه في بناء الحياة الروحية والأخلاقية والجمالية. تراثُ التصوُّف ينتمي لعصره، ولم يتحرَّر كلِّيًّا من إكراهاته وملابساته ورهاناته ومشكلاته؛ فقد تجد أحيانًا في آثار عارف كبير كمحيي الدين بن عربي مقولاتٍ ومفاهيمَ ومواقفَ متضادَّة، يحيل بعضُها إلى مرجعيات كلامية وفقهية مغلقة، بموازاة المساحة الشاسعة والعميقة لمقولات ومفاهيم ومواقف التصوُّف المعرفي المنفتحة الحرَّة.
ينبغي أن ينتبه الباحثُ في التصوُّف إلى أن تراثَ المتصوِّفة لا يمكن استئنافُه كما هو في عالَمنا اليوم؛ لأنه، كأيِّ تراثٍ آخر صنعه البشرُ، ينتمي للأفق التاريخي الذي وُلد فيه، وهو مرآةٌ للعصر الذي تكوَّن فيه؛ إذ ترتسمُ في هذا التراث أحوالُ ذلك العصر ومختلفُ ملابساته وشجونه. وهو تراثٌ يتضمن مقولاتٍ مناهِضة للعقل، ومفاهيمَ تعطِّلُ إرادةَ الإنسان وتشل فاعليتَه، وتسلبه حريةَ العودة إلى عقله واستعمال تفكيره النقدي.
بعض أنماط التربية الروحية في التصوُّف تتنكَّرُ للطبيعة الإنسانية، فتسرف في ترويضِ الجسد، باعتمادِ أشكالٍ من الارتياض يكون الجسدُ فيها ضحيةَ الجوعِ والسهرِ والبكاءِ والعزلةِ والصمتِ، وممارسةِ بعض التمارين القاسية العنيفة لترويض الإنسان. هذه الأساليبُ من أهمِّ أركان تربية السالك لدى أغلب الطرق الصوفية. لا يطيقُ الإنسانُ التقشفَ الشديد والتنازلَ عن معظم الاحتياجات الأساسية للجسد، ولا يتحمَّل الإكراهَ القسري لطبيعته على ما لا تُطيقُه. التنكرُ لهذه الاحتياجات أحدُ منزلقات التربية لدى كثيرٍ من المتصوِّفة والرهبان في كلِّ الأديان، وقد كانت وما زالت سببًا لانشطار شخصية بعض هؤلاء واضطراب سلوكهم. الارتياضُ العنيف الذي يتنكَّر لاحتياجات الإنسان الجسدية والنفسية والعاطفية والعقلية، طالما فرضَ على المتصوِّف الانسحابَ من المجتمع والانطواءَ على الذات، وأحيانًا أنتج أمراضًا نفسية وأخلاقية مزمنة.
في التصوُّف قيمٌ إنسانيةٌ كونيةٌ أبدية، كالمحبَّةِ والتراحم والشفقة والسلام، والصدق والأمانة، والخيرِ والحقِّ والعدل والتكافل، وتذوُّقِ التجليات الوجودية للجمال الإلهي. هذه القيمُ الإنسانيةُ هي ما يبقى من تراث التصوُّف وغيره في كلِّ زمان ومكان. كلُّ ما هو مرآةٌ للعصر الذي ظهر فيه من التراث، وما فرضته ضروراتٌ واحتياجاتٌ زمنية، وإكراهاتٌ وثقافاتٌ محلية، يظلُّ محكومًا بمشروطياتِ عصره، لافتقاره لما يمدُّه بالحياة في غير زمانه؛ لذلك لا يصحُّ تعميمُه لكلِّ العصور.
تراثُ التصوُّف بحرٌ عميق يضمُّ عناصرَ غير متجانسة، ففي الوقت الذي نرى اللآلئ والجواهرَ النفيسةَ تعيشُ بباطنه، نراه يتسعُ بجوارها لأشياء غير ثمينة، وأحيانًا أشياء سامَّة. اللآلئ والجواهر النفيسة في تراث التصوُّف الواسع لا يصطادها إلا صيَّادٌ متمرِّس خبير.
وبغيةَ اصطفاء ما يصلح كمنطلقات أساسية لبناء رؤية اعتقادية تتحرَّر من إكراهاتِ التاريخ وتناقضاتِه، ورؤيةٍ للعالم تواكب التحوُّلات العظمى في نمط حضور الإنسان في العالم اليوم، تنبغي الإفادةُ من تراث التصوُّف المعرفي، لكن لا بمعنى الضياع في مداراته الواسعة، بل بتوظيف ما هو حيٌّ من مقولاته ومفاهيمه، والتعاطي معها بوصفها مصباحًا ينير الطريقَ لاجتهاد ينشد صياغةَ رؤية للعالم، يتبصَّر بها المسلمُ طريقَ خلاصه من المتاهات، ويهتدي لحضورٍ فاعل مؤثِّر في العالم الذي يعيش فيه.
وتظلُّ الرؤيةُ التوحيديةُ للتصوُّف المعرفي اجتهادًا في فَهْم التوحيد، وتصورًا لنمط الصلة بالله، وكلُّ اجتهادٍ لا ينفي اجتهادًا مغايرًا ينبثق في عصر لاحق؛ فشيءٌ من فهمِ محيي الدين بن عربي وغيرِه من العرفاء مرآةُ العصر الذي عاشوا فيه، ولا يمكن أن يتحرَّر كلُّ فهمٍ للدين ونصوصِه من الأفق التاريخي الذي ينبثق فيه؛ لذلك ينبغي على المجتهد في هذا المضمار ألَّا يقلِّد ابنَ عربي أو غيرَه، ولا يستنسخه كما هو، بل عليه أن يقدِّم فهمًا للتوحيد يوظِّف ما انتهت إليه رؤيته في سياق الواقع الذي يعيشه المسلمُ اليوم، وما يواجه وجودَه وحياتَه الروحية والأخلاقية من تحديات ومشكلات.
كذلك يرى القارئُ في كتاباته تداخُلًا بين أكثر من نظام معرفي، ومقولاتٍ كلاميةً لا تلتقي مع فهمِه للتَّوحيد، ويقرأ رؤًى له تستقي من منابع متضادة؛ فعندما تقرأ عباراتِه تجده أحيانًا وكأنه باطنيٌّ مع الباطنيين، ظاهريٌّ مع الظاهريين، فقيهٌ مع فقهاء الظاهرية، متكلِّمٌ مع متكلمي الأشعرية، فيلسوفٌ مع الفلاسفة الذين يتمسَّكون بالبراهين العقلية ويدلِّلون على مقولاتهم بحجج منطقية، عارفٌ يعتمد الإشراقَ والكشفَ والمشاهدةَ والذوقَ في تبرير مقولاته، متصوِّفٌ مع متصوفة الطرق الصوفية المنطوين على الذات في انسحابهم عن الحياة، ممن يرون أن الطريقَ إلى الله يمرُّ عبر الهروب من متطلبات الجسد الأساسية وحاجاته الضرورية، ويسرفون في اعتزال الناس في خلواتهم وينشغلون بالصمت والجوع والبكاء والسهر، وينهمكون في ترديد الأذكار، وفي رياضات تنهك الجسد.
لا شكَّ أن هذا الضربَ من الارتياض الذي يدعونا إليه هؤلاء، لا يمكن أن يصبح وصفةً جاهزةً لبناءِ شخصيَّة روحية أخلاقية سليمة، وقد يفضي إلى بعض الأمراض النفسية وحتى الأخلاقية. وذلك ما يدعونا إلى التحذير من التورُّط في استحضار التراث وتبنِّيه كما هو، سواء كان تراثًا روحيًّا أو أخلاقيًّا أو عقائديًّا، حتى تراث العرفاء كمحيي الدين بن عربي يلزم التعاطي معه بيقظة ومهارة الخبير، بتفاصيل منظومته المعرفية «المبدَّدة» في مجموعةِ أعماله، وممن يعرف جيدًا متطلباتِ حياة المسلم اليوم، والقادر على استلهام شيء من هذا التراث الذي يصلح أن يكون منطلقًا لإغناء راهن الحياة الروحية والأخلاقية في عالَم الإسلام.
آثارُ العرفاءِ مكتوبةٌ بلغةٍ خاصة، يتطلَّبُ فهمُها الدقيق استيعابَ معجمها الاصطلاحي. أحيانًا يستعمل العرفاءُ الكلمةَ في معنًى لا يرادفُ معناها المستعمَل عند المتكلمين والفلاسفة والأصوليين وغيرهم. لكلِّ علمٍ ومعرفة مصطلحاتُه ومعجمُه، ومَنْ لا يُتقِن ذلك المعجم لن يجدَ طريقًا لاكتشاف خارطته والوقوفِ على مدياته. الجهلُ بمصطلحات العلوم والمعارف ولغتها يغلقُ كلَّ الأبوابِ لفهمها.
من متاهاتِ التصوُّف اعتمادُ النسبِ معيارًا محوريًّا في توريث زعامة طرق التصوُّف، لم يكترث الأحفادُ كثيرًا بالتعليم الديني، ولم ينفقوا جهودَهم باستيعاب التراث والتوغلِ في حقوله المتنوعة الواسعة، ولم ينفقوا زمنًا لتعلُّم مصطلحات ومعجم العرفاء كما فعلَ أسلافُهم. أهملوا دراسةَ آثار محيي الدين بن عربي، مثل كتاب فصوص الحكم وغيره من المؤلفات المعروفة في دراسة هذا الفن، ولم يهتموا بدراسة مثنوي جلال الدين الرومي، والنظرِ فيه بتفكير وتأمل دقيق، ولم يستلهموا وثبته الروحية اليقظة.
استبدلَ الأحفادُ تقاليدَ التعليم الديني الرصين بالانشغال بالتفاصيل الدقيقة للأنساب، وأصبحوا خبراء في مشجرات النسب وأمثالها، وانشغلوا بالإعلاءِ من مكانة الانتماء بالدم، والتشديد على ضرورة وراثة الأولاد والأحفاد والعوائل، بوصفها بديلًا مجانيًّا عن العلم والعمل والتقوى، وعدم الاكتراث بوثبةِ الحياة الروحية ويقظةِ الضمير الأخلاقي. الأنسابُ وغيرها من موضوعات ربما تبدو شكلية، غير أنهم يدركون تأثيرَها السحري في إثراء رصيدهم المجتمعي، وانقيادِ المريد الأعمى لهم، وتكريسِ سطوتهم على حياته.
لاحظ: مجموع الفتاوى، ج١٢: ص٧٣.
مجموعة الرسائل والمسائل لابن تيمية، ج٣: ص٥٩.
بيان تلبيس الجهمية ١: ٦.
الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ٤ / ٤٠٦.
درء تعارض العقل والنقل ٦ / ٣٤٨، و١٠ / ٣٠٦.
وقد نسبها ابن تيمية في بعض كتبه لغيره. قال: وقال بعض العلماء الممثل يعبد صنمًا … إلخ. وفي موضع آخر قال: كما قيل الممثل يعبد.